أبي عبدالله البرقي في المحاسن عن أبيه عن أبي الجهم هارون بن جهم عن موسى بن بكر الواسطي قال: «أردت وداع أبي الحسن(علیه السلام)...» ، فلو سلّمنا ذلك واعتبرنا انصراف أبي الجهم في سند رواية أبي خديجة التي نتكلّم عنها إليه ولو باعتباره ذا كتاب صحّ سند الرواية.
ولو ناقشنا في الانصراف ولو باعتبار أنّ تسمية هارون بن الجهم في بعض موارد قليلة بأبي الجهم لا تُثبت كونه معروفاً بهذه الكنية رغم أنّه لم يكنّ بذلك في شيء من كتب التراجم والرجال فكيف يدّعى انصراف كلمة أبي الجهم في هذه الطبقة إليه؟! لم يتمّ سند الرواية.
وظيفة غير الأعلم
الأمر الرابع: في وظيفة غير الأعلم. وقد بحثنا ذلك مفصّلاً في كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الثاني عن الشهيد الصدر(رحمه الله) مع بعض التعليقات عليه، فنرجّح هنا إحالة الأمر إلى هناك، والاقتصار هنا على ذكر نكتتين:
الأُولى: أنّه لو كانت مخالفة الأعلم لغير الأعلم أوجبت فقݨْد ركون
(1) المحاسن، ج2، ص356.
(2) مباحث الأُصول، ج1، ص196.
غير الأعلم إلى رأيه وامتناعه عن العلم بفتوى نفسه فهذا لا يعني بالضرورة جواز تقليده للأعلم؛ فإنّه في غير ما لو فرض الفرق بينهما عظيماً جدّاً لا يعتبر رجوعه إلى الأعلم من رجوع غير أهل الخبرة إلى أهل الخبرة بالنحو المسموح به في الارتكاز أو المشمول للإطلاقات، فعندئذٍ لابدّ له من الاحتياط أو التباحث مع الأعلم كي يتبيّن له الحال.
والثانية: أنّ الشبهة في اتكاء غير الأعلم على فتوى نفسه لها تقريبان:
الأوّل: أنّ غير الأعلم لا يستطيع أن يثق بصحّة ما وصل إليه من حكم واقعي أو ظاهري أو وظيفة عملية ما دام يحتمل أنّه إن تباحث مع الأعلم عد له عن رأيه.
وهذا ما يرد عليه أكثر النقوض المذكورة في كتابنا (مباحث الأُصول) مع حلّ حاصله أنّ تعديل الأعلم لغير الأعلم عن رأيه فيما يتصوّر فيه التفاضل لا يكون إلّا بتبديل موضوع الحجّية له بإبراز أمر أو نكتة له لم يكن واصلاً إليه في فحصه، فلا يبقى مجال عندئذٍ لهذا الإشكال إلّا بإرجاعه إلى التقريب الثاني.
والثاني: هو أنّ العمل بالحجّة اللفظية أو العملية أو الأمن العقلي متوقّف على الفحص، ومن الفحص الرجوع إلى الأعلم بالتباحث
معه إذا احتمل أنّه سيُعدِله عن رأيه، فيجب عليه ذلك، بل إذا احتمل الأعلم أيضاً تبدّل رأيه صدفة لو تباحث مع غير الأعلم وجب عليه ذلك؛ لأنّه نوع من الفحص.
وحاصل الجواب _ الذي يستفاد ممّا أسلفناه في كتاب مباحث الأُصول _ هو أنّ أدلّة الفحص لم توجب الفحص إلّا بمقدار فحص ذي الخبرة عن مصادر الأحكام من الكتاب والسنّة بالنحو المتعارف من الفحص، وليس من ذلك التباحث مع الأعلم.
إلّا أنّ الإنصاف أنّ هذا يرجع إلى مدى احتمال التراجع من الرأي لو تباحث مع غيره سواء الأعلم أو غيره، فلو كان الاحتمال كبيراً معتدّاً به دخل التباحث معه لدى الإمكان في الفحص المستفاد عرفاً وجوبه من أدلّة وجوب الفحص.
تحليل وفلسفة عملية الإفتاء والتقليد
الأمر الخامس: في تحليل وفلسفة عملية الإفتاء والتقليد.
لا شكّ أنّ التقليد في الفهم الارتكازي العقلائي الذي جوّزه عبارة عن رجوع غير أهل الخبرة إلى أهل الخبرة، وهذا ينطبق بوضوح حينما يخبر الفقيه عن الحكم الواقعي حيث يقال: إنّ الفقيه كان من أهل خبرة الأعمال، فجاز لغير الفقيه تقليده من باب رجوع غير أهل
الخبرة إلى أهل الخبرة.
ولكن الإشكال يقع في كثير من موارد إفتاء الفقيه التي يفتي فيها بالحكم الظاهري لا الواقعي حيث يقال: إنّ تلك الأحكام الظاهرية إنّما هي أحكام ظاهرية لنفس الفقيه لا للمقلّد؛ وذلك لا لأجل أنّ جعل الحكم كان مختصّاً بالفقيه دون العامّي، بل لأنّ الحكم الظاهري المجعول مشروط بشرائط غير فعليّة بشأن العامّي من قبيل الفحص أو اليقين السابق أو العلم الإجمالي ونحو ذلك، وعندئذٍ فهل يقلّد العامّي الفقيه في الحكم الواقعي أو في الحكم الظاهري الذي يكون للفقيه أو الحكم الظاهري الذي يكون لنفس العامّي؟
فإن فرض الأوّل فالفقيه لا يعلم بالحكم الواقعي حسب الفرض، فكيف يقلَّد فيما لا يعلمه؟! وإن فرض الثاني فلا معنى لأخذ المقلَّد حكم المقلَّد؛ فإنّ المقلَّد يريد حكم نفسه لا حكم مقلَّده. وإن فرض الثالث فهذا الفقيه ليس من أهل خبرة الأحکام الظاهرية لهذا العامي بل هو من أهل خبرة أحكام نفسه الظاهرية، فكيف يرجع إليه العامّي؟! في حين أنّ ظاهر الأدلّة اللفظية هو إمضاء نفس ما هو المرتكز عقلائيّاً، خصوصاً مثل قوله: «أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟!»، فالمفهوم عرفاً من مثل هذا اللسان هو أنّ الأحكام
سواء الواقعية منها أو الظاهرية مشتركة بين الفقهاء والعوام في المرتبة السابقة على جواز التقليد، وأنّ التقليد إنّما جاز لأنّه كان المقلَّد من ذوي الخبرة بتلك الأحكام، وهذا هو المرتكز متشرّعيّاً أيضاً، وهذا هو التطبيق للمرتكز العقلائي عن التقليد.
وبما أنّ البحث هنا ليس في أصل جواز التقليد، بل المفروض هو الفراغ عن جوازه، إمّا للأدلّة اللفظية أو للارتكاز المتشرّعي أو للارتكاز العقلائي الذي لولا ردع الشارع لسرى ولو خطأً إلى الشرعيّات، فعدم ردع الشارع يكون دليلاً للإمضاء، فبعد ذلك لا تبقى حجّية هذا الظهور أعني ظهور الروايات في نفس ما عليه الارتكاز من كون التقليد رجوعاً إلى أهل الخبرة، وكون الأحكام مشتركة بين العالم والعامّي في المرتبة السابقة على جواز التقليد؛ لأنّ حجّية الظهور إنّما تكون على تقدير أثر عملي لذلك في حين أنّه لا أثر عملي _ بعد فرض أصل جواز التقليد في الشرعيّات _ في التكييف العقلائي لذلك، وأنّه هل هو بملاك الرجوع إلى أهل الخبرة أو لا، فليكن اشتراك العامّي والعالم في الحكم بعد جواز التقليد أو بعد التقليد، وأيّ ضير في ذلك؟!
وقد يقال: إنّه يكفي أثراً لذلك جواز إفتاء العامّي بحكمه حتّى
لو لم يجز له تقليد هذا الشخص أو قل الإفتاء بحكم الله المشترك في المرتبة السابقة على جواز التقليد.
إلّا أنّ هذا الأثر غير كافٍ إلّا بناءً على قيام الظهور أو مطلق الإمارات مقام العلم الموضوعي الصفتي، أمّا بناءً على إنكار ذلك لعدم الاعتراف بالعلم الاعتباري الذي يقوله الشيخ النائيني(رحمه الله) وعدم شمول أدلّة الحجّية لأثر الإخبار؛ لأنّه من آثار القطع الموضوعي الصفتي، وليس من قبيل الاستصحاب مثلاً الذي لو كان أثراً لليقين السابق فالمستظهر كونه أثراً لليقين الطريقي، فلا دليل على حجّية ظهور الدليل في كون التقليد في الشرعيّات في تكييفه كالتقليد الثابت لدى العقلاء.
وقد يذكر لذلك في المقام بعض الآثار من قبيل:
1_ لو كان الإمام يصلّي تماماً مثلاً وهو فقيه وفتواه في وضعه الخاصّ هو القصر وليس التمام ؛ لأنّ عمله في السفر مثلاً، إلّا أنّه رغب في الاحتياط بالجمع بين القصر والتمام دركاً للواقع، فأراد المأموم أن يقتدي به في الوقت الذي كان مشغولاً بالتمام وكان مرجعه يفتي في من عمله في السفر بالتمام، فبناءً على التكييف العقلائي للتقليد يصحّ اقتداؤه بهذا الإمام؛ لأنّ صلاة الإمام التامّة صحيحة حسب فتوى مرجع المأموم وإن لم تطابق فتوى الإمام، أمّا
بناءًعلى أنّ الاشتراك في الحكم الظاهري إنّما يكون في طول جواز التقليد فبما أنّ الإمام هو فقيه ولا يجوز له تقليد هذا المرجع لا تثبت صحّة صلاته، لا بحكم واقعي؛ لعدم إفتاء المرجع بالواقع، ولا بحكم ظاهري؛ لأنّ ما يفتي به المرجع ليس حكماً ظاهريّاً للإمام، فلا يجوز الاقتداء به.
إلّا أنّ هذه الثمرة غير صحيحة؛ فإنّ موضوع جواز الاقتداء ليست هي صحّة صلاة الإمام وفق الحكم الذي يجوز للإمام اتّباعه ولو ظاهراً، بل موضوعه هو الصحّة الواقعية، إلّا أنّه يجوز للمأموم ترتيب آثار الصلاة الواقعية ظاهراً على صلاة الإمام متى ما كانت صلاة الإمام ظاهراً صحيحة بشأن المأموم، وفي المقام تكون صلاة الإمام ظاهراً صحيحة بشأن المأموم ولو في طول جواز تقليده لذاك المرجع.
2_ لو قلنا في الاستنابة عن الميّت مثلاً: إنّ ظاهر عقد الإجارة هو العمل بحكم الميّت، وكان مرجع النائب غير جائز التقليد للميّت؛ لأنّ الميّت كان فقيهاً، أو لأنّ ذاك المرجع في زمان حياة المنوب عنه لم يكن فقيهاً، أو لأيّ سبب آخر، فلو قلنا باشتراك الأحكام الظاهرية بين العالم والجاهل في الرتبة السابقة على جواز التقليد فللمقلّد أن يعمل في عمله النيابي وفق فتاوى مرجعه؛ لأنّها تمثّل أحكام الكلّ حتّى
الميّت، أمّا لو قلنا بأنّ الاشتراك فيها إنّما يكون على أثر جواز التقليد فبما أنّ مرجع النائب لم يكن يجوز للميّت تقليده فلا تمثّل فتاواه حكم الميّت، فلا يجوز للنائب أن يعمل في عمله النيابي وفق فتاوی مرجعه.
إلّا أنّ هذا الأثر نظريّ أكثر من كونه عمليّاً؛ لأنّه لو صحّ انصراف عقد الإجارة فإنّما ينصرف إلى ما كانت الوظيفة الفعلية للمنوب عنه، أي العمل وفق فتاوی من كان يرى المنوب عنه العمل بها مجزياً له من غير تأثير لطريقة تكييف التقليد على هذا الانصراف سلباً أو إيجاباً.
3_ لو قلنا في باب العلم الإجمالي بالإلزام بأنّ قيام الأمارة في بعض الأطراف وفق المعلوم بالإجمال تحلّ العلم الإجمالي ولكن قيام الأصل المثبت للتكليف في بعض الأطراف لا يحلّه، فقد يقال في المقام: إنّه بناءً على اشتراك الحكم بين العالم والعامّي في الحكم لو أفتى العالم في طرف من أطراف العلم الإجمالي وفق الحكم المعلوم بالإجمال على أثر أمارة دلّت عليه ففتواه أمارة للعامّي على الحكم، وينحلّ علمه الإجمالي، أمّا بناءً على كون هذا الاشتراك في طول جواز التقليد، فقد يقال: إنّ فتوى الفقيه عندئذٍ لا تكون إلّا بحكم الأصل، فلا تحلّ العلم الإجمالي.
إلّا أنّ هذه الثمرة أيضاً علمية أكثر منها عملية، فإنّه لو سلّمنا التفصيل بين الأمارة والأصل في كون الأُولى تحلّ العلم الإجمالي دون
الثانية فغاية ما نكتشف بذلك بعد فرض مسلّميّة إمضاء ما يفهمه العرف من التقليد في مقام العمل هي أنّ فتوى الفقيه حتّى ولو كانت في طول جواز التقليد جعلت أمارة وعلماً مثلاً لا أصلاً عمليّاً بحتاً، ولا تصل النوبة إلى اكتشاف اشتراك كلّ الأحكام الظاهرية بوجه من الوجوه بين العالم والعامّي قبل التقليد وقبل جواز التقليد.
وعلى أيّة حال فلتكييف عملية التقليد في مورد الأحكام الظاهرية بنحو يرجع إلى قانون الرجوع إلى أهل الخبرة المرتكز لدى العقلاء وجوه:
الوجه الأوّل: ما قد يناسب مباني الشيخ النائيني(رحمه الله) من أنّ الفقيه يفتي بالواقع لا بالحكم الظاهري فحسب؛ وذلك على أساس العلم الاعتباري بالواقع. ولا إشكال في اشتراك الواقع بين الكلّ.
وهذا الوجه لا يتمّ مبنىً ولا بناءً:
فإنّنا لا نؤمن بأصل مبنى جعل العلم اعتباراً، ولو كان فقد اختصّ الجواب بمورد الإفتاء بالأمارات دون الإفتاء بالأُصول، على أنّ العلم الاعتباري ليس خبرة كي يجعل التقليد رجوعاً إلى أهل الخبرة، فتقليد العالم بهذا العلم يشبه تقليد من حصل له العلم بالرمل أو الأُسطرلاب أو الاستخارة ممّا لا علاقة له بتقليد أهل الخبرة وإن كان تقليداً للعالم.
الوجه الثاني: أنّنا نستكشف من جواز التقليد _ الذي فرغنا
عنه _ تماميّة موضوع الحكم الظاهري بشأن العامّي بتنزيل حالات الفقيه منزلة ثبوتها للعامّي، فكأنّ فحص الفقيه فحص للعامّي، وعلمه الإجمالي علم له، ويقينه يقين له وهكذا.
إلّا أنّ هذا الوجه لا ينفع في تطبيق ما ثبت جوازه في الشرع من التقليد على ما هو المرتكز عقلائيّاً من حقيقة التقليد؛ لأنّ التنزيل المفروض إنّما ثبت بجواز التقليد، ففي الرتبة السابقة على جواز التقليد ليست الأحكام الظاهرية مشتركة بين العالم والعامّي؛ لعدم تحقّق شروطها في العامّي، فليس الرجوع إليه رجوعاً ناتجاً من كونه خبرةً، فجواز هذا التقليد أمر تعبّدي بحت، وقد فرضنا أنّ ظاهر روايات التقليد هو الإشارة إلى نفس الأمر المرتكز لدى العقلاء.
الوجه الثالث: أن يقال: إنّنا نكتشف من دليل جواز التقليد _ بعد ظهوره في الإشارة إلى الأمر العقلائي _ إطلاق الأحكام الظاهرية للعالم والعامّي على حدّ سواء حتّى بلحاظ ما قبل جواز التقليد، أي: إنّ الحكم الظاهري الذي يكتشفه الاستنباط الصحيح المشتمل على الشروط _ من الفحص والعلم الإجمالي واليقين السابق وما شابه _ جعله الله حكماً ظاهريّاً عامّاً للناس، ولو كان الحكم عقليّاً وشرطه منتفٍ في العامّي فقد جعل الله الحكم المماثل له بشأن العامّي، وبما أنّ كلّ فقيه يعتقد أنّ
استنباطه هو الاستنباط الصحيح فهو يعتقد أنّ الحكم الذي اكتشف مطلق يشمل العامّي فيفتي بذلك، فاكتشاف إطلاق الأحكام للعامّي وإن كان في طول دليل أصل جواز التقليد في الجملة، ولكنّه ليس في طول نفس جواز التقليد، فحتّى الذي لا يكون مستجمعاً لشروط جواز التقليد كما لو كان فاسقاً أو يكون مؤهّلاً للتقليد ولكن صاحبه فقيه لا يجوّز له التقليد يكون من حقّه أن يفتي صاحبه بما استنبطه من الأحكام.
وهذا الوجه وكذلك الوجه السابق لولا الإشكال الماضي يتوقّف:
أوّلاً: على فرض ثمرة عمليّة لظهور دليل التقليد في كونه إمضاء لنفس الارتكاز العقلائي حتّى يكون حجّة تعبّداً، أو كون هذا الظهور من الظهورات المورثة للقطع.
وثانياً: على فرض عدم وجود حلّ آخر تامّ بمقتضى القواعد من دون حاجةٍ إلى استكشاف مؤونة زائدة كمؤونة هذا الوجه أو مؤونة الوجه السابق.
الوجه الرابع: _ وهذا الوجه يكون تاماً بمقتضی القواعد، وبلا حاجة إلى أيّ مؤونة زائدة تعبّدية _ هو أنّ شروط الحكم الظاهري كلّها متوفّرة بشأن العامّي، فإنّ تلك الشروط عبارة عن الفحص والعلم الإجمالي واليقين السابق والشكّ، أمّا الفحص فليس هو في واقعه
شرطاً، وإنّما الشرط هو عدم المقيّد أو المخصّص أو الحاكم أو المُلزِم في معرض الوصول وأهل الخبرة هو الذي يشخّص تحقّق ذلك.
وأمّا العلم الإجمالي فبشأن العامّي يحلّ محلّه مجرّد احتمال التكليف قبل الفحص، أو يقال بأنّ منشأ العلم الإجمالي التعبّدي الحاصل للفقيه وهو خبر الثقة مثلاً والذي هو في معرض الوصول (ولذا وصل إلى الفقيه) يكون هو المنجِّز للأطراف، وأمّا اليقين السابق فقد نقّحنا في محلّه عدم اشتراطه في الاستصحاب وكفاية ذات المتيقّن السابق، والفقيه هو الذي يكون خبرة لتشخيص ذلك، وأمّا الشكّ فهو موجود لدى العامّي بلا إشكال.
الوجه الخامس: _ وهو أيضاً يكون تامّاً على مقتضى القواعد وبلا حاجة إلى مؤونة تعبّديّة _ أنّنا لو لم نسلّم بكفاية عدم المخصّص والمقيّد والحاكم والمُلزم والمتيقّن السابق والمنشأ التعبّدي للعلم الإجمالي كخبر الثقة لم تصل النوبة إلى مثل شرط الفحص، بل يكون الشرط إحراز تلك الأُمور ولو تعبّداً.
والوجه في قولنا: ولو تعبّداً، هو إيماننا بأنّ التعبد يقوم مقام العلم الطريقي والموضوعي الطريقي.
وعندئذٍ نقول: إنّ تقليد العامّي في الحكم النهائي يرجع بنظرة تحليليّة إلى تقليده أوّلاً في عدم المقيّد والمخصّص والحاكم والمُلزِم وفي ثبوت
المتيقّن، ومنشأه العلم الإجمالي الذي هو بنفسه منجّز أو يكون نفس إفتائه بالحكم المعلوم بالإجمال منجّزاً للمقلّد ثم تقليده في النتيجة وحجّيّة الفتوى الأُولى في التقليد الأوّل تحقّق شرط التقليد الثاني والتقليد الأوّل قد يكون تقليداً في أمر واقعي لا يختلف الأمر فيه بين العامّي والعالم، وقد يكون أيضاً تقليداً في حكم ظاهري كما إذا كان المتيقّن السابق ثابتاً عند الفقيه ظاهراً لا واقعاً فيحلّل ذاك التقليد أيضاً إلى تقليدين وهكذا إلى أن ننتهي إلى التقليد في أمر واقعي.
وهذا الوجه وإن كان تامّاً أيضاً في إشباعه لتخريج التقليد على مبدأ الرجوع إلى أهل الخبرة فيما هو خبرة فيه قبل التقليد وقبل جواز التقليد؛ لأنّه يكفي إشباعاً لذلك الخبرويّة السابقة بالنسبة لكلّ تقليد ولو بسبب تقليد سابق؛ ولكن الوجه الرابع أقرب إلى الذوق المتشرعي الذي يرى أنّ الاشتراك في الأحكام بين العامّي والعالم ثابت قبل كلّ تقليد وقبل جواز التقليد. على أنّه لا داعي للتسليم بشرطيّة إحراز تلك الأُمور.
إجزاء العمل بالفتوی السابقة عن القضاء والإعادة
الأمر السادس: في إجزاء العمل بالفتوى السابقة عن القضاء والإعادة.
قد نقّحنا في علم الأُصول: أنّ الأصل في الأمر الظاهري هو عدم
الإجزاء. ولكنّنا نقول هنا: بأنّ قوله(علیه السلام) في صحيحة يونس: «أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟!» يدل بإطلاقه على الاستراحة الكاملة والاعتماد الكامل، وهذا لا يكون إلّا بفراغ البال عن عدم وجوب الإعادة والقضاء في المستقبل فهذا لا محالة يدل على الإجزاء، والإرتكاز وإن كان غير مقتض للإجزاء ولكن لا يوجد في الإرتكاز ما يمنع عن جعل الإجزاء بالنسبة لمن يتقمّص قميص المولويّة حتّى يكون كاسراً للإطلاق.
وبكلمة أُخرى: إنّ الإرتكاز العقلائي إن لاحظناه في الحياة الاعتياديّة كمراجعة الطبيب والمهندس وما إلى ذلك فلا معنى للإجزاء فيها بمعنى الأمن من العقاب وسقوط الاحتجاج وعدم التنجيز، وإنّما ذلك يتصوّر له معنى في التقريب الثاني للإرتكاز، وهو أنّ من يتقمّص من العقلاء قميص المولويّة يجعل التقليد من أهل الخبرة في الوصول إلى ما يريده المولى حجّة على رعيّته، وهذا نسبته إلى جعل الإجزاء وعدمه حياديّة، فالإرتكاز وإن لم يكن يقتضي ضرورة جعل الإجزاء عن القضاء والإعادة بعد انكشاف الخلاف ولكنّه لا يمنع أيضاً عن جعل ذلك، بل يرى جعله أمراً مناسباً ما دام أنّ خطأ العبد نشأ من خطأ الحجّة، إذاً فالإرتكاز لا يكسر هنا الإطلاق الثابت في الدليل اللفظي.
وقد تقول: إنّ الدليل اللفظي للتقليد لو كان نظره إلى الارتكاز محرزاً من محض معرفتنا بأنّ التقليد أمر ارتكازي لصحّ ما ذكرتم من أنّ ضيق الارتكاز لا يبطل إطلاق اللفظ ما دام أنّ الارتكاز ليس له مفاد سلبي ضدّ الإطلاق، ولكن رواية: «أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟!» فيها إشارة لفظيّة واضحة إلى الارتكاز؛ لأنّها جاءت بلسان التأنيب والاستفهام الإنكاري، وهذا لا يناسب إلّا مع فرض النظر إلى ما هو ثابت سابقاً من الارتكاز، وعندئذٍ فنفس ضيق الارتكاز يكسر الإطلاق اللفظي؛ لأنّ اللفظ لم يقصد به إلّا إمضاء الارتكاز ولا يتوقّف انكسار الإطلاق على دلالة سلبيّة في الارتكاز.
والجواب: أنّ اللفظ لو كان بمدلوله المباشر ناظراً إلى أنّ المقصود هو إمضاء الارتكاز صحّ ما مضى من أنّ ضيق الارتكاز كاسر للإطلاق، ولكن اللفظ ليس مدلوله المباشر هو ذلك، وإنّما نحن نستفيد من لغة التأنيب أو الاستفهام الإنكاري النظر إلى ارتكاز من هذا القبيل، وتكفي عرفاً في تصحيح هذه اللغة ارتكازيّة أصل هذا المطلب ولو فرض أنّ شعاع الارتكاز لا يشمل كلّ أشعّة الإطلاق اللفظي، فما دام أنّ الارتكاز ليس له مدلول سلبي يكسر الإطلاق يبقى الإطلاق سليماً.
بقي في المقام عدّة أُمور:
الأوّل: أنّ صحيحة يونس: «أما لكم من مفزع؟!...» كما تدل على حجّية الفتوى كذلك تدل على حجّية خبر الواحد، إذاً فكما تدل على إجزاء التقليد بالنسبة لما بعد انكشاف الخلاف فيما إذا كان الخطأ في الفتوى لا في طريقة استيعاب العامّي للفتوى، كذلك تدل على إجزاء الأخذ بخبر الواحد للفقيه نفسِه فيما إذا ثبت خطأ المخبِر الثقة لا في استنباط الفقيه، فلو أخطأ الفقيه في الاستنباط فعمله لا يجزيه في سقوط القضاء والإعادة بعد انكشاف الخلاف، ولكن فتواه تجزي العامّي في سقوطهما بعد انكشاف الخلاف، ولكن لو كان تورّط الفقيه في الخطأ نتيجة أنّ الراوي أخبره مثلاً بأنّه كان خاطئاً في النقل فهنا يتمّ الإجزاء حتّى بالنسبة للفقيه.
الثاني: ما ذكرناه من بحث الإجزاء عن القضاء والإعادة لسنا بحاجة إليه في موردين:
أحدهما: ما لو كان الخطأ الواقع مشمولاً لحديث لا تعاد أو نحوه _ بناءً على عدم اختصاص حديث لا تعاد بالنسيان _ فعندئذٍ يتمّ الإجزاء بلا حاجة إلى هذا البحث كما هو واضح.
وثانيهما: ما لو كان الرأي الجديد للفقيه هو الاحتياط، وكان
احتياطه ناشئاً من العلم الإجمالي إما بوجوب ما كان يفتي به سابقاً أو بوجوب شيء آخر، كما لو كان يفتي بالقصر مثلاً ثم تردّد بين القصر والتمام، أو كان يفتي بالجمعة ثم تردّد بين الظهر والجمعة، ففي هذا الفرض يتم الإجزاء بلا حاجة إلى البحث الذي عرفت؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي يكون بلحاظ العامّي علماً إجماليّاً مردّداً بين ما خرج عن محلّ الابتلاء وهو العمل الذي فعله، وما هو داخل في محلّ الابتلاء وهو العمل الذي لم يفعله أو قضاؤه.
الثالث: في حدود الإجزاء الذي حقّقناه، وذلك من جهتين:
الأُولى: أنّ الرأي المتبدّل قد يفترض رأياً قطعيّاً وأُخرى يفترض رأياً تعبّديّاً، كما أنّ تبدّل الرأي قد يفترض عبارة عن العلم بخلاف الرأي الماضي وقد يفترض تعبّداً ضدّ التعبّد السابق. فهل الإجزاء ثابت في كلّ هذه الفروض أو في بعضها؟ وهذا التقسيم يختصّ بفرض القول بالإجزاء لنفس الفقيه، كما قلنا به فيما لو كان خطأ الفقيه راجعاً إلى خطأ الراوي في النقل، أمّا المقلّد فكلا الرأيين يكون عادةً ثابتاً له بالتعبّد، وهو التعبّد بفتوی الفقيه. وعلى أيّة حال فقد يقال: لو كان الرأي الأوّل ثابتاً بالقطع لا بالتعبّد لم يكن مجزياً بعد انكشاف الخلاف؛ لأنّه لم يكن حكماً ظاهريّاً حتّى نقول فيه بالإجزاء، ومن هذا القبيل
لو نفى جزءاً مثلاً بالبراءة العقلية ثم انكشف الخلاف أو كان الرأي الأوّل ثابتاً بالظنّ الانسدادي على الحكومة فإنّه لا دليل على إجزاء حكم العقل لدى انكشاف الخلاف.
ونحن نقول وفق ما عرفته من تمسّكنا برواية يونس: «أما لكم من مفزع؟!...» إنّه متى ما كان المفزع _ وهو الراوي أو المفتي _ هو المخطئ ثبت الإجزاء سواء أورث كلامه القطع أو لا، ومهما كان الخطأ من نفس العامل المقلَّد أو الفقيه فلا إجزاء له بعد انكشاف الخطأ.
وقد يقال: لو ثبت خطأ الرأي الأوّل بالقطع فلا إجزاء له؛ لأنّه لا شكّ في أنّه كان باطلاً، أمّا لو ثبت خطؤه بالتعبّد فليس من المعلوم أنّ أيّ التعبّدين هو الصحيح، فالتعبّد الأوّل ينفذ في إجزاء ما وقع في زمانه كما أنّ التعبّد الثاني ينفذ في إجزاء ما وقع في زمانه.
وهذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ التعبّد الأوّل بعد أن زال في الزمان الثاني، فكما لا ينفع للعمل الجديد في الزمان الثاني كذلك لا ينفع لنفي الإعادة والقضاء في الزمان الثاني، وإنّما ينفع للإجتزاء بالعمل الأوّل ما دام ذاك التعبّد موجوداً، لا بعد زواله إلّا إذا ثبت بدليل تعبّدي إجزاؤه عن القضاء والإعادة.
ونحن أثبتنا إجزاءه بدليل تعبّدي، وهو إطلاق رواية يونس: «أما
لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟!...»، فالمهمّ أن نرى أنّ هذا النصّ الدال على الإجزاء هل توجد لدلالته إطلاق لما إذا ثبت خطأ الرأي الأوّل بالقطع أو لا؟
ولعلّ مقتضى التحقيق في ذلك أن يقال: لو كان المستفاد من هذا النصّ هو الإجزاء الواقعي إذاً يثبت له الإطلاق لما إذا ثبت الخطأ بالقطع، كما أنّ حديث لا تعاد الدال على الإجزاء الواقعي ثابت لفرض انكشاف الخطأ بالقطع واليقين. ولكن لو ادّعى بأنّ المستفاد عرفاً من ذلك ليس بأكثر من الإجزاء الظاهري؛ وذلك بمناسبة أنّ أصل حجّية الفتوى لم تكن إلّا حكماً ظاهريّاً، والإجزاء إذا كان ظاهريّاً فبقاؤه بعد الانكشاف القطعي لخلافه غير معقول؛ لأنّ كلّ حكم ظاهري ينتهي بالانكشاف القطعي لخلافه، فالنتيجة هي عدم الإجزاء في صورة الانكشاف القطعي للخلاف واختصاص الإجزاء بصورة الانكشاف التعبدي للخلاف.
ولا يخفى أنّ دعوى ظاهرية الإجزاء ليست إلّا مجرّد دعوی استظهار، وإلّا فمجرّد كون حجّية الفتوى حجّية ظاهرية لا تستلزم ظاهرية الإجزاء، فربّ حكم ظاهري أو حكم خيالي بحت يوجب الإجزاء الواقعي، كما لو أخفت إنسان مكان الجهر أو جهر مكان الإخفات، أو أتمّ في السفر بحكم ظاهري أو بحكم خيالي انكشف له خطؤه.
والثانية: المتيقّن من الإجزاء هو الإجزاء عن القضاء بلا إشكال، ولكن يوجد هناك موردان آخران يحتمل فيهما الإجزاء أيضاً:
المورد الأوّل: الإعادة في داخل الوقت، فإنّه يمكن أن يقال: إنّ الاضطراب النفسي من ناحية احتمال الابتلاء بعد العمل بالإعادة أيضاً نوع من عدم الاتكاء وعدم الراحة، فينفيه إطلاق قوله: «أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟!...».
إلّا أنّ أُستاذنا الشهيد(رحمه الله) فصّل في تعليقه على منهاج الصالحين بين القضاء والإعادة، فآمن بالإجزاء بلحاظ القضاء واحتاط بالإعادة في داخل الوقت.
والمورد الثاني: هو الصحة والبطلان بلحاظ الأحكام الوضعية.
فهل دليل الإجزاء يشمل ذلك أو لا؟ فلو عقد المقلَّد عقد بيع أو نكاح أو ذبح ذبيحة أو غير ذلك من الأُمور الراجعة إلى الأحكام الوضعية مستنداً إلى التقليد الأوّل ثم تبدّلت الفتوى أو تبدّل المرجع
(1) وسائل الشيعة، ج27، ص145، الباب11 من أبواب صفات القاضي وما یجوز أن يقضي به، ح24.
(2) منهاج الصالحین، ج1، ص18. ونفس التفصيل موجود في الفتاوى الواضحة، ص123، مع حذف عنوان الاحتياط في جانب الإعادة.
وكان الرأي الجديد يرى بطلان ذاك العقد أو تلك الذبيحة، فهل نحكم بصحّة تلك الأُمور التي وقعت في زمن التقليد الأوّل حتّى بلحاظ الآثار التكليفية التي ترتّب عليها في زمن الرأي الجديد، وهذا معنى الإجزاء في المقام؟ أو نحكم ببطلانها بلحاظ الآثار التكليفية الجديدة، وهذا معنى عدم الإجزاء في المقام؟
وقد اتّضح بهذا العرض التهافت المستبطن في كلام المصنّف(رحمه الله) فيما سيأتي إن شاء الله من المسألة 53 حيث ذكر فيها:
«إذا قلّد من يكتفي بالمرّة مثلاً في التسبيحات الأربع واكتفى بها أو قلّد من يكتفي في التيمّم بضربة واحدة، ثم مات ذلك المجتهد فقلّد من يقول بوجوب التعدّد لا يجب عليه إعادة الأعمال السابقة، وكذا لو أوقع عقداً أو إيقاعاً بتقليد مجتهد يحكم بالصحّة ثم مات وقلّد من يقول بالبطلان يجوز له البناء على الصحّة. نعم، فيما سيأتي يجب عليه العمل بمقتضى فتوى المجتهد الثاني، وأمّا إذا قلّد من يقول بطهارة شيء كالغسالة ثم مات وقلّد من يقول بنجاسته، فالصلوات والأعمال السابقة محكومة بالصحّة وإن كانت مع استعمال ذلك الشيء، وأمّا نفس ذلك الشيء إذا كان باقياً فلا يحكم بعد ذلك بطهارته وكذا في الحلّية والحرمة، فإذا أفتى المجتهد الأوّل بجواز الذبح
بغير الحديد مثلاً فذبح حيواناً كذلك، فمات المجتهد وقلّد من يقول بحرمته فإن باعه أو أكله حكم بصحّة البيع و إباحة الأكل، وأمّا إذا كان الحيوان المذبوح موجوداً فلا يجوز بيعه ولا أكله وهكذا».
أقول: نحن لم نفهم الفرق بين مثال العقد والإيقاع ومثال الذبح، فإن كان مفاد الحديث الفزع والاستراحة بلحاظ كلّ عمل وضعي أو تكليفي وجب الحكم بصحّة كلّ من العقد والإيقاع والذبح الواقع في الزمان الأوّل، وترتيب آثار الصحّة عليه حتّى في الزمان الثاني وإن لم يجز في الزمان الثاني العقد أو الإيقاع أو الذبح وفق الرأي الأوّل. وإن كان مفاد الحديث هو الفزع والاستراحة بلحاظ حصول الامتثال وعدمه، أي بلحاظ وقوع العمل بمؤدّى الحكم التكليفي في الزمن الأوّل لم يجز ترتيب آثار الصحّة على كلّ هذه الأُمور في الزمان الثاني.
والمرجّح عندنا هو كون النظر إلى وقوع العمل بالحكم التكليفي في الزمن الأوّل؛ وذلك لأنّ المنصرف من الفزع والاستراحة اللذين فهمنا منهما الإجزاء هو الفزع والاستراحة بلحاظ امتثال الوظائف، وقيمة صحّة الأُمور الأُخرى وفسادها ترجع إلى ما تنتهي إليها بالآخرة من الامتثال أو العصيان.
(1) العروة الوثقی، ج1، ص17.
ولو شككنا في هذا الاستظهار كفانا الرجوع إلى الأصل؛ فإنّ الأصل _ كما نقّحناه في علم الأُصول _ في الأحكام الظاهرية عدم الإجزاء، وإنّما أثبتنا الإجزاء هنا بدليل تعبّدي وهو صحيحة يونس، فلابدّ من الاقتصار في ذلك على القدر المتيقّن.
وفي ختام البحث عن إجزاء الرأي السابق بالنسبة للمقلَّد ينبغي إلفات النظر إلى نكتتين:
النكتة الأُولى: لو قلنا في مورد تساوي الفقيهين بالتخيير في التقليد وقلنا بأنّ التخيير تخيير فقهي لا أُصولي، أي إنّ المنجّز على المقلَّد إنّما هو مقدار الجامع بين الفتويين، وليست كلّ فتوى يختارها لأجل التقليد حجّة له حتّى في إبطال الفتوى الأُخرى، وقلنا بأنّ التخيير استمراري وليس ابتدائيّاً فعدل المقلَّد على أساس استمرارية اݣݣݣݣݣݣݣلتخيير ݢإلى الفقيه الثاني بعد أن كان قد عمل بفتوى الفقيه الأوّل، فهنا يبدو أنّ الإجزاء نتيجة طبيعية لتلك المباني؛ أعني مباني التخيير الفقهية الاستمرارية، ولا نحتاج لإثبات الإجزاء هنا إلى البحث الذي بحثناه، فإنّ المقدار المنجّز عليه سابقاً ولاحقاً هو الجامع بين الفتويين، وقد عمل في عمله السابق بالجامع ضمن عمله بالفتوى الأُولى، فما عدا ممّا بدا حتّى تجب عليه الإعادة أو القضاء؟!
نعم، تبقى عليه مشكلة حصول العلم الإجمالي أحياناً ببطلان أحد عمليه، كما لو عمل في بعض صلواته بفتوى القصر ثم عمل في صلوات أُخرى بفتوى التمام في الظروف المشابهة لظروف الصلوات الأُولى، فهو يعلم إجمالاً ببطلان إحدى الصلاتين.
بل ومشكلة حصول العلم التفصيلي بالبطلان أحياناً، كما لو قصّر في الظهر على الفتوى الأُولى، ثم أتمّ في العصر على الفتوى الثانية مع تشابه الظرفين للصلاتين، فهو يعلم تفصيلاً ببطلان صلاة العصر؛ إمّا لزيادة ركعتين أو لفوات شرط الترتّب بين الصلاتين، إلّا أنّ هذه المشاكل هي في الحقيقة مشاكل القول بالتخيير الاستمراري، وسيأتي بحثها ضمن بحث التخيير إن شاء الله.
النكتة الثانية: لو عدل المقلَّد من الرأي الأوّل إلى الرأي الثاني مع بقاء الرأي الأوّل على ترجيحه على الرأي الثاني بلحاظ زمانه، فقد يبدو أنّ الإجزاء أمر طبيعي بلا حاجة إلى البحث السابق. مثاله: ما لو قلّد الأعلم في بعض أعماله ثم فسق الأعلم، فعدل إلى تقليد المفضول بناءً على دليل تعبّدي على شرط العدالة في التقليد، فلا يمكن للفتوى الثانية أن تكشف عن بطلان الفتوى الأُولى بلحاظ زمانها، لأنّها
بلحاظ الزمان الأوّل فتوى لفقيه جامع للشرائط، وقد كان أعلم من هذا الفقيه حتّى بلحاظ الزمان الثاني، فالمفروض بالمقلَّد الآن أن يبقى على تقليد الفقيه الأوّل بلحاظ ما وقع منه من الأعمال في زمان عدالة ذاك الفقيه.
إلّا أنّ الإجزاء المستفاد من هذا البيان لا يكون إلّا إجزاءً ظاهريّاً، فإنّ هذا البيان إنّما أثبت في الحقيقة الإجزاء ببيان أنّ تلك الفتوى لم توجد ما يسقطها بلحاظ ما وقع في زمانها، أي إنّه رتّب الإجزاء على بقاء حجّية الفتوى بلحاظ تلك الأعمال، ومن المعلوم أنّ حجّية الفتوى ليست إلّا حجّية ظاهرية، فإجزاؤها المستفاد من محض حجّيتها أيضاً لا يكون إلّا ظاهريّاً.
والنتيجة أنّه لو كان دليل الإجزاء منحصراً بذلك فعلى المقلَّد أن يتجنّب التورّط في العلم التفصيلي بالخلاف، أي إنّه لو قلّد الأوّل في صلاة الظهر فصلّاها قصراً ثم فسق الأوّل وافترضنا ضرورة العدول تعبّداً إلى المفضول الذي يفتي بالتمام في نفس تلك الظروف يجب على المقلَّد عندئذٍ إعادة صلاة الظهر تماماً، لا لعدم إجزاء ما صلّاه قصراً عن تكليفه بالظهر بل لتصحيح صلاة العصر.