بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى شأنه: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّة اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾ (هود:85ـ86).
وقال عزّ من قائل: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود 88).
لقد كانت فرحة شعبنا بسقوط نظام الطاغية صدام وانهيار أركان حكمه بالغةً عمّت الجميع، فحمدنا الله تعالى على انقضاء فترة حكم مستبد سام فيها نظام الطاغية أهل العراق سوء العذاب، وكان أمل العراقيين كبيراً بقيام حكومةٍ على أيدي المؤمنين تعتمد العدل وموازين القسط، وتزيل آثار تلك الحقبة الظلماء التي مرّت على عراقنا الحبيب.
إلّا أنّ هذا الأمل طفق يتلاشى شيئاً فشيئاً، حيث بدأ العراق يدخل نفقاً مظلماً جديداً من الفساد وبخس الناس أشياءهم على مستوى القادة المتصدّرين في مراكز القرار السياسي والبرلماني والإداري، فلم يتحقق للشعب العراقي المضطهد خلال أكثر من اثنتي عشرة سنة من الحكم أقل ما كان يصبو إليه ويتوقعه.. فلم يجد بدّاً من مقارعة الفاسدين والاعلان عن رفضه لهم في مسيراتٍ جماهيرية حاشدة مدينة كل أشكال الفساد التي أزكمت رائحتها اُنوف الجميع، والفلتان الأمني والإداري، والمطالبة باصلاحاتٍ فوريةٍ وعاجلة.
فيا ترى.. كيف يمكن تفسير هذا الحرمان الذي تعاني منه قطّاعات الشعب في مجالاتها الحياتية وانعدام المقومات الأولية للعيش الكريم برغم العائدات العظيمة للبلد، والنفقات التي لا تُحصى أرقامها ولا يُضبط عددها؟! وكيف يمكن أن تنهار القوى العسكرية بالموصل بانسحاب قادتها من ساحة المواجهة أمام شرذمةٍ أجنبيةٍ ضعيفةٍ من تنظيم داعش؟! وكيف يمكن أن نتعقّل الاصطفاف الخائن لمتصدر الامور في مجلس البرلمان إلى جانب أعداء الشعب وحاضنة تنظيم داعش في المحافظات المحتلّة برغم مطلوبية بعض المؤتمرين للقضاء بتهم جنائية أو إرهابية؟! وكيف يستجيب لدعوة دويلة قطر الراعية للإرهاب، والممدّة والممولة للتيار التكفيري في البلدان الإسلامية؟! وكيف نفسّر هجرة آلاف من شبابنا ومثقفينا وأهلينا إلى بلاد الغرب في ظروف إنسانية حرجة جداً تاركةً وطنها وأهلها ومشاركتها في بناء البلد بسبب ما تلاقيه من حيفٍ وظلم، وما تراه من فساد وخيانة أصحاب القرار والمتصدين لإدارة الاُمور؟! كيف يمكن أن نهضم الإصرار البالغ من قبل المناوئين لأبنائنا في الحشد الشعبي على إقرار قانون الحرس الوطني الذي يراد منه إعادة الرموز العسكرية لنظام صدام وإحياء دورهم في المجال العسكري، واعتبار أبناءنا المضحّين في الحشد الشعبي ـ بالنتيجة ـ مليشيات خارجة عن حيطة القوات العسكرية العراقية.
فيا تُرى.. في مثل هذه الظروف من الفلتان والتسيّب والفساد كيف يمكن لإصلاحاتٍ لا تعدو مستوى الترقيع والترميم الظاهري لوجه الفساد الحكومي أن ترتقي لمستوى تحقيق مطالب الشعب وإنجاز إرادته ودفع الحيف عنه؟!
إنني ومن موقع الاُبوة لهذا الشعب المضطهد، والمرجعية التي يعتصر قلبُها ألماً ويقطر دماً لمشاهده المأساوية، فتخاطب أبناءها بلغة صريحة واضحة غير قابلة للتأويل والحمل على أكثر من وجه في الكشف عن ما يحيط بها من مخاطر ودسائس، وتنبيهها على مصالحها وتحذيرها عن مخاطر ما يحيق بها، فأقول: لا أرى في هذه الحُزمة من الإصلاحات التي قدمتها رئاسة مجلس الوزراء ما يمكن به إصلاح ما فسُد، ولا رتق ما فُتق، ولا تحقيق ما أمرت به الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ ما دامت جذور الفساد ومناشئ الفلتان فاعلة وحيّة في كيان الحكومة ومكوناتها.. بل نرى أنّ الإصلاح يبدأ من:
أولاً: إصلاح المناشئ والاُسس التي بني عليها الفساد، وهو الذهنية والعقلية الحاكمة في رؤوس أصحاب القرار تجاه هذا الشعب ومصالحه ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد:11).
وثانياً: إصلاح المواد الدستورية، واُسلوب إدارة البلد، بعيداً عن فكرة المحاصصة والتوافقات بين الكتل الرئيسة كاُسلوب في توزيع الحقائب السيادية والمهام الرأسية في إدارة العملية السياسية والمدنية والعسكرية، بل لابد من اعتماد الطاقات المؤهلة المخلصة، والرجالات الصالحة الوطنية التي ينبغي لها أن تحتلّ مراكز التنفيذ والإدارة في مجلس النواب والحكومة والمؤسسات التابعة لها، فإنّ الآية المباركة التي سبقت تقول: ﴿بَقِيَّة اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ إذ لا يخلو بلدنا الكريم من الكفاءات الشريفة والقدرات الوطنية مما أبقاه الله ومنحه لهذا البلد العظيم في كافة المجالات ما يؤهله لإدارةٍ نزيهةٍ حكيمة، فهي بقية الله تعالى، وخير من الفاسدين والمتآمرين على البلد.
وثالثاً: الوقوف بحزم وشجاعة بوجه المشاريع التآمرية، والمكائد الخبيثة التي تريد لعراقنا الشر .
فيا أبنائي العراقيين ممن اشاركهم سراءهم وضراءهم، وتحملت الكثير من المآسي لأجلهم.. اعلن لكم وبكل صراحة أنني ادين وبأشد عبائر الإدانة ما اشاهده من مواقف خائنة لمصالحكم، ومشاريع عاملة على تقسيم أرضكم وتشتت بلدكم، وقرارات ساعية لإرجاع الرموز العسكرية للنظام البائد البغيض الذي اضطهدكم، وقتل علماءكم، وحرمكم من أبسط ألوان الحرية، وصيّر من العراق سجناً كبيراً أودعكم وعوائلكم فيه لمدة تجاوزت الثلاثة عقود من الزمن.. ومنها ما بلغني من قانون الحرس الوطني الذي يراد منه الدسيًسة لأبناء هذا البلد المضطهد، وكذا مؤتمر قطر ومن سانده وسايره من المتصدين في العملية السياسية سيما متصدر الاُمور في البرلمان الذي يرتجى منه الوقوف الحازم إلى جنب المصالح الوطنية والتموضع الشجاع لصالح البلد وعوائل الشهداء والأرامل والمهجرين فيه، وجدناه إلى صفّ ثلة متآمرة مطلوبة قضائياً، مجتمعة في دويلة قطر الممدة للإرهاب في بلده، والسالبة لأمن مواطنيه وموكليه.. والأمرّ من ذلك قبول بل مساندة بعض الأطراف الحكومية النافذة وتحت جنح الخفاء لهذا التآمر الخبيث في قطر.
فيا أبنائي وقومي.. ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ﴾. ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾.
وفي هذا السياق نؤكّد:
أوّلاً: موقفنا الداعم لأبنائنا في الحشد الشعبي وفصائل المقاومة، ذلك أننا نرى فيهم اليد الضاربة والقوة القاهرة للمتربصين بأمن البلد ومصالح أهله، والمقاومة المتفانية لصالح الوطن والدفاع عن مقدساته وحرماته، فإن هذه القوة المخلصة التي كسبت موقع القداسة في قلوب قطاعات الشعب الواسعة تشكل ضماناً لأمن الوطن ووحدة أراضيه. لذا تواترت المكائد من قبل بعض الأعداء للنيل منه والتآمر ضده بمرأى ومسمع من أصحاب القرار والحكوميين، وبلا موقف مناسب يبرئ ذممهم أمام الله تعالى وهذا الشعب الغاضب. ومن هنا نطالب الجميع بإسناد وتأييد هذا الوجود المبارك، بل قطع كل يد تريد التطاول على هذا الوجود المقدس أو إلغاء دوره وتهميشه، أو فرضه مليشيات خارج إطار القانون.
ثانياً: إننا نطالب بإصلاحاتٍ حقيقيّة تمتدّ إلى جذور الفساد ومناشئ التسيب والفلتان.. وليس لمسؤول في جهاز الحكومة اختيار موقف الصمت عن هذه الظلامات التي تقع على العامة من شعبنا دون أن يصدح بالحق، ولا نرتضي منه أيّ نوعٍ من المجاملات والمهادنات مع هذا الطرف أو ذاك في إطار التوازنات السياسية.
ثالثاً: ليعلم أهلنا كافّة أن القوة فيهم ومعهم والغلبة لهم، وبيدهم الحل النهائي لكافة الأزمات إذا ما أيقنوا ذلك، وكانت لهم البصيرة الكافية لما يجري في الخفاء وخلف ظواهر الامور، واعتقدوا أنهم أقوياء وقادرون على الحلّ وانتزاع الحق، وأيقنوا أن الله معهم ولن يحرمهم من مدده وعونه، كيف لا، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (الحج: 38).. ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (المنافقون: 8).
«اللهم إليك أفضت القلوب، ورُفعت الأيدي، وشُخصت الأبصار، نشكو إليك غيبة نبينا، وكثرة عدوّنا، وتشتّت أهوائنا، ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ، وأنت خير الفاتحين»، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
٢٥/ ذي القعدة/ ١٤٣٦هـ
كاظم الحسيني الحائري