الاُولى: وضوح أنّ الثمانية فراسخ لها تحدّد واقعيّ في حين أنّ السير بمقدار بياض يوم ليس له تحدّد واقعيّ؛ إذ يختلف باختلاف وسيلة السير، وباختلاف طول النهار وقصره، بل وحتّى السفر المتعارف وفي فصل معيّن من الفصول لا يحدّده؛ فإنّ السفر على الفرس أيضاً كان متعارفاً وقتئذ كالسفر على الجِمال، وكان مقدار السير مع الجِمال وخاصّة الجِمال المثقلة بالأثاث يختلف كثيراً عن مقدار السير على الفرس.
والثانية: أنّ تحديد الفراسخ بعلائم الأميال لم يكن وقتئذ رائجاً في غالب الأسفار كما في يومنا هذا، فكان المقياس الوحيد الذي يمكن تقدير مقدار الفراسخ بها في كثير من الأسفار منحصراً بجعل زمن السير أمارة على ذلك.
وبعد الالتفات إلى هاتين النكتتين نقول: إنّ المفهوم عرفاً من الجمع بين تلك الروايات أنّ التحديد بالفراسخ تحديد واقعيّ؛ فإنّه الذي لا يزيد ولا ينقص، وأنّ التحديد ببياض يوم تحديد أماريّ، أمارةً على مقدار الفراسخ المطويّة، فالأئمّة (عليهم السلام) جعلوا العلامة المشخّصة لمقدار السير بياض يوم، وجعلوا ذلك بلحاظ سير الجِمال المثقلة المألوفة وقتئذ، وهذا ليس لأنّ سير الجِمال هو الأكثر وقوعاً لدى المسافرين من سير الفرس مثلاً؛ بل لأنّ سير الجمال هو الذي كان يطابق فيما تعارف وقتئذ ثمانية فراسخ في اليوم.
وممّا يشهد لذلك ما أشرنا إليه من أنّ بياض يوم في الأيّام الطويلة يختلف كثيراً عنه في الأيّام القصيرة، ولكنّ الذي لم يكن يختلف هو: أنّ الجمال كانوا يسيّرونها في كلّ يوم منزلين يسمّى كلّ منزل ببريد، ولم يكونوا يسيّرون الجمال عادة في كلّ يوم بأكثر من ذلك ولا أقلّ سواء طالت الأيّام كأيّام الصيف أم قصرت كأيّام الشتاء، فسمّي ذلك باسم مسير بياض يوم، وروايات مسير يوم، أو بياض يوم، أو البريدين، أو بريد في بريد، أو ما إلى ذلك كلّها إشارة إلى ما كان يعتبر معرِّفاً لتحقّق السير ثمانية فراسخ.