145

الشرط الثالث: الاختيار

ذکر الشيخ الأعظم(قدس سره) من شرائط المتعاقدين الاختيار بمعنی القصد إلى وقوع مضمون العقد عن طيب نفس في مقابل الكراهة وعدم طيب النفس، لا الاختيار في مقابل الجبر(1).

ويمكن الاستدلال على ذلك تارة بالآية الكريمة: ﴿ٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوْا لَا تَأْكُلُوْا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُوْنَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مَّنْكُمْ﴾(2).

وأُخرى بما رواه الصادق عليه السلام عن رسول الله(صل الله عليه وآله) «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه»(3).

وثالثة بقول الحجّة(عجل الله تعالى فرجه الشريف): «لا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(4).

والاستدلال بالآية المباركة واضح لا غبار عليه بناء على إرجاعها إلى الاستثناء المتّصل بتفسير الآية المباركة بمعنى «لا تأكلوا أموالكم بينكم» بكلّ سبب فإنّه باطل


(1) راجع کتاب المكاسب، ج3، ص307.

(2) النساء: 29.

(3) عوالي اللئالي، ج3، ص473، باب الغصب، ح3.

(4) وسائل الشيعة، ج9، ص540، الباب3 من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح7.

146

﴿إلَّا أَنْ تَكُوْنَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾، وهذا التفسير هو المستفاد من كلام السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح(1) وفي مصباح الفقاهة(2).

أمّا بناء على حملها على الاستثناء المنقطع فقد يناقش في دلالتها؛ لما تعارف القول من أنّ الاستثناء المنقطع لا يفيد الحصر من قبيل: «ما جاءني إلّا حماراً» أو «ما جاءني القوم إلّا حماراً» فإنّ هذا لا يدلّ على انحصار مجيء حيواناتهم بالحمار.

ولكن خصوص الآية المباركة ظاهرة في الحصر حتّى على الانقطاع، ولنِعْم ما ورد في مصباح الفقاهة تقرير الشيخ التوحيدي رحمه الله لبحث السيّد الخوئي من أنّه على تقدير حمل الآية على الاستثناء المنفصل فالاستثناء المنفصل وإن كان لا يفيد الحصر بنفسه، ولكن الله تعالى حيث كان في مقام بيان الأسباب المشروعة للمعاملات وفصل صحيحها عن فاسدها وكان الإهمال مخلّاً بالمقصود فلا محالة يستفاد الحصر من الآية بالقرينة المقامية(3).

أقول بكلمة أُخرى: إنّ المهمّ في مثل «ما جاءني إلّا حماراً» لم يكن للمتكلّم إلّا نفي مجيء القوم، أمّا في الآية المباركة فتشخيص العقد الصحيح لم يكن بأقلّ أهمّية من تحريم أكل المال بالباطل، فالمفهوم من الآية لا محالة عرفاً هو الحصر.

ثم إنّ التمكّن وعدم التمكّن من التورية لا دخل له فيما ذكرناه من مسألة طيبة النفس التي دلّت الآية المباركة والروايتان المشار إليهما على شرطيّتها في صحّة المعاملة.

الإکراه بحقّ

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الإكراه المبطل للمعاملة بسبب فقد طيبة النفس لا يشمل الإكراه بحقّ من قبل وليّ الأمر، كما نبّه على ذلك الشيخ التوحيدي رحمه الله في مصباح


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص321 وص351.

(2) مصباح الفقاهة، ج3، ص288.

(3) المصدر السابق.

147

الفقاهة تقريراً لبحث السيّد الخوئي(قدس سره)(1)، فمثلاً لو حكم القاضي ببيع مال المديون لإيفاء الغرماء حقوقهم، أو أُجبر المحتكر من قِبل حاكم الشرع على بيع ما احتكره من الطعام فيما إذا لم يوجد الباذل، أو الواجب عليه الإنفاق على بيع أمواله وصرف ثمنها في نفقة واجبي النفقة أو ما إلى ذلك لم يؤثّر هذا الإكراه في بطلان البيع.

ويمكن توجيه ذلك بأحد أمرين:

إمّا بدعوى أنّ المقصود بـ ﴿تِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ﴾ أو المعاملة بطيبة النفس هو التراضي وطيب النفس في المجتمع بما فيه نظام الولايات الشرعية.

أو بدعوى أنّ المقصود وإن كان هو التراضي أو طيب النفس بين الملّاك أنفسهم ولكن أدلّة الولاية ناظرة إلى دليل شرط الرضا والطيب وحاكمة عليه.

هل أنّ لحوق الرضا بعد الإکراه يصحّح العقد

بقي الكلام في أنّ لحوق الرضا من قبل المُكرَه بعد الإكراه هل يصحّح العقد أو لا؟

قد يقال: لئن كان عقد الفضولي يتمّ بلحوق الإجازة على ما سوف يأتي إن شاء الله فتماميّته في عقد المكره بلحوق الرضا بطريق أولى.

وخير ما يمكن أن يقال في الفرق بين باب عقد المكرَه وباب عقد الفضولي هو أنّ عقد الفضولي لم يكن عقداً للمالك، وقد استند العقد إلى المالك بإجازته على ما يدّعى من أنّ إجازته جعلته طرفاً لذاك العقد حقيقة بعد أن لم يكن طرفاً له، فيكون العقد مستنداً إليه _ منذ أن استند إليه _ بالرضا، وهذا بخلاف المكرَه، فإنّ العقد كان مستنداً إليه منذ البدء ولكنّه لم يكن برضا وطيب النفس، فخروجه عن عموم وجوب الوفاء كان بالتخصيص، فتجارته كانت بغير رضا، والشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه.

وبعد قبول مبنى هذا الإشكال وهو أنّ نكتة صحّة عقد الفضولي بالإجازة هي


(1) المصدر السابق، ص293 _ 294.

148

أنّ الإجازة جعلته حقيقة طرفاً للعقد يكون خير جواب على هذا الإشكال أنّه ليس المراد بالعقد إنشاؤه الذي لا بقاء له، بل المراد الأمر الاعتباري من المبادلة والذي له بقاء واستمرار في عالم الاعتبار، فإذا لحقه الرضا خرج العقد عن كونه عقداً مكرهاً عليه(1)، فجميع أدلّة النفوذ من دليل وجوب الوفاء بالعقد أو تجارة عن تراض أو حلّ مال المسلم بطيب نفسه أو غير ذلك تشمله.

ومقتضى الأصل العملي هو النفوذ من حين الرضا، فصحيح أنّ الكشف الحقيقي أمر ممكن فضلاً عن الكشف الحكمي لكنّه بحاجة إلى دليل، فلو تمّ الدليل عليه فيما سيأتي إن شاء الله في بحث الفضولي ثبت ذلك في المقام بالأولوية العرفية.


(1) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص353.

149

الشرط الرابع: الحرّية أو إذن المولى

ذكر الشيخ الأنصاري رحمه الله أنّ من شروط المتعاقدين إذن السيّد لو کان العاقد عبداً(1)، وقال السيّد الخوئي رحمه الله على ما في التنقيح: ذكروا من جملة شروط صحّة العقد كون العاقد حرّاً، فلو فرض كونه عبداً لم يصحّ ما لم يأذن مولاه(2).

واستدلّ على ذلك بقوله سبحانه وتعالى: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلَاً عَبْدَاً مَمْلوُكَاً لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾(3).

ولعلّ خير أُسلوب للاستدلال بهذه الآية المباركة هو ما يقال من أنّ المقصود بالقدرة فيها ليست هي القدرة العقلية وبالشيء فيها الأُمور الخارجية، لوضوح قدرة العبد كالحرّ تكويناً على الخياطة مثلاً، وليس المقصود بالقدرة القدرة الشرعية وبالشيء الأفعال الخارجية؛ لوضوح عدم حرمة الأفعال على العبد من قبيل التنفس وتحريك اليد والرأس والعين والتكلّم ونحو ذلك، فلابدّ أن يراد بالقدرة القدرة الوضعية أعني النفوذ، فيكون المراد من قوله: ﴿لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾ نفي نفوذ تصرّفاته،


(1) کتاب المکاسب،‌ ج3، ص337.

(2) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص357 _ 358.

(3) النحل: 75.

150

وليس المقصود بذلك نفي نفوذ تصرّفاته في مال سيّده؛ لأنّ عدم نفوذ ذلك ليس معلولاً لمملوكيّته أو عبوديّته، ولذا لا ينفذ تصرّف الحرّ في مال غيره أيضاً فينحصر الأمر في أن يكون المقصود عدم نفوذ تصرّفه في ممتلكات نفسه بناء على القول بمالكية العبد وفي نفسه كالنكاح والطلاق، وليس قوله: ﴿مَمْلوُكَاً﴾ تكراراً بحتاً لقوله: ﴿عَبْدَاً﴾ بل إشارة إلى علّية المملوكية للحكم(1).

وبصحيح زرارة عن أبي جعفر وأبي عبدالله(عليهما السلام) قالا: «المملوك لا يجوز طلاقه ولا نكاحه إلّا بإذن سيّده قلت: فإنّ السيّد كان زوّجه بيد من الطلاق؟ قال: بيد السيّد ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلَاً عَبْدَاً مَمْلوُكَاً لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾ أفشيء الطلاق؟!»(2).

قوله: «أفشيء الطلاق» الظاهر أنّ الصحيح هو نسخة الفقيه: «والشيء الطلاق»(3)، أو نسخة الاستبصار: «ليس الطلاق بيده»(4).

وقد حمل الشيخ الحرّ رحمه الله مسألة كون الطلاق بيد السيّد على ما إذا كانت زوجة العبد أمةً لمولاه مشيراً في ذلك إلى بعض الروايات الواردة التي يراها الشيخ الحرّ مفسّرة لذلك، ولعلّ مقصوده بهذا أكثر روايات الباب 43 من مقدّمات الطلاق وشرائطه من الوسائل(5)، وكذلك الرواية الرابعة من الباب 66 من نكاح العبيد والإماء(6).

أقول: ينبغي للشيخ الحرّ رحمه الله أن يخصّص هذا الحمل أعني: حمله لمسألة الطلاق على ما إذا كانت زوجة العبد أمة لمولاه بخصوص ما إذا كان تزوّج بإذن المولى؛ وذلك لموثّقة


(1) لخّصنا من عبارة التنقيح راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)،‌ج36، ص358 _ 359.

(2) وسائل الشيعة، ج22، ص102، الباب45 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه، الحديث الوحيد في الباب.

(3) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص541، باب طلاق العبد من کتاب الطلاق، ح4860.

(4) الاستبصار، ج3، ص214، باب أنّ الرجل إذا زوج مملوکته عبده... من أّبواب العقود علی الإماء، ح1.

(5) وسائل الشيعة، ج22، ص98، الباب43 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه.

(6) المصدر السابق، ج21، ص185، الباب66 من أبواب نکاح العبيد والإماء، ح4.

151

عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن رجل يزوّج غلامه جارية حرّة، فقال: الطلاق بيد الغلام، فإن تزوّجها بغير إذن مولاه فالطلاق بيد المولى»(1).

ونحوه خبر أبي الصباح الكناني عن أبي عبدالله(عليه السلام): «إذا كان العبد وامرأته لرجل واحد فإنّ المولى يأخذها إذا شاء وإذا شاء ردّها وقال: لا يجوز طلاق العبد إذا كان هو وامرأته لرجل واحد إلّا أن يكون العبد لرجل والمرأة لرجل وتزوّجها بإذن مولاه وإذن مولاها، فإن طلّق وهو بهذه المنزلة فإنّ طلاقه جائز»(2)، وفي السند محمد بن الفضيل فإن كان هو محمد بن قاسم بن الفضيل نُسب إلى جدّه فهو ثقة ولكن لا أقلّ من احتمال كونه محمد بن الفضيل الأزدي إن لم نقل بانصرافه إليه، وقد ضعّفه الشيخ.

وعلى أيّ حال فبحث الطلاق غير داخل في بحثنا فعلاً، فإنّه إيقاع وليس عقداً.

والمهمّ أنّ صحيح زرارة قد دلّ على عدم نفوذ عقود العبد في نفسه وفي ماله _ إن قلنا بتملّكه للمال _ إلّا بإذن سيّده.

ونظير صحيح زرارة صحيح شعيب العقرقوفي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سئل وأنا عنده أسمع عن طلاق العبد، قال: ليس له طلاق ولا نكاح، أما تسمع الله تعالى يقول: ﴿عَبْدَاً مَمْلوُكَاً لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾؟! قال: لا يقدر على طلاق ولا نكاح إلّا بإذن مولاه»(3).


(1) المصدر السابق، ج22، ص99، الباب43 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه، ح5.

(2) المصدر السابق، ص98، ح1.

(3) المصدر السابق، ج21، ص184، الباب66 من أبواب نکاح العبيد والإماء، ح2. والعيب في سند هذا الحديث عبارة عن سند الشيخ إلى أحمد بن محمد بن عيسى؛ لأنّ قسماً من روايات الشيخ الطوسي عن أحمد بن محمد بن عيسى حسب ما ورد في مشيخة الشيخ وقع في طريقه أحمد بن محمد بن يحيى العطّار، ولا دليل على وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى العطّار إلّا شيخوخته للإجازة، وهذا غير كافٍ للتوثيق. ←

152

هل أنّ الإجازة اللاحقة من المولی تصحّح العقد؟

يبقى الكلام في أنّ الإجازة اللاحقة من قِبل المولى هل تصحّح عقد العبد كما يقال بذلك في إجازة المالك اللاحقة بعد عقد الفضولي أو لا؟

وهنا طرح الشيخ الأنصاري رحمه الله أوّلاً احتمال عدم فائدة لحوق الإجازة اللاحقة؛ لأنّ العقد لم يكن فضوليّاً صدر من غير المالك فتلحقه إجازة المالك، وإنّما كان عيب العقد أنّه صدر مستقلّاً عن إرادة المولى، وهذا شيء لا يقدر عليه العبد في نظر الإسلام، وما وقع مستقلّاً عن المولى لا يخرج عمّا وقع عليه بالإجازة المتأخّرة(1).

أقول: ويمكن تأكيد هذا الاحتمال بناء علی ما قد يقال من أنّ صحّة العقد الفضولي


والحلّ هو الرجوع إلى فهرست الشيخ، فمن أسانيد الشيخ في الفهرست إلى جميع كتب وروايات أحمد ابن محمد بن عيسى عبارة عن: «عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد عن أبيه عن محمد بن الحسن الصفّار وسعد جميعاً عن أحمد بن محمّد بن عيسى» ونحن لا نحتمل تواطؤ عدّة من مشايخ الشيخ الطوسي على الكذب.إلّا أنّ هذا الحلّ إلى هذا الحدّ ناقص؛ لأنّ أحمد بن محمد بن الحسن ابن الوليد أيضاً لا دليل على وثاقته عدا شيخوخته للإجازة.ولكن من حسن الحظّ أنّ هذا النقص يمكن علاجه، وعلاجه هو أنّ أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد لا يروي إلّا عن كتاب أبيه محمد بن الحسن بن الوليد، وللشيخ سند تامّ إلى كتب أبيه، وهو ما ورد في الفهرست، [ص156] من سندٍ له إلى روايات وكتب محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد من قوله: «أخبرنا بها جماعة عن أبي جعفر بن بابويه عنه». (راجع معجم رجال الحديث، ج16، ص220 ترجمة محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، رقم: 10490). وهنا أيضاً نقول: إنّ احتمال تواطؤ جماعة من مشايخ الشيخ الطوسي على الكذب غير وارد. (وراجع أيضاً الفهرست، ص144). علی أنّ لنا بياناً لإثبات توثيق أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد وأحمد بن محمد بن يحيی العطّار في کتابنا مباحث الأصول، ج3 من القسم الثاني، ص174_ 177.

(1) کتاب المكاسب، ج3، ص338.

153

من قِبل غير المالك بإجازة المالك إنّما هي شيء على طبق القاعدة باعتبار أنّ المالك بالإجازة يصبح حقيقةً طرفاً للعقد؛ لأنّ العقد لم يكن إلّا أمراً اعتباريّاً، والأمر الاعتباري ينتسب إلى المجيز بالإجازة المتأخّرة حقيقة، وليس أمراً تكوينيّاً منفصلاً عن المجيز إلى الأخير، وإن ورد نصّ دلّ على صحّة العقد الفضولي بالإجازة حُمل على نفس المعنى، وهذا بخلاف عقد العبد فيما هو راجع إليه، فهذا العقد لم يكن عيبه عدم انتسابه إلى المولى وسوف لن ينتسب إليه بإجازته انتساباً حقيقيّاً كما كان الحال في إجازة المالك، وإنّما هو عقد للعبد.

ثم أفاد الشيخ رحمه الله أنّ الأقوى هو صحّة عقد العبد بلحوق إجازة المولى(1)؛ لعموم أدلّة الوفاء بالعقود، والمخصّص إنّما دلّ على عدم ترتّب الأثر على عقد العبد من دون مدخلية المولى أصلاً _ سابقاً ولاحقاً _ لا مدخلية إذنه السابق، ولو شُكّ أيضاً وجب الأخذ بالعموم في مورد الشكّ.

أقول: وبناءً على هذا فحتّى لو قلنا ببطلان عقد الفضولي وعدم تأثير إجازة المالك المتأخّرة في صحّته يصبح عقد العبد في المقام صحيحاً بإجازة المولى المتأخّرة.

هذا كلّه بناء على مقتضى القاعدة.

وأمّا بحسب النصوص الخاصّة فهناك حديثان دالّان على كفاية إجازة المولى المتأخّرة:

أحدهما: صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده، فقال: ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما قلت: أصلحك الله إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد، ولا تحلّ إجازة السيّد له. فقال أبو جعفر(عليه السلام): إنّه لم يعص الله. وإنّما عصى سيّده. فإذا أجازه فهو له جائز»(2).


(1) المصدر السابق، ص338 _ 339.

(2) وسائل الشيعة، ج21، ص114، الباب23 من أبواب نکاح العبيد والإماء، ح1.

154

والثاني: معتبرة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن رجل تزوّج عبده بغير إذنه فدخل بها ثم اطّلع على ذلك مولاه؟ قال: ذلك لمولاه إن شاء فرّق بينهما، وإن شاء أجاز نکاحهما، فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقها إلّا أن يكون اعتدى فأصدقها صداقاً كثيراً، وإن جاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل. فقلت لأبي جعفر(عليه السلام): فإنّ أصل النكاح كان عاصياً، فقال أبو جعفر(عليه السلام): إنّما أتى شيئاً حلالاً، وليس بعاص لله، إنّما عصى سيّده، ولم يعص الله، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم الله عليه من نكاح في عدّة وأشباهه»(1). وفي نسخة الفقيه: «فإنّه في أصل النكاح كان عاصياً»(2).

وفي السند موسى بن بكر، ولكن قد روى عنه الثلاثة.

ويمتاز الحديث الثاني عن الحديث الأوّل في وضوحه في مالكية العبد لماله، وأنّه حتّى لو فرّق المولى بينهما فصداقه إيّاها نافذ إن لم يكن قد اعتدى فأصدقها صداقاً كثيراً.

وعيب الحديث الثاني هو أنّ افتراضه لنفوذ الصداق من ماله في فرض عدم إجازة المولى للنكاح إن لم يتعدّ بافتراض صداق كثير معارَضٌ بما رواه النوفلي عن السكوني عن الصادق عليه السلام عن رسول الله(صل الله عليه وآله) «أيّما امرأة حرّة زوّجت نفسها عبداً بغير إذن مواليه فقد أباحت فرجها، ولا صداق لها»(3) وعيب سند هذا الحديث هو النوفلي.

وقد جمع الشيخ الحرّ رحمه الله بين الحديثين بحمل الأوّل على فرض عدم علم المرأة، والثاني على فرض علمها بالحال(4).

وعلى أيّ حال فلو لم يقبل بالحديث الثاني لمناقشة في السند أو لابتلاءٍ بالمعارض


(1) وسائل الشيعة، ج21، ص115، الباب23 من أبواب نکاح العبيد والإماء، ح2.

(2) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص446، باب المملوك يـتزوّج بغير إذن سیده من کتاب النکاح، ح4548.

(3) المصدر السابق، ح3.

(4) المصدر السابق، ص116، ذيل الحديث4.

155

في قسم من مضمونه فالحديث الأوّل واضح سنداً ودلالة ولا غبار عليه، والنتيجة أنّ عقد العبد لنفسه يتمّ بإجازة مولاه المتأخّرة، وأنّ هناك فرقاً بين ما يكون معصية لمن لا يتبدّل حكمه وهو الله سبحانه وتعالى كما في موارد العقد على المحارم أو العقد في العدّة فهذا لا يقبل لحوق الإجازة، وبين ما يكون معصية للمولى البشري كما في نكاح العبد لنفسه فهذا قابل للحوق الإجازة من قِبل المولى.

فإمّا أن نتعدّى من مورد الرواية إلى عقد الفضولي المصطلح _ أعني بيع غير المالك لملك غيره فضولةً _ فيقال هناك أيضاً: إنّه ما عصى الله، وإنّما عصى مالك المال، فإذا أجاز جاز، وهذا ما سنبحثه إن شاء الله في بيع الفضولي، وإمّا أن نقتصر في فهم الحديث على مورده، وهو نكاح العبد مع الإجازة المتأخّرة للمولى.

فموردنا وهو نكاح العبد مع إجازة المولى المتأخّرة واضح الصحّة لا غبار عليه.

وسننتقل إن شاء الله إلى بيع الفضولي المصطلح، ونؤجّل بحث الكشف والنقل أيضاً إلى ذاك البحث، ولا نفتح له الآن بحثاً مستقلّاً هنا.

157

الشرط الخامس: الملك

أفاد الشيخ الأنصاري رحمه الله: أنّ من شروط المتعاقدين أن يكونا مالكين أو مأذونين من المالك أو الشارع(1).

أقول: وهذا واضح لا غبار عليه، ولا نرانا بحاجة إلى البحث عنه، وإنّما نبحث هنا بيع الفضولي.

بيع الفضولي

قد أفاد الشيخ أيضاً: أنّ المراد بالفضولي هو الكامل غير المالك للتصرّف ولو كان غاصباً، وأفاد أيضاً: أنّ عقد الفضولي يشمل العقد الصادر من الباكر الرشيدة بدون إذن الولي ومن المالك إذا لم يملك التصرّف لتعلّق حقّ الغير بالمال... فيشمل بيع الراهن والسفيه ونحوهما وبيع العبد بدون إذن السيّد(2).

أقول: إن صحّ عقد المحجور عليه بالإجازة المتأخّرة ممّن كان له حقّ الإذن السابق كعقد الباكر _ بناءً على شرط إذن الأب _ وبيع الراهن والسفيه والعبد بدون إذن المرهون


(1) کتاب المكاسب، ج3، ص345.

(2) المصدر السابق، ص346.

158

عنده أو الولي أو المولى فهذا لا يستلزم صحّة بيع غير المالك؛ لأنّ بيع غير المالك قد يفترض تصحيحه بالإجازة المتأخّرة بنكتة ما يدّعی من أنّ المالك بالإجازة أصبح هو البائع حقيقة، أمّا العاقدون في تلك الموارد الأُخرى فهم أصحاب العقد حقيقةً من أوّل الأمر، وإنّما منع نفوذ عقدهم حجرُهم، فلو فرض أنّ الإجازة المتأخّرة تحلّ في تلك الموارد محلّ الإذن السابق لم يستلزم ذلك كفاية الإجازة المتأخّرة في مورد فقد الملك، فقد نحتاج في مورد فقد الملك إلى البحث عن أصل تلك النكتة، أعني: أنّه هل يا تُرى يصبح المالك المجيز بالإجازة المتأخّرة بائعاً أو مشترياً حقّاً أو لا؟

وأفاد الشيخ الأعظم رحمه الله في المقام أيضاً(1): أنّ الذي يقوى في النفس _ لولا خروجه عن ظاهر الأصحاب _ كفاية الرضا الباطني السابق للمالك في صحّة البيع ولو لم يعلم به العاقد الفضولي، فلو انكشف بعد العقد حصوله حينه فقد انكشفت صحّة البيع، ولو لم ينكشف أصلاً وجب على المالك فيما بينه وبين الله إمضاء ما رضي به وترتيب الآثار عليه؛ لعموم وجوب الوفاء بالعقود وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ تَكُوْنَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾(2)و«لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه»(3).

أقول: إنّ دلالة هذه الوجوه على كفاية الرضا الباطني في نفس المالك غير تامّة، كما أوضح ذلك السيّد الخوئي رحمه الله(4):


(1) کتاب المكاسب، ج3، ص347.

(2) النساء: 29.

(3) مضمون ذلك وارد في الوسائل، ج5، ص120، الباب3 من أبواب مکان المصلي،‌ح3. وهذا يغنينا عن نصّ عوالي اللآلي وهو بحسب ما خرّجه المخرّج في المكاسب في الطبعة والصفحة الماضيتين منقول عن عوالي اللآلي العزيزية، ج2، ص113، ح309. وقد ورد في مستدرك الوسائل، ج13، ص230، الباب الأوّل من أبواب عقد البيع وشروطه، ح2، ص230 عن دعائم الإسلام وذکر الحلال والحرام، ج2، ص59، الفصل14 من کتاب البيوع والأحکام فيها، ح59: «لا يجوز أخذ مال المسلم بغير طيب نفسه».

(4) راجع موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص373 _ 375.

159

أمّا آية ﴿أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدْ﴾ فهي خطاب إلى العاقدين، ولا يستند العقد إلى المالك بمجرّد رضاه الباطني.

وأمّا آية التجارة عن تراض فأيضاً يرد علی الاستدلال بها أنّ التجارة لا تستند إلى المالك بمجرّد رضاه الباطني.

وأمّا حديث «لا يحلّ» فغاية مفاده اعتبار طيب النفس في الحلّ، وأمّا كون الحلّ مشروطاً به فقط وعدم اشتراط شيء آخر كالإذن أو الإجازة فلا دلالة له على ذلك.

نعم، لو كان التصرّف الاعتباري صادراً من المالك وكان هناك من يشترط رضاه لا إذنه _ كما لو قلنا في بيع العبد من ماله بأنّه مشروط برضا المولى لا بإذنه _ فلا مضايقة من كفاية الرضا الباطني في نفوذ العقد، وكذا الحال في التزويج ببنت أخي الزوجة أو بنت أُختها لو قلنا باشتراطه برضا العمّة أو الخالة لا بإذنها.

وبعد هذا ننتقل _ إن شاء الله _ إلى أدلّة صحّة بيع الفضولي بالإجازة اللاحقة.

أدلّة صحّة بيع الفضولي بالإجازة اللاحقة

مقتضی القاعدة

فأقول وبالله التوفيق: إنّ السيّد الخوئي رحمه الله قد استدلّ على صحّة بيع الفضولي بالإجازة بمقتضى القاعدة وبلا حاجة إلى نصّ خاصّ بأنّ التصرّفات الاعتبارية ليست كالأفعال الخارجية التي لا تستند إلى غير الفاعل بالإذن ولا بالإجازة، كالأكل أو الشرب فإنّه لا يكون ذلك أكلاً للآذن لإذنه فيه، بل هي قابلة للاستناد إلى المالك إمّا حدوثاً كما في عقد الوكيل، وإمّا بقاءً كما في عقد الفضولي إذا لحقته إجازة المالك، فإنّه أمرٌ له استمرار وبقاء قابل للحوق الإجازة به، فيكون بقاءً عقداً للمالك فيعمّه العموم والإطلاق. هذا ما ورد في التنقيح(1).


(1) المصدر السابق، ص378 _ 379.

160

أقول: وبالإمكان التدرّج في الكلام من الإذن السابق إلى الإجازة اللاحقة والاستشهاد على استناد البيع حقيقة إلى المالك في فرض الإذن السابق بما هو ثابت في وجداننا العرفي في محاوراتنا من أنّ من باع بيته مثلاً عن طريق وكيله يقول: لقد بعت بيتي من دون أيّ إحساس في ذلك بالمجاز والمسامحة، فإن صحّ ذلك في الإذن السابق قلنا في الإجازة اللاحقة: إنّ تخيّل الفرق بين الإذن السابق والإجازة اللاحقة ينشأ في الحقيقة من فقدان الإجازة حين العقد، فإذا التفتنا إلى أنّ الاعتبار الصادر من العاقد لا زال باقياً في عالم الاعتبار ولا أثر لانقضاء صيغة الإيجاب والقبول في ذلك تبيّن لنا أنّ الإجازة اللاحقة تكون كالإذن السابق، فإن كان استناد العقد إلى المالك ثابتاً حقيقةً في مورد الإذن السابق فهو ثابت حقيقةً أيضاً في مورد الإجازة اللاحقة من حين الإجازة.

إلّا أنّ الواقع أنّ هذا التدرّج لا ينفع الأمر شيئاً؛ لأنّ الوجدان العرفي ثابت في بعض الأفعال التكوينية أيضاً، فلو أنّ البنّاء مثلاً عمّر بيتنا المهدوم أو صنع بيتاً لنا في أرض قاحلة بإذننا وبتوكيلنا فنحن نجد في وجداننا العرفي وفي حواراتنا الاعتيادية أنّ صاحب البيت يقول: لقد عمّرت بيتي أو يقول: لقد بنيتُ بيتاً لي ولا يوجد أيّ إحساس بمسامحة في ذلك، وهذا الوجدان وعدم الإحساس بالمسامحة ناتج من إشراب كلمة «عمّرتُ» أو «بنيتُ» معنىً أوسع يشمل التعمير أو البناء عن طريق الوكيل رغم أنّ هذا بالدقّة نوع من المجاز، فلعلّ الوجدان في باب البيع أيضاً من هذا القبيل.

فلا يبقى إلّا أصل البيان الصادر من السيّد الخوئي رحمه الله بحسب ما نقلناه عن التنقيح من الفرق بين باب التصرّفات الاعتبارية والتصرّفات التكوينية فالتصرّف التكويني كالأكل والشرب من قِبل المأذون لا يسند حقيقة إلى المالك، ولكن التصرّف الاعتباري أو القانوني يسند حقيقة إلى المالك بإذنه من دون فرق بين الإذن السابق والإذن اللاحق.

161

وتحقيق الحال في المقام: أنّ الأمر الاعتباري الذي يفترض وجوده في مورد العقود يكون له وجود في عوالم ثلاثة:

فله وجود في عالم اعتبار المتعاقدين أنفسهما، فهما يعتبران النقل والانتقال مثلاً.

وله وجود في عالم اعتبار العرف والعقلاء متى ما وافقوا على ما فعله المتعاقدان، فيعتبرون المال مثلاً قد انتقل من البائع إلى المشتري.

وله وجود في عالم اعتبار الشارع متى ما أمضى الشارع ما فعلاه.

وقد يوجد ذلك النقل الاعتباري في بعض هذه العوالم دون بعض، كما لو تبايع صبيّان وفرض البيع باطلاً حتّى في نظر العقلاء، فالنقل الاعتباري وجد في لوح اعتبار المتعاقدين، ولكنّه لم يوجد في لوح اعتبار العقلاء ولا الشارع، وكما لو تبايع شخصان الخمر فحصل النقل والانتقال في لوح اعتبار المتعاقدين وفي لوح اعتبار العقلاء، ولم يحصل ذلك في لوح اعتبار الشارع.

وإذا اتّضح هذا التفكيك بين العوالم الثلاثة من عوالم الاعتبار فلعلّه يكون ذلك كافياً في تنبيه الوجدان إلى أنّ الاعتبار في لوح اعتبار الفضولي إن هو في حدّ ذاته إلّا اعتبار للعاقد الفضولي لا للمالك، ولا فرق بين ذلك وبين الأكل والشرب، وإنّما ينتسب إلى المالك في طول نفوذه بلحوق الإجازة، فلا يمكن أن يكون دليلاً على النفوذ.

نعم، لو وافقنا على أنّ العقلاء يرون نفوذ الإجازة المتأخّرة كفى ذلك في صحّة التمسّك بمثل :﴿أَوْفُوْا بِالْعُقُوْدِ﴾ إلّا أنّ هذا يكون بالدقّة تقريباً آخر غير حاقّ تقريب السيّد الخوئي رحمه الله.

وإن شئت توضيحاً أكثر للأمر أمكنك أن تراجع كتابنا (فقه العقود)(1).

ولا يفوتنا أن نؤكّد على أنّ هذا البيان الذي أوردناه إن هو إلّا إلفات للوجدان، لا برهاناً عقليّاً على بطلان كلام السيّد الخوئي رحمه الله؛ إذ لقائل أن يدّعي أنّ ذات إجازة


(1) فقه العقود، ج2، ص179 _ 182.

162

المالك توجب انتساب العقد إليه لا نفوذها، فلو ادّعى مدّع ذلك لم نملك برهاناً ضدّه.

وممّا يشهد لوجدانية ما ادّعيناه _ من أنّ مجرّد كون التصرّف تصرّفاً اعتباريّاً كالبيع والشراء لا تكوينيّاً کالأكل والشرب لا يؤدّي إلى كون ذات الإجازة موجبة لطرفية المجيز لذاك التصرّف الاعتباري _ أنّ السيّد الخوئي اعترف في نفس كتاب التنقيح بما ينافي وجدانه المدّعى له في المقام من غير التفات له إلى هذا التنافي؛ وذلك أنّه رحمه الله حينما أراد أن يستدلّ بالنصوص الخاصّة على صحّة بيع الفضولي بالإجازة المتأخّرة جعل من جملتها أخبار التحليل للشيعة لتطيب ولادتهم باعتبار أنّ الإجازة المتأخّرة لو لم تكن مصحّحة لما صحّت تصرّفات الشيعة في مثل شراء الجواري ونحوها ممّا أُخذت من الكفّار بالحرب من قبل خلفاء الجور، ورأى أنّ هذا الوجه قد يورد عليه: أنّ إجازتهم(عليهم السلام) إجازة سابقة لا متأخّرة؛ لأنّ بعض تلك الأخبار صادرة عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فهي وردت لتصحيح تصرّفات الشيعة التي تقع بعد تلك الإجازة، فحاول السيّد الخوئي رحمه الله دفع هذا الإشكال بأنّ الإجازة السابقة لم تخرج تصرّفات الشيعة قبل وصولها إليهم من الفضولية؛ لأنّ الخروج عن الفضولية متقوّم باستناد العقد إلى المالك، وهو متقوّم بالإذن، أعني: وصول الرضا المبرز إلى العاقد، ولا يكفي في ذلك مجرّد الإبراز؛ لأنّ استناد التصرّف الاعتباري إلى غير العاقد إنّما يكون فيما إذا وقع العقد عن إذن المالك ومستنداً إليه، وأمّا إذا فرض أنّ المالك وكّل غيره في بيع داره مثلاً وأبرز ذلك لأهله ولكن قبل وصول ذلك إلى الوكيل باع الدار فضولةً لعدم مبالاته لا يقال عرفاً: إنّ المالك باع داره بمجرّد رضاه المبرز مع عدم وصوله إلى العاقد، وعليه يكون شراء ما تعلّق به حقّ الإمام فضوليّاً، وتكون الإباحة بمنزلة الإجازة المتأخّرة، فيمكن التمسّك بهذه الأخبار على الفضولي(1).

أقول: لو كان الإذن الصادر من المالك في التصرّفات الاعتبارية كافياً في استناد


(1) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص387 _ 388.

163

التصرّف إليه فلمَ لا يكفي ذلك في مورد أخبار التحليل قبل وصولها إلى الشيعي؟ ولو كان يشترط في صدق طرفية المالك للتصرّف الاعتباري أن يكون العاقد قد استند في عقده إلى هذا الإذن والإجازة فكيف صارت ذات الإجازة المتأخّرة كافية في صيرورة المالك طرفاً للعقد مع أنّ الفضولي لم يكن مستنداً إلى إذن المالك أو إجازته؟!

وعلى أيّ حال فنحن لا نضايق من القول بنفوذ بيع الفضولي بالإجازة المتأخّرة بمقتضى القاعدة وبلا حاجة إلى نصّ خاصّ، ولكن لا بالبيان الذي نقلناه عن السيّد الخوئي رحمه الله بل ببيان أنّ بناء العقلاء وارتكازهم قائم على ذلك وفي طول نفوذ ذلك عند العقلاء يرى العقلاء طرفية المالك للبيع، فتشمله إطلاقات نفوذ العقد و﴿تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾ وغير ذلك.

ولو لم يقتنع أحدٌ بتمامية الإطلاقات عن هذا الطريق انحصر الأمر في تصحيح بيع الفضولي بالإجازة بلا حاجة إلى نصّ تعبّدي بالقول بأنّ البناء العقلائي أو الارتكاز الذي أشرنا إليه ممضى لدى الشريعة بعدم الردع.

أمّا لو لم يقتنع أحدٌ بتصحيح بيع الفضولي بالإجازة على القاعدة بأيّ وجه من الوجوه فينحصر الأمر عندئذٍ بالرجوع إلى النصوص.

النصوص الدّالة علی الصحّة

ونذكر في المقام نصوصاً عديدة:

النصّ الأوّل: رواية عروة البارقي، وهي بحسب ما ورد في مستدرك الوسائل عن أبي جعفر محمد بن علي الطوسي في ثاقب المناقب عن عروة بن جعد البارقي قال: «قدم جَلَبٌ(1) فأعطاني النبي(صل الله عليه وآله) ديناراً فقال: اشتر بها شاة، فاشتريت شاتين بدينار، فلحقني رجل، فبعت أحدهما منه بدينار، ثم أتيت النبي(صل الله عليه وآله) بشاة ودينار،


(1) أي ما جُلب من خيل وإبل ومتاع إلى الأسواق للبيع.

164

فردّه عليّ وقال: بارك الله لك في صفقة يمينك، ولقد كنت أقوم بالكناسة _ أو قال بالكوفة _ فأربح في اليوم أربعين ألفاً»(1).

والذي يبدو هو أنّ الرواية أصلها من كُتب العامّة.

وقد روى في السنن الكبرى عن شبيب بن غرقدة سمع قومه يحدّثون عن عروة البارقي: «أنّ النبي(صل الله عليه وآله) أعطاه ديناراً ليشتري له شاة أُضحية فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار وأُتي النبي(صل الله عليه وآله) بشاة ودينار، فدعا النبي(صل الله عليه وآله) بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى التراب ربح فيه»(2).

هذا هو نقلٌ عن عروة البارقي بواسطة شبيب، وليس ينقله شبيب عن عروة مباشرةً، وقد أشار نفس الناقلين السنّة إلى أنّ شبيباً لم يسمع من عروة هذا الحديث، وإنّما سمع قومه يحدّثون عنه حتّى أنّه ورد في سنن البيهقي أنّ الحسن بن عمارة جاء بهذا الحديث عن شبيب عن عروة، فحينما بلغ النقل إلى مسامع شبيب أنكر النقل المباشر وقال: إنّي لم أسمعه من عروة، سمعت الحيّ يخبرونه عنه(3).

نعم، ورد عن سعيد بن زيد حدّثنا الزبير بن الخريت عن أبي لبيد عن عروة بن أبي الجعد البارقي قال: «أعطاني رسول الله(صل الله عليه وآله) ديناراً فقال: اشتر لنا به شاة. قال: فانطلقت فاشتريت شاتين بدينار، فلقيني رجل في الطريق فساومني بشاة فبعتها بدينار، فأتيت النبي(صل الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم، قال: فقال النبي(صل الله عليه وآله): وصنعت كيف؟ قال: فأخبره. فقال: اللهمّ بارك له في صفقة يمينه. قال: فقال: إنّي لأقوم في الكناسة بالكوفة فما أرجع إلى أهلي حتّى أربح أربعين ألفاً»(4).


(1) مستدرك الوسائل،‌ج13، ص245، الباب18 من أبواب عقد البيع وشروطه، ح1.

(2) السنن الکبری(للبیهقي)، ج6،‌ص185، ح11613.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق، ص186، ح11617.

165

ثم ورد في سنن البيهقي كلام لا أدري هو نصّ البيهقي أو نصّ أحد رواة الحديث وهو قوله: «رواه جماعة عن سعيد بن زيد وهو أخو حمّاد بن زيد، وليس بالقوي، والله أعلم»(1). وكان مقصودي من هذا التطويل في النقل عن سنن البيهقي إبراز وقوع الغمز من نفس علماء السنّة في سند الحديث.

وعلى أيّ حال فسواء ورد الغمز من قِبل علماء السنّة في سند الحديث أو لا لا شكّ عندنا في سقوط سند الحديث سقوطاً ذريعاً.

ومعه لا أراني بحاجة إلى البحث عن دلالة الحديث والمناقشات التي قد تذكر فيها.

والنص الثاني: صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام في وليدة باعها ابن سيّدها وأبوه غائب، فاستولدها الذي اشتراها، فولدت منه غلاماً، ثم جاء سيّدها الأوّل فخاصم سيّدها الآخر فقال: وليدتي باعها ابني بغير إذني. فقال(عليه السلام): الحكم أن يأخذ وليدته وابنها، فناشده الذي اشتراها، فقال له: خذ ابنه الذي باعك الوليدة حتّى ينقُد لك البيع ، فلمّا أخذه قال له أبوه: أرسل ابني. قال: لا والله لا أُرسل إليك ابنك حتّى ترسل ابني، فلمّا رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه»(2).

والرواية صريحة في كفاية الإجازة اللاحقة لنفوذ البيع.

ولعلّ أهمّ الإشكالات التي قد تورد على الاستدلال بهذا الحديث أُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّ مضمون الحديث مقطوع الفساد؛ لأنّه ورد في مورد نفوذ الإجازة بعد الردّ، مع أنّ ذلك خلاف الإجماع، فالإجازة التي يفتی بنفوذها في بيع الفضولي إنّما هي الإجازة قبل الردّ.


(1) المصدر السابق.

(2) الکافي، ج5، ص211، باب شراء الرقيق من کتاب المعيشة، ح12.

166

والثاني: أنّه كيف جاز في مورد الحديث للسيّد الأوّل أخذ ولد الوليدة في حين أنّه حرّ؛ لأنّه مولود بوطء شبهة من حرّ؟!

والثالث: أنّه ما معنى حبس السيّد الثاني لابن السيّد الأوّل؟! ولو جاز حبس المدين لثمن الوليدة فإنّما يكون ذلك بعد المطالبة بالثمن وامتناعه من الأداء، ولم يذكر شيء من هذا القبيل في هذه الرواية؟!

ويمكن الجواب على كلّ واحد من هذه الإشكالات الثلاثة:

أمّا الإشكال الأوّل وهو أنّ الإجازة مسبوقة بالردّ فيجاب عليه:

تارة بأنّ الردّ يعني حلّ العقد ونفيه، وليس أخذ السيّد الأوّل للوليدة وابنها أو مخاصمته للسيّد الثاني دليلاً على ذلك، فإنّه ما لم يمض العقد ولم ينفّذه يجوز له ذلك.

وأُخرى بأنّه إن دلّ شيء من هذا القبيل على الردّ فليكن الحديث دليلاً على أنّ الردّ لا يمنع عن الإجازة بعده، ومجرّد الإجماع على خلاف ذلك لو ثبت لا قيمة له؛ إذ لم يثبت كونه إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم، فلعلّه إجماع ناتج مثلاً من تصوّر عدم موافقة العقلاء على ذلك أو كونه خلاف القواعد لكون الردّ إنهاءً للعقد مثلاً.

وأمّا الإشكال الثاني وهو أنّه كيف جاز للسيّد الأوّل أخذ ولد الوليدة مع أنّه حرّ؛ لأنّه مولود بوطء شبهة من حرّ؟!

فيمكن الجواب عليه:

أوّلاً: بأنّه فلنفت ولو بسبب نفس هذا الحديث الصحيح السند بأنّ ولدها مملوك للمولى رغم شرعية دخول المشتري بسبب كونه وطءاً بشبهة. فمادام المولى الأصلي لم ينفّذ البيع ولم يكن آذناً في استفادة الحرّ منها بالوطء يعتبر الولد مملوكاً له.

وثانياً: بأنّه لو لم نقبل بذلك فلنفت استناداً لهذا الحديث بأنّ له أخذ الولد بثمنه إلى أن يأخذ ثمن الولد؛ لأنّه انحرم من إمكانية استيلادها بواسطة عبد له كي يكون الولد ملكاً له، فمادام لم ينفّذ البيع له حقّ أخذ ثمنه لابن السيّد الأوّل؟!

167

ولعلّ الصحيح من هذين الجوابين هو الجواب الثاني بدليل صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبدالله(عليه السلام): «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجيء مستحقّ الجارية؟ قال: يأخذ الجارية المستحقّ ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد، ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أُخذت منه»(1).

ولا أقلّ من كون هذا الحديث مؤيّداً للجواب الثاني في مقابل الجواب الأوّل، كما أنّ باقي روايات نفس الباب أيضاً تؤيّد ذلك.

والوجه في تنزّلنا من الاستدلال إلى التأييد احتمال وحدة هذه الرواية مع مرسلة جميل، فتأتي فيها شبهة الإرسال، فإنّها كتلك الرواية تنتهي إلى محمد بن أبي عمير عن جميل بن درّاج، ولكن الثانية تقول: عن بعض أصحابنا عن أبي عبدالله عليه السلام «في رجل اشترى جارية فأولدها فوجدت الجارية مسروقة قال: يأخذ الجارية صاحبها ويأخذ الرجل ولده بقيمته»(2)، فلو احتملنا _ احتمالاً معتدّاً به _ تعدّد الرواية ولو بسبب اختلاف المتن تمّ الاستدلال بالحديث الأوّل، وإلّا كان مجرّد تأييد.

وأمّا الإشكال الثالث وهو أنّه ما معنى حبس السيّد الثاني لابن السيّد الأوّل؟ فيمكن الجواب عليه بأنّه بالإمكان الإفتاء بسب نفس هذا الحديث بجواز حبسه في مقابل غصبه للمال من السيّد الثاني.

نعم، لم يأت في الرواية ذكرٌ لعدم استعداد ابن المولى الأوّل لإرجاع الثمن إلى المولى الثاني، ولكن مجرّد عدم ذكر ذلك في الرواية ليس دليلاً على خلافه، ولو فرض انعقاد الإطلاق بذلك أمكن تقييده.

والإنصاف أنّ كلّ هذه الإشكالات إن هي في مقابل هذا الحديث الصحيح الصريح في نفوذ بيع الفضولي بالإجازة المتأخّرة إلّا اجتهاد في مقابل النصّ.


(1) وسائل الشيعة، ج21، ص205، الباب88 من أبواب نكاح العبيد والإماء، ح1.

(2) المصدر السابق، ص204، ح3.

168

والنصّ الثالث: ما مضى من صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده، فقال: ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه، وإن شاء فرّق بينهما. قلت: أصلحك الله إنّ الحكم بن عتيبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد ولا تحلّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر(عليه السلام): إنّه لم يعص الله، وإنّما عصى سيّده، فإذا أجازه فهو له جائز»(1).

وللاستدلال بهذا الحديث على المقصود تقريبان:

التقريب الأوّل: دعوى التعدّي العرفي من مورده وهو نكاح العبد إلى بيع الفضولي.

والتقريب الثاني: دعوى التمسّك بعموم العلّة؛ إذ جعل عليه السلام العلّة في نفوذ النكاح أنّ النكاح لم يكن معصية أوّلية لله تعالى كالنكاح بذات بعل أو النكاح في العدّة أو النكاح بالمحارم كي يقال: إنّ الله تعالى سوف لن يبدّل رأيه وسوف لن يجيزه في ذلك، وإنّما المعصية الابتدائية كانت لسيّده الذي لم يُجز، فحينما أجاز انتهت المشكلة ونفذ العقد، وهذه النكتة تماماً موجودة في بيع الفضولي، فإنّ بيعه لم يكن معصية أوّلية لله تعالى كبيع الخمر والخنزير والميتة كي يقال: إنّه تعالى سوف لن يبدّل رأيه ولن تنتهي المشكلة، وإنّما کان معصية أوّلية لمالك المال الذي قد يتبدّل رأيه فيجيز، فإن أجاز فقد انتهت المشكلة ونفذ البيع.

والتقريب الأوّل وهو التعدّي العرفي عن المورد باطل؛ لأنّ النكاح أُريد تصحيحه لنفس العبد لا للمجيز، في حين أنّ بيع الفضولي يراد تصحيحه للمجيز لا لنفس الفضولي، واحتمال الفرق بينهما بنفوذ الأوّل دون الثاني موجود، فلو أُريد التعدّي من المورد وجب أن يكون التعدّي إلى المواردالمشابهة له، كالتعدّي من نكاح العبد إلى بيع ماله بدون إذن مولاه، أو إلى نكاح الزوج لبنت أخي زوجته أو بنت أُختها بدون إذن الزوجة فيقال: إذا أجاز المولى بعد بيع العبد لمال نفسه ذاك البيع أو


(1) وسائل الشيعة، ج21، ص114، الباب24 من أبواب نكاح العبيد والإماء، ح1.

169

أجازت الزوجة ذاك النكاح نفذ العقد، ومثله أيضاً بيع الراهن للعين المرهونة من دون إذن المرتهن، لا التعدّي إلى ما يراد تنفيذه للمجيز كما في بيع الفضولي.

والتقريب الثاني وهو التمسّك بعموم التعليل وهو كون المعصية معصية للشخص لا معصية لله تعالى مباشرةً فهل هو لتنفيذ البيع بشأن الفضولي أو لتنفيذه بشأن المالك؟ فإن قصد التمسّك بالتعليل لتنفيذ البيع بشأن الفضولي فمن الواضح أنّه سوف لن ينفُذ البيع بشأن الفضولي أبداً وإن قصد التمسّك بالتعليل لتنفيذ البيع بشأن المالك فمن الواضح عدم انطباق العلّة بشأنه، فإنّه لم يكن قد صدر من المالك بيعٌ غير مُجاز حتّى يقال: إنّه لم يعص الله، وإنّما عصى من لم يُجزه فإذا أجاز له جاز.

هذا كلّه بناء على تفسير صحيح زرارة بالتفسير الذي مشينا عليه حتّى الآن، وهو أنّ نكاح العبد كان باطلاً حتّى الآن، ولكنّه لم يكن بطلانه بسبب المعصية الأوّلية لله من قبيل النكاح في العدّة، وإنّما كان بسبب معصية السيّد، فإذا أجاز جاز.

أمّا لو فسّرناه بتفسير آخر، وهو أنّ النكاح كان صحيحاً، وإنّما كان للمولى فسخه، فإذا أجاز جاز وانتهی الأمر، أي: خرج من يد المولى حقّ الفسخ، فالرواية تصبح أساساً أجنبية عن المقام، ولا موضوع للتمسّك بها لتصحيح بيع الفضولي بالإجازة.

ولكلّ من التفسيرين ما يشهد له:

فممّا يشهد للتفسير الأوّل إطلاق الآية المباركة: ﴿ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلاً عَبْدَاً مَّمْلُوْكَاً لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ﴾(1)، فإنّ مقتضى إطلاقها بطلان النكاح لا إمكانية فسخه للمولى.

وممّا يشهد له أيضاً ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السکوني عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قال رسول الله(صل الله عليه وآله): أيّما امرأة حرّة زوّجت نفسها عبداً بغير إذن مولاه فقد أباحت فرجها، ولا صداق لها»(2)، فلولا بطلان النكاح


(1) النحل: 75.

(2) الکافي، ج5، ص479، باب المملوك یتزوّج بغیر إذن مولاه من کتاب النکاح، ح7.