ولكن السيّد الخوئي(رحمه الله) أبطل بنفسه هذه الرادعيّة ببيان أنّ تلك الأدلّة وإن كانت ظاهرة في اشتراط الحياة في المفتي لكنّها ليست بذات مفهوم حتّى تنفي جواز تقليد الميّت.
ولعلّ في عبارة التنقيح مسامحة في المقام؛ لأنّنا لو سلّمنا ظهور تلك الأدلّة في اشتراط الحياة فهي لا محالة تنفي جواز تقليد الميّت؛ لعلمنا بأنّه لا يوجد للتقليد إلّا جواز واحد إمّا مطلق وإمّا مخصوص بالحيّ، وليس للتقليد حكمان متسانخان أحدهما في الحيّ والآخر في الميّت حتّى يقال: إنّ قيد الحياة قيد لشخص الحكم ولا يدل بالمفهوم على انتفاء سنخ الحكم لدى انتفائها.
فلعلّ المقصود الواقعي للسيّد الخوئي(رحمه الله) أنّ قيد الحياة الظاهر من الأدلّة اللفظيّة وإن ضيّق دلالة اللفظ وأبطل شمول إطلاق الأدلّة للفقيه الميّت لكنّه ليس ظاهراً في كونها قيداً احترازيّاً وشرطاً في التقليد؛ لأنّ الممكن المألوف وقتئذٍ كان هو تقليد الحيّ، فهذا القيد مأخوذ من الواقع الخارجي سنخ ما يقال في: ﴿رَبَائِبُكُمُ اللَّاتݪݪݪݪݪِي فݪݪݪݪݪݪݪِي حُجُورِكُمْ﴾.
ولولا أنّه(رحمه الله) أبطل رادعيّة تلك الأدلّة اللفظية عن تقليد الميّت ولم يؤمن بها لكان يرد عليه: أنّه يلزم من ذلك قبول هذه الرادعيّة في باب الرواية
(1) النساء: 23.
أيضاً؛ لأنّ تلك الأدلّة اللفظية ليست دليلاً على التقليد فحسب، بل هي تدل على حجّية خبر الثقة أيضاً، فتدل على تخصيص بحجّية خبر الثقة بفرض حياة المخبر، فلو كان لدينا نصّ على حجّية خبر الثقة مطلق شامل لخبر الميّت لكانت هذه الروايات مخصَّصة له، ولو كان لدينا ارتكاز أو سيرة يدلّان على جواز الأخذ بخبر الميّت لكانت هذه الأدلّة رادعة عن الارتكاز وتلك السيرة.
ثم إنّ السيّد الإمام(رحمه الله) أبطل التمسّك ببناء العقلاء في المقام بأنّ بناء العقلاء إنّما يصبح حجّة بإمضاء الشريعة الذي يثبت بعدم الردع، وهذا إنّما يكون في بناء تمّ سريانه إلى الشريعة في زمن المعصوم كي يكون سكوت المعصوم دليلاً على الرضا، وهذا غير متحقّق في باب التقليد؛ إذ إنّه في زمن المعصوم لم يكن من المتعارف وجود رسائل عمليّة مشتملة على فتاوى الفقيه كي يمكن أو يسهل تقليد الميّت لبقاء الرسالة بعد وفاة الفقيه، فتقليد الميّت ابتداءً وقتئذٍ لم يكن ممكناً أو سهلاً ومتعارفاً، إذاً فالبناء العقلائي غير ثابت الإمضاء، بل هذا يوجب انصراف الأدلّة اللفظية أيضاً عن تقليد الميّت ابتداءً.
أقول: إنّ انصراف الأدلّة اللفظية إن فرض أنّه بسبب عدم وجود
(1) راجع الرسائل، ج2، ص157 _ 159؛ وتهذيب الأُصول،ج3، ص202 _ 204.
تقليد من هذا القبيل وقتئذٍ لانصراف الدواعي عمّا ليس بسهل إلى ما هو سهل وهو تقليد الحيّ أو لعدم إمكان تقليد الميّت فمن الواضح أنّ عدم الوجود بالنسبة لمصداق لا يوجب انصراف الإطلاق عنه، وإن كان بسبب أنّ السيرة توجب انصراف اللفظ الوارد في مقام الإمضاء إليها والسيرة لم تتحقّق في تقليد الميّت الابتدائي، فمن الواضح أنّ هذا الانصراف يكون انصرافاً إلى ما عليه الارتكاز بسعته، وإذا كانت السيرة العملية أضيق من دائرة الارتكاز بسبب انتفاء الموضوع خارجاً لم يوجب ذلك ضيقاً في إطلاق اللفظ الممضي لما عند العقلاء؛ فإنّ ما عند العقلاء إنّما هو ارتكازهم لا خصوص سيرتهم التي ضاقت صدفة بضيق الموضوع الخارجي لا بضيق بنائهم.
وأمّا أنّ السكوت لا يدل على إمضاء ارتكاز العقلاء إلّا بقدر ما يترجم في عملهم خارجاً في زمن المعصوم أو بقدر ما يسري إلى الشريعة من قبلهم فهذا إن تم فلا يتم فيما يترقّب سريانه إلى الشريعة في وقت قريب، والتقليد كان من هذا القبيل، خصوصاً بلحاظ أزمنة الأئمّة المتأخّرين.
وأمّا الاستصحاب فقد نقلنا عن السيّد الخوئي(رحمه الله) إشكالين على ذلك:
أحدهما: كونه استصحاباً في الشبهات الحكمية، وهذا ما وضّحنا وأجبنا عليه في علم الأُصول، فنحوّل الحديث عنه إلى بحث الاستصحاب.
وثانيهما: أنّ الاستصحاب لا يتم في شأن من لم تصبح حجّية فتوى هذا الفقيه في حال حياته فعليّة بالنسبة له _ كالذي لم يكن متولّداً في ذاك التاريخ _ اللهمّ إلّا بنحو الاستصحاب التعليقي، وهو غير حجّة.
وهذا الإشكال متين.
ثم لو لم يتم شيء ممّا ذكرناه من إمكانيّة التمسّك بالمطلقات وبالارتكاز وبالاستصحاب لإثبات جواز تقليد الميّت وبقينا شاكّين في ذلك فالذي يبدو أنّ السيّد الخوئي(رحمه الله) يرى أنّ الأصل عدم حجّية فتوى الميّت باعتبار أنّ المتيقّن حجّيته إنّما هي فتوى الحيّ، وأمّا فتوى الميّـت فهي مشكوكة الحجّية، ومقتضى الأصل لدى الشكّ في الحجّية هو عدم الحجّية.
والتحقيق أنّه لو تنجّزت الأحكام على المكلّف بالعلم الإجمالي فلابدّ من تحصيل الفراغ اليقيني، وهذا لا يكون إلّا بتقليد الحيّ. أمّا لو كان المقدار المتّفق عليه بين الحيّ والميّت كافياً في انحلال العلم الإجمالي فهنا قد يقال بالرجوع إلى أصالة البراءة عن الإلزام في مورد يفتي الحيّ بالإلزام والميّت بالترخيص؛ لأنّ أصالة البراءة وإن كانت
مشروطة في الشبهات الحكمية بالفحص، ولكن فحص المقلّد عبارة عن الرجوع إلى فتاوى الفقهاء. أمّا إذا ناقشنا في كون ذلك فحصاً موجباً لجريان البراءة _ كما لا يبعد ذلك _ فالحقّ إذاً هو إجراء أصالة عدم حجّية فتوى الميّت. ولكن الواقع أنّه لم تصل النوبة إلى هذا الأصل؛ لأنّ المطلقات والارتكاز تدل على الحجّية.
وعلى أيّ حال فقد اتّضح بكل ما ذكرناه أنّ عنوان الحياة والموت بما هما ليسا دخيلين في حكم التقليد وأنّ تقليد الميّت ابتداءً جائز كتقليد الحيّ.(1)
1. عدل سماحة السيد المؤلف عن هذا الرأي وأوضح ذلك بما يلي: لا يجوز تقليد الميّت ابتداءً؛ وذلك للحديث الذي أتممناه سنداً ودلالةً على ولاية الفقيه في كتابنا (ولاية الأمر في عصر الغيبة)، وهو قول الحجّة(عجل الله تعالى فرجه الشريف): «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله». وسائل الشيعة، ج27، ص140، الباب11 من أبواب صفات القاضي، ح9.
وهذه الرواية تدلّ على مقام الولاية في أخذ الأحكام وفي الموضوعات كنصب الوليّ على القاصر مثلاً من رواة الحديث، وبما أنّ الثاني مخصوص بالحيّ فليس الميّت قادراً مثلاً على نصب الوليّ على القاصر، فمقتضی وحدة السياق بل ما هو أشدّ من وحدة السياق _ وهو وحدة الولاية في أخذ الأحكام والموضوعات _ هو أنّ أخذ →
مسألة 10: إذا عدل عن الميّت إلى الحيّ لا يجوز له العود إلى الميّت(1).
نعم، عنوان الأعلمية دخيل في حكم التقليد على ما سوف يأتي إن شاء الله، والأعلمية في المدى الطويل من الزمان تكون دائماً في الأحياء، فإنّ الفقيه حينما يموت يتوقّف فقهه عن النموّ، في حين أنّ الأحياء يستوعبون ما كان لديه ويمشون في طريق التكامل، ولا توجد نكتة لأعلمية الميّت في المدى الطويل إلّا نكتة واحدة مخصوصة بما قبل عصر تدوين الجوامع، وهي احتمال عثورهم على روايات وقرائن لم نعثر عليها. وهذا وحده غير كافٍ في المقام؛ فإنّ أكثر نكات الأعلمية الأُخرى تختص بالأحياء؛ لأنّهم هم الذين يواكبون نموّ العلم.
العدول عن الميّت إلی الحيّ ثم العود إلی الميّت
(1) كأنّ المقصود هو أنّ العدول من الميّت إلى الحيّ يجوز حتّى
←
الأحكام الذي يسمّى بالتقليد يختصّ بالحيّ، فمن أخذ حكمه بالتقليد من الحيّ جاز له بقاؤه على تقليده بعد وفاته، كما أنّ نصب الحيّ للوليّ على القاصر مثلاً يبقى بعد وفاته، ومن لم يأخذ حُكمه بالتقليد من الحيّ لم يجز له تقليده بعد وفاته. (لجنة التحقيق).
مع فرض أعلمية الميّت أو على الأقلّ مع التساوي، فإذا عدل إلى الحيّ لا يجوز له الرجوع مرّة أُخرى إلى الميّت؛ لأنّ هذا يصبح تقليداً ابتدائيّاً للميّت؛ لأنّ التقليد عند المصنّف(رحمه الله) عبارة عن الالتزام، وقد عدل التزامه إلى الحيّ، فالرجوع إلى الميّت يعني التزاماً جديداً بفتوى الميّت، وهذا تقليد ابتدائي.
لكن عرفت أوّلاً: أنّ تفسير التقليد بشيء اسمه الالتزام ثم ترتيب الأحكام على ذلك غير صحيح؛ لأنّ التقليد لم يكن موضوعاً ترتّبت على ما له من معنى عرفي أو لغوي أحكام تعبّدية.
وثانياً: أنّه لا فرق بين تقليد الميّت والحيّ نهائيّاً إلّا من ناحية الأعلمية التي تكون في الخطّ الزمني الطويل في الأحياء. إذاً فالعدول من الميّت إلى الحيّ وكذلك العدول ثانياً من الحيّ إلى الميّت حاله حال العدول من الحيّ إلى الحيّ، وذلك جائز حينما يكون عدولاً إلى الأعلم. أمّا مع المساواة فيتوقّف الأمر أوّلاً على الإيمان بالتخيير في التقليد بين المتساويين، وإلّا لكان اللازم من أوّل الأمر الأخذ بأحوط الأقوال، وثانياً على الإيمان بأنّ التخيير استمراري لا ابتدائي، وهذا ما سنبحثه قريباً إن شاء الله.
مسألة 11: لا يجوز العدول عن الحيّ إلی الحيّ إلّا إذا كان الثاني أعلم (1).
التخيير بين تقليد المتساويين
(1) الأولى في المقام هو البحث أوّلاً عن أصل التخيير بين المتساويين، ثم عمّا أفتى به المصنّف هنسا من أنّه لو قلّد فقيهاً مّا إمّا من باب التخيير أو من باب آخر فليس له تخيير استمراري يسمح له بالعدول إلى مرجع آخر غير أعلم، فنحن نقدّم هنا البحث عن أصل التخيير رغم أنّ المصنّف(رحمه الله) تعرض له في المسألة الثالثة عشرة فنقول:
إنّ الكلام تارةً يقع في كيفيّة تصوير التخيير بشكل ممكن ثبوتاً وأُخرى في دلالة الدليل على ذلك إثباتاً.
أمّا البحث الثبوتي في تصوير التخيير فحاصل الكلام في ذلك: أنّ التخيير في باب الواجبات التخييريّة كخصال الكفّارة مرجعه إلى أحد أمرين:
الأوّل: أن يرجع التخيير الشرعي إلی التخيير العقلي بأن يکون الواجب هو الجامع بينها.
الثاني: أن يرجع إلى الوجوبات المشروطة، فكُلّ عدل واجبٌ وجوباً
مشروط بترك الأطراف الأُخرى، ومع ترك الكلّ يتعدّد العقاب من دون أن يلزم من ذلك العقاب على غير المقدور أو العقاب على ترك غير المطلوب؛ لأنّ كلّ واحد منها في ظرف ترك الباقي وبشرط تركه مقدور وقابل للمطلوبيّة.
وكلا هذين التفسيرين له صورة معقولة في المقام:
أمّا التفسير الأوّل: وهو افتراض ثبوت الحجّية بلحاظ الجامع كما كان يقال في باب الوجوب التخييري بوجوب الجامع، فإن قصد بذلك ثبوت الجامع إجمالاً بالتعبّد شبيهاً بما لو ثبت الجامع بالعلم الإجمالي فهذا ينتج وجوب الجمع في العمل بين الفتويين المتعارضتين، كالظهر والجمعة مثلاً، وهذا خلف المقصود في المقام من كون المقلَّد مخيّراً بينهما.
نعم، لو كانت إحدى الفتويين عبارة عن وجوب شيء مثلاً والأُخرى عبارة عن عدم وجوبه فالتعبّد الإجمالي بالجامع لا يوجب الاحتياط؛ لأنّه تعبّد بالجامع بين الإلزام وغير الإلزام. إلّا أنّ هذا وحده غير كافٍ لتبرير جعل الحجّية؛ لأنّ العلم التعبدي من هذا القبيل لا أثر له، وهو مسبوق دائماً بالعلم الوجداني بالجامع بين النفي والإثبات والذي يكون أيضاً خالياً عن التأثير.
وكذلك لو كانت إحدى الفتويين عبارة عن إيجاب شيء و الأُخرى عبارة عن تحريمه، فإنّ هذا يصبح بمنزلة العلم الإجمالي الدائر بين
المحذورين والذي هو فاقد عن التأثير أيضاً.
ولكن بالإمكان تصحيح هذا التفسير بصورة معقولة، وهي افتراض أن يكون المقصود بالحجّية بلحاظ الجامع الحجّية بقدر الجامع بحدّه الجامعي، لا الحجّية السارية إلى الأطراف كحجّية العلم الإجمالي، فهذا ينتج النتيجة المطلوبة.
فلو أفتى أحدهما بوجوب الظهر والآخر بوجوب الجمعة كان المقدار المنجّز على المقلّد هو قدر الجامع الذي يمكن تحقيقه ضمن الظهر ويمكن تحقيقه ضمن الجمعة، وهذا ينتج تخيير المقلَّد في التقليد، وهو المقصود، ولا ينتج لزوم الاحتياط بالجمع.
نعم، هذا لا يكفي لجواز إسناد الفتوى التي يختارها إلى الشريعة بناءً على قيام الأمارة مقام العلم الموضوعي في جواز الإسناد إلى الشريعة؛ وذلك لأنّه لم تصبح تلك الفتوى بخصوصيّتها حجّة. وربّما يسمّى هذا بالتخيير الفقهي.
وأمّا التفسير الثاني: وهو افتراض حجّيتين مشروطتين كما كان يقال في باب الوجوب التخييري بوجوبين مشروطين، فإن قصد بذلك حجّية كلّ من الفتويين على تقدير عدم الأخذ بالأُخری فهذا يعني أنّه لو تركهما معاً أصبحتا معاً حجّة عليه، وهذا خلف مقصود القائل بالتخيير.
ولكن هذا التفسير أيضاً يمكن تصحيحه بصورة معقولة في المقام؛ وذلك بأن يجعل الشرط في حجّية كلّ واحدة من الفتويين هو الأخذ بها لا عدم الأخذ بالأُخری، ولا يتّفق عقلائيّاً الأخذ بکلتيهما حتّى يلزم من ذلك الجمع بين الحجّيتين.
وهذا يعني أنّ أيّ فتوى أخذ بها المقلَّد أصبحت هي الحجّة له.
قد تقول: إنّ بإمكانه ترك الأخذ بهما معاً فتسقط عن الحجّية نهائيّاً، فينجو من التنجيز.
ولكن الجواب: أنّ الأخذ واجب عليه وجوباً طريقيّاً، أي أنّ الواقع منجّز عليه سابقاً إمّا بالعلم الإجمالي بالأحكام، أو بالاحتمال قبل الفحص، أو بإنكار قاعدة قبح العقاب بلا بيان، أو بنفس دليل وجوب الأخذ لو ورد عليه دليل لفظي، ولا يخرج من عهدة هذا التكليف إلّا بالاحتياط أو الاستنباط أو التقليد الذي توقّف حسب الفرض في المقام على الأخذ.
ويترتّب على هذا التفسير للحجّية جواز إسناد الحكم الذي ثبت له من بين الفتويين بالأخذ إلى الشريعة بناءً على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي في جواز الإسناد؛ لأنّه أصبحت تلك الفتوى بخصوصيّتها حجّة له. وربّما يسمّى هذا بالتخيير الأُصولي.
أمّا ما معنى الأخذ الذي ربطت به حجّية الفتوى؟ بعد وضوح أنّه لا يمكن أن يكون المقصود بالأخذ هنا هو العمل؛ لأنّ تقيّد الحجّية بالعمل لا معنى له.
يمكن أن يذكر في المقام للأخذ أحد معنيين:
الأوّل: الالتزام، فبأيّ وجه التزم أصبحت حجّة له، ولكن هذا لا يخلو من غرابتين:
الأُولى: وجوب الموافقة الالتزامية وجوباً طريقيّاً يتوقّف عليه كفاية العمل بتلك الفتوى في الخروج عن العهدة، فإنّ هذا غريب ولم يكن ثابتاً في الفتوى غير المبتلاة بالمعارض.
والثانية: أنّ الالتزام عادةً يكون في طول الحجّية فكيف أصبح هنا موضوعاً للحجّية؟! بل أنّ هذا قد يعتبر تشريعاً محرّماً فكيف جاز هنا؟! ولكن شبهة التشريع قد يجاب عليها بافتراض ثبوت الحجّية قبل الالتزام أو معه، وأنّ الالتزام بمنزلة الشرط المتأخّر أو المقارن، فهو لم يلتزم إلّا بالحجّة.
والثاني: أنّه أُعطي بيده أمر التشريع فهو يشرّع لنفسه حجّية أيّ فتوى شاء. وهذا فيه غرابة جواز التشريع.
ثم إنّ الحجّية بهذا المعنى قد عرفت أنّها تستبطن مؤونة زائدة،
وهي وجوب الأخذ، وعليه فما لم تؤخذ هذه المؤونة في لسان الدليل يصبح ظاهر دليل التخيير هو التخيير بالمعنى الأوّل، وهو ما أسميناه بالتخيير الفقهي، بل حتّى مع أخذ هذه المؤونة في الظهور الابتدائي للسان الدليل لا يبعد القول بأنّ الغرابة التي عرفتها في هذه الحجّية تصرف الدليل إلى المعنى الأوّل للحجّية.
وأمّا البحث الإثباتي للتخيير بين الفتاوى المتعارضة فالتقريب الأوّلي لنفي التخيير وللتعارض والتساقط هو أنّ مقتضى إطلاق دليل التقليد أو حجّية الفتوى هو كون كلّ فتوى من الفتاوى لفقيه جامع للشرائط حجّة، فإذا فرض التعارض بين فتويين في مفادهما فتطبيق دليل الحجّية على إطلاقه على كلا الفتويين غير ممكن، وتطبيقه على إحديهما دون الأخری ترجيح بلا مرجّح، فيكون مقتضى الأصل الأوّلي هو التساقط لا محالة، وهذا عين ما يذكر أيضاً في باب تعارض الروايات.
والتقريب الأوّلي للتخيير في المقام هو ما كان يقوله أُستاذنا المرحوم آية الله الشاهرودي(رحمه الله) من أنّ الأمر بالتقليد ليس إلّا كالأمر بالتوضّي بالماء أو التيمّم بالتراب، أي أنّه أمر بدلي بتقليد فقيه مّا، وكما أنّ المفهوم من الأمر بالوضوء أو الغسل بالماء ليس هو الأمر بالوضوء بكلّ ماء
وكذلك المفهوم من الأمر بالتيمّم بالتراب ليس هو التيمّم بكلّ تراب، بل هو الوضوء بماء مّا أو التيمّم بتراب مّا، والنتيجة هي التخيير بين المياه أو الأصعدة. كذلك الأمر بالتقليد لم يكن يقصد به التقليد عن جميع الفقهاء كي يلزم التعارض والتساقط لدى اختلاف الفتاوى، وإنّما الواجب هو التقليد عن فقيه ما، لا عن كلّ الفقهاء، والنيتجة لا محالة هي التخيير لمكان الإطلاق البدلي.
وأوّل ما يخطر بالبال على هذا الكلام هو النقض بحجّية خبر الثقة، فلم لا نقول هناك أيضاً بأنّ الواجب في كلّ مسألة وردت فيها أخبار من الثقاة هو الأخذ بخبر مّا، وأنّ هذا يوجب التخيير؟! بل يقال هناك إنّ الأصل في الخبرين المتعارضين هو التساقط.
وإن كان هذا النقض غير وارد على خصوص السيّد الشاهرودي(رحمه الله)؛ لأنّه لم يكن يؤمن بحجّية خبر الثقة إلّا عن طريق حصول الاطمينان.
وعلى أيّة حال فما يمكن أن يفترض ملاكاً للتساقط في الفتاوى المتعارضة في مقابل ما نقلناه عن السيّد الشاهرودي(رحمه الله) هو أحد أمرين:
الأمر الأوّل: أن يقال: إنّ دليل التقليد ليس إطلاقه بدليّاً، بل هو شمولي كما هو الأصل في إطلاق الموضوعات، ولو ثبتت البدليّة في مثل التراب في التيمّم أو الماء في الوضوء والغسل بقرينة مّا وهي وضوح
عدم مطلوبيّة التيمّم بكلّ تراب أو الوضوء والغسل بكلّ ماء فلا مبرّر لحمل دليل حجّية الفتوى على البدلية، وإذا كان شموليّاً وقع التعارض الداخلي في إطلاقه بلحاظ الفتويين المتعارضتين والتساقط.
ويمكن الجواب على هذا الوجه بعدّة وجوه:
الأوّل: أنّ روايات التقليد على قسمين:
أحدهما: ما يكون بصيغة الأمر والالتزام أو يحتمل فيه ذلك كقوله: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» فإمّا أن يقال: إنّ هذا إلزام بالرجوع إلى الرواة أو يقال: إنّ معرفة كونه إلزاماً أو مجرّد الإرشاد إلى طريق الحلّ تعود إلى معرفة السؤال المحذوف والذي كان هذا الكلام في التوقيع جواباً له.
وثانيهما: ما ليس قطعاً بصيغة الإلزام، ولا تعطي إلّا الإرشاد إلى طريق لحل مشكلة العمل من قبيل حديث: «أما لكم من مفزع؟!» ، أو حديث: «أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إلیه من معالم ديني؟» ، أو حديث: «للعوام أن يقلّدوه» ،ونحوها من الروايات
(1) وسائل الشيعة، ج27، ص145، الباب11 من أبواب صفات القاضي، ح24.
(2) المصدر السابق، ص147، ح33.
(3) المصدر السابق، ص131، الباب10 من أبواب صفات القاضي، ح20.
التي لا تشتمل على أكثر من الترخيص في التقليد.
فقد نقبل: أنّ صيغة الأمر تدل على الحجّية الشمولية لكلتا الفتويين؛ لأنّها إلزام بالأخذ بهما بعد أن فرضنا أنّ الأصل في إطلاق الموضوع أن يكون شموليّاً لا بدليّاً، وبما أنّه لا يمكن الأخذ بهما في وقت واحد؛ لأنّهما متنافيتان، والأخذ بإحديهما دون الأُخری ترجيح بلا مرجّح فيتساقطان، ولكن صيغة الترخيص أو التجويز لا تدل على أكثر من الحجّية التخييرية أو البدلية.
صحيح أنّه لا الأمر يدل على الوجوب التكليفي ولا الترخيص يدل على الإباحة التكليفية، بل كلاهما إرشاد إلى الحجّية، لكن هناك فرق بين اللسانين، فلسان الأمر والإلزام حينما يكون شموليّاً يكون إرشاداً إلى الحجّية الشمولية، ولا ينسجم مع الحجّية البدلية؛ لأنّ الحجّية البدلية لا تقتضي إلّا الإلزام بأحدها على سبيل البدل، بينما لسان الترخيص حتّى لو كان شموليّاً ينسجم مع الحجّية البدلية؛ لأنّ الحجّية البدلية أو التخييرية تقتضي لا محالة أن نكون مرخّصين في الأخذ بأيّ فتوى شئنا، وبما أنّ مقتضى إطلاق الترخيص هو ثبوته حتّى في فرض تعارض الفتويين، بينما لا يمكن في هذا الفرض إلّا الحجّية التخييرية أو قل: البدلية، إذاً فمقتضى إطلاق دليل الترخيص في
التقليد هو كون حجّية الفتويين المتعارضتين بدليّةً، ولئن كان بعض أدلّة التقليد بلسان الأمر والإلزام أو احتملنا فيه ذلك فيسقط ذاك الدليل في الفتويين المتعارضتين، لكن تبقى الأدلّة الأُخری التي هي بلسان الترخيص والتجويز لا أكثر ثابتة الإطلاق، وتلك كافية لنا.
الثاني: أن نقول أيضاً إنّ هناك فرقاً بين دليل للتقليد يفترض كونه بلسان الأمر ودليل آخر للتقليد يفترض كونه بلسان التجويز والترخيص، فلسان الأمر يدل على كلا جانبي الحجّية، أعني التنجيز والتأمين؛ لأنّه إرجاع حتمي إلى صاحب الفتوى، فإن كانت فتواه إلزامية كانت نتيجة ذلك التنجيز، وإن كانت ترخيصية كانت نتيجة ذلك التأمين، بينما لسان الترخيص لا يدل على أكثر من التأمين؛ لأنّه إن شئتُ آخذ بقول هذا الفقيه فيؤمّنني عن الواقع، وإن شئت لم آخذ بقوله فلا يضيفني تنجيزاً، ومن الواضح أنّ الفتويين المتنافيتين لا تتعارضان في الحجّية حينما لا تكون حجّيتهما إلّا بقدر التأمين، وبالنتيجة يثبت للمقلّد التخيير بينهما.
الثالث: أن نقول لا فرق بين أن يكون دليل التقليد بلسان الأمر أو بلسان التجويز والترخيص، فحتّى لو كان بلسان الأمر لم يُفهم منه إلّا التخيير في الحجّية بين الفتويين المتعارضتين رغم أنّ الأصل في
إطلاق الموضوع هو الشمول؛ وذلك لنكتة ومناسبة خاصّة في المقام ثابتة في باب الفتوى دون باب الرواية، وتلك النكتة أو المناسبة هي أنّ الفتوى تعطي النتيجة النهائية العملية، بخلاف الرواية التي لا يُعطي الراوي فيها إلّا نصّاً يحوّل فهمه أو كشف وجود تقيّد أو مخصّص له أو حاكم عليه أو نحو ذلك إلى السامع الفقيه، ولا يتحمّل الراوي شيئاً بهذا الصدد.
إذاً فالمناسب في باب الرواية أن تكون الحجّية شمولية ثابتة لهذه الرواية ولكلّ رواية أُخرى، ويكون الفحص عن باقي الروايات المربوطة على عاتق السامع الفقيه، ولكن المناسب في باب الفتوى الذي يقصد الفقيه فيه إعطاء النتيجة النهائية أن تكون حجّية هذه الفتوى بمعنى وصول المقلّد إلى النتيجة النهائية. إذاً فالمناسبات تؤثّر أثرها في تكوّن الظهور في الحجّية التخييرية في باب الفتوى والشمولية في باب الرواية، ولا يلزم من ذلك في رواية واحدة دالّة على حجّية الفتوى والرواية معاً استعمال اللفظ في معنيين؛ لأنّ بدلية أو شمولية الحجّية لم تكن من حاقّ اللفظ، بل كانت بنكتة كالمتّصل على شكل تعدّد الدال والمدول.
وممّا يؤيّد فهم التخيير في باب التقليد _ وإن شئت فاجعله وجهاً
رابعاً في المقام _ أنّه لا ينبغي الشكّ في فرض عدم العلم التفصيلي ولا الإجمالي بالتنافي بين الفتاوى أنّ المفهوم عرفاً من دليل التقليد ليس إلّا الأخذ بفتوى فقيه واحد من دون لزوم الفحص عن المعارض لها من سائر الفتاوى، في حين أنّه لو كان مقتضى دليل التقليد الشمولية في الحجّية لكان احتمال التنافي كافياً في عدم إمكان الأخذ بالإطلاق؛ لأنّ التنافي الواقعي بين الفتويين كافٍ في وقوع التعارض الداخلي في إطلاق دليل الحجّية، والتعارض الداخلي يخلق الإجمال، فاحتمال التنافي يعني احتمال الإجمال، ومع احتمال الإجمال لا معنى للتمسّك بالإطلاق، وحتّى لو بنينا على أنّ التعارض بين الأحكام الظاهرية فرع وصولها، فالمقصود بالوصول إنّما هو معرضية الوصول لا الوصول الفعلي.
قد تقول: إنّ الوجه في حجّية الفتوى لدى عدم العلم بالمعارض هو استصحاب عدم المعارض بناءً على أنّ الاستصحاب في الشبهات الموضوعية غير مشروط بالفحص.
ولكن هذا الوجه لو تم لا يؤثّر في المقام، فإنّنا قلنا: إنّ المفهوم العرفي من دليل التقليد حجّية الفتوى رغم احتمال وجود المعارض، والاستصحاب لو جرى فهو أصل تعبّدي، ولا يكفي تفسيراً لهذا الفهم العرفي.
إلّا أنّ هذه الوجوه كلّها قابلة للمناقشة.
أمّا المؤيّد الأخير وهو وضوح عدم الفحص عن الفتوى المعارضة لولا العلم بالمعارضة تفصيلاً أو إجمالاً فليس وجهه منحصراً في فهم الحجّية التخييرية حتّى لدى العلم بالمعارضة، بل له وجه عرفي غير هذا، وهو أنّ دليل حجّية شيء مّا ممّا يحکي عن الواقع إن لم يكن مقيّداً بفرض العجز عن معرفة الواقع يدل لا محالة على التأمين عن احتمال مخالفته للواقع حتّى الاحتمال قبل الفحص بغضّ النظر عن علم إجمالي منجّز.
وهذا يعني أنّ ذاك الدليل بنفسه دليل على عدم وجوب الفحص عن الواقع المحتمل القابل للوصول، فالبيّنة مثلاً حينما تقوم على مالكية شخص لشيء أو اليد مثلاً حينما تدل على الملكية أو نحو ذلك تُغنينا عن الفحص عن واقع الحال حتّى لدى إمكان كشف الواقع، وليس من المحتمل عقلائيّاً أن يكون إمكان الكشف عن حجّة معارِضة بالفحص أشدّ حالاً من إمكان الكشف عن نفس الواقع بالفحص.
إذاً فدليل حجّية شيء إذا كان مطلقاً بالقياس إلى إمكان الفحص عن الواقع وعدمه يكون مفاده العرفي القطعي أنّ الحجّة المعارضة
لو كانت فمنجّزيتها مشروطة بالوصول الفعلي ما دامت الحجّة الأُخرى واصلة بالفعل لا بمجرّد إمكانية الوصول بالفحص، وبه يرتفع التعارض بين الحجّيتين حينما تكون إحدى الحجّتين المتنافيتين واصلة بالفعل والأُخرى غير واصلة لا تفصيلاً ولا إجمالاً ولو لعدم الفحص.
فإن شئت فسمّ هذا بأنّ حجّية الفتاوى مثلاً المتعارضة قبل معرفة التعارض بينها تخييريّة.
ولعلّ هذه النكتة العرفية الوجدانية هي التي كان يجعل السيّد الشاهرودي(رحمه الله) يحسّ بأنّ دليل التقليد كدليل الوضوء أو التيمّم مطلق بدلي.
وإن شئت فأدخل عدم وجوب الفحص عن المعارض في نفس مفهوم الحجّة وسمّ الإطلاق عندئذٍ بالشمولي، وقل إنّ جميع الفتاوی حجّة بالفعل، ولكن لا يقع التعارض بينها في الحجّية إلّا بالعلم الفعلي بالتنافي تفصيلاً أو إجمالاً.
وأمّا الوجه الثالث والذي كان عبارة عن اكتشاف الفرق بين باب الفتوى وباب الرواية؛ لأنّ المفتي يقصد إعطاء النتيجة النهائية والراوي يعطي نصّ الرواية وليس له شغل بوجود مخصّص أو مقيد أو حاكم أو نحو ذلك في رواية أُخرى بالنسبة لتلك الرواية، فهذا الكلام لا يبعد أن
يكون صحيحاً في روحه إلّا أنّ هذا روحه يرجع إلى أنّه بما أنّ طبع الشريعة كان عبارة عن فصل المتّصلات وتأخير القرائن من مخصّص أو مقيد أو حاكم أو نحو ذلك، فلهذا يجب على الفقيه الذي تصل إليه الرواية أن يفحص عن المخصّص والمقيد والحاكم ونحوها حتّى بعد فرض انحلال علمه الإجمالي بالمخصّصات والمقيدات وغير ذلك؛ لأنّ حجّية الظهور إنّما هي أمر عقلائي، والعقلاء يخصّصون ذلك بفرض الفحص عن القرينة المنفصلة بالنسبة لمتكلّم كان دأبه الاعتماد على القرائن المنفصلة، ولكن الفقيه المفتي ليس حاله كذلك، بل هو يُعطي النتيجة النهائية، فلا معنى لوجوب الفحص عن مخصّص لفتواه أو مقيد له. أمّا وجود المعارض فإن كان هذا أيضاً من شأن الإمام(علیه السلام) كما يقال بذلك في الأخبار الصادرة تقيّةً فالكلام نفس الكلام، أي أنّنا إذا رأينا رواية موافقة للعامّة واحتملنا وجود معارض لها مخالف للعامّة لا يمكن أن نجري بالنسبة للأُولى أصالة الجهة قبل الفحص عن المعارض حتّى مع فرض انحلال علمنا الإجمالي؛ لأنّ من شأن الإمام(علیه السلام) ذلك.
أمّا فرض التعارض بمعنى صدور نصّين متخالفين بلا سبب التقيّة فهذا ليس من شأن الإمام(علیه السلام) ويكون حال الراوي في إعطاء النصّ من هذه الرواية كحال المفتي في إعطاء الفتوى، ومع الغضّ عن العلم
الإجمالي لا يجب الفحص عن المعارض في الرواية أيضاً كما في الفتوى.
وكون الفقيه من شأنه إعطاء النتيجة النهائية قد يناسب كون حجّية فتواه غير مشروطة بالفحص عن المعارض، ولكن لا علاقة لذلك بحجّية فتواه حتّى بعد فرض وصول فتوى فقيه آخر مخالفة لتلك الفتوى، في حين أنّ الفقيه الآخر أيضاً يعطي النتيجة النهائية وهو ينفي صحّة فتوى الفقيه الأوّل.
وأمّا الوجه الثاني وهو أنّ لسان الأمر بالأخذ بالفتوى قد يدل على جانب التنجيز وجانب التعذير معاً، ولكن لسان الترخيص في الأخذ بالفتوى لا يدل على أكثر من جانب التعذير، فيرد عليه: أنّه بعد أن كان كلا اللسانين إرشاداً إلى الحجّية نقول: إنّ التفكيك في الحجّية بين جانب التنجيز وجانب التعذير في حجة قد يكون مفاده إلزاماً وقد يكون مفاده ترخيصاً كالفتوى أو الرواية بعيد عن الذهن العرفي، فالمستفاد إذاً من كلا اللسانين هو التنجيز والتعذير معاً، وإنّما الكلام يقع في أنّ التنجيز هل هو بقدر الجامع بين الفتويين المتعارضتين الإلزاميتين مثلاً كوجوب الظهر أو الجمعة، والتعذير يكون بقدر كلّ ما هو زائد على الجامع، أو أنّ التنجيز يكون بقدر الفتوى بخصوصيتها والتعذير يكون بقدر ما تنفيه تلك الفتوى؟
ولا شكّ أنّ الظهور الأوّلي لدليل حجّية فتوى الفقيه هو الثاني؛ لأنّ الحكم طرء على عنوان منطبق على كلّ من الفتويين بكامل خصوصيتهما.
نعم، قد يقال: إنّ الحديث الذي لم يدل على جواز التقليد إلّا من ناحية الإرجاع إلى شخص معيّن كقوله: عليك بالأسدي يعني أبا بصير، وكان فهم الحكم العامّ من باب الغاء العرف لخصوصية ذاك الشخص، فهنا لا نعلم أنّ هذه الحجّية هل هي حجّية تعيينيّة أو تخييرية، فإنّ الإرجاع إليه ينسجم مع كلا الفرضين بمستوى واحد، ولكن الشكّ في ذلك يكون في صالح التساقط لدى تعارض الفتويين، لا في صالح التخيير؛ لأنّنا شاكّون في أصل الحجّية.
وبهذا البيان اتّضح أيضاً بطلان الوجه الأوّل، وهو أنّ لسان الترخيص يناسب الحجّية البدلية كما يناسب الحجّية الشمولية، وبما أنّ الحجّية البدلية تحفظ إطلاق الدليل للفتويين المتعارضتين بينما الشمولية لا يمكن حفظها للإطلاق لكلتا الفتويين، فإطلاق الترخيص إذاً دليل على كون الحجّية بدلية. فنحن نقول ردّاً على ذلك بأنّ الترخيص كالأمر إرشاد إلى الحجّية التي يفهم العرف منها التنجيز والتعذير معاً، ومصبّ هذه الحجّية كان طبيعي الفتوى المنطبق على كلّ من الفتويين بكامل خصوصيّتهما. وهذا معنى الشمول، فيحصل التساقط عند التعارض لا محالة.
الأمر الثاني: أن يقال: إنّنا لئن شككنا في شمولية دليل الحجّية بقطع النظر عن معرفتنا بأنّ ملاك حجّية الفتوى هي الطريقية، وذلك كما لو فرض إيماننا بالسببيّة وادّعينا أنّ مقتضى إطلاق الدليل للفتويين المتعارضتين هي إرادة الحجّية البدلية قلنا: إنّ هذا لا يتم بعد الالتفات إلى طريقية الفتوى. وهذا الأمر تارة يبيّن بلغة منفصلة عن الأمر الأوّل الذي شرحناه، وأُخرى يبيّن بعنوان تكميل الأمر الأوّل.
أمّا بيانه بلغة منفصلة عن الأمر الأوّل فهو عبارة عن أن يقال: إنّ حجّية الفتوى كانت على أساس الكشف والطريقية، وقد فقدت كاشفيّتها بسبب الانصدام مع طريق آخر، فقد انتفى ملاك الحجّية.
وهذا البيان بهذا المقدار قد يجيب عليه أحد بأنّه لم يثبت كون المقياس الكشف الفعلي الذي ينتفي بالتعارض، فمن الممكن عقلائيّاً أن يكون المقياس الكشف الشأني، أو قل: الكشف في ذاته؛ وذلك لأنّنا وإن كنّا نؤمن بالطريقية لكن هذا لا يعني كون الطريقية تمام الملاك بحيث لا تتدخل في الحساب مصلحة التسهيل مثلاً، ومع دخل شيء من هذا القبيل يمكن التحول من مقياسية الكشف الفعلي إلى مقياسية الكشف الذاتي أو الشأني، إلّا إذا ادّعينا انصراف أدلّة