وكأَنّ في هذه الآيات المباركات إرشاداً للسالك إِلى الله وبياناً لنكتة تربويّة هامّة، توضيحها: أَنَّ السالك إِلى الله وإن كان جميع أعماله عبادة وبأَهداف إِلهية، ولكنّه بحاجة ماسَّة يوميّاً إِلى أَن يُفرِّغ شيئاً من وقته للمناجاة مع الله والتكلُّم معه والتوجه الحضوري إِليه، وليس كالتوجه العام الثابت في كلِّ الأعمال القربيّة كالجهاد، والأمر بالمعروف، وتحقيق مصالح الإسلام والمسلمين، ومراعاة الضعفاء والمحتاجين، وتحصيل العلوم الإسلامية النافعة، أو العلوم النافعة للبشر، وما إِلى ذلك ممّا تكون كلُّها عبادة بالمعنى العام. وخير ساعة يفرغها السالك لهذا النمط من تربية النفس هي: أَن تكون من الليل ﴿إِنَّ ناشئة الليل هي أشدّ وطأً وأقوم قيلاً﴾. ولا نشكُّ في أَنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله) كانت جميع أعماله عبادة، ولم يكن شيء منها عملاً دنيوياً، بل كان صارفاً وقته تماماً فيما يريد الله: من جهاد، أو إرشاد، أو إصلاح أُمور المجتمع الاسلامي، أو حلِّ مشاكل المسلمين، أو غير ذلك، وبرغم ذلك قال له الله سبحانه وتعالى: ﴿إنَّ لك فيالنهار سبحاً طويلاً﴾. وهذا يعني: أَنَّه لم يكن المقصود بهذا الكلام تأجيل الأعمال الدنيويّة للنهار كي يخلو جوف الليل للعبادة الخاصّة، بل المقصود تأجيل كلّ شيء حتّى الأعمال العباديّة بمعناها العام للنهار كي يخلو جوف اللّيل للعبادة الخاصّة. وبهذا يثبت ما قلناه: من أَنَّ السالك إِلى الله لايكفيه أَن تكون كلُّ أعماله عبادة بالمعنى العام، بل هو بحاجة إِلى تخصيص شيء من أوقاته (وأفضلها جوف الليل) للمناجاة مع الربِّ بحضور القلب بمعناه الخاصِّ.
وقد قالوا في تفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا﴾(1): إِنَّ المقصود به أمر النبيِّ (صلى الله عليه و آله) بصلاة اللَّيل لينال بذلك مقام الشفاعة(2).
النقطة الثانية: وهي ضرورة التدبُّر في القرآن للسالك إِلى الله فقد مضى أَنَّه ممّا يدلُّ على ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿أفلا يتدبّرون القرآن أَم على قلوب أقفالها﴾(3) وقد ورد عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿أَم على قلوب أقفالها﴾ إنَّ لك قلباً ومسامع وإِن الله إِذا أراد أَن يهدي عبداً فتح مسامع قلبه، وإِذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه، فلا يصلح أبداً. وهو قوله عزَّ وجلَّ: ﴿أَم على قلوب أقفالها﴾(4).
وأيضاً ممّا يدلُّ من الآيات القرآنية على أَنَّ القرآن كتاب التربية والتزكية وشفاء النفس من الأدْواء الروحية قوله سبحانه وتعالى: ﴿وننزّل من القرآن ماهو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلّا خسارا﴾(5). ومن الواضح: أَنَّ المقصود بذلك الشفاء من الأمراض الروحيّة.