مسألة 9: الأقوى جواز البقاء على تقليد الميّت ولا يجوز تقليد الميّت ابتداءً(1).
موضوعه باختلاف مدركه، ونذكر لأجل المثال فرضاً واحداً، و هو ما لو كان المدرك ما عن السيّد الخوئي(رحمه الله) _ كما سيأتي إن شاء الله _ في المسألة الآتية من أنّنا أمرنا بالرجوع إلى نفس المقلَّد والأخذ منه، وهذا لا يعقل إلّا لدى حياته، فالابتداء بالتقليد عن الميّت غير صحيح؛ لاستحالة الرجوع إلى الميّت والأخذ منه، ولكن البقاء على ما تعلّمه منه صحيح؛ لأنّ البقاء ليس رجوعاً جديداً أو أخذاً جديداً، وقد تمّ الرجوع والأخذ في حال حياته. وعلى هذا الفرض يكون معنى التقليد بالنسبة لهذا الحكم عبارة عن التعلم.
تقليد الميّت
(1)¬ المستفاد من كلمات السيّد الخوئي(رحمه الله) في المقام ما يلي:
تارة نتكلّم على مستوى الأدلّة اللفظيّة للتقليد وأُخرى على مستوى السيرة وثالثة على مستوى الاستصحاب.
(1) راجع التنقيح، ج1، بحث الاجتهاد والتقليد، ص99 فصاعداً.
أمّا على مستوى الأدلّة اللفظيّة للتقليد فتلك الأدلّة لا تشمل تقليد الميّت. وذكر(رحمه الله) في مقام عدم شمولها إيّاه بيانين، وكأنّهما يرجعان في نظره إلى بيان واحد إلّا أنّ هناك فارقاً بينهما، كما يستظهر ݢإن شاء الله من خلال طرحهما.
البيان الأوّل: أنّه قد أُخذت في الأدلّة اللفظية بعض العناوين التي لا تصدق على الميّت، من قبيل عنوان المنذر أو أهل الذكر أو الفقيه أو الراوي أو الناظر في الحلال والحرام أو غير ذلك من العناوين الظاهرة في لزوم أخذ الفتوى من المتلبّس غير الشاملة لمن انقضى عنه المبدأ.
وهذا البيان منه(رحمه الله) _ كما ترى _ لا يصلح لشمول كلّ الأدلّة اللفظية، فمن جملتها ما لم يؤخذ فيها عنوان من هذا القبيل، وإنّما كان الإرجاع فيها إلى الأشخاص كالحارث بن المغيرة النضري.
على أنّه قد يناقش في عدم صدق بعض هذه العناوين على الميّت كالفقيه أو الثقة مثلاً ممّا يصدق على النفس الناطقة حتّى بعد موت الجسد. كما أنّ هذا البيان يتوقّف على عدم قبول كون المشتقّ حقيقة في الأعمّ.
والبيان الثاني: ، ما يکون أوسع من البیان الأوّل وهو أنّ الموجود في
أدلّة التقليد هو الرجوع إلى المقلَّد كما دلّ عليه التعبير بالسؤال في قوله؟عز؟: ﴿فَاسْئَلُوُا أَهَلَ الݦݦْذَّكرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ أو الإنذار في قوله؟عز؟: ﴿لِيُنْذِرُوُاْ قَوْمَهُمْ﴾ أو كلمة الأخذ في قوله: «آخذ عنه معالم ديني» أو جملة ما يمنعكم عنه كما في قوله: «ما يمنعكم عن الحارث بن المغيرة النضري؟!» ، أو غير ذلك ممّا تدل جميعاً على الرجوع إلى المقلّد والأخذ منه، ومن الواضح عدم إمكان الرجوع إلى الميّت أو الأخذ منه. وهذا البيان _ كما ترى _ يشمل حتّى روايات الإرجاع إلى الأفراد من دون ذكر شيء من تلك العناوين، كما لا يتوقّف هذا البيان على الإيمان باختصاص صدق المشتقّ بالمتلبّس.
هذا، والفرق في نظره(رحمه الله) بين باب التقليد وباب أخذ الرواية _ حيث يجوز التمسّك برواية الرواة الميّتين، ولا يجوز تقليد الميّت _ هو أنّنا في باب التقليد أرجعنا إلى نفس الفقيه أو الراوي أو أهل الذكر أو المنذر أو الحارث بن المغيرة أو زكريّا بن آدم أو يونس بن عبدالرحمن
(1) النحل: 43.
(2) التوبة: 122.
(3) وسائل الشيعة، ج27، ص146، الباب11 من أبواب صفات القاضي، ح27.
(4) المصدر السابق، ص145، ح24.
أو غير ذلك لأخذ الفتوى منهم، ولا يمكننا الرجوع إليهم وأخذ الفتوى منهم بعد موتهم، ولكن في باب الرواية أرجعنا إلى نفس الروايات وأُمرنا بالأخذ بها، والرجوع إلى الروايات والأخذ بها ممكن حتّى بعد وفاة الرواة.
نعم، لا بأس بالبقاء على تقليد الميّت؛ وذلك بمعنى أنّ ما أخذناه منه _ أي تعلّمناه منه _ في حياته يجوز لنا العمل به بعد موته؛ لأنّ الأخذ والرجوع قد تمّ في حين الحياة، وليس البقاء على تقليده أخذاً جديداً أو رجوعاً جديداً إلّا إذا كان المقلَّد قد نسي الفتوى فاحتاج إلى الأخذ الجديد والرجوع الجديد، فهنا أيضاً تقصر الأدلّة اللفظية عن إثبات جواز تقليده للميّت؛ لأنّ هذا الرجوع الجديد أو الأخذ الجديد ليس رجوعاً إلى ذاك المقلَّد أو أخذاً منه؛ لعدم إمكان الرجوع إلى الميّت والأخذ منه.
وأمّا على مستوى السيرة فخلاصة ما يستفاد من كلامه(رحمه الله): أنّه إن قصد بالتمسّك بالسيرة إثبات جواز التقليد لميّت ما على سبيل التخيير بينه وبين فقيه آخر فهذا غير ممكن؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي أو التفصيلي بالاختلاف في الفتاوی بين هذا الميّت وبعض الأحياء، وبين الأموات أنفسهم يوجب تساقط الكلّ ما لم يكن ترجيح بالأعلمية. وإن قصد
بالتمسّك بها إثبات حجّية أعلم العلماء من الأوّلين والآخرين وإن كان ميّتاً فهذا يلزم منه وجود شخص كإمام ثالث عشر يرجع إليه الشيعة تماماً وفي جميع الأعصار رغم موته، وهذا خلاف الضرورة من مذهب الشيعة.
وقد طبّق(رحمه الله) هذا البيان على الأدلّة اللفظية أيضاً بغضّ النظر عن الإشكال الماضي، فلو فرضنا أنّ الأدلّة اللفظية في نفسها مطلقة تشمل تقليد الميّت خلافاً لما مضی قلنا: إنّه لو قصد بالتمسّك بها إثبات جواز التقليد على سبيل التخيير بين ذاك الميّت وغيره من الأحياء أو الأموات قلنا إنّه مع العلم الإجمالي أو التفصيلي بالخلاف تتساقط الإطلاقات، ولو قصد به إثبات جواز تقليد من هو أعلم العلماء من الأوّلين والآخرين لزم من ذلك ما يشبه فكرة الإمام الثالث عشر، وهذا خلاف الضرورة من فقه الشيعة.
وأمّا استصحاب الحجّية الثابتة في زمان حياته فقد أورد(رحمه الله) عليه بإيرادين:
أحدهما بنى عليه في بحث الاستصحاب من عدم حجّية الاستصحاب في الشبهات الحكمية؛ لأنّ استصحاب بقاء المجعول معارَض باستصحاب عدم سعة الجعل.
والثاني: أنّه ليس استصحاب بقاء المجعول في ذاته جارياً في المقام في تمام الموارد؛ لأنّ من لم تصبح بشأنه حجّية تقليد فلان فعليّة _ لأنّه لم يكن مولوداً في ذاك الزمان مثلاً وإنّما تولّد بعد وفاته _ كيف يمكنه أن يستصحب حجّية التقليد بشأن نفسه؟ إلّا أن يرجع إلى الاستصحاب التعليقي بأن يقول:لو كنتُ في ذاك الزمان لجاز لي تقليده والآن كما كان.
أقول: أمّا الإطلاقات اللفظية فالصحيح أنّها تامّة الدلالة على جواز تقليد الميّت ابتداءً. ودعوى عدم إمكان الأخذ من الميّت والرجوع إلى الميّت قد تكون غير مفهومة كما لو قيل: إنّه من الصحيح عرفاً التعبير عمّن أخذ مطلباً من كتاب القانون بأنّه أخذه من ابن سينا. ثم لم نعرف بالضبط مقياس صدق هذا العنوان وعدم صدقه هل هو حقّاً عبارة عن حياة المأخوذ منه وموته؟ ولماذا يكون هكذا؟! فأيّ فرق بين أن نفترض أخذ الفتوى من شخص قد مات أو نفترض أخذها في حال حياته ولكن لم يكن قد أخذها منه مباشرةً، بل كانت رسالته العملية موضوعة صدفة على رفّ البيت ومرّ بها المقلِّد فأخذها من دون علم المفتي، فهل يعتبر أخذ المسائل من هذه الرسالة أخذاً منه ورجوعاً إليه رغم عدم علم المفتي نهائيّاً بذلك؟ ولو كان المفتي نائماً
حينما أخذ المقلَّد الرسالة ودرسها فهل هذا أخذٌ منه؟ ولو كان كذلك فلِمَ لا يكون أخذ المسائل بعد موته أخذاً منه؟! وما دام قد أخذ الرسالة من شخص آخر ودرسها لدى شخص آخر غير الفقيه فأيّ فرق بين افتراض الفقيه في ذلك الوقت حيّاً نائماً في فراشه مثلاً أو ميّتاً؟!
أقول: لنفترض أنّنا فهمنا المقياس بين أخذ الفتوى والأخذ من المفتي والرجوع إلى الفتوى أو الرجوع إلى المفتي وأنّ ذاك المقياس هو الحياة والموت فما تعلّمه المقلّد من آراء الفقيه في حال حياته صدق عليه الأخذ من المفتي والرجوع إليه، وما تعلّمه بعد موته فهو رجوع إلى الفتوى فحسب لا إلى المفتي وأخذٌ للفتوى وليس أخذاً من المفتي، ولكن يا تُرى هل أنّ هذا الفرق فارقاً في الحكم؟! كلّا.
ويمكن بيان عدم الفارقية بأحد تعبيرين:
الأوّل: أنّ المفهوم عرفاً من الإرجاع إلى صاحب متاع كالقصّاب والعطّار والبقّال وغيرهم إنّما هو الإرجاع إليه لأخذ ما لديه من اللحم أو العِطر أو اللبن أو غير ذلك، ولا يفرّق العرف بين التعبير بالإرجاع إلى نفس اللحم أو العِطر أو اللبن أو الأمر بأخذ ذلك والتعبير بالإرجاع إلى أصحاب هذه الأمتعة، وفي كلا الحالين يقول العرف إنّ الهدف كان هو المتاع، وكذلك الحال في المقام، فسواء فرض الإرجاع إلى
المفتي أو الراوي أو فرض الإرجاع إلى الفتوى أو الرواية يكون المفهوم شيئاً واحداً، وهو أنّ الهدف إنّما هو الحصول على الفتوى أو الرواية، وليس التفكيك بين باب التقليد وباب الأخذ بالروايات بأنّنا أمرنا في الأوّل بالرجوع إلى المفتي وفي الثاني بالرجوع إلى الرواية لا الراوي أمراً مفهوماً عرفاً.
نعم، يجب أن تكون الفتوى صادرة من الفقيه أو المنذر أو أهل الذكر أو الراوي ونحو ذلك من العناوين المأخوذة في الأدلّة، والمشتقّ وإن كان حقيقة في المتلبّس لا الماضي لكن زمان هذا الاستناد هو زمان صدور الفتوى، وهو متلبّس في ذاك الزمان بتلك العناوين.
والثاني: أنّ حجّية الفتوى في الفهم الارتكازي العرفي إنّما هي من باب الطريقية، وليست تعبّدية بحتاً، ولا فرق في طريقيّتها بين فرض حياة المفتي وموته.
وأمّا القول بأنّه بعد أن كان الأصل في تعارض الفتوى هو التساقط لدى التساوي فتعيين أعلم العلماء من الأوّلين والآخرين من الأحياء والأموات للتقليد يوجب ما يشبه الإمام الثالث عشر، وهو خلاف ضرورة مذهب الشيعة، وبهذا تبطل الإطلاقات لو غضّ النضر عن الإشكال السابق، وتثبت أيضاً بذلك مردوعيّة السيرة، فهذا الكلام
أيضاً لا يمكن المساعدة عليه.
وأقلّ ما يرد عليه: أنّ مشكلة الإمام الثالث عشر لو كانت مشكلة واقعيّة أمكن أن تكون كاشفة عن ردع السيرة أو تقييد الإطلاقات، ولكنّها ليست إلّا مشكلة فرضيّة وخياليّة لا واقعية؛ لأنّ الأعلم دائماً يكون في الخطّ الزمني الطويل في الأحياء لا في الأموات. نعم، يمكن أن يكون في الفترات الزمنيّة القصيرة في الأموات، فالأعلم بين حين وحين يتبدّل حتماً، فلا يلزم الوقوع في مشكلة الإمام الثالث عشر، ولئن كان عنصر واحد في صالح أعلميّة الأموات في خصوص من عاش قبل تدوين الجوامع _ وهو احتمال إطّلاعهم على روايات أو قرائن لسنا مطّلعين عليه _ فباقي عناصر الأعلميّة جميعاً تكون في الأحياء في المدی البعيد أقوى منها في الأموات.
نعم، لو صحّ الإشكال السابق في الأدلّة اللفظية _ وهو أنّ الأخذ من الميّت غير معقول، أو أنّ العناوين المذكورة في الأدلّة لا تصدق على الأموات، وافترضنا أنّ ذلك يوجب دلالة الأدلّة اللفظية على عدم جواز تقليد الميّت لفقدانه تلك العناوين أو لعدم صدق الأخذ منه _ فقد يقال: إنّ تلك الأدلّة اللفظية رادعة عن الارتكاز والسيرة اللذين لا يفرّقان بين الحيّ والميّت في التقليد.
ولكن السيّد الخوئي(رحمه الله) أبطل بنفسه هذه الرادعيّة ببيان أنّ تلك الأدلّة وإن كانت ظاهرة في اشتراط الحياة في المفتي لكنّها ليست بذات مفهوم حتّى تنفي جواز تقليد الميّت.
ولعلّ في عبارة التنقيح مسامحة في المقام؛ لأنّنا لو سلّمنا ظهور تلك الأدلّة في اشتراط الحياة فهي لا محالة تنفي جواز تقليد الميّت؛ لعلمنا بأنّه لا يوجد للتقليد إلّا جواز واحد إمّا مطلق وإمّا مخصوص بالحيّ، وليس للتقليد حكمان متسانخان أحدهما في الحيّ والآخر في الميّت حتّى يقال: إنّ قيد الحياة قيد لشخص الحكم ولا يدل بالمفهوم على انتفاء سنخ الحكم لدى انتفائها.
فلعلّ المقصود الواقعي للسيّد الخوئي(رحمه الله) أنّ قيد الحياة الظاهر من الأدلّة اللفظيّة وإن ضيّق دلالة اللفظ وأبطل شمول إطلاق الأدلّة للفقيه الميّت لكنّه ليس ظاهراً في كونها قيداً احترازيّاً وشرطاً في التقليد؛ لأنّ الممكن المألوف وقتئذٍ كان هو تقليد الحيّ، فهذا القيد مأخوذ من الواقع الخارجي سنخ ما يقال في: ﴿رَبَائِبُكُمُ اللَّاتݪݪݪݪݪِي فݪݪݪݪݪݪݪِي حُجُورِكُمْ﴾.
ولولا أنّه(رحمه الله) أبطل رادعيّة تلك الأدلّة اللفظية عن تقليد الميّت ولم يؤمن بها لكان يرد عليه: أنّه يلزم من ذلك قبول هذه الرادعيّة في باب الرواية
(1) النساء: 23.
أيضاً؛ لأنّ تلك الأدلّة اللفظية ليست دليلاً على التقليد فحسب، بل هي تدل على حجّية خبر الثقة أيضاً، فتدل على تخصيص بحجّية خبر الثقة بفرض حياة المخبر، فلو كان لدينا نصّ على حجّية خبر الثقة مطلق شامل لخبر الميّت لكانت هذه الروايات مخصَّصة له، ولو كان لدينا ارتكاز أو سيرة يدلّان على جواز الأخذ بخبر الميّت لكانت هذه الأدلّة رادعة عن الارتكاز وتلك السيرة.
ثم إنّ السيّد الإمام(رحمه الله) أبطل التمسّك ببناء العقلاء في المقام بأنّ بناء العقلاء إنّما يصبح حجّة بإمضاء الشريعة الذي يثبت بعدم الردع، وهذا إنّما يكون في بناء تمّ سريانه إلى الشريعة في زمن المعصوم كي يكون سكوت المعصوم دليلاً على الرضا، وهذا غير متحقّق في باب التقليد؛ إذ إنّه في زمن المعصوم لم يكن من المتعارف وجود رسائل عمليّة مشتملة على فتاوى الفقيه كي يمكن أو يسهل تقليد الميّت لبقاء الرسالة بعد وفاة الفقيه، فتقليد الميّت ابتداءً وقتئذٍ لم يكن ممكناً أو سهلاً ومتعارفاً، إذاً فالبناء العقلائي غير ثابت الإمضاء، بل هذا يوجب انصراف الأدلّة اللفظية أيضاً عن تقليد الميّت ابتداءً.
أقول: إنّ انصراف الأدلّة اللفظية إن فرض أنّه بسبب عدم وجود
(1) راجع الرسائل، ج2، ص157 _ 159؛ وتهذيب الأُصول،ج3، ص202 _ 204.
تقليد من هذا القبيل وقتئذٍ لانصراف الدواعي عمّا ليس بسهل إلى ما هو سهل وهو تقليد الحيّ أو لعدم إمكان تقليد الميّت فمن الواضح أنّ عدم الوجود بالنسبة لمصداق لا يوجب انصراف الإطلاق عنه، وإن كان بسبب أنّ السيرة توجب انصراف اللفظ الوارد في مقام الإمضاء إليها والسيرة لم تتحقّق في تقليد الميّت الابتدائي، فمن الواضح أنّ هذا الانصراف يكون انصرافاً إلى ما عليه الارتكاز بسعته، وإذا كانت السيرة العملية أضيق من دائرة الارتكاز بسبب انتفاء الموضوع خارجاً لم يوجب ذلك ضيقاً في إطلاق اللفظ الممضي لما عند العقلاء؛ فإنّ ما عند العقلاء إنّما هو ارتكازهم لا خصوص سيرتهم التي ضاقت صدفة بضيق الموضوع الخارجي لا بضيق بنائهم.
وأمّا أنّ السكوت لا يدل على إمضاء ارتكاز العقلاء إلّا بقدر ما يترجم في عملهم خارجاً في زمن المعصوم أو بقدر ما يسري إلى الشريعة من قبلهم فهذا إن تم فلا يتم فيما يترقّب سريانه إلى الشريعة في وقت قريب، والتقليد كان من هذا القبيل، خصوصاً بلحاظ أزمنة الأئمّة المتأخّرين.
وأمّا الاستصحاب فقد نقلنا عن السيّد الخوئي(رحمه الله) إشكالين على ذلك:
أحدهما: كونه استصحاباً في الشبهات الحكمية، وهذا ما وضّحنا وأجبنا عليه في علم الأُصول، فنحوّل الحديث عنه إلى بحث الاستصحاب.
وثانيهما: أنّ الاستصحاب لا يتم في شأن من لم تصبح حجّية فتوى هذا الفقيه في حال حياته فعليّة بالنسبة له _ كالذي لم يكن متولّداً في ذاك التاريخ _ اللهمّ إلّا بنحو الاستصحاب التعليقي، وهو غير حجّة.
وهذا الإشكال متين.
ثم لو لم يتم شيء ممّا ذكرناه من إمكانيّة التمسّك بالمطلقات وبالارتكاز وبالاستصحاب لإثبات جواز تقليد الميّت وبقينا شاكّين في ذلك فالذي يبدو أنّ السيّد الخوئي(رحمه الله) يرى أنّ الأصل عدم حجّية فتوى الميّت باعتبار أنّ المتيقّن حجّيته إنّما هي فتوى الحيّ، وأمّا فتوى الميّـت فهي مشكوكة الحجّية، ومقتضى الأصل لدى الشكّ في الحجّية هو عدم الحجّية.
والتحقيق أنّه لو تنجّزت الأحكام على المكلّف بالعلم الإجمالي فلابدّ من تحصيل الفراغ اليقيني، وهذا لا يكون إلّا بتقليد الحيّ. أمّا لو كان المقدار المتّفق عليه بين الحيّ والميّت كافياً في انحلال العلم الإجمالي فهنا قد يقال بالرجوع إلى أصالة البراءة عن الإلزام في مورد يفتي الحيّ بالإلزام والميّت بالترخيص؛ لأنّ أصالة البراءة وإن كانت
مشروطة في الشبهات الحكمية بالفحص، ولكن فحص المقلّد عبارة عن الرجوع إلى فتاوى الفقهاء. أمّا إذا ناقشنا في كون ذلك فحصاً موجباً لجريان البراءة _ كما لا يبعد ذلك _ فالحقّ إذاً هو إجراء أصالة عدم حجّية فتوى الميّت. ولكن الواقع أنّه لم تصل النوبة إلى هذا الأصل؛ لأنّ المطلقات والارتكاز تدل على الحجّية.
وعلى أيّ حال فقد اتّضح بكل ما ذكرناه أنّ عنوان الحياة والموت بما هما ليسا دخيلين في حكم التقليد وأنّ تقليد الميّت ابتداءً جائز كتقليد الحيّ.(1)
1. عدل سماحة السيد المؤلف عن هذا الرأي وأوضح ذلك بما يلي: لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً؛ وذلك للحديث الذي أتممناه سنداً ودلالةً على ولاية الفقيه في كتابنا (ولاية الأمر في عصر الغيبة)، وهو قول الحجّة(عجل الله تعالى فرجه الشريف): «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله». وسائل الشيعة، ج27، ص140، الباب11 من أبواب صفات القاضي، ح9.
وهذه الرواية تدلّ على مقام الولاية في أخذ الأحكام وفي الموضوعات كنصب الوليّ على القاصر مثلاً من رواة الحديث، وبما أنّ الثاني مخصوص بالحيّ فليس الميّت قادراً مثلاً على نصب الوليّ على القاصر، فمقتضی وحدة السياق بل ما هو أشدّ من وحدة السياق _ وهو وحدة الولاية في أخذ الأحكام والموضوعات _ هو أنّ أخذ →
مسألة 10: إذا عدل عن الميّت إلى الحيّ لا يجوز له العود إلى الميّت(1).
نعم، عنوان الأعلمية دخيل في حكم التقليد على ما سوف يأتي إن شاء الله، والأعلمية في المدى الطويل من الزمان تكون دائماً في الأحياء، فإنّ الفقيه حينما يموت يتوقّف فقهه عن النموّ، في حين أنّ الأحياء يستوعبون ما كان لديه ويمشون في طريق التكامل، ولا توجد نكتة لأعلمية الميّت في المدى الطويل إلّا نكتة واحدة مخصوصة بما قبل عصر تدوين الجوامع، وهي احتمال عثورهم على روايات وقرائن لم نعثر عليها. وهذا وحده غير كافٍ في المقام؛ فإنّ أكثر نكات الأعلمية الأُخرى تختص بالأحياء؛ لأنّهم هم الذين يواكبون نموّ العلم.
العدول عن الميّت إلی الحيّ ثم العود إلی الميّت
(1) كأنّ المقصود هو أنّ العدول من الميّت إلى الحيّ يجوز حتّى
←
الأحكام الذي يسمّى بالتقليد يختصّ بالحيّ، فمن أخذ حكمه بالتقليد من الحيّ جاز له بقاؤه على تقليده بعد وفاته، كما أنّ نصب الحيّ للوليّ على القاصر مثلاً يبقى بعد وفاته، ومن لم يأخذ حُكمه بالتقليد من الحيّ لم يجز له تقليده بعد وفاته. (لجنة التحقيق).
مع فرض أعلمية الميّت أو على الأقلّ مع التساوي، فإذا عدل إلى الحيّ لا يجوز له الرجوع مرّة أُخرى إلى الميّت؛ لأنّ هذا يصبح تقليداً ابتدائيّاً للميّت؛ لأنّ التقليد عند المصنّف(رحمه الله) عبارة عن الالتزام، وقد عدل التزامه إلى الحيّ، فالرجوع إلى الميّت يعني التزاماً جديداً بفتوى الميّت، وهذا تقليد ابتدائي.
لكن عرفت أوّلاً: أنّ تفسير التقليد بشيء اسمه الالتزام ثم ترتيب الأحكام على ذلك غير صحيح؛ لأنّ التقليد لم يكن موضوعاً ترتّبت على ما له من معنى عرفي أو لغوي أحكام تعبّدية.
وثانياً: أنّه لا فرق بين تقليد الميّت والحيّ نهائيّاً إلّا من ناحية الأعلمية التي تكون في الخطّ الزمني الطويل في الأحياء. إذاً فالعدول من الميّت إلى الحيّ وكذلك العدول ثانياً من الحيّ إلى الميّت حاله حال العدول من الحيّ إلى الحيّ، وذلك جائز حينما يكون عدولاً إلى الأعلم. أمّا مع المساواة فيتوقّف الأمر أوّلاً على الإيمان بالتخيير في التقليد بين المتساويين، وإلّا لكان اللازم من أوّل الأمر الأخذ بأحوط الأقوال، وثانياً على الإيمان بأنّ التخيير استمراري لا ابتدائي، وهذا ما سنبحثه قريباً إن شاء الله.
مسألة 11: لا يجوز العدول عن الحيّ إلی الحيّ إلّا إذا كان الثاني أعلم (1).
التخيير بين تقليد المتساويين
(1) الأولى في المقام هو البحث أوّلاً عن أصل التخيير بين المتساويين، ثم عمّا أفتى به المصنّف هنسا من أنّه لو قلّد فقيهاً مّا إمّا من باب التخيير أو من باب آخر فليس له تخيير استمراري يسمح له بالعدول إلى مرجع آخر غير أعلم، فنحن نقدّم هنا البحث عن أصل التخيير رغم أنّ المصنّف(رحمه الله) تعرض له في المسألة الثالثة عشرة فنقول:
إنّ الكلام تارةً يقع في كيفيّة تصوير التخيير بشكل ممكن ثبوتاً وأُخرى في دلالة الدليل على ذلك إثباتاً.
أمّا البحث الثبوتي في تصوير التخيير فحاصل الكلام في ذلك: أنّ التخيير في باب الواجبات التخييريّة كخصال الكفّارة مرجعه إلى أحد أمرين:
الأوّل: أن يرجع التخيير الشرعي إلی التخيير العقلي بأن يکون الواجب هو الجامع بينها.
الثاني: أن يرجع إلى الوجوبات المشروطة، فكُلّ عدل واجبٌ وجوباً
مشروط بترك الأطراف الأُخرى، ومع ترك الكلّ يتعدّد العقاب من دون أن يلزم من ذلك العقاب على غير المقدور أو العقاب على ترك غير المطلوب؛ لأنّ كلّ واحد منها في ظرف ترك الباقي وبشرط تركه مقدور وقابل للمطلوبيّة.
وكلا هذين التفسيرين له صورة معقولة في المقام:
أمّا التفسير الأوّل: وهو افتراض ثبوت الحجّية بلحاظ الجامع كما كان يقال في باب الوجوب التخييري بوجوب الجامع، فإن قصد بذلك ثبوت الجامع إجمالاً بالتعبّد شبيهاً بما لو ثبت الجامع بالعلم الإجمالي فهذا ينتج وجوب الجمع في العمل بين الفتويين المتعارضتين، كالظهر والجمعة مثلاً، وهذا خلف المقصود في المقام من كون المقلَّد مخيّراً بينهما.
نعم، لو كانت إحدى الفتويين عبارة عن وجوب شيء مثلاً والأُخرى عبارة عن عدم وجوبه فالتعبّد الإجمالي بالجامع لا يوجب الاحتياط؛ لأنّه تعبّد بالجامع بين الإلزام وغير الإلزام. إلّا أنّ هذا وحده غير كافٍ لتبرير جعل الحجّية؛ لأنّ العلم التعبدي من هذا القبيل لا أثر له، وهو مسبوق دائماً بالعلم الوجداني بالجامع بين النفي والإثبات والذي يكون أيضاً خالياً عن التأثير.
وكذلك لو كانت إحدى الفتويين عبارة عن إيجاب شيء و الأُخرى عبارة عن تحريمه، فإنّ هذا يصبح بمنزلة العلم الإجمالي الدائر بين
المحذورين والذي هو فاقد عن التأثير أيضاً.
ولكن بالإمكان تصحيح هذا التفسير بصورة معقولة، وهي افتراض أن يكون المقصود بالحجّية بلحاظ الجامع الحجّية بقدر الجامع بحدّه الجامعي، لا الحجّية السارية إلى الأطراف كحجّية العلم الإجمالي، فهذا ينتج النتيجة المطلوبة.
فلو أفتى أحدهما بوجوب الظهر والآخر بوجوب الجمعة كان المقدار المنجّز على المقلّد هو قدر الجامع الذي يمكن تحقيقه ضمن الظهر ويمكن تحقيقه ضمن الجمعة، وهذا ينتج تخيير المقلَّد في التقليد، وهو المقصود، ولا ينتج لزوم الاحتياط بالجمع.
نعم، هذا لا يكفي لجواز إسناد الفتوى التي يختارها إلى الشريعة بناءً على قيام الأمارة مقام العلم الموضوعي في جواز الإسناد إلى الشريعة؛ وذلك لأنّه لم تصبح تلك الفتوى بخصوصيّتها حجّة. وربّما يسمّى هذا بالتخيير الفقهي.
وأمّا التفسير الثاني: وهو افتراض حجّيتين مشروطتين كما كان يقال في باب الوجوب التخييري بوجوبين مشروطين، فإن قصد بذلك حجّية كلّ من الفتويين على تقدير عدم الأخذ بالأُخری فهذا يعني أنّه لو تركهما معاً أصبحتا معاً حجّة عليه، وهذا خلف مقصود القائل بالتخيير.
ولكن هذا التفسير أيضاً يمكن تصحيحه بصورة معقولة في المقام؛ وذلك بأن يجعل الشرط في حجّية كلّ واحدة من الفتويين هو الأخذ بها لا عدم الأخذ بالأُخری، ولا يتّفق عقلائيّاً الأخذ بکلتيهما حتّى يلزم من ذلك الجمع بين الحجّيتين.
وهذا يعني أنّ أيّ فتوى أخذ بها المقلَّد أصبحت هي الحجّة له.
قد تقول: إنّ بإمكانه ترك الأخذ بهما معاً فتسقط عن الحجّية نهائيّاً، فينجو من التنجيز.
ولكن الجواب: أنّ الأخذ واجب عليه وجوباً طريقيّاً، أي أنّ الواقع منجّز عليه سابقاً إمّا بالعلم الإجمالي بالأحكام، أو بالاحتمال قبل الفحص، أو بإنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو بنفس دليل وجوب الأخذ لو ورد عليه دليل لفظي، ولا يخرج من عهدة هذا التكليف إلّا بالاحتياط أو الاستنباط أو التقليد الذي توقّف حسب الفرض في المقام على الأخذ.
ويترتّب على هذا التفسير للحجّية جواز إسناد الحكم الذي ثبت له من بين الفتويين بالأخذ إلى الشريعة بناءً على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي في جواز الإسناد؛ لأنّه أصبحت تلك الفتوى بخصوصيّتها حجّة له. وربّما يسمّى هذا بالتخيير الأُصولي.
أمّا ما معنى الأخذ الذي ربطت به حجّية الفتوى؟ بعد وضوح أنّه لا يمكن أن يكون المقصود بالأخذ هنا هو العمل؛ لأنّ تقيّد الحجّية بالعمل لا معنى له.
يمكن أن يذكر في المقام للأخذ أحد معنيين:
الأوّل: الالتزام، فبأيّ وجه التزم أصبحت حجّة له، ولكن هذا لا يخلو من غرابتين:
الأُولى: وجوب الموافقة الالتزامية وجوباً طريقيّاً يتوقّف عليه كفاية العمل بتلك الفتوى في الخروج عن العهدة، فإنّ هذا غريب ولم يكن ثابتاً في الفتوى غير المبتلاة بالمعارض.
والثانية: أنّ الالتزام عادةً يكون في طول الحجّية فكيف أصبح هنا موضوعاً للحجّية؟! بل أنّ هذا قد يعتبر تشريعاً محرّماً فكيف جاز هنا؟! ولكن شبهة التشريع قد يجاب عليها بافتراض ثبوت الحجّية قبل الالتزام أو معه، وأنّ الالتزام بمنزلة الشرط المتأخّر أو المقارن، فهو لم يلتزم إلّا بالحجّة.
والثاني: أنّه أُعطي بيده أمر التشريع فهو يشرّع لنفسه حجّية أيّ فتوى شاء. وهذا فيه غرابة جواز التشريع.
ثم إنّ الحجّية بهذا المعنى قد عرفت أنّها تستبطن مؤونة زائدة،
وهي وجوب الأخذ، وعليه فما لم تؤخذ هذه المؤونة في لسان الدليل يصبح ظاهر دليل التخيير هو التخيير بالمعنى الأوّل، وهو ما أسميناه بالتخيير الفقهي، بل حتّى مع أخذ هذه المؤونة في الظهور الابتدائي للسان الدليل لا يبعد القول بأنّ الغرابة التي عرفتها في هذه الحجّية تصرف الدليل إلى المعنى الأوّل للحجّية.
وأمّا البحث الإثباتي للتخيير بين الفتاوى المتعارضة فالتقريب الأوّلي لنفي التخيير وللتعارض والتساقط هو أنّ مقتضى إطلاق دليل التقليد أو حجّية الفتوى هو كون كلّ فتوى من الفتاوى لفقيه جامع للشرائط حجّة، فإذا فرض التعارض بين فتويين في مفادهما فتطبيق دليل الحجّية على إطلاقه على كلا الفتويين غير ممكن، وتطبيقه على إحديهما دون الأخری ترجيح بلا مرجّح، فيكون مقتضى الأصل الأوّلي هو التساقط لا محالة، وهذا عين ما يذكر أيضاً في باب تعارض الروايات.
والتقريب الأوّلي للتخيير في المقام هو ما كان يقوله أُستاذنا المرحوم آية الله الشاهرودي(رحمه الله) من أنّ الأمر بالتقليد ليس إلّا كالأمر بالتوضّي بالماء أو التيمّم بالتراب، أي أنّه أمر بدلي بتقليد فقيه مّا، وكما أنّ المفهوم من الأمر بالوضوء أو الغسل بالماء ليس هو الأمر بالوضوء بكلّ ماء
وكذلك المفهوم من الأمر بالتيمّم بالتراب ليس هو التيمّم بكلّ تراب، بل هو الوضوء بماء مّا أو التيمّم بتراب مّا، والنتيجة هي التخيير بين المياه أو الأصعدة. كذلك الأمر بالتقليد لم يكن يقصد به التقليد عن جميع الفقهاء كي يلزم التعارض والتساقط لدى اختلاف الفتاوى، وإنّما الواجب هو التقليد عن فقيه ما، لا عن كلّ الفقهاء، والنيتجة لا محالة هي التخيير لمكان الإطلاق البدلي.
وأوّل ما يخطر بالبال على هذا الكلام هو النقض بحجّية خبر الثقة، فلم لا نقول هناك أيضاً بأنّ الواجب في كلّ مسألة وردت فيها أخبار من الثقاة هو الأخذ بخبر مّا، وأنّ هذا يوجب التخيير؟! بل يقال هناك إنّ الأصل في الخبرين المتعارضين هو التساقط.
وإن كان هذا النقض غير وارد على خصوص السيّد الشاهرودي(رحمه الله)؛ لأنّه لم يكن يؤمن بحجّية خبر الثقة إلّا عن طريق حصول الاطمينان.
وعلى أيّة حال فما يمكن أن يفترض ملاكاً للتساقط في الفتاوى المتعارضة في مقابل ما نقلناه عن السيّد الشاهرودي(رحمه الله) هو أحد أمرين:
الأمر الأوّل: أن يقال: إنّ دليل التقليد ليس إطلاقه بدليّاً، بل هو شمولي كما هو الأصل في إطلاق الموضوعات، ولو ثبتت البدليّة في مثل التراب في التيمّم أو الماء في الوضوء والغسل بقرينة مّا وهي وضوح
عدم مطلوبيّة التيمّم بكلّ تراب أو الوضوء والغسل بكلّ ماء فلا مبرّر لحمل دليل حجّية الفتوى على البدلية، وإذا كان شموليّاً وقع التعارض الداخلي في إطلاقه بلحاظ الفتويين المتعارضتين والتساقط.
ويمكن الجواب على هذا الوجه بعدّة وجوه:
الأوّل: أنّ روايات التقليد على قسمين:
أحدهما: ما يكون بصيغة الأمر والالتزام أو يحتمل فيه ذلك كقوله: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» فإمّا أن يقال: إنّ هذا إلزام بالرجوع إلى الرواة أو يقال: إنّ معرفة كونه إلزاماً أو مجرّد الإرشاد إلى طريق الحلّ تعود إلى معرفة السؤال المحذوف والذي كان هذا الكلام في التوقيع جواباً له.
وثانيهما: ما ليس قطعاً بصيغة الإلزام، ولا تعطي إلّا الإرشاد إلى طريق لحل مشكلة العمل من قبيل حديث: «أما لكم من مفزع؟!» ، أو حديث: «أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم ديني؟» ، أو حديث: «للعوام أن يقلّدوه» ،ونحوها من الروايات
(1) وسائل الشيعة، ج27، ص145، الباب11 من أبواب صفات القاضي، ح24.
(2) المصدر السابق، ص147، ح33.
(3) المصدر السابق، ص131، الباب10 من أبواب صفات القاضي، ح20.
التي لا تشتمل على أكثر من الترخيص في التقليد.
فقد نقبل: أنّ صيغة الأمر تدل على الحجّية الشمولية لكلتا الفتويين؛ لأنّها إلزام بالأخذ بهما بعد أن فرضنا أنّ الأصل في إطلاق الموضوع أن يكون شموليّاً لا بدليّاً، وبما أنّه لا يمكن الأخذ بهما في وقت واحد؛ لأنّهما متنافيتان، والأخذ بإحديهما دون الأُخری ترجيح بلا مرجّح فيتساقطان، ولكن صيغة الترخيص أو التجويز لا تدل على أكثر من الحجّية التخييرية أو البدلية.
صحيح أنّه لا الأمر يدل على الوجوب التكليفي ولا الترخيص يدل على الإباحة التكليفية، بل كلاهما إرشاد إلى الحجّية، لكن هناك فرق بين اللسانين، فلسان الأمر والإلزام حينما يكون شموليّاً يكون إرشاداً إلى الحجّية الشمولية، ولا ينسجم مع الحجّية البدلية؛ لأنّ الحجّية البدلية لا تقتضي إلّا الإلزام بأحدها على سبيل البدل، بينما لسان الترخيص حتّى لو كان شموليّاً ينسجم مع الحجّية البدلية؛ لأنّ الحجّية البدلية أو التخييرية تقتضي لا محالة أن نكون مرخّصين في الأخذ بأيّ فتوى شئنا، وبما أنّ مقتضى إطلاق الترخيص هو ثبوته حتّى في فرض تعارض الفتويين، بينما لا يمكن في هذا الفرض إلّا الحجّية التخييرية أو قل: البدلية، إذاً فمقتضى إطلاق دليل الترخيص في