تزكية النفس من منظور الثقلين (8)
محــاســبة النفس (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَات لاُِوْلِي الألْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار. رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ. رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِل مِّنكُم مِّن ذَكَر أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْض فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾(1)
ومن مقدّمات السلوك إلى الله التفكّر والتذكّر. وقد قيل: إنّ التذكر فوق التفكّر؛ لأنّ التفكّر يكون عند احتجاب القلب بصفات النفس، فيلتمس الإنسان البصيرة المطلوبة، والتذكّر يكون عند رفع الحجاب، وخلوص خلاصة الإنسانية من قشور صفات النفس، والرجوع إلى الفطرة الأُولى، فيتذكّر ما انطبع فيها في الأزل من التوحيد والمعارف بعد النسيان بسبب التلبّس بغواشي النشأة، وقد يكون التذكّر للمعاني التي حصلت بالتفكّر بعد نسيانها(2).
وعلى أيّة حال، فالتفكّر والتذكّر أمران متفاعلان، وأحدهما يدعو إلى الآخر، فإنّ التفكّر يورث التذكّر لما نسيه بسبب أغشية النفس، كما أنّ التذكّر يورث الانتباه، ومن ثمّ يدعو إلى مزيد من التفكير.
والأمر بالتذكّر وارد في القرآن الكريم بكثرة كاثرة، كقوله تعالى: ﴿... أولم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر...﴾(3) ﴿... مالكم من دونه وليّ ولا شفيع أفلا تتذكّرون﴾(4) ﴿فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون﴾(5) إلى غير ذلك منالآيات.
وكأنّ أحد أغصان التذكّر المهمّة المأمور بها في القرآن هو: تذكّر ما عُهِدَ إلينا في عالم الذر المنطبع في الفطرة سواءٌ فرضنا عالم الذرّ نفس عالم الفطرة، أو عالماً أسبق به تكوّنت الفطرة الطاهرة، فإنّ أغشية النفس أذهلتنا عن ذلك ولا نذكرها، ولكنّنا نستطيع أن نتذكّرها بمعنى: الرجوع إلى الفطرة والتفتيش عمّا فيها والحصول عليها، فقوله تعالى مثلاً: ﴿... أولم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر...﴾ يعني: أنّ المقدار الذي تفضّلنا به عليكم من العمر كاف لوجدانكم لما هو الكامن في فطرتكم من التوحيد والمعارف.
وقد رُتِّبَ التذكّر في القرآن تارة على الإنابة، وأُخرى على اللّب، قال الله تعالى: ﴿... وما يتذكّر إلّا من ينيب﴾(1) وقوله تعالى: ﴿... إنّما يتذكّر أولو الألباب﴾(2).
أمّا التفكّر فله أقسام كثيرة، منها ما يلي: فقد يكون تفكّراً في آيات الله كما أشارت إليه الآيات التي بدأنا بها الحديث ﴿ان في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأُولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض...﴾ وهذا تفكّر يبعث بمعرفة الله وبالتوحيد، وفي نفس الوقت يبعث بالتذكير بالوظائف وضرورة الطاعة والإيمان والهرب من العذاب؛ ولهذا أعقبه الله ـ سبحانه ـ بقوله: ﴿... ربّنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار. ربّنا إنّك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار. ربّنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربّكم فآمنّا ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيئاتنا وتوفّنا مع الأبرار...﴾ وأُخرى يكون التفكّر في نعم الله وآلائه، وثالثةً في كتاب الله أو في المناجاة والدعاء والصلاة، كما قال رسول الله (صلى الله عليه و آله) فيما ورد في وصاياه لأبي ذرّ: «... يا أبا ذرّ ركعتان مقتصدتان في تفكّر خير من قيام ليلة والقلب ساه»(3) ورابعةً في النفس وحالاتها ومهالكها وأساليب علاجها ونجاتها، وخامسةً في العِبَر المؤثّرة فيالنفس، كما ورد عن الحسن الصيقل قال: «سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عمَّا يروي الناس: أنّ تفكّر ساعة خير من قيام ليلة، قلت: كيف يتفكّر؟ قال: يمرّ بالخربة أو بالدار فيقول: أين ساكنوك، أين بانوك، مالكِ لاتتكلمين»(4).
ومن هذا النمط الكلام المرويّ عن إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام): «... واعلموا عباد الله أنّكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى قبلكم، ممّن كان أطول منكم أعماراً، وأعمر دياراً، وأبعد آثاراً، أصبحت أصواتهم هامِدَة، ورياحهم راكِدة، وأجسادهم بالية، وديارهم خالية، وآثارهم عافية. فاستبدلوا بالقصور المشيّدة، والنمارق الممهّدة، الصخور والأحجار المسنّدة، والقبور اللاطئة المُلحّدة التي قد بُنيَ بالخراب فِناؤها، وشيد بالتراب بناؤها، فمحلُّها مقترب، وساكنها مغترب بين أهل محلّة موحشين، وأهل فراغ متشاغلين، لايستأنسون بالأوطان، ولايتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار ودنوّ الدار، وكيف يكون بينهم تزاور وقد طحنهم بِكَلْكَلِهِ البِلى، وأكلتهم الجنادِل والثَّرَى...»(1).
وقد روي أنّه «سُئِلَ عيسى (عليه السلام) مَنْ أفضل الناس؟ قال: مَنْ كان منطقه ذكراً، وصمته فكراً، ونظره عبرةً»(2).
وعن الصادق (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: نبّه بالتفكّر قلبك، وجافِ عن الليل ساجداً، واتّقِ الله ربّك»(3).
وإنّني أختم الحديث في هذا الفصل بذكر روايتين واردتين بشأن الآيات المباركات التي افتتحنا بها هذا الفصل:
الأُولى ـ رُوي عن ابن عمر(4) قال: «قلت لعائشة: أخبريني بأعجب مارأيت من رسول الله (صلى الله عليه و آله)؟ فبكت وأطالت، ثُمّ قالت: كلُّ أمره عجب، أتاني في ليلتي، فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي، ثُمّ قال لي: يا عائشة هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربّي؟ فقلت: يا رسول الله إنّي لأُحبّ قربك، وأُحبّ مرادك، قد أذنت لكَ، فقام إلى قِرْبة من الماء في البيت، فتوضأ ولم يكثر من صبّ الماء، ثُمّ قام يصلّي، فقرأ من القرآن، وجعل يبكي، ثُمّ رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلّت الأرض، فأتاه بِلال يؤذنه بصلاة الغداة، فرآه يبكي، فقالله: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبكَ وما تأخّر؟! فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكوراً، ثُمّ قال: مالي لا أبكي وقد أنزل الله في هذه الليلة: ﴿إن في خلق السماوات والأرض...﴾ ثُمّ قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها. وروي: ويل لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأمّل فيها».
والثانية ـ ما رُوِيَ عن حبّة العرني: قال: «بينا أنا ونوف نائمين في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين (عليه السلام) في بقيّة من الليل واضعاً يده على الحائط شبيه الواله وهو يقول: ﴿إن في خلق السموات الأرض...﴾ قال: ثُمّ جعل يقرأ هذه الآيات، ويمرّ شبه الطائر عقله، فقال لي: أراقد أنت ياحبّة أم رامق؟ قال: قلت: رامق، هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن؟ فأرخى عينيه فبكى، ثُمّ قال لي: ياحبّة إنّ لله موقفاً، ولنا بين يديه موقفاً لا يخفى عليه شيء من أعمالنا، يا حبّة إنّ الله أقرب إليّ وإليك من حبل الوريد، يا حبّة إنّه لن يحجبني ولا إيّاك عن الله شيء. قال: ثُمّ قال: أراقد أنت يا نوف؟ قال: قال: لا يا أمير المؤمنين ما أنا براقد، ولقد أطلت بكائي هذه الليلة، فقال: يا نوف إن طال بكاؤك في هذا الليل مخافة من الله تعالى قرّت عيناك غداً بين يدي الله عزّ وجلّ...»(1).
الاعتصام والفرار
قال الله تعالى: ﴿وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون﴾(2).
وقال عزّ وجلّ: ﴿إلّا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين﴾(3).
وقال عزّ من قائل: ﴿واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير﴾(4).
وقال جلّ جلاله: ﴿فأمّا الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيما﴾(5).
وقال سبحانه وتعالى: ﴿ففرّوا إلى الله إنّي لكم منه نذير مبين﴾(6).
قد فسّر بعض الاعتصام بالله والاعتصام بحبل الله الواردين في القرآن الكريم: بأنّ الثاني هو: الاحتماء بطاعة الله، وهو اعتصام عامّة الناس. والأوّل هو: الانقطاع إلى الله عن كلّ موهوم، وذلك إمّا بمعنى الإعراض عمّا عداه، والتمسّك به وحده، وهو اعتصام الخاصّة، أو بمعنى الاتصال الذي يعني الوصول إلى شهود الحقّ تفريداً، وهو اعتصام خاصّة الخاصّة(1).
أقول: الاعتصام معناه: الدخول في عصمته وحصنه، والاحتماء به على اختلاف درجات ذلك باختلاف درجات عرفان العبد.
وتعابير القرآن اتَّفقت على الاعتصام بالله، أمّا الاعتصام بحبل الله فلم يرد إلّا في مورد واحد. والظاهر أنّ سبب الفرق هو: أنّ المقصود في باقي الموارد في القرآن كان هو بيان أنّ الحصن الوحيد الواقي من جميع الأخطار هو الله تعالى، فلابدّ من الاعتصام بعصمته بالشهادة المخلصة بالوحدانية. وفي خصوص المورد الذي عُبّر بالاعتصام بحبل الله كان الكلام عن توحيد الصفّ وعدم التفرّق، فناسب التعبير بالحبل الذي هو عِقد يوحّد المفردات المختلفة، وإشراب الاعتصام معنى التمسك، فالمعنى ـ والله العالم ـ تمسّكوا بحبل الله، وتوحّدوا بذلك ولا تفرّقوا. وقد فُسّر حبل الله في أكثر رواياتنا بعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أو بالائمة المعصومين (عليهم السلام) (2).
ومن الروايات الطريفة الواردة بشأن الاعتصام بالله ما ورد عن عبدالله ابن سنان بسند صحيح، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: «أيّما عبد أقبل قِبَل ما يحبّ الله عزّوجلّ أقبل الله قِبَل ما يحبّ، ومَنْ اعتصم بالله عصمه الله، ومَنْ أقبل الله قِبَله وعصمه لم يبال لو سقطت السماء على الأرض، أو كانت نازلة نزلت على أهل الأرض فشملتهم بليّة، كان في حزب الله بالتقوى من كلّ بليّة، أليس الله يقول: ﴿إنّ المتّقين في مقام أمين﴾»(3).
وأمّا الفرار إلى الله فهو قريب المعنى من الاعتصام بالله، إلّا أنّ الاعتصام يشتمل على التركيز على الجانب الإيجابي، وهو: الالتجاء إلى الله، والفرار يشتمل على التركيز على الجانب السلبي، وهو: الهروب ممّا يخاف منه.
وعلى أيّة حال، فالاعتصام بالله والفرار إليه ممّا لابدّ منه في تزكية النفس؛ إذ لا حول ولا قوّة إلّا به: ﴿...ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً...﴾(1).
الرياضة ومجاهدة النفس
قال الله تعالى: ﴿وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى. فإنّ الجنة هي المأوى﴾(2).
وقال عزّ من قائل: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين﴾(3).
لاشكَّ في أنّ النفس أمّارة بالسوء، وميّالة للكسل، والدِّعة، ومحبّة للتحرّر من قيود الدين ﴿بل يريد الإنسان ليفجر أمامه﴾(4) إذن لا يمكن حبسها على سبيل الخير والإصلاح إلّا بترويضها ومجاهدتها.
وأيضاً من خواصّ النفس أنّها تخادع نفسها، وتغطّي الحقيقة، وتجعل الإنسان غافلاً عن معايبه، فلابدّ من رياضة النفس ومجاهدتها في كشف المعايب، كما لابدّ من الرياضة في رفعها وتصفية النفس منها.
وقد ذكر بعض(5) أنّ هناك طرقاً أربعة لكشف معايب النفس ينبغي سلوك بعضها؛ لكشف تلك العيوب لغير من كملت بصيرته، فإنّ الله ـ تعالى ـ إذا أراد بعبد خيراً بصّره بعيوب نفسه، فمن كملت بصيرته لم تخْفَ عليه عيوبه، وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكنّ أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه، ولا يرى الجذع في عين نفسه، فمن أراد أن يقف على عيوب نفسه فله أربع طرق:
الأوّل ـ أن يجلس بين يدي بصير بعيوب النفس، مطّلع على خفايا الآفات، فارغ عن تهذيب نفسه، فيحكّمه على نفسه، ويتّبع إشاراته في مجاهدته، ومَنْ وجد ذلك فقد وجد الطبيب، فليلازمه، فهو الذي يخلّصه من مرضه، وينجيه من الهلاك، إلّا أنّ هذا قد عزّ في هذا الزمان وجوده.
والثاني ـ أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً، فينصبه رقيباً على نفسه؛ ليراقب أحواله وأفعاله، فما يكرهه من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة والظاهرة ينبّهه عليه حيث قد تغفل النفس عن عيوب نفسه ولكن تلتفت إلى عيوب غيره، فإن كنتُ أغفل أنا عن عيوب نفسي كان بإمكاني أن أستعين في كشفها بغيري من صديق صدوق متديّن بصير، فهكذا كان يفعل الأكابر، وكان بعضهم يقول: رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي، وكلّ مَنْ كان أوفر عقلاً، وأعلى منصباً كان أقلّ إعجاباً، وأعظم اتّهاماً لنفسه.
إلّا أنّ هذا ـ أيضاً ـ قد قلّ وعزّ، فإنّ الصديق قد يكون حسوداً، أو صاحب غرض، أو يكون صديقاً حقّاً، ولكنّه يداهنك بإخفاء عيبكَ عليك(1)، وقلّ الصديق الذي يترك المداهنة فيخبر بالعيب.
وقد كانت شهوة ذوي الدين أنّ ينبَّهوا على عيوبهم بنصيحة غيرهم. وإذا بِنا يكون أبغض الخلق إلينا من ينصحنا، ويعرّفنا عيوبنا، ويكاد يكون هذا مفصحاً عن ضعف الإيمان.
والثالث ـ أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من لسان أعدائه، فإنّ عين السخط تبدي المساوي، ولعلّ انتفاع الإنسان بعدوّ مشاحن يذكر عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه، ويمدحه، ويخفي عنه عيوبه، إلّا أنّ الطبع مجبول على تكذيب العدوّ، وحمل ما يقوله على الحسد، ولكنّ البصير لا يخلو من الانتفاع بقول اعدائه، فإن مساويه لابدّ وأنّ تنتشر على ألسنتهم.
الرابع ـ أن يخالط الناس، فكلّ ما يراه مذموماً فيما بين الخلق يطالب نفسه بتركه، وما يراه محموداً يطالب نفسه به؛ لأنّ الإنسان يعمى عن رؤية عيوب نفسه، ولكنّه يرى عيوب غيره، إذن فبإمكانه أن يعرف أولاً عيوب الآخرين، ثُمّ يسري الأمر إلى نفسه عن طريق المقايسة، فيتفقّد نفسه، ويطهّرها من كلّ ما يذّمه من غيره، كما ويحاول ارتداء ما يراه محموداً من غيره، وناهيك بهذا تأديباً، فلو ترك الناس كلُّهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدِّب. انتهى ملخصاً وبشيء من التصرف في الألفاظ.
وأمّا روايات مجاهدة النفس فنقتصر على ذكر بعضها، نرويها عن كتاب الوسائل(1):
1 ـ «إن النبيّ (صلى الله عليه و آله) بعث سريّة، فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله ما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس».
2 ـ عن الصادق (عليه السلام): «احمل نفسك لنفسك، فإن لم تفعل لم يحملك غيرك».
3 ـ عن الصادق (عليه السلام) قال لرجل: «إنّك قد جُعِلت طبيب نفسك، وبُيّن لك الداء، وعرفت آية الصحة، ودللت على الدواء، فانظر كيف قيامك على نفسك».
4 ـ عن الصادق (عليه السلام) قال لرجل: «اجعل قلبك قريناً برّاً وولداً واصلاً، واجعل علمك والداً تتّبعه، واجعل نفسك عدوّاً تجاهده، واجعل مالك عارية تردّها».
5 ـ عن الصادق (عليه السلام): «مَنْ لم يكن له واعظ من قلبه وزاجر من نفسه ولم يكن له قرين مرشد استمكن عدوّه من عنقه».
6 ـ عن الصادق (عليه السلام): «مَنْ ملك نفسه إذا رغب، وإذا رهب، وإذا اشتهى، وإذا غضب، وإذا رضي، حرّم الله جسده على النار».
السماع
ذكر بعض أهل العرفان الكاذب المنحرف عن خطّ أهل البيت (عليهم السلام) أنّ من بدايات السلوك إلى الله الالتزام الهادف بالسَماع؛ لأنّ السَماع ـ وهو الغناء ـ يحدو كلّ أحد إلى مقصده، فيؤثّر في نفس السالك إلى الله ـ أيضاً ـ في حدوه إلى مقصده الخاص به(1).
ومن المضحك استشهاده(2) لذلك بقوله تعالى: ﴿لو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم...﴾(3).
في حين أنّه لا علاقة للسماع بمعنى الغناء بسماع الخير والهداية، إلّا توهّمه الذي ذكرناه آنفاً، وحتى لو غضضنا النظر عمّا هو ثابت في فقه أهل البيت (عليهم السلام) من حرمة الغناء نقول:
إنّ السَماع يحرّك في النفس الهواجس الكامنة تحريكاً لهويّاً، وليس السالك إلى الله مفنياً ومُنهيا لتلك الهواجس، وغاية ما يفترض بشأنه سيطرته عليها لمحاولة خنقها كالنار تحت الرماد، والسماع يُذكيها مرّة أُخرى، ويسلك بصاحبه إلى الشيطان لا إلى الله.
إلّا أنّ الذي ينحرف عن خط أهل البيت (عليهم السلام) لا نتوقّع منه أكثر من هذا الفهم ﴿... ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور﴾(4).
ويقول السيد الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) نقلاً عن استاذ له: إنّ أكثر ما يسبّب فقد الإنسان العزم والإرادة هو استماع الغناء(5).
الحزن
قال الله تعالى: ﴿ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حَزناً أن لا يجدوا ما ينفقون﴾(6).
قيل بشأن نزول هذه الآية المباركة: إنّ سبعة من فقراء الأنصار جاؤوا الى الرسول (صلى الله عليه و آله) وطلبوا منه تمكينهم ممّا يمكّنهم من الاشتراك في الجهاد، فاعتذر منهم رسول الله (صلى الله عليه و آله) بعدم وجدانه لذلك، فتولّوا وأعينهم تفيض من الدمع، فنزلت هذه الآية بشأنهم، وعُرِفوا بعد ذلك باسم البكّائين(1).
الحزن قد يكون بمعنى التوجّع على ما فات ممّا يقبل التدارك بمثل القضاء أو التوبة أو نحو ذلك، وأُخرى يكون بمعنى التأسّف على الممتنع كما في مورد الآية المباركة.
وعلى أي حال، فهو آية الإيمان، وعلامة الشوق إلى الخير والى الله سبحانه وتعالى، ويسبّب دفع الإنسان ـدائماً ـ إلى جهة الكمال. ومن فوائده في موارد إمكان التدارك البعث إلى التدارك، ومن فوائده ـ أيضاً ـ دفع السرور الزائد الذي يميت القلب، ويبعث إلى التميّع وعدم المبالاة في أقلّ تقدير، ويسبّب الأشر والبطر، وذلك من المهلكات.
وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): في الخطبة المعروفة بخطبة همام أو خطبة المتّقين التي أوردها سلام الله عليه في ذكر أوصاف المتّقين: «... قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أيّاماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة. تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم. أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها. أمّا الليل فصافّون أقدامهم، تالين لاجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم...»(2).
ولا يخفى أنّ الحزن بالمعنى الذي يشلّ الإنسان عن العمل الاجتماعي، وعن الانشراح مع إخوانه المؤمنين، ويوجب انقباضه عن الناس، وانقباض الناس عنه، إنّما يناسب أهل العرفان الكاذب. أمّا العارف الصحيح فحزنه يكون كامناً في قلبه، يمنعه عن الأشر والبطر والبطالة، ولكنّ بشره في وجهه، محبّب إلى الناس، وجلاّب لعواطف القلوب، ومهتمّ بقضاء حوائج المؤمنين الخاصّة، وبهموم المسلمين والاسلام العامّة.
وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «المؤمن بِشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأذلّ شيء نفساً، يكره الرِفعة، ويشنأُ السُمعة، طويل غمّه، بعيد همّه، كثير صمته، مشغول وقته، شكور، صبور، مغمور بفكرته، ضنين بخلّته، سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلب من الصلد، وهو أذلّ من العبد»(1).
قوله (عليه السلام): «المؤمن بشره في وجهه، وحزنه في قلبه» إنّ هاتين الصفتين تكاسر إحداهما الأُخرى، وترفع الآثار السيئة عنها، فإنّ الحزن وحده يؤدّي إلى الانكماش عن المجتمع وعن الأعمال الاجتماعية، كما أنّ البِشر لو كان وحده يؤدّي إلى البطالة والبطر، ولكن متى ما اجتمع الحزن الإلهي في القلب مع البِشر المأمور به المؤمن أمام الناس، يتم الإعتدال، وتكون كلّ من الصفتين كمالاً محضاً، ونافعاً له ولمجتمعه ولدينه ودنياه وآخرته.