حقيقة التقليد وحالاته
بسم الله الرحمن الرحيم
وسنفصّل البحث في ذلك ضمن عدّة نقاط:
النقطة الاُولى: تعريف التقليد
تعرّض الفقهاء الى تعريف التقليد وتحديد المراد به، قال السيد اليزدي: « مسألة 8: التقليد هو الإلتزام بالعمل بقول مجتهد معيّن وإن لم يعمل بعد بل ولو لم يأخذ فتواه، فإذا أخذ رسالته والتزم بما فيها كفى في تحقق التقليد » (1).
وفي البدء ينبغي أن يعلم أنّه لم يكن عنوان التقليد في النصوص مأخوذاً في موضوع الأحكام حتى نبحث في معناه العرفي أو اللغوي. أجل، وردت رواية في كتاب الاحتجاج: جاء فيها: « فأمّا من كان الفقهاء... فللعوام أن يقلّدوه... » (2). وهي لو كانت تامة سنداً لما كانت فيها دلالة على أكثر من إمضاء ما عليه العقلاء نفسه، فليس مفادها حكماً تعبّدياً محضاً حتى نحتاج إلى فهم لغوي أو عرفي لمعنى موضوعه، وهو التقليد.
إذن، فلو فرض البناء على البحث عن معنى التقليد يجب أن يكون البحث بشكل آخر، وهو أن نعدّد أحكام التقليد، ثم نعيّن موضوع كلّ حكم من تلك الأحكام، وعندئذٍ قد يكون موضوع بعضها غير موضوع الآخر، أي إنّ التقليد قد يفسّر بعدّة تفسيرات حسب اختلاف الأحكام. وتلك الأحكام هي أربعة:
1 ـ التأمين عن الواقع ما دام العمل موافقاً لمقتضى التقليد.
2 ـ الإجزاء بعد انكشاف الخلاف.
3 ـ عدم جواز العدول من فقيه الى آخر؛ بناءً على القول بذلك في غير موارد الاستثناء.
4 ـ جواز البقاء على تقليد الميت؛ بناءً على القول بجوازه ومن دون جواز تقليد الميت ابتداء.
أمّا الأول: وهو التأمين عن الواقع، فموضوعه العلم بالفتوى مع العلم بحجيته مقترناً بالعمل على وفقه، أو قل: إنّ المؤمّن عقلاً هو العمل بما يعلم بحجيته.
وأمّا الثاني: وهو الإجزاء فموضوعه ـ بناء على ما عرفت في البحث السابق (1) من أنّ الدليل هو صحيحة يونس بن يعقوب: « أما لكم من مفزع؟ أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري » (2) ـ فهو الإستناد؛ لأنّ الفزع والاستراحة يكونان بذلك.
وأمّا الثالث: وهو عدم جواز العدول إلى فقيه آخر فخير مدرك له ـ على ما سيأتي إن شاء الله ـ هو لزوم العلم الإجمالي بالمخالفة، وبناءً على هذا المدرك يكون موضوعه العمل بالفتوى.
وأمّا الرابع: وهو جواز البقاء على تقليد الميت، فأيضاً قد يختلف الحال في موضوعه باختلاف مدركه، ونذكر لأجل المثال فرضاً واحداً، وهو ما لو كان المدرك ما عن السيد الخوئي ـ كما سيأتي إن شاء الله في المسألة الآتية ـ من أنّنا اُمرنا بالرجوع إلى نفس المقلَّد والأخذ منه، وهذا لا يعقل إلا لدى حياته، فالابتداء بالتقليد من الميت غير صحيح؛ لاستحالة الرجوع إلى الميت والأخذ منه، ولكن البقاء على ما تعلّمه منه صحيح؛ لأنّ البقاء ليس رجوعاً جديداً وأخذاً جديداً، وقد تم الرجوع والأخذ في حال حياته، وعلى هذا الفرض يكون معنى التقليد بالنسبة لهذا الحكم عبارة عن التعلّم.
النقطة الثانية: تقليد الميت
قال السيد اليزدي: « مسألة 9: الأقوى جواز البقاء على تقليد الميت، ولا يجوز تقليد الميت إبتداءً » (3).
استدلال السيد الخوئي رحمه الله:
إنّ المستفاد من كلمات السيد الخوئي رحمه الله (4) في المقام ما يلي:
إنّه تارة نتكلّم على مستوى الأدلّة اللفظية للتقليد، واُخرى على مستوى السيرة، وثالثة على مستوى الاستصحاب.
1 ً ـ الأدلة اللفظية:
أمّا على مستوى الأدلّة اللفظية للتقليد فتلك الأدلّة لا تشمل تقليد الميت.
وقد ذكر رحمه الله في مقام عدم شمولها إياه بيانين؛ وكأنّهما يرجعان في نظره إلى بيان واحد إلا أنّ هناك فارقاً بينهما، كما سيظهر من خلال طرحهما إن شاء الله:
البيان الأول: أنّه قد اُخذت في الأدلّة اللفظية بعض العناوين التي لا تصدق على الميت، من قبيل: عنوان المنذر أو أهل الذكر أو الفقيه أو الراوي أو الناظر في الحلال والحرام، أو غير ذلك من العناوين الظاهرة في لزوم أخذ الفتوى من المتلبّس بالمبدأ وغير الشاملة لمن انقضى عنه المبدأ.
ويرد عليه:
أ ـ أن هذا البيان منه رحمه الله ـ كما ترى ـ لا يصلح لشمول كلّ الأدلّة اللفظية، فمن جملتها ما لم يؤخذ فيها عنوان من هذا القبيل، وإنّما كان الإرجاع فيها إلى الأشخاص كالحارث بن المغيرة النضري.
ب ـ أنّه قد يناقش في عدم صدق بعض هذه العناوين على الميت كالفقيه أو الثقة ـ مثلاً ـ ممّا يصدق على النفس الناطقة حتى بعد موت الجسد.
جـ ـ كما أنّ هذا البيان يتوقّف على عدم قبول كون المشتق حقيقة في الأعم.
البيان الثاني: وهو أوسع من البيان الأول، وهو أنّ الموجود في أدلّة التقليد هو الرجوع إلى المقلّد، كما دلّ عليه التعبير بالسؤال في قوله: < فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ > (1)، أو الإنذار في قوله تعالى: < لِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ > (2)، أو كلمة الأخذ من قوله: « آخذ عنه معالم ديني » (3)، أو جملة:. ما يمنعكم عنه )، كما في قوله: « ما يمنعكم عن الحارث بن المغيرة النضري » (4)، أو غير ذلك، ممّا يدلّ جميعاً على الرجوع إلى المقلَّد والأخذ منه، ومن الواضح عدم إمكان الرجوع إلى الميت أو الأخذ منه.
وفيه:
أ ـ أنّ هذا البيان ـ كما ترى ـ يشمل حتى روايات الإرجاع إلى الأفراد من دون ذكر شيء من تلك العناوين.
ب ـ لا يتوقّف هذا البيان على الإيمان باختصاص صدق المشتق بالمتلبّس.
هذا، والفرق في نظره رحمه الله بين باب التقليد وباب أخذ الرواية ـ حيث يجوَّز التمسّك برواية الرواة الميتين، ولا يجوز تقليد الميت ـ هو انّنا في باب التقليد أرجعنا إلى نفس الفقيه أو الراوي أو أهل الذكر أو المنذر أو الحارث بن المغيرة أو زكريا بن آدم أو يونس بن عبد الرحمن أو غير ذلك لأخذ الفتوى منهم، ولا يمكننا الرجوع اليهم وأخذ الفتوى منهم بعد موتهم، ولكن في باب الرواية أرجعنا إلى نفس الروايات وأمرنا بالأخذ بها، والرجوع إلى الروايات والأخذ بها ممكن حتى بعد وفاة الرواة. نعم، لا بأس بالبقاء على تقليد الميت؛ وذلك بمعنى أنّ ما أخذناه منه ـ أي تعلّمناه منه ـ في حياته يجوز لنا العمل به بعد موته؛ لأنّ الأخذ والرجوع قد تم في حين الحياة، وليس البقاء على تقليده أخذاً جديداً ورجوعاً جديداً إلا إذا كان المقلِّد قد نسي الفتوى، فاحتاج إلى الأخذ الجديد والرجوع الجديد، فهنا أيضاً تقصر الأدلّة اللفظية عن إثبات جواز تقليده للميت؛ لأنّ هذا الرجوع الجديد أو الأخذ الجديد ليس رجوعاً إلى ذاك المقلَّد أو أخذاً منه؛ لعدم إمكان الرجوع إلى الميت والأخذ منه.
2 ً ـ السيرة:
وأمّا على مستوى السيرة فخلاصة ما يستفاد من كلامه رحمه الله أنّه إن قصد بالتمسّك بالسيرة إثبات جواز التقليد لميت ما على سبيل التخيير بينه وبين فقيه آخر فهذا غير ممكن؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي أو التفصيلي بالاختلاف في الفتاوى بين هذا الميت وبعض الأحياء وبين الأموات أنفسهم يوجب تساقط الكلّ ما لم يكن ترجيح بالأعلمية.
وإن قصد بالتمسّك بها إثبات حجية أعلم العلماء من الأولين والآخرين وإن كان ميتاً فهذا يلزم منه وجود شخص كإمام ثالث عشر يرجع إليه الشيعة تماماً وفي جميع الأعصار رغم موته، وهذا خلاف الضرورة من مذهب الشيعة.
وقد طبّق رحمه الله هذا البيان على الأدلّة اللفظية أيضاً بغضّ النظر عن الإشكال الماضي، فلو فرضنا أنّ الأدلّة اللفظية في نفسها مطلقة تشمل تقليد الميت خلافاً لما مضى قلنا: إنّه لو قصد بالتمسّك بها إثبات جواز التقليد على سبيل التخيير بين ذاك الميت وغيره من الأحياء أو الأموات قلنا إنّه مع العلم الإجمالي أو التفصيلي بالخلاف تتساقط الإطلاقات.
ولو قصد به إثبات جواز تقليد من هو أعلم العلماء من الأولين والآخرين لزم من ذلك ما يشبه فكرة الإمام الثالث عشر، وهذا خلاف الضرورة من فقه الشيعة.
3 ً ـ الاستصحاب:
وأمّا استصحاب الحجية الثابتة في زمان حياته فقد أورد رحمه الله عليه بإيرادين:
أحدهما: ما بنى عليه في بحث الاستصحاب من عدم حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية؛ لأنّ استصحاب بقاء المجعول معارَض باستصحاب عدم سعة الجعل.
والثاني: أنّه ليس استصحاب بقاء المجعول في ذاته جارياً في المقام في تمام الموارد، لأنّ من لم تصبح بشأنه حجية تقليد فلان فعلية ـ لأنّه لم يكن مولوداً في ذاك الزمان مثلاً، وإنّما ولد بعد وفاته ـ كيف يمكنه أن يستصحب حجية التقليد بشأن نفسه ؟. إلا أن يرجع إلى الاستصحاب التعليقي بأن يقول: لو كنت في ذلك الزمان لجاز لي تقليده، والآن كما كان.
مناقشة استدلال السيد الخوئي رحمه الله:
أمّا الإطلاقات اللفظية فالصحيح أنّها تامة الدلالة على جواز تقليد الميت ابتداءاً.
ودعوى عدم إمكان الأخذ من الميت والرجوع إلى الميت قد يكون غير مفهومة كما لو قيل: إنّه من الصحيح عرفاً التعبير عمّن أخذ مطلباً من كتاب القانون بأنّه أخذه من أبي علي بن سينا.
ثم إنّنا لم نعرف بالضبط مقياس صدق هذا العنوان وعدم صدقه هل هو حقاً عبارة عن حياة المأخوذ منه وموته؟ ولماذا يكون هكذا؟
فأيّ فرق بين أن نفترض أخذ الفتوى من شخص قد مات أو نفترض أخذها في حال حياته ولكن لم يكن قد أخذها منه مباشرة، بل كانت رسالته العملية موضوعة صدفة على رفّ البيت ومرّ بها المقلِّد فأخذها من دون علم المفتي، فهل يعتبر أخذ المسائل من هذه الرسالة أخذاً منه ورجوعاً إليه رغم عدم علم المفتي نهائياً بذلك؟ ولو كان المفتي نائماً حينما أخذ المقلِّد الرسالة ودرسها فهل هذا أخذ منه؟ ولو كان كذلك فلم لا يكون أخذ المسائل بعد موته أخذاً منه؟ وما دام قد أخذ الرسالة من شخص آخر ودرسها لدى شخص آخر غير الفقيه فأيّ فرق بين افتراض الفقيه في ذلك الوقت حياً نائماً في فراشه مثلاً أو ميتاً ؟
أقول: لنفترض أنّنا فهمنا المقياس بين أخذ الفتوى والأخذ من المفتي والرجوع إلى الفتوى أو الرجوع إلى المفتي وأنّ ذاك المقياس هو الحياة و الموت فما تعلّمه المقلِّد من آراء الفقيه في حال حياته صدق عليه الأخذ من المفتي والرجوع إليه، وما تعلّمه بعد موته فهو رجوع إلى الفتوى فحسب لا إلى المفتي وأخذ للفتوى وليس أخذاً من المفتي، ولكن ياترى هل إنّه هذا الفرق فارقاً في الحكم؟ كلا.
عدم الفرق في الرجوع الى الفقيه حال حياته أو بعد موته:
ويمكن بيان عدم الفارقية بأحد تعبيرين:
التعبير الأول: أنّ المفهوم عرفاً من الإرجاع إلى صاحب متاع كالقصّاب والعطّار والبقّال وغيرهم إنّما هو الإرجاع إليه لأخذ ما لديه من اللحم العطر أو اللبن أو غير ذلك، ولا يفرّق العرف بين التعبير بالإرجاع إلى نفس اللحم أو العطر أو اللبن أو الأمر بأخذ ذلك، والتعبير بالإرجاع إلى أصحاب هذه الأمتعة، وفي كلا الحالين يقول العرف إنّ الهدف كان هو المتاع.
وكذلك الحال في المقام فسواء أفرض الإرجاع إلى المفتي أو الراوي أو فرض الإرجاع إلى الفتوى أو الرواية يكون المفهوم شيئاً واحداً، وهو أنّ الهدف إنّما هو الحصول على الفتوى أو الرواية، وليس التفكيك بين باب التقليد وباب الأخذ بالروايات بأنّنا اُمرنا في الأول بالرجوع إلى المفتي وفي الثاني بالرجوع إلى الرواية لا الراوي أمراً مفهوماً عرفاً.
نعم، يجب أن تكون الفتوى صادرة من الفقيه أو المنذر أو أهل الذكر أو الراوي ونحو ذلك من العناوين المأخوذة في الأدلّة، والمشتق وإن كان حقيقة في المتلبّس لا الماضي، لكن زمان هذا الإسناد هو ذاك الزمان، أي زمان صدور الفتوى وهو متلبّس بتلك العناوين.
التعبير الثاني: أنّ حجية الفتوى في الفهم الإرتكازي العرفي إنّما هي من باب الطريقية، وليست تعبّدية بحتة، ولا فرق في طريقيتها بين فرض حياة المفتي وموته.
هل الأدلّة رادعة للسيرة في الرجوع إلى الميت ؟
وأمّا القول بأنّه بعد أن كان الأصل في تعارض الفتوى هو التساقط لدى التساوي فتعيين فتوى أعلم العلماء من الأولين والآخرين من الأحياء والأموات للتقليد يوجب ما يشبه فكرة وجود الإمام الثالث عشر، وهو خلاف ضرورة مذهب الشيعة، وبهذا تبطل الإطلاقات لو غضّ النظر عن الإشكال السابق وتثبت أيضاً بذلك مردوعية السيرة.
فهذا الكلام أيضاً لا يمكن المساعدة عليه، وأقلّ ما يرد عليه أنّ مشكلة لزوم فكرة وجود الإمام الثالث عشر لو كانت مشكلة واقعية، أمكن أن تكون كاشفة عن ردع السيرة أو تقييد الإطلاقات، ولكنّها ليست إلا مشكلة فرضية وخيالية لا واقعية؛ لأنّ الأعلم دائماً يكون في الخط الزمني الطويل في الأحياء، لا في الأموات. نعم، يمكن أن يكون في الفترات الزمنية القصيرة في الأموات، فالأعلم بين حين وحين يتبدّل حتماً، فلا يلزم الوقوع في مشكلة الإمام الثالث عشر، ولئن كان عنصر واحد في صالح أعلمية الأموات في خصوص من عاش قبل تدوين الجوامع، وهو احتمال إطلاعهم على روايات أو قرائن لسنا مطلعين عليها فباقي عناصر الأعلمية جميعاً تكون في الأحياء في المدى البعيد أقوى منها في الأموات.
نعم، لو صح الإشكال السابق في الأدلّة اللفظية، وهو أنّ الأخذ من الميت غير معقول أو أنّ العناوين المذكورة في الأدلّة لا تصدق على الأموات وافترضنا أنّ ذلك يوجب دلالة الأدلّة اللفظية على عدم جواز تقليد الميت لفقدانه تلك العناوين أو لعدم صدق الأخذ منه فقد يقال: إنّ تلك الأدلّة اللفظية رادعة عن الارتكاز والسيرة اللذين لا يفرّقان بين الحي والميت في التقليد.
ولكن السيد الخوئي رحمه الله أبطل بنفسه هذه الرادعية ببيان أنّ تلك الأدلّة وإن كانت ظاهرة في اشتراط الحياة في المفتي لكنّها ليست بذات مفهوم حتى تنفي جواز تقليد الميت.
ولعلّ في عبارة التنقيح مسامحة في المقام؛ لأنّنا لو سلّمنا ظهور تلك الأدلّة في اشتراط الحياة فهي لا محالة تنفي جواز تقليد الميت، لعلمنا بأنّه لا يوجد للتقليد إلا جواز واحد إمّا مطلق وإمّا مخصوص بالحي، وليس للتقليد حكمان متسانخان أحدهما في الحي والآخر في الميت حتى يقال: إنّ قيد الحياة قيد لشخص الحكم، ولا يدلّ بالمفهوم على انتفاء سنخ الحكم لدى انتفائها، فلعلّ المقصود الواقعي للسيد الخوئي رحمه الله أنّ قيد الحياة ظاهر من الأدلّة اللفظية وإن ضيّق دلالة اللفظ وأبطل شمول إطلاق الأدلّة للفقيه الميت لكنّه ليس ظاهراً في كونها قيداً احترازياً وشرطاً في التقليد؛ لأنّ الممكن المألوف وقتئذٍ كان هو تقليد الحي، فهذا القيد مأخوذ من الواقع الخارجي سنخ ما يقال في < رَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ > (1).
ولولا أنه رحمه الله أبطل رادعية تلك الأدلّة اللفظية عن تقليد الميت ولم يؤمن بها لكان يرد عليه: أنّه يلزم من ذلك قبول هذه الرادعية في باب الرواية أيضاً؛ لأنّ تلك الأدلّة اللفظية ليست دليلاً على التقليد فحسب، بل هي تدلّ على حجية خبر الثقة أيضاً، فتدلّ على تخصيص حجية خبر الثقة بفرض حياة المخبر، فلو كان لدينا نص على حجية خبر الثقة مطلق شامل لخبر الميت لكانت هذه الروايات مخصصة له، ولو كان لدينا ارتكاز أو سيرة يدلان على جواز الأخذ بخبر الميت لكانت هذه الأدلّة رادعة عن ذاك الارتكاز وتلك السيرة.
ثم إنّ السيد الإمام الخميني رحمه الله أبطل التمسّك ببناء العقلاء في المقام بأنّ بناء العقلاء إنّما يصبح حجة بإمضاء الشريعة الذي يثبت بعدم الردع، وهذا إنّما يكون في بناء تم سريانه إلى الشريعة في زمن المعصوم كي يكون سكوت المعصوم دليلاً على الرضا، وهذا غير متحقق في باب التقليد؛ إذ أنّه في زمن المعصوم لم يكن من المتعارف وجود رسائل عملية مشتملة على فتاوى الفقيه كي يمكن أو يسهل تقليد الميت بقاء الرسالة بعد وفاة الفقيه، فتقليد الميت
وقتئذٍ، لم يكن ممكناً أو سهلاً ومتعارفاً، إذن فالبناء العقلائي غير ثابت الإمضاء، بل هذا يوجب انصراف الأدلّة اللفظية أيضاً عن تقليد الميت ابتداء(1).
أقول: إنّ انصراف الأدلّة اللفظية إن فرض أنّه بسبب عدم وجود تقليد من هذا القبيل وقتئذٍ لانصراف الدواعي عمّا ليس بسهل إلى ما هو سهل وهو تقليد الحي أو لعدم إمكان تقليد الميت فمن الواضح أنّ عدم الوجود بالنسبة لمصداق لا يوجب انصراف الإطلاق عنه.
وإن كان بسبب أنّ السيرة توجب انصراف اللفظ الوارد في مقام الإمضاء إليها، والسيرة لم تتحقق في تقليد الميت الابتدائي فمن الواضح أنّ هذا الانصراف يكون انصرافاً إلى ما عليه الارتكاز بسعته، وإذا كانت السيرة العملية أضيق من دائرة الارتكاز بسبب انتفاء الموضوع خارجاً لم يوجب ذلك ضيقاً في إطلاق اللفظ الممضي لما عند العقلاء؛ فإنّ ما عند العقلاء إنّما هو ارتكازهم، لا خصوص سيرتهم التي ضاقت صدفة بضيق الموضوع الخارجي، لا بسبب ضيق بنائهم.
وأمّا أنّ السكوت لا يدلّ على إمضاء ارتكاز العقلاء إلا بقدر ما يترجم في عملهم خارجاً في زمن المعصوم أو بقدر ما يسري إلى الشريعة من قبلهم فهذا إن تم فلا يتم في ما يترقّب سريانه إلى الشريعة في وقت قريب، والتقليد كان من هذا القبيل، خصوصاً بلحاظ أزمنة الأئمة المتأخّرين.
صحة التمسّك بالاستصحاب:
وأمّا الاستصحاب فقد نقلنا عن السيد الخوئي رحمه الله إشكالين على ذلك:
أحدهما: كونه استصحاباً في الشبهات الحكمية. وهذا ما وضّحنا وأجبنا عليه في علم الاُصول، فنحوّل الحديث عنه إلى بحث الاستصحاب.
وثانيهما: أنّ الاستصحاب لا يتم في شأن من لم تصبح حجية فتوى هذا الفقيه في حال حياته فعلية بالنسبة له، كالذي لم يكن مولوداً في ذلك التاريخ إلا بنحو الاستصحاب التعليقي، وهو غير حجة.
والجواب: أنّنا نستظهر من أدلّة الأحكام الشرعية في غير ما يخرج بدليل أنّها أحكام ثابتة على الطبيعة، وليس مجرّد كونها أحكاماً على نحو القضايا الحقيقية.
والسرّ في ذلك غلبة كون خصوصيات الأفراد والأصناف في القضايا الحقيقية غير دخيلة في ملاك الحكم، فيصبح المناسب لا محالة كون الحكم مجعولاً على الطبيعة، ففتوى هذا الفقيه كانت حجة على طبيعة الإنسان، لا على الأفراد بخصوصياتهم كي يقال: إنّ هذا الفرد لم يكن مولوداً وقتئذٍ.
ما هو مقتضى الأصل الأوّلي ؟
ثم لو لم يتم شيء ممّا ذكرناه من إمكانية التمسك بالمطلقات وبالارتكاز وبالاستصحاب لإثبات جواز تقليد الميت وبقينا شاكين في ذلك، فالذي يبدو أنّ السيد الخوئي رحمه الله يرى أنّ الأصل عدم حجية فتوى الميت باعتبار أنّ المتيقّن حجيته إنّما هي فتوى الحي، وأمّا فتوى الميت فهي مشكوكة الحجية، ومقتضى الأصل لدى الشك في الحجية هو عدم الحجية.
والتحقيق: أنّه لو تنجّزت الأحكام على المكلّف بالعلم الإجمالي فلا بدّ من تحصيل الفراغ اليقيني، وهذا لا يكون إلا بتقليد الحي.
أمّا لو كان المقدار المتفق عليه بين الحي والميت كافياً في انحلال العلم الإجمالي فهنا قد يقال بالرجوع إلى أصالة البراءة عن الإلزام في مورد يفتي الحي بالإلزام والميت بالترخيص؛ لأنّ أصالة البراءة وإن كانت مشروطة في الشبهات الحكمية بالفحص، ولكن فحص المقلِّد عبارة عن الرجوع إلى فتاوى الفقهاء.
أمّا إذا ناقشنا في كون ذلك فحصاً موجباً لجريان البراءة كما لا يبعد ذلك فالحق إذن هو إجراء أصالة عدم حجية فتوى الميت. ولكن الواقع أنّه لم تصل النوبة إلى هذا الأصل؛ لأنّ المطلقات والارتكاز والاستصحاب كلّها تدلّ على الحجية.
وعلى أيّ حال فقد اتضح بكلّ ما ذكرناه أنّ عنوان الحياة والموت بما هما ليسا دخيلين في حكم التقليد، وأنّ تقليد الميت ابتداء جائز كتقليد الحي.
نعم، عنوان الأعلمية دخيل في حكم التقليد على ما سوف يأتي إن شاء الله، والأعلمية في المدى الطويل من الزمان تكون دائماً في الأحياء؛ فإنّ الفقيه حينما يموت يتوقّف فقهه عن النمو في حين أنّ الأحياء يستوعبون ما كان لديه ويسيرون في طريق التكامل، ولا توجد نكتة لأعلمية الميت في المدى الطويل إلا نكتة واحدة مخصوصة بما قبل عصر تدوين الجوامع، وهي احتمال عثورهم على روايات وقرائن لم نعثر عليها، وهذا وحده غير كافٍ في المقام؛ فإنّ أكثر نكات الأعلمية الأخرى تختص بالأحياء، لأنهم هم الذين يواكبون نمو العلم.
النقطة الثالثة: العدول من الميت والى الميت
قال السيد اليزدي: « مسألة 10: إذا عدل عن الميت إلى الحي لا يجوز له العدول إلى الميت » (1).
كأنّ المقصود هو أنّ العدول من الميت إلى الحي يجوز حتى مع فرض أعلمية الميت أو على الأقل ـ مع التساوي ـ فإذا عدل إلى الحي لا يجوز له الرجوع مرة أخرى إلى الميت؛ لأنّ هذا يصبح تقليداً ابتدائياً للميت، لأنّ التقليد عند السيد اليزدي رحمه الله عبارة عن الالتزام، وقد عدل إلتزامه إلى الحي، فالرجوع إلى الميت يعني التزاماً جديداً بفتاوى الميت، وهذا تقليد ابتدائي.
لكن عرفت أولاً: أنّ تفسير التقليد بشيء اسمه الإلتزام ثم ترتيب الأحكام على ذلك غير صحيح؛ لأنّ التقليد لم يكن موضوعاً ترتّبت على ما له من معنى عرفي او لغوي أحكام تعبّدية.
وثانياً: أنّه لا فرق بين تقليد الميت والحي نهائياً إلا من ناحية الأعلمية التي تكون في الخط الزمني الطويل في الأحياء.
إذن فالعدول من الميت إلى الحي وكذلك العدول ثانياً من الحي إلى الميت حاله حال العدول من الحي الى الحي، وذلك جائز حينما يكون عدولاً إلى الأعلم.
أمّا مع المساواة فيتوقف الأمر أولاً على الإيمان بالتخيير في التقليد بين المتساويين، وإلا لكان اللازم من أول الأمر الأخذ بأحوط الأقوال، وثانياً على الإيمان بأنّ التخيير استمراري لا ابتدائي، وهذا ما سنبحثه قريباً، إن شاء الله تعالى.
النقطة الرابعة: العدول من الحي الى الحي
قال السيد اليزدي: « مسألة 11: لا يجوز العدول من الحي إلى الحي إلا إذا كان الثاني أعلم » (1).
المحور الأول: بحث التخيير بين تقليد المتساويين
الأولى في المقام هو البحث أولاً عن أصل التخيير بين المتساويين ثم البحث عن الإفتاء بأنّه لو قلّد فقيهاً ما إمّا من باب التخيير أو من باب آخر فليس له تخيير استمراري يسمح له بالعدول إلى مرجع آخر غير أعلمّ، فنحن نقدّم هنا البحث عن أصل التخيير، فنقول: إنّ الكلام تارة يقع في كيفية تصوير التخيير بشكل ممكن ثبوتاً واُخرى في دلالة الدليل على ذلك إثباتاً.
أولاً ـ البحث الثبوتي:
أمّا البحث الثبوتي في تصوير التخيير فحاصل الكلام في ذلك: أنّ التخيير في باب الواجبات التخييرية كخصال الكفّارة مرجعه إلى أحد تفسيرين:
التفسير الأول: أن يرجع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي بأن يكون الواجب هو الجامع بينها.
التفسير الثاني: أن يرجع إلى الوجوبات المشروطة، فكلّ عِدل واجب مشروط بترك الأطراف الأخرى، ومع ترك الكلّ يتعدّد العقاب من دون أن يلزم من ذلك العقاب على غير المقدور أو العقاب على ترك غير المطلّوب؛ لأنّ كلّ واحد منها في ظرف ترك الباقي وبشرط تركه مقدور و قابل للمطلوبية.
وكلا هذين التفسيرين له صورة معقولة في المقام:
أمّا التفسير الأول: وهو افتراض ثبوت الحجية بلحاظ الجامع كما كان يقال في باب الوجوب التخييري بوجوب الجامع؛ فإن قصد بذلك ثبوت الجامع إجمالاً بالتعبّد شبيهاً بما لو ثبت الجامع بالعلم الإجمالي فهذا ينتج وجوب الجمع في العمل بين الفتويين المتعارضين كالظهر والجمعة مثلاً، وهذا خلف المقصود في المقام من كون المقلِّد مخيّراً بينهما.
نعم، لو كانت إحدى الفتويين عبارة عن وجوب شيء مثلاً والاُخرى عبارة عن عدم وجوبه فالتعبّد الإجمالي بالجامع لا يوجب الاحتياط؛ لأنّه تعبّد بالجامع بين الإلزام وغير الإلزام.
إلا أنّ هذا وحده غير كافٍ لتبرير جعل الحجية، لأنّ العلم التعبّدي من هذا القبيل لا أثر له، وهو مسبوق دائماً بالعلم الوجداني بالجامع بين النفي والإثبات، والذي أيضاً يكون خالياً عن التأثير.
وكذلك لو كانت إحدى الفتويين عبارة عن إيجاب شيء والاُخرى عبارة عن تحريمه؛ فإنّ هذا يصبح بمنزلة العلم الإجمالي الدائر بين المحذورين، والذي هو فاقد للتأثير أيضاً.
ولكن بالإمكان تصحيح هذا التفسير بصورة معقولة، وهي افتراض أن يكون المقصود بالحجية بلحاظ الجامع الحجية بقدر الجامع بحدّه الجامعي، لا الحجية السارية إلى الأطراف كحجية العلم الإجمالي، فهذا ينتج النتيجة المطلوبة.
فلو أفتى أحدهما بوجوب الظهر والآخر بوجوب الجمعة كان المقدار المنجّز على المقلِّد هو قدر الجامع الذي يمكن تحقيقه ضمن الظهر ويمكن تحقيقه ضمن الجمعة، وهذا ينتج تخيير المقلِّد في التقليد، وهو المقصود، ولا ينتج لزوم الاحتياط بالجمع.
نعم هذا لا يكفي لجواز إسناد الفتوى التي يختارها إلى الشريعة؛ بناء على قيام الأمارة مقام العلم الموضوعي في جواز الإسناد إلى الشريعة، وذلك لأنّه لم تصبح تلك الفتوى بخصوصيتها حجة. وربّما يسمّى هذا بالتخيير الفقهي.
وأمّا التفسير الثاني: وهو افتراض حجيتين مشروطتين كما كان يقال في باب الوجوب التخييري بوجوبين مشروطين، فإن قصد بذلك حجية كلّ من الفتويين على تقدير عدم الأخذ بالآخر فهذا يعني أنّه لو تركهما معاً أصبحا معاً حجة عليه، وهذا خلف مقصود القائل بالتخيير.
ولكن هذا التفسير أيضاً يمكن تصحيحه بصورة معقولة في المقام؛ وذلك بأن يجعل الشرط في حجية كلّ واحدة من الفتويين هو الأخذ بها، لا عدم الأخذ بالآخر، ولا يتفق عقلائياً الأخذ بكليهما حتى يلزم من ذلك الجمع بين الحجتين، وهذا يعني أنّ أيّ فتوى أخذ بها المقلِّد أصبحت هي الحجة له.
مناقشة:
قد يقال: إنّ بإمكان المقلِّد ترك الأخذ بهما معاً، فتسقطان عن الحجية نهائياً، فينجو من التخيير.
ولكن الجواب: إنّ الأخذ واجب عليه وجوباً طريقياً، أي إنّ الواقع منجز عليه مسبقاً إمّا بالعلم الإجمالي بالأحكام أو بالاحتمال قبل الفحص أو بإنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان أو بنفس دليل وجوب الأخذ لو ورد عليه دليل لفظي، ولا يخرج من عهدة هذا التكليف إلا بالاحتياط أو الاستنباط أو التقليد الذي توقّف حسب الفرض في المقام على الأخذ.
ويترتّب على هذا التفسير للحجية جواز إسناد الحكم الذي ثبت له من بين الفتويين بالأخذ إلى الشريعة بناء على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي في جواز الإسناد؛ لأنه أصبحت تلك الفتوى بخصوصيتها حجة له. وربّما يسمى هذا بالتخيير الاُصولي.
بيان معنى الأخذ من الفقيه:
أمّا ما معنى الأخذ الذي ربطت به حجية الفتوى؟ بعد وضوح أنّه لايمكن أن يكون المقصود بالأخذ هنا هو العمل؛ لأنّ تقيّد الحجية بالعمل لا معنى له.
ويمكن أن يذكر في المقام للأخذ أحد معنيين:
المعنى الأول: الإلتزام، فبأيّ وجه التزم أصبحت حجة له، ولكن هذا لا يخلو من استغرابين:
الاستغراب الأول: وجوب الموافقة الإلتزامية وجوباً طريقياً تتوقّف عليه كفاية العمل بتلك الفتوى في الخروج عن العهدة؛ فإنّ هذا غريب، ولم يكن ثابتاً في الفتوى غير المبتلاة بالمعارض.
والاستغراب الثاني: أنّ الإلتزام عادة يكون في طول الحجية، فكيف أصبح هنا موضوعاً للحجية ؟
بل إنّ هذا قد يعتبر تشريعاً محرّماً، فكيف جاز هنا؟ !
ولكن شبهة التشريع قد يجاب عليها بافتراض ثبوت الحجية قبل الإلتزام أو معه وأنّ الإلتزام بمنزلة الشرط المتأخّر أو المقارن، فهو لم يلتزم إلا بالحجة.
والمعنى الثاني: أنّه اُعطي بيده أمر التشريع، فهو يشرّع لنفسه حجية أيّة فتوى شاء، وهذا فيه غرابة جواز التشريع.
ثم إنّ الحجية بهذا المعنى قد عرفت أنّها تستبطن مؤونة زائدة، وهي وجوب الأخذ، وعليه فما لم تؤخذ هذه المؤونة في لسان الدليل يصبح ظاهر دليل التخيير هو التخيير بالمعنى الأول، وهو ما أسميناه بالتخيير الفقهي، بل حتى مع أخذ هذه المؤونة في الظهور الابتدائي للسان الدليل لا يبعد القول بأنّ الغرابة التي عرفتها في هذه الحجية تصرف الدليل إلى المعنى الأول للحجية.
ثانياً ـ البحث الإثباتي:
وأمّا البحث الإثباتي للتخيير بين الفتاوى المتعارضة فالتقريب الأوّلي لنفي التخيير وللتعارض والتساقط هو أنّ مقتضى إطلاق دليل التقليد أو حجية الفتوى هو كون كلّ فتوى من الفتاوى لفقيه جامع للشرائط حجة، فإذا فرض التعارض بين فتويين في مفادهما فتطبيق دليل الحجية على إطلاقه على كلا الفتويين غير ممكن، وتطبيقه على أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، فيكون مقتضى الأصل الأوّلي هو التساقط لا محالة، وهذا عين ما يذكر أيضاً في باب تعارض الروايات.
التقريب الأولي للتخيير بين الفتويين المتعارضين:
والتقريب الأوّلي للتخيير في المقام هو ما كان يقوله اُستاذنا المرحوم آية الله الشاهرودي رحمه الله من أنّ الأمر بالتقليد ليس إلا كالأمر بالتوضي بالماء أو التيمم بالتراب، أي إنّه أمر بدلي بتقليد فقيه ما، وكما أنّ المفهوم من الأمر بالوضوء أو الغسل بالماء ليس هو الأمر بالوضوء بكلّ ماء وكذلك المفهوم من الأمر بالتيمم بالتراب ليس هو التيمم بكلّ تراب، بل هو الوضوء بماء ما أو التيمم بتراب ما، والنتيجة هي التخيير بين المياه أو الأصعدة.
كذلك الأمر بالتقليد لم يكن يقصد به التقليد عن جميع الفقهاء كي يلزم التعارض والتساقط لدى اختلاف الفتاوى، وإنّما الواجب هو التقليد لفقيه ما لا لكلّ الفقهاء، والنتيجة لا محالة هي التخيير؛ لمكان الإطلاق البدلي.
المناقشة:
وإن كان هذا النقض غير وارد على السيد الشاهرودي رحمه الله خاصة، لأنّه لم يكن يؤمن بحجية خبر الثقة إلا عن طريق حصول الاطمئنان.
ملاك التساقط في الفتاوي المتعارضة:
وعلى أيّة حال فما يمكن أن يفترض ملاكاً للتساقط في الفتاوى المتعارضة في مقابل ما نقلناه عن السيد الشاهرودي رحمه الله هو أحد أمرين:
الامر الأول: أن يقال: إنّ دليل التقليد ليس إطلاقه بدلياً، بل هو شمولي كما هو الأصل في إطلاق الموضوعات ولو ثبتت البدلية في مثل التراب في التيمم أو الماء في الوضوء والغسل بقرينة ما، وهي وضوح عدم مطلوبية التيمم بكلّ تراب أو الوضوء والغسل بكلّ ماء، فلا مبرّر لحمل دليل حجية الفتوى على البدلية، وإذا كان شمولياً وقع التعارض الداخلي في إطلاقه بلحاظ الفتويين المتعارضين والتساقط.
وجوه لمناقشة الأمر الأول:
ويمكن الجواب على هذا الأمر بعدة وجوه:
الوجه الأول: أنّ روايات التقليد على قسمين:
أحدهما: ما ورد بصيغة الأمر والإلزام أو يحتمل فيه ذلك كقوله: « أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحديثنا » فإمّا أن يقال: إنّ هذا إلزام بالرجوع إلى الرواة أو يقال: إنّ معرفة كونه إلزاماً أو مجرّد الإرشاد إلى طريق الحلّ تعود إلى معرفة السؤال المحذوف، والذي كان هذا الكلام الوارد في التوقيع جواباً له.
وثانيهما: ما بصيغة الإلزام قطعاً، ولا يفيد إلا الإرشاد إلى طريق لحلّ مشكلة العمل من قبيل حديث « أما لكم من مفزع » (1)، أو حديث » أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج اليه من معالم ديني؟ » (2)، أو حديث « فللعوام أن يقلّدوه » (3)، ونحوها من الروايات التي لا تشتمل على أكثر من الترخيص في التقليد.
فقد نقبل أنّ صيغة الأمر تدلّ على الحجية الشمولية لكلا الفتويين؛ لأنّها إلزام بالأخذ بهما بعد أن فرضنا أنّ الأصل في إطلاق الموضوع أن يكون شمولياً لا بدلياً، وبما أنّه لا يمكن الأخذ بهما في وقت واحد؛ لأنهما متنافيان، والأخذ بأحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، فيتساقطان، ولكن صيغة الترخيص أو التجويز لا تدلّ على أكثر من الحجية التخييرية أو البدلية.
صحيح أنّه لا الأمر يدلّ على الوجوب التكليفي ولا الترخيص يدلّ على الإباحة التكليفية، بل كلاهما إرشاد إلى الحجية، لكن هناك فرق بين اللسانين، فلسان الأمر والإلزام حينما يكون شمولياً يكون إرشاداً إلى الحجية الشمولية، ولا ينسجم مع الحجية البدلية؛ لأنّ الحجية البدلية لا تقتضي إلا الإلزام بأحدهما على سبيل البدل، بينما لسان الترخيص حتى لو كان شمولياً ينسجم مع الحجية البدلية، لأنّ الحجية البدلية أو التخييرية تقتضي لا محالة أن نكون مرخّصين في الأخذ بأيّ فتوى شئنا، وبما أنّ مقتضى إطلاق الترخيص هو ثبوته حتى في فرض تعارض الفتويين، بينما لا يمكن في هذا الفرض إلا الحجية التخييرية أو قل: البدلية.
إذن، مقتضى إطلاق دليل الترخيص في التقليد هو كون حجية الفتويين المتعارضين بدلياً، ولئن كان بعض أدلّة التقليد بلسان الأمر والإلزام أو احتملنا فيه ذلك فليسقط ذاك الدليل في الفتويين المتعارضين، لكن تبقى الأدلّة الاُخرى التي هي بلسان الترخيص والتجويز لا أكثر ثابتة الإطلاق، وتلك كافية لنا.
الوجه الثاني: أن نقول أيضاً إنّ هناك فرقاً بين دليل للتقليد يفترض كونه بلسان الأمر ودليل آخر للتقليد يفترض كونه بلسان التجويز والترخيص، فلسان الأمر يدلّ على كلا جانبي الحجية، أعني التنجيز والتأمين؛ لأنّه إرجاع حتمي إلى صاحب الفتوى، فإن كانت فتواه إلزامية كانت نتيجة ذلك التنجيز، وإن كانت ترخيصية كانت نتيجة ذلك التأمين، بينما لسان الترخيص لا يدلّ على أكثر من التأمين؛ لأنّي إن شئت آخذ بقول هذا الفقيه فيؤمّنني عن الواقع، وإن شئت لم آخذ بقوله فلا يضيفني تنجيزاً، ومن الواضح أنّ الفتويين المتنافيين لا يتعارضان في الحجية حينما لا تكون حجيتهما إلا بقدر التأمين، وبالنتيجة يثبت للمقلِّد التخيير بينهما.
الوجه الثالث: أن نقول: لا فرق بين أن يكون دليل التقليد بلسان الأمر أو بلسان التجويز والترخيص، فحتى لو كان بلسان الأمر لم يُفهم منه إلا التخيير في الحجية بين الفتويين المتعارضين رغم أن الأصل في إطلاق الموضوع هو الشمول؛ وذلك لنكتة ومناسبة خاصة في المقام ثابتة في باب الفتوى دون باب الرواية، وتلك النكتة أو المناسبة هي أنّ الفتوى تعطي النتيجة النهائية العملية، بخلاف الرواية التي لا يُعطي الراوي فيها إلا نصاً يحوّل فهمه أو كشف وجود مقيّد أو مخصّص له أو حاكم عليه أو نحو ذلك إلى السامع الفقيه، ولا يتحمّل الراوي شيئاً بهذا الصدد.
إذن، فالمناسب في باب الرواية أن تكون الحجية شمولية ثابتة لهذه الرواية ولكلّ رواية اُخرى، ويكون الفحص عن باقي الروايات المربوطة على عاتق السامع الفقيه. ولكن المناسب في باب الفتوى الذي يقصد الفقيه فيه إعطاء النتيجة النهائية أن تكون حجية هذه الفتوى بمعنى وصول المقلِّد إلى النتيجة النهائية.
إذن، فالمناسبات تؤثّر أثرها في تكوّن الظهور في الحجية التخييرية في باب الفتوى والشمولية في باب الرواية، ولا يلزم من ذلك في رواية واحدة دالّة على حجية الفتوى والرواية معاً استعمال اللفظ في معنيين؛ لأنّ بدلية أو شمولية الحجية لم تكن من حاق اللفظ، بل كانت بنكتة كالمتصل على شكل تعدّد الدالّ والمدلول.
بيان مؤيّد للتخيير في التقليد:
وممّا يؤيّد فهم التخيير في باب التقليد ـ وإن شئت فاجعله وجهاً رابعاً في المقام ـ أنّه لا ينبغي الشك في فرض عدم العلم التفصيلي ولا الإجمالي بالتنافي بين الفتاوى أنّ المفهوم عرفاً من دليل التقليد ليس إلا الأخذ بفتوى فقيه واحد من دون لزوم الفحص عن المعارض لها من سائر الفتاوى، في حين أنّه لو كان مقتضى دليل التقليد الشمولية في الحجية لكان احتمال التنافي كافياً في عدم إمكان الأخذ بالإطلاق؛ لأنّ التنافي الواقعي بين الفتويين كافٍ في وقوع التعارض الداخلي في إطلاق دليل الحجية، والتعارض الداخلي يخلق الإجمال، فاحتمال التنافي معناه احتمال الإجمال، ومع احتمال الإجمال لا معنى للتمسك بالإطلاق، وحتى لوبنينا على أنّ التعارض بين الأحكام الظاهرية فرع وصولها فالمقصود بالوصول إنّما هو معرضية الوصول لا الوصول الفعلي.
قد تقول: أنّ الوجه في حجية الفتوى لدى عدم العلم بالمعارض هو استصحاب عدم المعارض بناء على أنّ الاستصحاب في الشبهات الموضوعية غير مشروط بالفحص، ولكن هذا الوجه لو تمّ لا يؤثّر في المقام فإننّا قلنا: إنّ المفهوم العرفي من دليل التقليد حجية الفتوى رغم احتمال وجود المعارض، والاستصحاب لو جرى فهو أصل تعبّدي، ولا يكفي تفسيراً لهذا الفهم العرفي.
ردّ تلك الوجوه ومناقشتها:
إلا أنّ هذه الوجوه كلّها قابلة للمناقشة:
1 ً ـ أمّا المؤيد الأخير وهو وضوح عدم الفحص عن الفتوى المعارض لولا العلم بالمعارضة تفصيلاً أو إجمالاً فليس وجهه منحصراً في فهم الحجية التخييرية حتى لدى العلم بالمعارضة، بل له وجه عرفي غير هذا وهو أنّ دليل حجية شيء ما ممّا يحكي عن الواقع إن لم يكن مقيّداً بفرض العجز عن معرفة الواقع يدلّ لامحالة على التأمين عن احتمال مخالفته للواقع حتى الاحتمال قبل الفحص وبغضّ النظر عن علم إجمالي منجّز.
وهذا يعني أنّ ذاك الدليل بنفسه دليل على عدم وجوب الفحص عن الواقع المحتمل القابل للوصول، فالبينة مثلاً حينما تقوم على مالكية شخص لشيء أو اليد مثلاً حينما تدلّ على الملكية أو نحو ذلك تغنينا عن الفحص عن واقع الحال حتى لدى إمكان كشف الواقع، وليس من المحتمل عقلائياً أن يكون إمكان الكشف عن حجة معارضة بالفحص أشد حالاً من إمكان الكشف عن نفس الواقع بالفحص.
إذن فدليل حجية شيء إذا كان مطلقاً بالقياس إلى إمكان الفحص عن الواقع وعدمه يكون مفاده العرفي القطعي أنّ الحجة المعارض لو كان فمنجزيته مشروطة بالوصول الفعلي ما دامت الحجة الاُخرى واصلة بالفعل لا بمجرّد إمكانية الوصول بالفحص، وبه يرتفع التعارض بين الحجتين حينما تكون إحدى الحجتين المتنافيتين واصلة بالفعل والاُخرى غير واصلة لا تفصيلاً ولا إجمالاً ولو لعدم الفحص.
وإن شئت فعبّر عن ذلك: بأنّ حجية الفتاوى مثلاً المعارضة قبل معرفة التعارض بينهما تخييرية.
ولعلّ هذه النكتة العرفية الوجدانية هي التي كانت تجعل السيد الشاهرودي رحمه الله يحسّ بأنّ دليل التقليد كدليل الوضوء أو التيمم مطلق بدلي.
وإن شئت فأدخل عدم وجوب الفحص عن المعارض في نفس مفهوم الحجة، وسمّ الإطلاق عندئذٍ بالشمولي، وقل إنّ جميع الفتاوى حجة بالفعل، ولكن لا يقع التعارض بينها في الحجية إلا بالعلم الفعلي بالتنافي تفصيلاً أو إجمالاً.
2 ً ـ وأمّا الوجه الثالث: والذي كان عبارة عن اكتشاف الفرق بين باب الفتوى وباب الرواية؛ لأنّ المفتي يقصد إعطاء النتيجة النهائية والراوي يعطي نص الرواية وليس له شأن بوجود مخصّص أو مقيّد أو حاكم أو نحو ذلك في رواية اُخرى بالنسبة لتلك الرواية، فهذا الكلام لا يبعد أن يكون صحيحاً في روحه إلا أنّه يرجع إلى أنّه بما أنّ طبع الشريعة كان عبارة عن فصل المتصلات وتأخير القرائن من مخصّص أو مقيّد أو حاكم أو نحو ذلك، فلهذا يجب على الفقيه الذي تصل إليه الرواية أن يفحص عن المخصّص والمقيّد والحاكم ونحوها حتى بعد فرض انحلال علمه الإجمالي بالمخصّصات والمقيّدات وغير ذلك؛ لأنّ حجية الظهور إنّما هي أمر عقلائي، والعقلاء يخصّصون ذلك بفرض الفحص عن القرينة المنفصلة بالنسبة لمتكلّم كان دأبه الاعتماد على القرائن المنفصلة.
ولكن الفقيه المفتي ليس حاله كذلك، بل هو يعطي النتيجة النهائية، فلا معنى لوجوب الفحص عن مخصّص لفتواه أو مقيّد له.
أمّا وجود المعارض فإن كان هذا أيضاً من شأن الإمام (عليه السلام) كما يقال بذلك في الأخبار الصادرة تقية فالكلام نفس الكلام، أي إنّنا إذا رأينا رواية موافقة للعامة واحتملنا وجود معارض لها مخالف للعامة لا يمكن أن نجري بالنسبة للاُولى أصالة الجهة قبل الفحص عن المعارض حتى مع فرض انحلال علمنا الإجمالي؛ لأنّ من شأن الإمام (عليه السلام) ذلك.
أمّا فرض التعارض بمعنى صدور نصين متخالفين بلا سبب التقية فهذا ليس من شأن الإمام (عليه السلام) ويكون حال الراوي في إعطاء النص من هذه الزاوية كحال المفتي في إعطاء الفتوى، ومع الغضّ عن العلم الإجمالي لايجب الفحص عن المعارض في الرواية أيضاً كما في الفتوى.
وكون الفقيه من شأنه إعطاء النتيجة النهائية قد يناسب كون حجية فتواه غير مشروطة بالفحص عن المعارض، ولكن لا علاقة لذلك بحجية فتواه حتى بعد فرض وصول فتوى فقيه آخر مخالفة لتلك الفتوى، في حين أنّ الفقيه الآخر أيضاً يعطي النتيجة النهائية، وهو ينفي صحة فتوى الفقيه الأول.
3 ً ـ وأمّا الوجه الثاني: وهو أنّ لسان الأمر بالأخذ بالفتوى قد يدلّ على جانب التنجيز وجانب التعذير معاً، ولكن لسان الترخيص في الأخذ بالفتوى لا يدلّ على أكثر من جانب التعذير، فيرد عليه: أنّه بعد أن كان كلا اللسانين إرشاد إلى الحجية نقول: إنّ التفكيك في الحجية بين جانب التنجيز وجانب التعذير في حجة قد يكون مفاده إلزاماً وقد يكون مفاده ترخيصاً كالفتوى أو الرواية بعيد عن الذهن العرفي، فالمستفاد إذن من كلا اللسانين هو التنجيز والتعذير معاً، وإنّما الكلام يقع في أنّ التنجيز هل هو بقدر الجامع بين الفتويين المتعارضين الإلزاميين مثلاً كوجوب الظهر أو الجمعة والتعذير يكون بقدر كلّ ما هو زائد على الجامع أو إنّ التنجيز يكون بقدر الفتوى بخصوصيته والتعذير يكون بقدر ما تنفيه تلك الفتوى ؟
ولا شك أنّ الظهور الأوّلي لدليل حجية فتوى الفقيه هو الثاني؛ لأنّ الحكم طرأ على عنوان منطبق على كلّ من الفتويين بكامل خصوصيتهما.
نعم، قد يقال: إنّ الحديث الذي لم يدلّ على جواز التقليد إلا من ناحية الإرجاع إلى شخص معيّن كقوله: عليك بالأسدي يعني أبا بصير، وكان فهم الحكم العام من باب إلغاء العرف لخصوصية ذاك الشخص، فهنا لا نعلم أنّ هذه الحجية هل هي حجية تعيينية أو تخييرية؛ فإنّ الإرجاع إليه ينسجم مع كلا الفرضين بمستوى واحد، ولكن الشك في ذلك يكون في صالح التساقط لدى تعارض الفتويين، لا في صالح التخيير؛ لأننا شاكّون في أصل الحجية.