327

الأوراق المالیة الاعتباریة

329

الأوراق المالیة الاعتباریة

بحث حول الأسئلة الفقهیة عن تبدّل النقود الحقیقية المتعارفة في زمن الشریعة من الدینار الذهبي والدرهم الفضّي إلی النقود الاعتباریة البحتة المتعارفة في زماننا هذا.

إنّ النقد في هذا الزمان أصبح من الأوراق الاعتباریة البحتة، والتی لا قیمة ذاتیة تذكر لها، أي لیست هي سلعة من السلع.

فالتبادل كان _ كما یقال _ قدیماً علی شكل المقایضة، أي مبادلة السلع بعضها بالبعض، كما قد یتّفق _ ولو نادراً _ ذلك في زماننا خاصّة في المجتمعات القرویّة البسیطة، وقیل: إنّه كان یجعل أخیراً بعض السلع هو المقیاس للقیم، وبمنزلة النقد فراراً من مشاكل المقایضة غیر المنتظمة، فمثلاً في إیران كان یستفاد بهذا الصدد من الغلّات، وفي بلاد أخری من الأنعام، وفي ثالثة من شيء آخر.(1) إلی أن اهتدوا أخیراً إلی جعل المقیاس عبارة عن الذهب والفضة لسهولة الأمر في ذلك علی خلاف سائر السلع. وتكامل الأمر بالتدریج بالتقیّد فیهما بسكة السلطان التي تضمن عدم الغشّ أو الوزن مثلاً، وفی تطوّر آخر انتهی الأمر تدریجاً إلی النقود الحالیة المجرّدة عن حال السلعیة نهائیاً.

و هناك تطوّر آخر في الآونة الأخیرة رائج في البلاد المتطوّرة اقتصادیاً، وهو التعامل بالصكوك الشخصیة بمقدار ما للشخص من رصید فی البنوك.

 


(1) راجع بالفارسیة: كلیات علم اقتصاد «باقر قدیری أصلي»، ص184.

330

والسؤال الذي یطرح نفسه بادئ الأمر بالنسبة لنقود الیوم، هو أنّها هل تلحق بالنقدین الذهب والفضّة فی تعلّق الزكاة بها أو لا؟ والإشكال فی إلحاقها بالذهب والفضّة ینشأ من نقطتین:

النقطة الأُولی: هي المعروف ذكرها من أنّ النقود اختصّت بالذهب والفضّة، والتعدّي إلی الأوراق النقدیة المألوفة فی وقتنا الحاضر قیاس لا نقول به، والبحث عن التعدّي من النقدين إلى الأوراق الاعتبارية بدعوی إلغاء العرف الخصوصية، أو عدم التعدّي بدعوی كون ذلك قياساً لا نقول به، يجري أيضاً في إلحاق تلك الأوراق بالنقدين وعدمه في باب الصرف بلحاظ حرمة التفاضل من ناحية، وبلحاظ اشتراط القبض من ناحية أُخری.

والنقطة الثانیة: قیاس الأوراق المالیة المتداولة الیوم بالصكوك الشخصیة التي من الواضح عدم تعلّق الزكاة بها، حتی ولو فرض أنّ ما تحكي عنه من الرصید الموجود في البنك متجسّداً في عین زكویة من ذهب أو فضّة؛ وذلك لأنّ الرصید خارج من ملك صاحب الشیك ومملوك للبنك ولو بالإقراض، ولیست علی صاحب الشیك زكاته، ولو أنّ البنك لم ‌یكنزه وجعله في سیر جریان الأموال فلیست علیه أیضاً زكاته، وأمّا الشیك فلا یعدّ مالاً مستقلاً كي تكون علی صاحبه الزكاة. فإذا قلنا: إنّ الأوراق المالیة الحاكیة عن أرصدة لدی الدولة یكون حالها حال تلك الصكوك، والمالیة الحقیقية متجسّدة في تلك الأرصدة لا في هذه الأوراق، فقد يشكل فرض تعلق الزكاة بها.

وهذا الإشكال يسري في الجملة إلى باب الخمس أيضاً فيقال _ بناء علی تعلّق الخمس بما يملكه الإنسان عن طريق الهبة _ : إنّه لو وهب أحد أوراقاً ماليةً ممّا هو متعارف اليوم لشخص، فهذه الأوراق ليست المالية الحقيقية متجسّدة بها كي يتعلّق بها الخمس، وإنّما المالية الحقيقية متجسدة في أرصدتها التي لم ‌يقبضها، والهبة

331

مشروطة بالقبض، فهو لم ‌يملك تلك الأرصدة بعد حتی يتعلّق بها الخمس. نعم أصبح للموهوب له حقّ أن يأخذ الرصيد من الدولة لو قدّم هذه الأوراق إلى الدولة، فكأنّما قد أعطاه الواهب حوالة على ما كان يمتلك لدیٰ الدولة، وهذا الحق حاله حال سائر الحقوق، كحقّ الشفعة أو الخيار أو السرقفلية التي لم ‌يُفتِ أحد بتعلّق الخمس بها رغم أنّها تقابل بالمال.

أمّا لو أنكرنا كون هذه الأوراق المالية المتداولة اليوم بمنزلة المستندات والشیكات وقلنا إنّها أصبحت بنفسها أموالاً بالاعتبار تحمل القوّة الشرائية، أو أنّها تعتبر قوّة شرائية متجسّدة، فينتفي في المقام ما عرفته من الإشكال في الخمس، ولكن ينجم عن ذلك إشكال آخر علی فتوی معروفة في الخمس، وكذلك ينجم إشكال على الفتوی المعروفة في باب الربا.

أما في باب الخمس فقد تعارف القول بوجوب الخمس في أرباح المكاسب حتی في هذه الأوراق المالية، بمعنی أنّ من كان رأس ماله المخمّس مائة دينار مثلاً ثم ازداد ماله خلال السنة بالكسب مثلاً فكان في رأس السنة الثانية مائة وخمسين ديناراً، وجب علیه تخميس الزيادة وهي الخمسون دیناراً، في حين أنّه يمكن أن يقال _ في ما إذا لم تكن هذه الزيادة أكثر مما حصل من الزيادة في تضخّم الأسعار _ : إنّ هذا ليس ربحاً بالمعنی الحقيقي للكلمة بعد أخذ التضخم بعين الاعتبار، فلا موجب لتعلّق الخمس به.

وأما في باب الربا فقد تعارف القول بحرمة أخذ الزيادة حتی في هذه الأوراق المالية المتعارفة اليوم، فلو اقترض ألف دينار ملتزماً بإرجاع ألف ومائتين مثلاً بعد سنة كان ذلك رباً. في حين أنّه يمكن أن يقال في ما إذا لم تكن الزيادة أكثر من زيادة التضخم في الأسعار بجواز أخذ الزيادة، وذلك ببيان أنّ هذه الأوراق التي تعتبر مثلية لا يلحظ في مثليّتها شكل الورق مثلاً، بل تلحظ في مثلیّتها قوّتها الشرائية، فإذا كان الألف

332

والمائتان بعد سنة يساوي الألف لما قبل سنة في القوة الشرائية أو كان أقلّ من ذلك فلا زيادة في المقام وليس هناك رباً(1).

وقد اتضح بهذا العرض أنّ فهرسة البحث في المقام ما یلي:

1_ هل تتعلق الزكاة بالأوراق المالية غير الذهب والفضّة أو لا؟

2_ هل يتعلّق الخمس بتلك الأوراق في مثل موارد الهبة أو في الزيادة التي لا تزيد علی مقدار التضخم أو لا؟

3_ هل يحكمها _ كما في باب الصرف _ حكم التفاضل في العرف أو لا؟

4_ هل يحكم فيها _ كما في باب الصرف _ بشرط القبض الثابت في العرف أو لا؟

5_ هل يمكن تصحيح الزيادة وتخريجها فقهياً في القرض إذا لم‌ تزد علی مقدار التضخم أو لا؟ وما هو حكم النقيصة لدى فرض نقصان التضخم؟ وكذلك الحال في باب الضمان من غير ناحية القرض كفرض الغصب مثلاً.

المسألة الأولى: هل تتعلّق الزكاة بالأوراق المالية غير الذهب والفضّة أو لا؟

وهنا لابدّ أن نری أوّلاً أنّه هل يصح قياس الأوراق المالية المتداولة اليوم بالشيكات والسندات، بدعوى أنّها تحكي عن أرصدتها لدی الدولة أو لدی مصدرها وليست لها مالية مستقلّة أو لا يصحّ ذلك؟ فلو صحّ ذلك مع افتراض أن الرصيد حتی إذا كان عبارة عن الذهب أو الفضّة فإنّما هو في ذمة الدولة أو الجهة المصدرة وليس محتفظاً به كأمانة في خزانتها، فلا معنی عندئذٍ لتعلّق الزكاة بهذه الأوراق إذ لا مالیة لها، ولا بأرصدتها لأنّها لیست بأعیانها الخارجیة ملكاً لصاحب الورق، بل هي في ذمّة الدولة أو الجهة المصدرة للورق، ومن الواضح أنّه لا تجب علی الإنسان زكاة مال أقرضه لشخص آخر.

 


(1) راجع الإسلام يقود الحياة، الحلقة السادسة، ص109.

333

والواقع أنّ قیاس الأوراق المالیة الیوم بالشیكات والسندات قیاس مع الفارق، وإن كان هذا القیاس صحیحاً في تاریخ سابق.

وتوضیح ذلك: أنّ الأوراق المالیة _ كما یرویه المطّلعون(1)علی تاریخها _ مرّت بأدوار:

الدور الأول: دور نیابتها عن أرصدتها من ذهب أو فضّة محتفظ بها في خزانة مصدر الأوراق، تكون هي في الحقیقة ملكاً لأصحاب الأوراق ولیست هذه الأوراق إلّا حاكیة عن تلك الأرصدة.

في هذا الفرض لا ینبغي الإشكال في تعلّق الزكاة علی أصحاب الأوراق بالأرصدة حینما تكون ذهباً أو فضّة، سواء فرضناهما مسكوكتین أو لا. أما إذا كانتا مسكوكتین فالأمر واضح، وأما إذا لم تكونا مسكوكتین فلأنهما في الحقیقة المال الرائج ، لأنّ رواج هذه الأوراق یعني رواج ما تحكي عنه وهو الذهب والفضة، فبناءً علی أنّ المقیاس في باب الزكاة كونه مالاً رائجاً ولا عبرة بالسكة إلّا من ناحیة أنها كانت سبباً للرواج فتجب الزكاة في المقام.

ولكن من الواضح الیوم أنّه لا یوجد شيء من هذا القبیل في العالم.

الدور الثاني: ما بدا بعد أن أحسّ المصدّرون للأوراق بأنّهم غیر مضطرین إلی الاحتفاظ بعین الأرصدة بمقدار الأوراق المصدرة، لأنّ أصحاب الأوراق سوف لن یطالبوهم جمیعاً في وقت واحد بتسلیم الرصید، فتبدّل الاحتفاظ بالأرصدة إلی التعهّد بدفع الرصید لمن جاء بالورق إلی مصدّر الأوراق.

وهذا التعهّد یمكن تفسیره بنحوین:

 


(1) راجع بالفارسیة الدروس التي هیأها الأستاذ الدكتور داودي للتدریس في كلیة العلوم الاقتصادیة في جامعة الشهید بهشتي بطهران، الدرس الثانی والثالث.

334

الأوّل: أنّ الجهة المصدّرة تعتبر نفسها مدینة لصاحب الورق بمقدار رصیده.

وهذا یعني أنّ الورق أصبح أیضاً شیكاً وسنداً، لكنّه لا یحكي عن رصید خارجي كما هو الحال فی الدور السابق، بل یحكي عن رصید الذمة، وعلیه یتعیّن القول بعدم تعلّق الزكاة علی صاحب الورق، لا بالورق؛ إذ لا مالیة له، ولا بالرصید حتی إذا كان ذهباً أو فضّة؛ لأنّه لا یمتلكه عیناً وإنما یمتلكه في ذمّة الآخرین.

والثانی: أنّ الجهة المصدّرة لا تأخذ علی ذمّتها، وإنما تتعهّد تعهّداً مستقلّاً عن ترجمة الورق للرصید بأنّ من أتی بها بشيء من هذه الأوراق قدّمت له من الرصید بقدره، وهذا التعهّد یمنح للورق اعتباراً وقیمة لدی الناس باعتبار ثقتهم بالجهة المتعهدة.

وهذا یعني أنّ الورق إذا لم یصبح شیكاً وسنداً بل أصبح هو أمراً ذا مالیة، وتعهّد الجهة المصدّرة لدفع الرصید هو حیثیة تعلیلیة لاعتبار المالیة اجتماعیاً لهذا الورق.

وهنا تأتي الشبهة التي تقول بتعلّق الزكاة بهذه الأوراق بدعوی التعدّی العرفي من مورد النص وهو الذهب والفضّة، وأنّ تعلّق الزكاة بهما إنما كان بلحاظ كونهما النقد الرائج.

أما أنّ أيّ التفسیرین هو المطابق للواقع؟ فقد رجّح أستاذنا الشهید(رحمه الله) كون التفسیر الثاني أصوب، وأید ذلك بأنّ استهلاﻙ السند أو سقوطه عن الاعتبار لا یعني تلاشي الدین، في حین أنّ أيّ شخص تتلاشی لدیه الورقة النقدیة، أو تسقط الحكومة اعتبارها ولا یسارع إلی استبدالها بالنقود الجدیدة، لا تعتبر الجهة المصدّرة نفسها مسؤولة أمامه عن دفع قیمة الورقة المتلاشیة أو التي سقط اعتبارها وتماهل فی استبدالها، فكأن هناك تعهداً بدفع القیمة ذهباً لمن یملك الورقة، لا أنّ الورقة تعطی لمن یملك قیمتها ذهباً في ذمّة الجهة المصدّرة، ولهذا یمیّزها القانون عن سائر الأوراق التجاریة من شیكات وكمبیالات، حیث یمنحها صفة النقد والإلزام بالوفاء بها، دون الأوراق الأُخری التي لا تخرج عن كونها مجرد سندات.(1)

 


(1) راجع البنك اللاربوي في الإسلام، ص 151.

335

أقول: كان مقصوده(رحمه الله) من آخر الكلام بیان تأیید آخر للمقصود، وهو أنّه لو أنّ أحداً أصبح مَدیناً لشخص بإتلاف مال قیمي له مثلاً فأراد الوفاء بالورق المالي، وجب علی المضمون له أن یقبل هذا الورق ولیست له مطالبة الرصید، في حین أنّه لو أراد الوفاء ببعض تلك السندات لم تكن لها قوّة الإلزام وكان من حق المضمون له الرفض.

وقد یفسر كلّ هذا بتفسیر منح هذه الآثار لهذه الأوراق من قبل الحكومة بالولایة، من دون أن تخرج عن كونها سندات تحكي عن رصیدها، فرغم أنّها مجرد سندات ولیست أموالاً، أمرت الحكومة بالولایة بوجوب قبول المضمون له إیّاها، وبسقوط حقّ من یحترق عنده الورق أو یتأخّر عن الموعد المقرّر لتبدیل النقود المحكوم علیها بالسقوط. وهذا التفسیر، وإن كان ممكناً، لكنّه:

أولّاً: یكون احتماله بعیداً إلی حدّ الاطمئنان بالخلاف؛ لأنّ الأولی والأنسب لمن یُعمِل الولایة في مقام نزع آثار السند وتبدیلها بآثار المال أن یُعمِل الولایة بتبدیله بالمال مباشرة.

ثانیاً: یكون نفس نزع هذه الآثار وتبدیلها إلی آثار المال سبباً في اعتبار العقلاء المالیة لهذه الأوراق وخروجها عن كونها مجرد سندات.

الدور الثالث: هو الدور المثبّت الیوم عالمیاً وهو إلغاء التعهّد بدفع الرصید من قبل مصدّر الأوراق نهائیاً.

وقد ذكر أُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّنا إذا أردنا أن نعرف أنّ الأوراق التي اُعفيت عن التعهد بدفع الرصيد لدى تقديم الأوراق هل تعتبر سندات أو تعتبر أموالاً، يجب أن نرى حال التعهد الذي فرض في القسم السابق، والذي أعفيت الأوراق عنه في هذا القسم، لكي نرى هل أنّ ذلك التعهد كان مكيّفاً بالتكييف الثاني من التكییفین الماضيين، أي أنّ الجهة المصدرة للأوراق لا ترى نفسها مدينة أصلا لأصحاب الأوراق، وغاية ما هناك أنّها تعهّدت بدفع الرصيد لدي تقديم الأوراق إليها جلباً لثقة

336

الناس بالأوراق؟ أو كان مكيفاً بالتكييف الأول وهو التعهد بالدَين؟ أما على التكييف الثاني فقد كانت الأوراق أموالاً قبل الإعفاء عن التعهد، فكذلك الحال لا محالة بعد الاعفاء، وأما على التكييف الأول فالأوراق قبل الإعفاء عن التعهد لم تكن أموالاً بل كانت مستندات وحاكية عما في ذمة الجهة المصدّرة للأوراق من رصيد. فعندئذٍ يجب أن نرى ما هو تفسیر قانون الإعفاء وتكييفه من الناحية الفقهية؟ فإن كان قانون الاعفاء يعني إلغاء الديون التي كانت الأوراق النقدية سندات عليها وتحويلها إلى أوراق نقدية إلزامية، فهذا يعني أنّ تلك الأوراق أصبحت أموالاً باستقلالها، ولم تعد حاكية بحتة، وأما إذا كان قانون الإعفاء يعني السماح للجهة المصدّرة بعدم وفاء الدين الذي تمثّله الورقة النقدية في نطاق التعامل الداخلي، حرصاً على الذهب وتوجيهاً له إلى التعامل مع الخارج، مع الاعتراف قانونياً ببقاء الديون التي تمثّلها تلك الأوراق، فلا تخرج بذلك عن حكمها قبل الإعفاء(1).

أقول: إنّ احتمال تفسير الإعفاء عن التعهد بالشكل الذي يجتمع مع فرض حكاية الأوراق عن الدَين في ذمة الجهة المصدرة لها، غير موجود في يومنا الحاضر نهائياً؛ وذلك لأنّه حتى لو فرض بقاء التعهد في التعامل الخارجي، أو في تعامل الدولة مع الخارج، أو فرض في مورد ما ثبوت التعهد في التعامل الخارجي صدفة، فليس هذا تعهداً بكمية معينة من ذهب أو فضة أو أي شيء آخر، بل هو تعهد بدفع ما يناسب ذلك المبلغ من النقد في كل زمان بحسبه.

وبكلمة أُخرى: إنّ المفهرم من الرصيد للأوراق في الوضع العالمي اليوم لم يعد ما كان سابقاً من مبلغ مشخص ومعين في ذمة شخص أو جهة، وإنما رصيد أوراق كل

 


(1) راجع البنك اللاربوی في الإسلام: ص۱۵۱ _ ۱۵۲.

337

دولة عبارة عن مجموع ما تمتلكه من القوة الاقتصادية من سلع أو أعمال، لا بمعنى أنّ مبلغاً معيناً منها يكون محكياً بمبلغ معين من هذه الأوراق، كما هو شأن السندات، بل بمعنى أنّ هذه الأوراق تمكن صاحبها من امتلاك مبلغ من تلك الأُمور مختلف المقدار وفق ما تقتضيه قاعدة العرض والطلب ومدی ازدهار الوضع الاقتصادي للبلاد، أي أنّ أي شيء يفترض رصيداً لهذه الأوراق فهو بذاته محكوم، حتى في عالم رصیدیته في أي تجارة داخلية أو خارجية، ومن قبل أي شخص أو جهة، لنظام التضخم وتصاعده أو تخفيفه بالقياس إلى الأوراق، في حين أنّ شيئاً ما لو كان رصيداً لهذه الأوراق بمعنی سندية الأوراق له وحكايته عن ثبوته في ذمة الدولة أو مصدّر الأوراق، لما كان من المعقول نزول مبلغ ذلك الشيء باستمرار أو صعوده أحياناً، أي أنّ سنداً ما إذا كان حاكياً عن مثقال من الذهب في ذمة أحد لكان يبقى ما في ذمته _ المحكي بهذا السند دائما _ هو مثقالاً من الذهب لا يزيد ولا ينقص، وأنت ترى أن الحال في أرصدة الأوراق ليست كذلك، فأي شيء يفرض رصيداً لها يكون الرصيد عبارة عن مجموع ما يمتلكه البلد من ذلك الرصيد مهما قل أو كثر في أي زمان من الأزمنة، وعلى هذا الأساس ترى أنّه مهما ازدهر اقتصاد بلد ما وكثرت فيه الخيرات والبركات قويت أوراقهم المالية في تجارة داخلية أو خارجية، ومهما ضعفت قوتهم الاقتصادية وقلّت الخيرات ضعفت أوراقهم المالية، كما أنّ تلك القوة الاقتصادية بأي ميزان كانت توزع على مجموع تلك النقود، فلو طبعت الدولة أو الجهة المصدّرة لها مبلغاً أكثر انخفضت قوة النقد. فلا ينبغي أن نغترّ بكلمة الرصيد أو بكلمة السند لو سميت هذه الأوراق في مصطلح مصرفي بالسند، أو سميت الأمتعة والسلع أو مجموعة القوة الاقتصادية في البلد بالرصيد.

وعليه فلم يعد خافياً اليوم أنّ الأوراق المالية الرائجة في العالم تعتبر هي الأموال، ولا تعتبر حاكية عما في الذمم.

338

ومن هنا تأتي شبهة تعلق الزكاة بها بدعوى التعدي العرفي من مورد النص _ وهو الذهب والفضة _ إلى كل ما أصبح نقداً رائجاً، وأنّ العرف يفهم أنّ تعلّق الزكاة بالذهب والفضة لم يكن لخصوصية فيهما، بل لكونهما نقدین رائجين، كما قد يشهد لذلك اشتراط الزكاة فيهما بكونهما مسكوكين أو بكونهما نقدین رائجين.

وفي مقابل ذلك يدعى أنّ هذا التعدي قياس، وأنّ احتمال الفرق وارد في المقام. ولبسط الكلام شيئاً ما في هذا الموضوع نقول:

إنّ الشريعة الإسلامية فرضت ضرائب على أصحاب الأموال، وجعلت قسماً منها ملكاً للدولة الإسلامية أو قل الإمامة، وقسماً منها ملكاً للفقراء والمحتاجين، ومصارف عامة أُخرى. قال اللّٰه سبحانه:

1_ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ ما غَنِمْتُمْ مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبیٰ وَالْيَتامىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُم بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنا عَلىٰ عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَىٰ الْجَمْعَانِ وَاللّٰهُ عَلَىٰ كُلَّ شَيءٍ قَدِيرٌ﴾(1).

2_ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الأَنْفالُ لِلّٰهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّٰهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللّٰهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ﴾(2).

3_ ﴿وَمَا أفَاءَ اللهُ عَلىٰ رَسُولِه مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلَّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَىٰ كُلَّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أفاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبىٰ وَالْيَتامىٰ وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغنِياءِ مِنكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقابِ﴾(3).

 


(1) الأنفال: 41.

(2) الأنفال: 1.

(3) الحشر: 6_7.

339

4_ ﴿خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهَّرُهُمْ وَتُزَكَّيهِم بِها وَصَلَّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(1).

5_ ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرَّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ وَاللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾(2).

ولعل الفارق العملي بين ما جعل من الضرائب لمثل عنوان الفقراء والمحتاجين وهي الصدقات، وما جعل منها للحكومة أو الإمامة، أو جعل لها سهم فيه وهو الخمس والفيء والأنفال مفقود في كثير من الموارد؛ لأنّ حاجات الحكومة عبارة أُخرى عن نفس تلك الموارد العامة.

إلا أنّ أبرز فارق عملي بينهما هو: أنّه لم يسمح لقربی الرسول(صلى الله عليه و آله) أن يستفيدوا لحاجاتهم الشخصية من الصدقات، وسمح لهم أن يستفيدوا من غيرها، والدليل على هذا التحريم روايات كثيرة من قبيل ما ورد بسند تام عن محمد بن مسلم وأبي بصير وزرارة عن الباقر والصادق(علیهما السلام) عن الرسول(صلى الله عليه و آله) في حديث: «و إنّ الصدقة لا تحل لبني عبدالمطلب»(3). وما ورد بسند تام أيضاً عن عبداللّٰه بن سنان عن أبي عبداللّٰه(علیه السلام)قال: «لا تحل الصدقة لوُلد العباس ولا لنظرائهم من بني هاشم»(4).

والذي يبدو من لحن أكثر الروايات(5) أنّ المصطلح الذي كان يذكر في مقابل مصطلح الخمس لدی بیان حرمة أخذ الواجب منه على ذوي القربى هو مصطلح الصدقة لا مصطلح الزكاة، وكان مصطلح الزكاة في تاريخ نزول القرآن والذي قرن

 


(1) التوبة: 103.

(2) التوبة: 60.

(3) وسائل الشيعة، ج9، الباب ۲۹ من أبواب المستحقين للزكاة، ح 2.

(4) المصدر السابق، ح3.

(5) راجع المصدر السابق، الباب ۲۹ _ 34 من أبواب المستحقين للزكاة.

340

بالصلاة في الآيات الكثيرة على الأكثر عبارة عن مطلق الضريبة الواجبة، وإن استقر الاصطلاح أخيراً على ترادف كلمة الزكاة للصدقة الواجبة مقابل الخمس.

ولا إشكال في أنّ أحد ملاكات الضريبة في الإسلام أو أهمها هو سد الحاجات المالية لدى الحكومة، أو لدى الفقراء والمحتاجين أو سائر الحاجات الاجتماعية، وقد ورد في الأحاديث المتعددة: «إن اللّٰه(وجل عز) فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم...»(1) ويشهد لذلك أيضاً نفس العناوين المذكورة في الآيات للصرف عليها كالفقراء والمساكين، وقد يشهد له أيضاً ما في آية الفي: ﴿كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ﴾(2) كما يحتمل أن تكون هذه العبارة إشارة إلى ملاك آخر وهو عدم نمو الثروة نفسها بشكل هائل لدى الأغنياء.

ومن المحتمل وجود ملاك آخر أيضاً في زكاة النقود وهو منع النقد عن الركود مما قد يسبب اختلالاً في الوضع الاقتصادي في البلاد، وقد تشعر بذلك كلمة الكنز في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَبَشَّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُم فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ﴾(3).

وقد يكون هذا هو السبب في ما ثبت نصاً وفتوى، من أنّ تعلق الزكاة بالذهب والفضة مشروط بكونهما مسكوكين أو نقدین رائجين، أما إذا كانا حُليّاً مثلاً لم تكن عليهما زكاة، فلعل هذا بسبب أنّه ليس نقداً كي يكون كنزه سبباً لركود شيء من النقود ومنعه عن سير العمل في التجارة، وقد ورد في بعض الأحاديث: «أنّ من سبك من الدرهم والدينار حليّاً أو نحوه فراراً من الزكاة لم تجب عليه الزكاة، ولكنه قد منع

 


(1) وسائل الشيعة، ج9، ص10، الباب الأول من أبواب ما تجب فيه الزكاة، ح2.

(2) الحشر: 7.

(3) التوبة: 34_ 35.

341

نفسه من ربح المال أكثر مما منع من حق اللّٰه الذي يكون فيه»(1). فلعل هذه الروايات تشير إلى أنّ كون تحويل النقد المسكوك إلى ركاز لا يمكن التعامل به، لما كان خلاف طبع الإنسان لكونه مانعاً عن امتلاكه السيولة النقدية الآنيّة، اكتفت الشريعة بالمقدار الذي يحصل لذلك من الردع عن هذا التحويل، حيث يضرّه أكثر مما يربحه، ولم توجب عليه الزكاة في ما لو فعله صدفة، أما الذي يكثر صدوره من الإنسان فهو كنز النقد بوصفه نقداً رائجاً أو مسكوكاً فمنعت الشريعة عن ذلك بفرض الزكاة.

ويشهد لهذا الاحتمال _ أعني كون ملاك الزكاة في النقدين المنع عن ركود النقد الرائج _ ما ثبت نصاً وفتوى من شرط الحول في زكاة النقدين، فلعل السر في ذلك أنّه إذا أدخل الشخص نقوده في سير التجارة والتبادل والمعاملات خرجت عن كونها كنزاً، ولم يحصل الركود في قسم من النقد، ولهذا لم يوجب عليها الإسلام الزكاة.

إلا أنّ شرط الحول ليس مخصوصاً بالنقود بل هو موجود في الأنعام أيضاً.

أما التعدي عن الذهب والفضة إلى الأوراق الاعتبارية المألوفة اليوم في ثبوت الزكاة عليها، فقد يخطر بالبال القول: إنّ الجزم بإلغاء الخصوصية أو حكم العرف بذلك، يتوقف علىٰ فرض كون الملاك المفهوم في زكاة النقدين منحصراً بمثل سد حاجات المحتاجين وسائر المصارف العامة، مما هو مشترك بين النقدين والأوراق المالية المتداولة اليوم تمام الاشتراك. أما إذا احتملنا وجود ملاك آخر في المقام وهو المنع عن الكنز وعن ركود مبلغ من النقود وإيقاف السيولة النقدية، فمن المحتمل وجود الفرق بين مقاييس تحسين الاقتصاد في الاقتصاد القديم الذي كان النقد الرائج فيه عبارة عن الذهب والفضة، ومقاییسه في الاقتصاد المتطور القائم على أساس الأوراق التي يكون قوامها بالجعل والاعتبار، سواء فرض لها رصيد كامل أو

 


(1) راجع وسائل الشيعة، ج9، ص159، الباب11 من أبواب زكاة الذهب والفضة.

342

ناقص أو لم يفرض لها رصيد، وذلك على أساس المحدودية الطبيعية في النقود الطبيعية أي الذهب والفضة وقتئذٍ، وانكسار هذه المحدودية إلى حد كبير في النقود الاعتبارية في يومنا هذا. أما مع فرض فقدانها الرصيد أو فقدانها الرصيد الكامل فالأمر واضح. وأما مع فرض تقيد الدولة بالرصيد الكامل فلأنّ للدولة الحرية في تعيين الرصيد، فإن قلّت عندها كمية الذهب مثلاً كان لها المجال الواسع في تبديل الرصيد بمعدن آخر كالنفط مثلاً.

إذاً فقد يكون بالإمكان الحفاظ على السيولة اللازمة في البلد للنقد رغم كنز بعض الناس لبعض النقود بكميات غير واسعةٍ. ومن الواضح أنّ النصاب الأولي للزكاة لا يعتبر في مقیاس اقتصاد اليوم كمية واسعة، والمقدار المضر من تجميد النقود يختلف اختلافاً واسعاً باختلاف الظروف والأزمنة والأمكنة في عصر الاقتصاد الحديث، بل قد يتفق أن تقتضي مصلحة الاقتصاد في البلد تجميد الدولة لبعض النقود وتقليل السيولة المؤدية أحياناً إلى التضخم في الأسعار، المضر بالطبقة الفاقدة لتلك السيولة في نقودها.

أما لو قلنا بأنّ أصل تعیین مورد الزكاة ومبلغ النصاب والمقدار الواجب إخراجه ليس عدا أحكام ولائية يكون تشخيصها في كل زمان ومكان بيد ولي الأمر، وإن كان أصل الزكاة على الإجمال حكماً إلهياً، فعندئذٍ ينحل هذا الإشكال الذي ذكرناه، ولكننا في هذا الفرض لسنا بحاجة إلى التعدي من النقدين إلى الأوراق المتداولة في زماننا بحجّة إلغاء العرف للخصوصية(1)، بل نقول ابتداءً: إنّ تعيين الأعيان الزكوية في الأُمور التسعة المعروفة إنما كان حكماً ولائياً من قبل رسول الله(صلى الله عليه و آله)، ومن حق

 


(1) إلا بناءً على كون طريقة إعمال الولاية بحاجة إلى المؤشّرات في الشريعة، فقد تصلح الأحكام الولائية في الأجناس الزكوية مؤشرات بنكتة إلغاء العرف خصوصيته إلى جعل ولي الأمر في كل زمان ما يرى فيه المصلحة من الضرائب.

343

ولي الأمر في كل زمان أن يضع الزكاة على أي جنس یرى المصلحة في وضعها عليه ومنها النقود الورقية المألوفة في زماننا.

ويشهد لولائية تفاصيل الأحكام في الزكاة أمران:

أحدهما: لحن عدید من روايات الزكاة حيث تقول: «وضع رسول الله(صلى الله عليه و آله) الزكاة على تسعة وعفا عما سوى ذلك»(1).

إلا أن يقال: إنّ وضع رسول اللّٰه(صلى الله عليه و آله) وعفوه لا يدل على ولائية الحكم، لاحتمال أنّه كان(صلى الله عليه و آله) مأذوناً من قبل اللّٰه تعالى في تشريع بعض التفاصيل، كما يشهد لذلك بعض الروايات، من قبيل: ما رواه الصدوق بسنده إلى زرارة قال: قال أبو جعفر(علیه السلام): «كان الذي فرض اللّٰه تعالی على العباد عشر ركعات وفيهن القراءة وليس فيهن وهمٌ يعني سهواً، فزاد رسول اللّٰه(صلى الله عليه و آله) سبعاً وفيهن الوهم وليس فيهن قراءة، فمن شك في الأوليين أعاد حتى يحفظ ويكون على يقين، ومن شك في الأخيرتين عمل بالوهم»(2). وما ورد أيضاً بسند تام عن الفُضيل بن يسار عن أبي عبداللّٰه(علیه السلام)في موارد عديدة من تشريع الرسول(صلى الله عليه و آله) كالركعتین الأخيرتين، وكتحريم المسكر من كل شراب وإن لم يكن خمراً، وغير ذلك(3).

وثانيهما: ما ورد من وضع أمير المؤمنين(علیه السلام)الزكاة على الخيل، فعن محمد بن مسلم وزرارة بسند تام عنهما(علیه السلام)قالا: «وضع أمير المؤمنين(علیه السلام)على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام دينارين، وجعل على البراذين ديناراً»(4). هذا بناءً على أنّ حق التشريع الدائم إن كان لغير اللّٰه فهو للرسول(صلى الله عليه و آله) فحسب لا للإمام، أو أنّه لو قلنا بثبوت

 


(1) راجع وسائل الشيعة، ج9، ص53، الباب8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة.

(2) المصدر السابق، ج8، ص187، الباب الأول من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ح۱.

(3) راجع أُصول الكافي، ج1، ص266، باب التفويض إلى الرسول والأئمة، ح4.

(4) وسائل الشيعة، ج9، ص77، الباب16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، ح1.

344

هذا الحق للإمام أيضاً _ كما قد يستشعر من بعض روایات أُصول الكافي، باب التفويض إلى الرسول(صلى الله عليه و آله) وإلى الأئمة(علیهم السلام) _ فلا إشكال فقهياً في أنّ زكاة الخيل أو الضريبة فيه لو كانت واجبة لم تكن حكماً دائمياً، فهي لو كانت كانت حكماً ولائياً خاصاً بزمان إمامنا أمير المؤمنين(علیه السلام)ولهذا لم يُفتِ أحد من الفقهاء بوجوبها. ومن المحتمل أنّه لم تكن هذه الضريبة ملحقة بالزكاة في كل الأحكام بما فيها حرمة الأكل على ذوي القربي.

وعلى أي حال فحتى لو لم نقبل كون تفاصيل أحكام الزكاة المثبتة في الفقه أحكاماً ولائية، فلا ينبغي الاشكال _ بناءً على الإيمان بمبدأ ولاية الفقيه _ أنّ من حق ولي الأمر أن يضع ما یراه مصلحة اجتماعية من الضرائب على الأموال وإن لم تكن زكوية بالأصل(1).

هذا، وبناءً علی كون تفاصيل أحكام الزكاة إلهية لا ولائية نصطدم في التعدي إلى الأوراق المالية المتداولة اليوم، ودعوى إلغاء الخصوصية عرفاً بمشكلة أُخرى، وهي كيفية تعيين النصاب هل تقاس بقيمة الذهب أو بقيمة الفضة؟

وهناك نكتة أُخرى للتشكيك في الجزم بإلغاء الخصوصية من النقدين أبرزها بعض المعاصرين، وهي إبداء احتمال كون الخمس في أرباح المكاسب مجعولاً من قبل الأئمة(علیهم السلام) حينما رأوا انحراف الزكاة عن مسیرها وصيرورتها في مسير إعاشة الجبارين، وأنّ الخمس حق وحداني للإمام بما هو إمام يسد به مواضع الحاجة إلى الزكاة، فلم يبق داع إلى توسيع الزكاة لغير الأجناس التسعة(2).

وهذا مبني على عدم ثبوت خمس أرباح المكاسب في زمن رسول اللّٰه(صلى الله عليه و آله) والدخول في هذا البحث لا يناسب هذه الوريقات.

 


(1) ولو قلنا بحاجة كيفية إعمال الولاية إلى مؤشّرات في الشريعة، فقد يفرض جعل الضريبة على الخيل من قبل إمامنا أمير المؤمنین(علیه السلام)مؤشراً في المقام إلى ذلك.

(2) كتاب الزكاة (للمنتظری)، ج1، ص۲۸۲.

345

هذا، وقد تلخّص من كل ما ذكرناه: أنّ التعدي في باب الزكاة من النقدين إلى الأوراق المالية الاعتبارية المألوفة اليوم، بعد تسليم كون تفاصيل أحكام الزكاة أحكاماً إلهية لا ولائية، لا يخلو من إشكال.

إلا أنّ المهم هو أنّنا نعتقد على أساس مبدأ الولاية بأنّ من حق ولي الأمر فرض الضرائب على الأموال في حدود ما يراه من المصالح الاجتماعية وليس من المهم أن تصبح هذه الضرائب محكومة بحكم ما اصطلحت عليه الزكاة من حرمة صرفها على ذوي القربي.

المسألة الثانية: في تعلّق الخمس بالأوراق المالية وقد ذكرنا بهذا الصدد إشكالين:

الإشكال الأوّل: في تعلّق الخمس بما يمتلك من هذه الأوراق بالهبة، بناءً علی الإيمان بأنّ الهبة يتعلّق بها الخمس، وبناءً علی الإيمان بأنّ الهبة متقوّمة بالقبض، فعندئذٍ يقال: إنّ هذه الأوراق كانت مجرّد شيكات وسندات، فلا معنی لتعلّق الخمس بها إلا بقيمتها الضئيلة الذاتية إن كانت لها قيمة ذاتية، أما بقوّتها الشرائية الاعتبارية فلا. كما لا معنی لتعلّق الخمس بأرصدتها لعدم حصول القبض المملّك.

والجواب عن هذا الإشكال هو: ما عرفت مفصّلاً في المسألة الأولي من منع كون هذا الأوراق مجرّد شيكات وسندات لها مالية اعتبارية اجتماعية.

الإشكال الثاني: هو الإشكال في خمس أرباح المكاسب في الأوراق المالية؛ وذلك ببيان أنّ من كان رأس ماله المخمّس مائة دينار مثلاً ثم زاد في السنة الثانية إلی مائة وعشرين ديناراً فالفتوي عادة تكون بوجوب تخميس العشرين، في حین أنّه یمكن أن یقال: إنّ هذا وإن صحّ في الدنانیر الذهبیة مثلاً لكنه لا یصح في الأوراق الاعتباریة مع حالة التضخم؛ وذلك لأنّ المائة والعشرین ديناراً في السنة الثانية قد تساوي قوّتها الشرائية القوة الشرائية للمائة دينار في السنة السابقة، أو تكون أقل، فلم يحصل في الحقيقة الربح حتی يجب تخميسه.

346

ويمكن الجواب عن ذلك بأنّ هذا الإشكال قد يتوجّه بناءً علی كون هذه الأوراق قوّة شرائية متجسّدة؛ لأنّه لم يزد شيء علی ما كان يمتلكه من القوّة الشرائية، وذلك نتيجة للتضخّم، فكيف يخمّس الزيادة؟ أمّا بناءً علی كون هذه الأوراق أموالاً اعتبارية تحمل قوة الشراء، أو قل تحمل قيمة شرائية كما هو الحال في سائر السلع، فلا يتوجّه هذا الإشكال؛ لأنّ هذا المال قد زاد لا محالة فأصبح مائة وعشرين دیناراً بعد ما كان مائة دينار، فلابدّ من تخميس الزيادة.

والمبنی الأوّل باطل؛ لأنّ افتراض القوّة الشرائية التي هي أمر معنوي مُتَجسَّد في عين من الأعيان ليس عرفياً، وإنّما الشيء المفهوم عرفاً كونها حالة معنوية تحتملها الأعيان، فالمتعيّن هو الثاني، وهو أنّ هذه الأوراق أصبحت بمنزلة السلع، وتحمل قيمة اعتبارية، غاية الأمر أنّ قيمتها متقوّمة بالاعتبار ولیست قیمة حقیقية، ولیس هذا غریباً علینا، فإنّ لدینا أُنساً ذهنیاً سابقاً بالقیم الاعتباریة غیر الحقيقية، كما هو الحال في مقدار كبير من قيمة الأحجار الكريمة، فالمنفعة الأصلية غير الاعتبارية لحجر كريم كالزينة مثلاً قد لا تزيد علی منفعة حجر آخر غير كريم، بل قد تقل عنها، ولكن قيمتها الاعتبارية تفوق قيمة الحجر الآخر بأضعاف المرّات، وليس هذا إلّا بالاعتبار، نعم الفرق بين هذا الاعتبار واعتبار الأوراق أنّ المنشأ الأوّلي للاعتبار في الأوراق هو شخص معيّن أو جهة معيّنة وقد اتّبعه المجتمع لسلطته وقدرته أو لأيّ سبب آخر، في حين أنّ المنشأ لهذا الاعتبار في الأحجار الكريمة هو المجتمع مباشرة. وهذا الفرق ليس فارقاً في المقام، فكما أنّ الذهب أو أي حجر كريم يمتلكه أحد لو زاد في السنة الثانية كان عليه تخميس الزيادة ولو فرض انكسار قوّته الشرائية أو قيمته السوقية في تلك السنة، كذلك الحال في هذه الأوراق.

المسألة الثالثة: إنّ الأوراق الاعتبارية هل تلحق بالذهب والفضّة في حرمة التفاضل أو لا؟

347

ومن الطبيعي أنّ إشكال التفاضل يختص بالجنس الواحد، ووحدة الجنس أمر عرفي، فلا يقصد به في المقام كونه ورقاً أو كونه نحاساً مثلاً أو أي شيء آخر، بل يقصد به كونه كلمة واحدة، فالتومان مثلاً كله جنس واحد سواء صنع من الأوراق أو من غير الأوراق، فهل يجوز التفاضل في صرف التومان بالتومان مثلاً؟

إنّ إشكال التفاضل في الصرف يمكن أن ينشأ من أحد وجهين:

الأول منهما مطلق، والثاني منهما يختص بفرض النسيئة.

الوجه الاوّل: التعدّي من باب الصرف الوارد في الذهب والفضّة إلی الأوراق الاعتبارية، بدعوی أنّ العرف يلغي خصوصية الذهب والفضّة ويفهم أنّ المقياس في حرمة التفاضل كونه نقداً رائجاً، فكما يحرم التفاضل في تبديل الذهب بالذهب أو الفضّه بالفضه كذالك يحرم ذلك في هذه الأوراق.

إلّا أنّ هذا التعدّي في غاية الإشكال؛ لأنّ احتمال الخصوصية وارد لا محالة، والجزم بكون المقياس نقداً رائجاً لا وجه له. وتؤيد احتمال الفرق وعدم إمكان التعدي عدّة أُمور:

الأول: أنّ حرمة التفاضل لم تكن مخصوصة بفرض ثبوت السكة الرائجة علی الذهب والفضّة، بل هي ثابتة في ذات الذهب والفضّة وإن لم يكن نقداً رائجاً، اللهم إلّا أن يفترض أنّ الذهب والفضّة لهما لدی الأعراف الاجتماعية حظّ من النقديّة والثمنية ولو لم يكونا مسكوكين، وأنّ هذا كان هو الملاك في الحكم لا خصوص رواج النقد.

والثاني: أنّ نفس الحكم ثبت في كلّ مكيل وموزون ولم يختص أصلاً بالذهب والفضّة.

والثالث: حرمة التفاضل حتی مع فرض الاختلاف في الجودة والرداءة مما يشهد لكون الحكم تعبّدياً بحتاً لا بنكتة عقلائية اقتصادية ثابتة في الأوراق أيضاً، فإنّ تلك النكتة العقلائية إن كانت هي الموثرة _ وهي ثبوت الربح بلا مقابل مثلاً _ لا تكون في ما إذا كانت الزيادة في القسم الرديء في مقابل القسم الجيد. اللهم إلّا إذا فرض

348

أنّ تلك النكتة حكمة لتحريم التفاضل علی الإطلاق، وإن كانت قد تتخلّف في بعض الموارد، كما يشهد لذلك تعليل التحريم في بعض الروايات بتلك النكتة، من قبيل: ما ورد بسند غير تام عن علي بن موسي الرضا(علیه السلام): وعلة تحريم الربا لما نهی اللّه(وجل عز) عنه، ولما فيه من فساد الأموال؛ لأنّ الإنسان إذا اشتری الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً، فبيع الربا وشراؤه خسارة علی كلّ حال علی المشتري وعلی البائع، فحرّم اللّه(وجل عز) علی العباد الربا لعلّة فساد الأموال، كما حظر علی السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوّف عليه من فساده حتی يؤنس منه رشد. فلهذه العلّة حرّم اللّه(وجل عز) الربا وبيع الدرهم بالدرهمين.(1)

الوجه الثاني: _ وهو يختص بما إذا كان ما فيه الزيادة مؤجّلاً، وهو الوجه الصحيح _ أنّ الزيادة في الأوراق المؤجلة مشمولة لأدلّة حرمة الربا القرضي من الآيات والروايات وذلك بأحد بيانين:

الأول: أنّ إطلاق الربا يشمل ذلك، فإنّنا لا نحتمل أنّ مجرد الفرق في التكييف بجعله قرضاً أو بيعاً يكون له دخل في صدق عنوان الربا وعدمه، والقرائن التي توجب صرف مطلقات الآيات أو الروايات عن الربا المعاملي لا تشمل هذه المعاملة التي لا تختلف في روحها عن القرض، وذلك من قبيل قوله تعالي: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ﴾(2) أو قوله تعالي: ﴿أَضْعَافَاً مُضَاعَفَهً﴾(3). مما أوجب صرف الآيتين إلی الربا القرضي، فإنّ هذا النحو من المعاملة وهو بين مبلغ من الأوراق نسيئة بمبلغ من نفس الجنس نقداً أقل من ذاك المبلغ، لا يخرج بمثل هذين التعبيرين، كما هو واضح.

 


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص121، الباب الأول من أبواب الربا، ح11.

(2) البقره: 279.

(3) آل عمران: 130.

349

والثاني: أنّنا لو سلّمنا عدم الإطلاق اللفظي فلا نشك في التعدي العرفي، فليس من المحتمل أنّ مجرد تحويل صيغة القرض إلی صيغة البيع المؤجّل يحلّ مشكلة الربا، وإلّا لأمكن حلّ مشكلة الربا من الباب الواسع وبعرضه العريض بلا أيّ استثناء، لإمكان إرجاع كلّ قرض إلی البيع المؤجّل.

أمّا المبادلة بين سنخين من الأوراق، أعني بين عُملتين كالتومان والدولار مثلاً فإذا كانا نقدين فلا إشكال في جوازها، مهما فرضت الزيادة في أحد الطرفين، وأمّا إذا كان أحدهما مؤجّلاً _ بناءً علی عدم قبول شرط القبض في ما سيجيء إن ‌شاء الله من البحث في المسألة الرابعة _ فإن لم يجعل للأجل قسط من الزيادة فلا إشكال في ذلك؛ وإن جعل للأجل قسط من الزيادة فالبيان الأول من البيانين اللذين ذكرناهما _ وهو دعوی الإطلاق اللفظي _ لا يأتي في المقام ولكن البيان الثاني _ وهو التعدّي العرفي _ قد يتمّ في المقام.

المسألة الرابعة: إنّ الأوراق الاعتبارية هل تلحق بالذهب والفضّة في شرط القبض أو لا؟

ومقصودنا هنا هو شرط القبض في مبادلة الذهب بالفضّة لا الذهب بالذهب أو الفضّة بالفضّة؛ إذ لا إشكال في مبادلة الذهب بالذهب أو الفضّة بالفضّة بلا تفاضل من دون شرط القبض، إلّا إذا اشترطنا القبض في مطلق المتجانسين أو عدم النسيئة، فإن اشترطنا القبض أو عدم النسيئة في مطلق المتجانسين كان ذلك شرطاً أيضاً في الذهب وفي الفضّة وفي الأوراق الاعتبارية، وعدم النسيئة أعمّ من القبض. وتحقيق المطلب موكول إلی محلّه.

أمّا شرط القبض في مبادلة الذهب بالفضّة فهو الوارد في روايات عديدة(1)معارضة

 


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص167، الباب2 من أبواب الصرف.

350

بروايات أخری(1)والمشهور علی الأوّل. وأصل البحث موكول إلی محلّه، إلّا أنّ الذي نريد أن نقوله هنا هو أنّه بناءً علی شرط القبض في مبادلة الذهب بالفضّة فهل نتعدّی من ذلك إلی الأوراق الاعتبارية إذا كانت من سنخين _ أي كانت المبادلة بين عملتين _ أو لا؟

الظاهر أنّ التعدّي مشكل؛ لأنّ ذلك حكم تعبّدي بحت لا نعرف ملاكه، ولا يستبعد العرف الفرق، خصوصاً وأنّ الحكم لم يكن مخصوصاً بالمسكوكين حتی يحمل علی مطلق النقد الرائج، اللهم إلّا أن يقال إنّ الذهب والفضّة لهما حظّ من النقدية والثمنية ولو لم يكونا مسكوكين، وإنّ الحكم بوجوب القبض كان بهذا اللحاظ.

المسألة الخامسة: هل يمكن تصحيح الزيادة وتخريجها فقهياً في الأوراق الاعتبارية في القرض إذا لم تزد علی مقدار التضخّم أو لا؟ وما هو حكم النقيصة لدی فرض انخفاض التضخّم؟ وكذلك الحال في سائر الضمانات كضمان الغصب مثلاً. ولتصحيح أخذ الزيادة في قرض الأوراق الاعتبارية من دون لزوم الربا وجهان:

الوجه الأوّل: أنّ هذه الأوراق قوّة شرائية متجسّدة، فحينما أقرضه مقداراً من القوة الشرائية فقد انشغلت ذمّة المدين بذاك المقدار، وعليه أن يردّ في وقت الأداء نفس ذاك المقدار من القوّة الشرائية فإذا انخفضت القوّة الشرائية للأوراق بازدياد التضخّم كان عليه إرجاع كميّة أكبر من تلك الأوراق تساوي قوّتها الشرائية التي اقترضها قبل ذلك.

وهذا التخريج كما يخرّج الزيادة لدی شدّة التضخّم كذلك يخرج النقيصة لدی انخفاض التضخّم، أي أنّه لدی انخفاض التضخّم يكون من حقّ المدين أن يدفع مبلغاً أقل مما أخذه من الأوراق، وتكون النقيصة بمقدار ما يناسب انخفاض التضخّم؛

 


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص167، الباب2 من أبواب الصرف.

351

لأنّه كان قد استدان منه في الحقيقة قوّة شرائية، والآن عليه أن يردّ نفس تلك القوّة وهي متجسّدة اليوم في مبلغ أقل من تلك الأوراق.

هذا وقد عرفت في ما سبق بطلان هذا المبنی، وأنّ افتراض تجسّد أمر معنوي وهو القوّة الشرائية ليس عرفياً.

والوجه الثاني: وهو أقوي الوجهين: أنّ هذه الأوراق أموال اعتبارية تحمل قوّة شرائية، وهي أموال مثلية تكون قوّتها الشرائية من صفات المثل، فلابدّ من الاحتفاظ بها لدی الأداء، ولذا يجب إرجاع مبلغ أكبر لدی ضعف القوة الشرائية في وقت الأداء بالتضخّم.

وهذا الوجه يخرّج الزيادة لدی شدّة التضخّم، ولكنه لا يخرّج النقيصة لدی انخفاضه، فالمقترض مدين بصفة القوّة الشرائية وبكميّة المال أيضاً، فإذا ارتفعت القوّة الشرائية كان عليه ردّ نفس المقدار من الأوراق حفاظاً علی الكميّة، وإذا انخفضت القوّة الشرائية كان عليه ردّ مقدار أكبر حفاظاً علی صفة القوة الشرائية.

وقد يورد علی هذا الوجه: أنّ اختلاف القوّة الشرائية ليس مخصوصاً بالأوراق الاعتبارية، بل الذهب والفضّة قديماً أيضاً كانا يبتليان باختلاف القوّة الشرائية صعوداً تارةً ونزولاً أُخری، وباختلاف القيمة السوقية لدی مقايسة أحدهما بالآخر، وكلّ هذا لم يكن يؤثّر في تحريم الزيادة واعتبارها رباً ومشموليتها لقوله تعالی: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾(1).فلماذا يفترض ذلك مؤثراً في الحكم بالنسبة للأوراق الاعتبارية؟

بل إنّ اختلاف القوّة الشرائية أمر يعتري جميع السلع، فكلّ سلعة من السلع قد تضعف قوّتها الشرائية أو تقوی بسبب كثرة العرض أو الطلب أو قلته أو بأي سبب آخر، ولا تعتبر القوّة الشرائية من صفات المثل التي يجب الاحتفاظ بها من قبل المدين لدی

 


(1) البقرة: 279.