267

وعلى كلّ حال فهذه الأبحاث کلّها فرضية. فبعد ما عرفت من عدم تمامية الأدلّة على بطلان ملكية الكافر للمسلم اختياراً، فما رأيك في الملكيّات القهرية؟! وغاية الأمر حجره عن السيطرة على هذا العبد، فللوليّ الشرعي كحاكم الشرع بيعه عليه للمسلمين.

وعلى أيّ حال فبعد فرض تمامية الدليل على بطلان ملكية الكافر للمسلم ابتداءً أو تقدّمها على دليل البيع، وبعد فرض أنّ الإرث يختلف عن سائر الملكيّات _ إمّا بدعوى تسالم الأصحاب علی إرثه من الکافر، أو بدعوی قوّة دليل الإرث، أو بدعوى أنّ النهي عن الملك نهيٌ عن سببه وهو البيع والنهي عن البيع مبطل له، وأمّا في باب الإرث فليس هناك مسبّب تعلّق به النهي _ تصل النوبة إلى ما أفاده الشيخ من عدم صحّة عطف سائر الأسباب القهرية للملك على الإرث؛ لأنّ المفروض تمامية دلالة نفي السبيل وتقدّمها على دليل البيع، فبنفس ملاك تقدّمها على دليل البيع تتقدّم على أدلّة الانفساخ القهري.

ثبوت الخیار وعدمه في التملّك القهري

وبعد ذلك قال الشيخ رحمه الله ما مضمونه: إذا باعه الكافر المالك من المسلمين فالظاهر أنّه لا خيار له ولا عليه، وفاقاً للمحكي عن الحواشي في خيار المجلس والشرط(1)؛ لأنّه إحداث ملك فينتفي، لعموم نفي السبيل لتقديمه على أدلّة الخيار كما يقدّم على أدلّة البيع(2).

والمحتملات أو الوجوه التي يمكن أن تنتزع من عبارة الشيخ رحمه الله في هذا الفرع _ سواء ما نسبه إلى أحد أو ما ذكره كوجه من دون نسبته إلى أحد _ عديدة:


(1) فسّر محقّق الكتاب تحت الخطّ الحواشي بحواشي الشهيد، وقال: إنّه مخطوط ولا يوجد لدينا. نعم، حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة، ج4: ص180 (الطبع القدیم) وبالطبع الجدید: ج12، ص578.

(2) کتاب المكاسب، ج3، ص597.

268

الاحتمال الأوّل: أنّه لا خيار له ولا عليه. وقد نقله الشيخ رحمه الله عن حواشي الشهيد في خيار المجلس والشرط.

والدليل الذي ذكره الشيخ عليه: أنّ الفسخ إحداث لملك جديد فينتفي؛ لعموم نفي السبيل؛ لتقدّمه على أدلّة الخيار بنفس نكتة ما فرض في المقام من تقدّمه على أدلّة البيع(1).

«نعم، يحكم بالأرش لو كان العبد أو ثمنه معيباً»(2).

والاحتمال الثاني: عكس الاحتمال الأوّل تماماً، وهو عدم الفرق بين هذا العقد والعقود الأُخرى تماماً، فيجري فيه ما يجري فيها. وقد نقل الشيخ(3) ذلك عن الدروس(4) وعن صدر كلام جامع المقاصد، ونقل عن جامع المقاصد الاستدلال عليه بأنّ العقد لا يخرج عن مقتضاه بكون المبيع عبداً مسلماً لكافر؛ لأنّ المقتضي لنفي السبيل لو اقتضى ذلك لاقتضى خروجه عن ملكه، فعلى هذا لو كان البيع معاطاة فهي على حكمها، ولو أخرجه عن ملكه بالهبة جرت فيه أحكامها(5).

والاحتمال الثالث: تفصيل بين الخيارات الثابتة بمجرّد التعبّد الشرعي كخيار المجلس والحيوان وغيرها. وهذا ما نقله الشيخ عن ذيل كلام جامع المقاصد، ونصّه ما يلي: «نعم، لا يبعد أن يقال: للحاكم إلزامه بإسقاط نحو خيار المجلس أو مطالبته بسبب ناقل يمنع الرجوع إذا لم يلزم منه تخسير المال»(6). ثم أفاد الشيخ تعليقاً على قول جامع المقاصد: «لا يبعد أن يقال: للحاكم إلزامه...» أنّ إلزامه بما ذكر ليس


(1) کتاب المكاسب، ج3، ص597.

(2) هذه العبارة جاءت في کتاب المكاسب، ج3، ص597.

(3) کتاب المكاسب، ج3، ص598.

(4) الدروس، ج3، ص199.

(5) جامع المقاصد، ج4، ص65

(6) المصدر السابق، ص63.

269

بأولى من الحكم بعدم جواز الرجوع، فيكون خروج المسلم من ملك الكافر إلى ملك المسلم بمنزلة التصرّف المانع من الفسخ والرجوع(1).

والاحتمال الرابع: التفصيل في الخيارات الناشئة عن الضرر بين الضرر المتوجّه إلى المسلم كغبنه فتجري، لقوّة أدلّة نفي الضرر فلا يبعد الحكم بثبوت الخيار للمسلم المتضرّر من لزوم البيع، بخلاف ما لو تضرّر الكافر فإنّ هذا الضرر إنّما حصل من كفره الموجب لعدم قابليّته تملّك المسلم إلّا فيما خرج بالنصّ(2).

والاحتمال الخامس: أن تبتني المسألة على أنّ الزائل العائد كالذي لم يزل أو كالذي لم يعد(3).

وهناك احتمال سادس: جاء في منية الطالب(4) ناسباً له أيضاً إلى ما يوجد من الاحتمالات المذكورة في مكاسب الشيخ، وهو التفصيل بين الخيارات الثابتة من غير ناحية الضرر فلا يثبت حتّى خيار الشرط وبين الثابتة من ناحية الضرر كخيار الغبن والعيب ونحوهما.

والظاهر أنّ هذا مستنبط من جزء كلام في المكاسب مع تقطيعه عن جزئه الأخير، وذاك الكلام ما يلي: «ويشكل ]يعني سقوط الخيار[ في الخيارات الناشئة عن الضرر من جهة قوّة أدلّة نفي الضرر، فلا يبعد الحكم بثبوت الخيار للمسلم المتضرّر من لزوم البيع، بخلاف ما لو تضرّر الكافر، فإنّ هذا الضرر إنّما حصل من كفره الموجب لعدم قابليّته تملّك المسلم إلّا فيما خرج بالنصّ»(5). وهذه العبارة هي العبارة التي فهمنا


(1) کتاب المکاسب، ج3، ص598 _ 599.

(2) المصدر السابق، ص597.

(3) المصدر السابق.

(4) منية الطالب، ج2، ص258.

(5) کتاب المكاسب، ج3، ص597

270

منها ما مضى من الاحتمال الرابع، ولكن حينما يؤخذ منها المقطع الأوّل فحسب أعني: «ويشكل في الخيارات الناشئة عن الضرر من جهة قوّة أدلّة نفي الضرر» يُفهم منه هذا الاحتمال السادس.

وعليه، فلنبحث هذه الاحتمالات الستّة تباعاً:

أمّا الاحتمال الأوّل: فهو أنّه لا خيار له ولا عليه. نعم، لو كان الخيار خيار العيب فلا بأس بثبوت الأرش.

والدليل الذي ذكره الشيخ عليه هو أنّ الفسخ إحداث لملك جديد فينتفي، لعموم نفي السبيل، لتقدّمه على أدلّة الخيار بنفس نكتة ما فرض في المقام من تقدّمه على أدلّة البيع.

والظاهر أنّ هذا الدليل _ بعد فرض تسليم المبنى من تمامية دلالة نفي السبيل على بطلان البيع _ لا يرد عليه شيء إلّا أدلّة سائر المحتملات التي تنفي هذا الاحتمال، إمّا تماماً كما هو الحال في المحتمل الثاني الذي هو عكس المحتمل الأوّل، أو في بعض الموارد كما هو الحال في باقي المحتملات، فلنرجع إلى سائر المحتملات:

وأمّا الاحتمال الثاني: وهو عدم الفرق بين هذا العقد والعقود الأُخرى تماماً، فيجري فيه ما يجري فيها من حقّ فسخ أو تزلزل أو غير ذلك، فقد نقل الشيخ عن جامع المقاصد الاستدلال عليه بأنّ المقتضي لنفي السبيل لو اقتضى المنع عن التزلزل أو الخيار لاقتضى خروجه عن ملكه من أوّل الأمر، والمفروض أنّه كان قد ملكه من أوّل الأمر ولهذا باعه، ووقع الكلام في حقّ الفسخ(1).

أقول: لئن كان من ناحية من مسلّمات الفقه أنّ العبد والمولى لو كانا كافرين ثم أسلم العبد أو كانا مسلمين ثم كفر المولى لم يخرج عن ملكه ولم يكن شيء أكثر من


(1) مضى في بيان الاحتمال الثاني نقله عن کتاب المكاسب، ج3، ص598.

271

الحجر، أو استفدنا ذلك من أمر أمير المؤمنين عليه السلام ببيعه من المسلمين وتسليم ثمنه إلى المولى الكافر، وافترضنا من ناحية أُخرى دلالة نفي السبيل على عدم إمكانية تملّك الكافر للمسلم ابتداءً فليس من الصحيح جعل عدم انعتاقه عليه في الفرض الأوّل نقضاً على بطلان إدخال المسلم في ملك الكافر ببيع أو فسخ.

نعم، تبقى المناقشة في أصل دلالة نفي السبيل على ذلك، وهذا ما أشرنا إليه قبل أسطُر بقولنا: «بعد فرض تسليم المبنى...».

وأمّا الاحتمال الثالث: وهو التفصيل بين الخيارات الثابتة بمجرّد التعبّد الشرعي _ كخياري المجلس والحيوان _ وغيرها فهذا ما مضى منّا نقله عن الشيخ الأنصاري عن ذيل كلام جامع المقاصد، وهو أضعف من صدر كلامه من أنّ نفي السبيل لو اقتضى خروج العقد عن مقتضاه من التزلزل الحكمي كما في المعاطاة أو الهبة، أو التزلزل الحقّي كخيار العيب لاقتضى خروج العبد عن ملكه، فكما لا يقتضي الثاني لا يقتضي الأوّل.

والوجه في الأضعفية هو أنّه لا مبرّر لاستثناء الخيارات الثابتة بمجرّد التعبّد الشرعي كخياري المجلس والحيوان عن باقي الخيارات وتسليم سقوطها أو ما يشبه سقوطها إلّا توهّم أضعفية الحقّ التعبّدي المحض من الحقّ الذي له نكتة عقلائية، فكأنّها لا تقاوم الدليل الذي ذكره، في حين أنّه لو سلّمت الأضعفية فلا يوجب ذلك سقوطه أمام الدليل لو تمّ ذاك الدليل.

وأمّا الاحتمال الرابع: وهو التفصيل في الخيارات الناشئة عن الضرر بين الضرر المتوجّه إلى المسلم كغبنه والضرر المتوجّه إلى الكافر فقد ذكر له الشيخ رحمه الله تقريباً، وهو أنّه لو كان الضرر متوجّهاً إلى المسلم كالغبن فلا يبعد الحكم بثبوت الخيار للمسلم المتضرّر من لزوم البيع من جهة قوّة أدلّة نفي الضرر، بخلاف ما لو تضرّر الكافر، فإنّ هذا الضرر إنّما حصل من كفره الموجب لعدم قابليّته تملّك المسلم إلّا فيما خرج بالنصّ(1).


(1) کتاب المكاسب، ج3، ص597.

272

وقد أورد عليه الشيخ النائيني رحمه الله _ بحسب ما ورد في منية الطالب(1) _ بإيرادين:

أحدهما(2): أنّ التفصيل بين المسلم والكافر لا وجه له؛ لأنّ الكافر لم يقدم على الضرر، وإنّما أقدم على الكفر، فكيف لا يثبت له الخيار؟ فإنّ الإقدام على نفس الضرر هو الموجب لعدم جريان قاعدة لا ضرر، لا الإقدام على المقدّمات الإعدادية لجعل الحكم الضرري.

فكأنّ الشيخ النائيني رحمه الله جعل كفر هذا الكافر مقدّمة إعدادية لجعل الحكم الضرري وهو اللزوم، فأفاد أنّ كون المقدّمة الإعدادية بسوء اختيار المكلّف لا يسقط قاعدة نفي الضرر، أو قل: لا يوجب عدم نفي الحكم الضرري تماماً، من قبيل ما لو فرضنا أنّ أحداً لم يحفظ نفسه من البرد فمرض وصار الوضوء في حقّه ضرريّاً، أفهل يمكن أن يقال بأنّه لابدّ له من الوضوء لكونه هو السبب لتضرّره؟ كلّا بل يقال: إنّ الوضوء أو حكم الشارع عليه بالوضوء ضرري في حقّه، فيرتفع، وكم له من نظير؟! وفي المقام الضرر ناشئ من حكم الشارع بلزوم العقد بالنسبة إلى الكافر، وهذا الحكم ضرري، فيرتفع بأدلّة لا ضرر.

وأورد على ذلك السيّد الخوئي رحمه الله على ما في التنقيح(3) بأنّه فرق بين المقام وبين غيره من الموارد التي ذكرها(4) بأنّه لا يوجد في المقام أصلاً لزوم حتّى ينفی بقاعدة نفي الضرر، فالبيع جائز ومن حقّ الكافر أن يفسخه ولو بأن يسلم ويفسخ، وعدم قبول الفسخ منه إنّما جاء من كفره، فكفره ليس مقدّمة إعدادية أوجبت لزوماً ضرريّاً عليه،


(1) منية الطالب، ج2، ص260.

(2) وهذا بحسب الترقيم الوارد في منية الطالب هو الإيراد الثاني.

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص217 _ 218.

(4) لا يوجد في منية الطالب ولا في تقرير الشيخ الآملي(رحمه الله) التمثيل بموارد أُخرى كمن لم يحفظ نفسه من البرد فمرض وصار الوضوء في حقّه ضرريّاً، ولعلّ السيّد الخوئي(رحمه الله) ينقل ذلك مباشرة عن درس أُستاذه الشيخ النائيني(قدس سره).

273

وإنّما الضرر عليه حصل من قبل نفسه بكفره، فلا معنى لرفعه بلا ضرر.

والإيراد الثاني: _ من إيرادي الشيخ النائيني _ هو: أنّ قاعدة نفي الضرر لا تقتضي الخيار أصلاً، وإنّما الخيار ينشأ إمّا بجعل شرعي كما في خياري المجلس والحيوان أو بشرط صريح أو ضمني كما في غير الخيارات المجعولة الشرعية(1).

وهذا الإيراد أيّده السيّد الخوئي رحمه الله أيضاً(2).

هذا، والشيخ النائيني رحمه الله أورد في منية الطالب إيراداً آخر على الشيخ الأنصاري ضمن أحد إيراديه الماضيين(3) حيث جعل الشيخ قوّة أدلّة نفي الضرر مؤيّدة للحكم بثبوت الخيار للمسلم المتضرّر من لزوم البيع، فأورد عليه في منية الطالب بأنّ أقوائية نفي الضرر من نفي السبيل غير معلومة؛ لأنّ كلّاً منهما حاكمة على أدلّة الأحكام، ولا منشأ لأظهرية نفي الضرر، بل العكس هو المتعيّن، فإنّ آية نفي السبيل آبية عن التخصيص.

وأمّا الاحتمال الخامس: وهو أن تبتنی المسألة على أنّ الزائل العائد كالذي لم يزُل أو كالذي لم يعُد فحاصله: أنّ المفروض أنّ الملكية الابتدائية للكافر لعبد مسلم ثابتة، فإذا باعه من مسلم فالخيارات تثبت للمسلم وللكافر بناء على أنّ الزائل العائد كالذي لم يزُل؛ لأنّه تكون ملكيّته بعد إعمال الخيار كأنّها هي الملكية الابتدائية، وقد فرضنا عدم الإشكال فيها، ولا تثبت بناء على أنّ الزائل العائد كأنّها لم تعُد، فتكون هذه ملكية جديدة منفية بنفي السبيل، وقد قال الشيخ: «لكن هذا المبنی ليس بشيء؛ لوجوب الاقتصار في تخصيص نفي السبيل على المتيقّن»(4)، وقد أيّده الشيخ النائيني رحمه الله


(1) راجع منية الطالب، ج2، ص259 و260. وشرح ذلك يحال على بحث الخيارات.

(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص218.

(3) أي: ضمن إيراده الأوّل بحسب ترقيم منية الطالب، ج2، ص260، والإيراد الثاني بحسب ترقيمنا قبل أسطر.

(4) کتاب المكاسب، ج3، ص597.

274

في منية الطالب بقوله: «مضافاً إلى ما أورده المصنّف ]يعني الشيخ الأنصاري رحمه الله[ عليها من أنّها لا تبتني على أساس ولا كبرى لها لا عقلاً ولا شرعاً _ لا تنطبق على المقام؛ فإنّ هذه القاعدة أُسّست فيما لو رجع ما انتقل عن المشتري إليه بسبب جديد أو بفسخ ونحوه وكان له أو للبائع الأوّل الخيار، فلو قيل بأنّ الزائل عن ملك المشتري العائد إليه بمنزلة غير الزائل _ أي كأنّه لم يخرج عن ملكه _ فالمبيع قائم بعينه، فللبائع الأوّل أو المشتري الأوّل الفسخ بالخیار. ولو قيل بأنّه كالذي لم يعد _ أي: كأنّه باقٍ في ملك الثالث الذي هو المشتري الثاني _ فليس المبيع قائماً بعينه، فليس للبائع ولا للمشتري الأوّل الفسخ، وفي المقام ثبوت الخيار من أصله مشكوك، أي: لم يعلم قابلية المبيع للعود حتّى يقال: إنّ الزائل العائد كالذي لم يزل أو كالذي لم يَعُد»(1).

وأمّا الاحتمال السادس: وهو التفصيل بين الخيارات الثابتة من غير ناحية الضرر فلا يثبت حتّى خيار الشرط، والثابتة من ناحية الضرر كخيار الغبن والعيب ونحوهما فدليله هو عين دليل الاحتمال الرابع، وهو قوّة قاعدة نفي الضرر مع حذف الفرق بين المسلم والكافر.

وقد اتّضحت مناقشات ذلك ممّا مضى من مناقشات الاحتمال الرابع:

فأوّلاً: حذف الفرق بين المسلم والكافر يعدّ نقطة ضعف في هذا الوجه، كما اتّضح ممّا مضى من السيّد الخوئي رحمه الله من بيان قوّة هذا الفرق.

وثانياً: ما مضى عن الشيخ النائيني رحمه الله من أنّ أقوائية نفي الضرر من نفي السبيل غير معلومة؛ لأنّ كلّ واحد منهما حاكمة على أدلّة الأحكام، بل آية نفي السبيل أقوى؛ لأنّها آبية عن التخصيص.

وثالثاً: ما مضى عن الشيخ النائيني وعن السيّد الخوئي؟رحهما؟ من أنّ دليل نفي الضرر ليس من أدلّة الخيارات.


(1) منية الطالب، ج2، ص259.

275

وأخيراً ذكر الشيخ رحمه الله: فيما لو باع الكافر عبده المسلم من مسلم بثوب ثم وجد في الثمن عيباً أمكن أن يقال: إنّ مقتضى الجمع بين أدلّة الخيار ونفي السبيل ثبوت الخيار والحكم بالقيمة، فيكون نفي السبيل مانعاً شرعيّاً من استرداد المثمن، كنقل المبيع في زمن الخيار وكالتلف الذي هو مانع عقلي.

إلّا أن يقال: إنّ مجرّد استحقاق الكافر الاستطراقي للمسلم المنكشف باستحقاق بدله يعتبر سبيلاً.

قال رحمه الله: ولذا حكموا بسقوط الخيار فيمن ينعتق على المشتري ]يعني: لو كان للبائع خيار ففسخ ورجع إلى القيمة لكان يعني ذلك التملّك الاستطراقي للمشتري لمن ينعتق عليه[.

ثم أمر رحمه الله بالتأمّل، ولعلّه إشارة إلى وضوح عدم كون الملكية الاستطراقية سبيلاً(1).

أقول: إنّ أصل الملكية الاستطراقية في المقام غير ثابت؛ فإنّ فسخ العقد إنّما يوجب رجوع العين إلى المالك الأوّل عند إمكان ذلك، وأمّا مع فرض وجود مانع شرعي ككفر المولى، أو مانع عقلي كما في موارد التلف ففسخ العقد لا يقتضي إلّا الرجوع إلى البدل، فإنّ هذا هو القدر المتيقّن الذي لا شكّ فيه لدى الفسخ، أمّا دعوى الملكية الاستطراقية فلا تكون إلّا على أساس اقتضاء التفسير العقلائي لتفسير الرجوع، وهذا التفسير لا دليل على حجّيته.

أمّا في مورد التلف فلا أظنّ أن يكون للعقلاء تفسير من هذا القبيل، فهل يا تُرى إنّ الرجوع إلى البدل في مورد التلف أو الموت يفسّره العقلاء بالملكية الاستطراقية للتالف المنتهي؟


(1) کتاب المکاسب، ج3، ص599 _ 600.

276

بيع المصحف من الکافر

قال الشيخ الأنصاري رحمه الله: «المشهور عدم جواز نقل المصحف إلى الكافر، ذكره الشيخ والمحقّق في الجهاد والعلّامة في كتبه وجمهور من تأخّر عنه، وعن الإسكافي أنّه قال: ولا أختار أن يرهن الكافر مصحفاً، ولا ما يجب على المسلم تعظيمه، ولا صغيراً من الأطفال، انتهى. واستدلّوا عليه بوجوب احترام المصحف، وفحوى المنع من بيع العبد المسلم من الكافر. وما ذكروه حسن وإن كان وجهه لا يخلو عن تأمّل أو منع»(1).

وقال السيّد الخوئي رحمه الله على ما في التنقيح: «ولا ينقضي تعجّبي عن الشيخ الأنصاري(قدس سره) كيف ذكر قوله هذا: (وما ذكروه حسن وإن كان وجهه لا يخلو عن تأمّل أو منع...)؛ بداهة أنّه لو لم يكن الدليل تامّاً كيف يكون الإفتاء بالدليل غير التامّ حسناً؟!»(2).

أقول: لعلّ مقصود الشيخ رحمه الله أنّ ما ذكروه من عدم نقل المصحف إلى الكافر فعلٌ حسن أو احتياطٌ حسن، ولكنّ الدليل غير تامّ.

وعلى أيّ حال فأنت ترى أنّ عمدة الدليل على الحكم دعوى لزوم الإهانة ومخالفة الاحترام للقرآن.

ومن الواضح أنّه لا ملازمة بين نقله إلى ملك الكافر ولا تسليطه الخارجي عليه وبين الإهانة، بل قد يكون ذلك موجباً لنشر الكتاب الكريم وإكمال الحجّة على الكافر، وقد يكون موجباً لهدايته.

وقد قال السيّد الخوئي رحمه الله: «إنّ نقل المصحف إلى الكافر قد يوجب احترامه وتعظيمه؛ لأنّه يطّلع على معارفه وقواعده وإن لم يؤمن به، وقد يكون هذا سبباً لهدايته»(3).


(1) کتاب المكاسب، ج3، ص601 _ 602.

(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص225.

(3) المصدر السابق، ص233.

277

وقد قال السيّد الإمام رحمه الله: «الإنصاف أنّه لم يدلّ دليل على حرمة النقل أو عدم تملّك الكافر إيّاه أو سائر الكتب المقدّسة، فمقتضى القاعدة صحّة نقله إليه وتملّكه له على نحو ما صحّ للمسلم»(1).


(1) كتاب البيع، ج2، ص727.

279

 

 

 

شرائط العوضين

 

 

 

 

281

 

 

 

الشرط الأوّل: المالية

أوّل شرط يذكر عادة في العوضين هو المالية، وقد ذكر الشيخ رحمه الله: «إنّ ما تحقّق أنّه ليس بمال عرفاً فلا إشكال ولا خلاف في عدم جواز وقوعه أحد العوضين»(1).

وعلى أيّة حال فلا إشكال في أصل هذا الشرط في الجملة، لا لما ورد في مثل المصباح المنير من قوله: «والأصل في البيع مبادلة مال بمال...»(2)، حتّى يقال: إنّ تعاريف اللغويّين لفظية ومن قبيل شرح الاسم وغير مبنية على التدقيق(3)، بل لما لا يشكّ فيه العرف ولا العقلاء في الجملة من عدم صحّة البيع ولا التجارة ولا العقد على ما لا مالية له، فلا يشمله قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ﴾(4)، ولا قوله تعالى: ﴿أَوْفُوْا بِالْعُقُودِ﴾(5)، ولا قوله تعالى: ﴿إلَّا أَنْ تَكُوْنَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ﴾(6)، ولا سائر الأدلّة.


(1) كتاب المكاسب، ج4، ص10.

(2) المصباح المنير، ص69، مادّة «بيع».

(3) ولا لقاعدة «لا بيع إلّا في ملك»، فإنّه لو سلّمنا هذه القاعدة فالنسبة بين المالية والملكية عموم من وجه فكما أنّه ربّ مال لا يكون ملكاً كما في المال المسروق كذلك ربّ ملك لا يكون مالاً، كما لو حاز شيئاً من الديدان أو الخنفسان التي لا تعتبر لها مالية ولكنّه حازها للتلهّي بها مثلاً فملكها بالحيازة.

(4) البقرة: 275.

(5) المائدة: 1

(6) النساء: 29.

282

إلّا أنّه يقع الكلام في أنّه ما هي الأُمور التي يحترز عنها بهذا القيد؟ فإنّ ما يعبّر عنها بتعبير «لا مالية له» يمكن أن يكون عديداً من الأُمور من قبيل:

1_ الأُمور الخسيسة كالحشرات، من قبيل الخنافس والديدان.

2_ الشيء القليل كحبّة من الحنطة أو من الأُرز.

3_ ما حرّمت الشريعة الانتفاع به كالخمر ولحم الخنزير.

فالأُمور التي لا تعتبر لها مالية كالخنافس والديدان لا شكّ في أنّه لا يرى عرفاً وعقلائيّاً احترام لبيعها أو العقد عليها أو الاتّجار بها، بل يُرى كلّ هذا أمراً سفهيّاً ولغواً.

ولكن لو اتفقت ثبوت مالية لها لشخص مّا خرج بيعها أو الاتّجار بها والعقد عليها عن السفه أو عدم العقلائية أو عدم الاحترام، فلو اتّفق لأحدٍ إمكان أن يصنع دواءً نافعاً من بعض الحشرات خرجت تلك الحشرة له عن عدم المالية.

والأمر أوضح في مثل حبّة من الحنطة أو الأُرز، فمن نفعته تلك الحبّة للزرع مثلاً كانت الحبّة لها مالية محترمة عنده فقد يُقدم على شرائه من دون سفه أو لغوية.

وأيضاً الأمر واضح فيما لو رأى شخص خطّ جدّه أو صورته مثلاً عند شخص وكان مشتاقاً إليه في حين أنّه لا مالية له لدى الناس الاعتياديّين، ولكن هذا الشخص يستعدّ لشرائه بأعلى الأثمان(1).

أمّا حرمة منافعه شرعاً كالخمر أو لحم الخنزير فلا نتمسّك لإبطال بيعه بحديث تحف العقول: «...وأمّا وجوه الحرام من البيع والشراء... نظير البيع بالربا أو بيع الميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش أو الطير أو جلودها أو الخمر أو شيء من وجوه النجس فهذا كلّه حرام محرّم...»(2) حتّى يناقش في أصل


(1) وإن شئت فعبّر بما عبّر به السيّد الخوئي(رحمه الله) في التنقيح (موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص226 _ 227). من أنّ الشرط في الحقيقة هو عنوان الغرض العقلائي وعدم السفه عرفاً، لا عنوان المالية العرفية.

(2) أخذناه من کتاب المكاسب، ج1، ص7.

283

كونه رواية أو بسبب إرساله وعدم اشتماله على السند بل إنّ بطلان بيعه يكون على القاعدة؛ لأنّ تحريم منافعه أسقطه عن المالية في نظر الشريعة(1)، ولا إطلاق للأدلّة التشريعية لما لا يكون مالاً في نظر تلك الشريعة(2).

ولكن لو اتّفقت له منفعة محلّلة صحّ شراؤها لكلّ أحد إن كانت منفعته المحلّلة رائجة أو لمن تحقّقت له منفعة محلّلة وإن كانت غير رائجة.

ومثاله: ما لو أمكن تخليل الخمر أو أمكن بيع لحم الخنزير للكافر المستحلّ ولو بعنوان استنقاذ ثمنه فيحلّ لهذا المسلم أن يشتري الخمر ليخلّله أو يبيع لحم الخنزير كي يستنقذ به ثمنه من الكافر.

هذا ما نكتفي به من البحث عن شرط المالية.

ملکية العوضين

وأمّا شرط الملكية فلا نبحثه هنا، وقد بحثناه تحت عنوان بحث الفضولي.

إلّا أنّ الشيخ الأنصاري رحمه الله خلط هنا بين شرط المالية وشرط الملكية حيث أفاد بقوله: «والأولى أن يقال: إنّ ما تحقّق أنّه ليس بمال عرفاً فلا إشكال ولا خلاف في عدم جواز وقوعه أحد العوضين؛ إذ لا بيع إلّا في ملك، وما لم يتحقّق فيه ذلك فإن كان أكل المال في مقابله أكلاً بالباطل عرفاً...»(3) إلى أن قال رحمه الله: «ثم إنّهم احترزوا باعتبار الملكية في العوضين من بيع ما يشترك فيه الناس كالماء والكلاء والسموك والوحوش قبل اصطيادها؛ لكون هذه كلّها غير مملوكة بالفعل واحترزوا به عن الأرض المفتوحة عنوة(4)...»(5)، ثم قال رحمه الله: «إنّ كون هذه الأرض _ يعني المفتوحة عنوة _ للمسلمين ممّا


(1) أو قل: جعله سفهيّاً في نظر الشريعة.

(2) أو قل: لما يكون شراؤه سفهيّاً في نظر تلك الشريعة.

(3) کتاب المكاسب، ج4، ص10.

(4) أي: المفتوحة بالسلاح من قبل المسلمين بشكل مشروع.

(5) المصدر السابق، ص11

284

ادّعي عليه الإجماع، ودلّ عليه النصّ كمرسلة حمّاد الطويلة وغيرها»(1).

أقول: ليست مرسلة حمّاد مشتملة على كون الأراضي المفتوحة عنوة ملكاً للمسلمين، وإنّما ورد في جملة منها قوله(عليه السلام): «والأرضون التي أُخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها ويحييها ويقوم عليها على ما صالحهم الوالي على قدر طاقتهم...»(2).

وهذا التعبير كما ينسجم مع فرض كون الأراضي المفتوحة عنوة ملكاً للمسلمين كذلك ينسجم مع فرض كونها من الأنفال.

وأمّا مسألة جواز بيعها وعدم جواز بيعها فهي بحث سيّال في جميع أراضي الأنفال كما هي واردة في المفتوحة عنوة التي هي ملك للمسلمين.


(1) کتاب المكاسب، ج4، ص11 _ 12.

(2) وسائل الشيعة، ج15، ص111، الباب41 من أبواب جهاد العدو وما یناسبه، ح2.

285

الأراضي

هذا، وقال الشيخ رحمه الله: «وحيث جرى الكلام في ذكر بعض أقسام الأرضين فلا بأس بالإشارة إجمالاً إلى جميع أقسام الأرضين وأحكامها»(1).

أقسام الأرض:

ثم شرع رحمه الله في هذا البحث، وقسّم الأرض إلى أربعة أقسام: لأنّها إمّا موات، وإمّا عامرة، وكلّ منهما إمّا أن يكون كذلك أصلية أو عرض لها ذلك، فالأقسام أربعة لا خامس لها(2).

ثم بدأ رحمه الله بشرح أحكام الأقسام وقال:

القسم الأوّل: ما يكون مواتاً بالأصالة بأن لم تكن مسبوقة بعمارة

ولا إشكال ولا خلاف منّا في كونها للإمام عليه السلام والإجماع عليه محكي عن الخلاف والغنية وجامع المقاصد والمسالك وظاهر جماعة أُخرى، والنصوص بذلك مستفيضة، بل قيل: إنّها متواترة.

وأفاد السيّد الخوئي رحمه الله _ بحسب ما ورد في التنقيح _: أنّه لا إشكال ولا خلاف في أصل الحكم، وهو أنّ الأرض الموات بالأصالة للإمام؛ فإنّ هذا من الأمر المتسالم عليه لدى فقهاء الإمامية، ولكنّه استشكل(قدس سره) في دعوى استفاضة الروايات الدالّة على ذلك أو تواترها ببيان أنّه إن كان المقصود بتلك الروايات هي روايات «كلّ أرض خربة»(3) أو روايات «الأرض كلّها للإمام» وهي صحيحة أبي سيّار(4) وصحيحة


(1) المکاسب، ج4، ص12.

(2) المصدر السابق.

(1) من قبيل عدد من روايات الباب الأوّل من أبواب الأنفال وما یختص بالإمام من الوسائل، ج7، ص295.

(2) وسائل الشيعة، ج9، ص548، الباب4 من أبواب الأنفال وما یختص بالإمام، ح12.

286

أبي خالد الكابلي(1) فهي وإن كانت كثيرة إلّا أنّها خارجة عن محلّ الكلام؛ لأنّ المراد من الأوّل ما تكون عامرة ثم خربت، وبديهي أنّ محلّ كلامنا هو موات الأرض بالأصالة، والثاني أيضاً خارج عن محلّ الكلام؛ لأنّه لا شكّ ولا شبهة في كون الأرض والسماء وجميع ما خلق الله لهم(عليهم السلام)، ولكن كلامنا في خصوص موتان الأرض، فلا تبقى إلّا روايات قلائل دالّة على المقصود، وأين هذه من الاستفاضة؟!(2)

أقول: إنّ حمل روايات «الأرض كلّها لنا» على المعنى الذي يكون كلّ ما خلق الله من الدنيا لهم بذاك المعنى غريب وخلاف الظاهر بلا إشكال، فظاهرها هو أنّ الأرض كلّها من الأنفال وهي بإطلاقها تشمل الموات.

نعم، لا شكّ أنّ جميع ما خلق الله من الدنيا وما فيها ملك بمعنى آخر للإمام، وقد وردت بذلك عدد من الروايات غير تامّة سنداً، وهي مذكورة في أُصول الكافي(3)، ولكن قياس صحيحتي أبي سيّار وأبي خالد الكابلي بتلك الروايات ليس في محلّه.

وإن شئت تلك الروايات فنحن ننقلها من أُصول الكافي، وهي ما يلي:

1_ رواية أحمد بن محمد بن عبدالله عمّن رواه قال: «الدنيا وما فيها لله تبارك وتعالى ولرسوله ولنا، فمن غلب على شيء منها فليتّق الله وليؤدّ حقّ الله تبارك وتعالى وليبرّ إخوانه، فإن لم يفعل ذلك فالله ورسوله ونحن براء منه»(4).

2_ رواية أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «قلت له: أما على الإمام زكاة؟ فقال: أحلت يا أبا محمد، أما علمت أنّ الدنيا والآخرة للإمام يضعها إلى من يشاء، جائز له ذلك من الله...»(5).


(1) وسائل الشیعة، ج25، ص414، الباب3 من أبواب إحياء الموات، ح2.

(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص230 _ 231.

(3) الکافي، ج1، ص408 _ 409، باب أنّ الأرض كلّها للإمام(عليه السلام) من كتاب الحجّة، ح2 و4 و6 و7.

(4) المصدر السابق، ص408، ح2.

(5) المصدر السابق، ح4

287

3_ رواية محمد بن الريّان قال: كتبت إلى العسكري(عليه السلام): «جعلت فداك روي لنا أن ليس لرسول الله(صل الله عليه وآله) من الدنيا إلّا الخمس، فجاء الجواب: إنّ الدنيا وما عليها لرسول الله(صل الله عليه وآله)»(1).

4_ رواية جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول الله(صل الله عليه وآله): خلق الله آدم وأقطعه الدنيا قطيعة، فما كان لآدم عليه السلام فلرسول الله(صل الله عليه وآله) وما كان لرسول الله فهو للأئمّة من آل محمد(عليهم السلام)»(2).

وحمل صحيحتي أبي سيّار وأبي خالد على هذا المعنى لا موجب له، ولعلّ حشر الكليني رحمه الله لهذه الروايات مع الصحيحتين في باب واحد وهو باب «أنّ الأرض كلّها للإمام» أوحى إلى ذهن السيّد الخوئي رحمه الله حملهما على ذلك.

وأمّا ما هي الروايات الآحاد التي أشار إليها السيّد الخوئي رحمه الله الدالّة على كون موات الأرض من الأنفال فالمشار إليه في الكتاب لا يناسب مقام السيّد الخوئي، فنحن نضرب صفحاً عن نقل ما في الكتاب، وبإمكانك أن تراجعه ونذكر نحن ما يمكن قبول دلالته على كون موات الأرض من الأنفال بعد فرض عدم دلالة روايات الأرض الخربة وبطون الأودية(3)، وهي روايات عديدة من قبيل:

1_ مرسلة حمّاد عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح عليه السلام المشتملة على قوله: «وله رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكلّ أرض ميتة لا ربّ لها»(4).


(1) المصدر السابق، ص409، ح6.

(2) المصدر السابق، ح7.

(1) فرض عدم دلالة «بطون الأودية» الواردة في صحيحة حفص بن البختري _ وسائل الشيعة، ج9، ص523، الباب الأوّل من أبواب الأنفال وما یختص بالإمام، ح1_ مبنيّ على افتراض دعوى انصرافها إلى المحياة.

(2) وسائل الشيعة، ج9، ص524، الباب الأوّل من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح4.

288

2_ مرسلة المقنعة(1) عن محمد بن مسلم وفيها: «وبطون الأودية ورؤوس الجبال»(2)، فلو شككنا في شمول بطون الأودية على الميتة فلا شكّ أنّ رؤوس الجبال عادة من الموات.

3_ مرسلة العيّاشي عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام «قال: لنا الأنفال قلت: وما الأنفال؟ قال: منها المعادن والآجام وكلّ أرض لا ربّ لها وكلّ أرض باد أهلها فهو لنا»(3). والموات الأصلية تعتبر أرضاً لا ربّ لها.

4 _ ما رواه الطوسي رحمه الله(4) بإسناده عن الحسين بن سعيد عن حمّاد عن شعيب عن أبي بصير قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن شراء الأرضين من أهل الذمّة فقال: لا بأس بأن يشتري منهم إذا عملوها وأحيوها فهي لهم وقد كان رسول الله(صل الله عليه وآله) حين ظهر على خيبر وفيها اليهود خارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها ويعمّرونها»(5).

وجه الاستدلال بذلك هو أنّ الإمام عليه السلام استشهد لصحّة شراء الأرضين من أهل الذمّة بفعل رسول الله(صل الله عليه وآله) مع أهل خيبر فيما عملوها وأحيوها، ونحن لا نشكّ في أنّ أرض خيبر كانت من الأنفال، فهذا يعني أنّ الأرضين التي تشتری من أهل الذمّة بعد أن عملوها وأحيوها تعتبر من الأنفال، وهذا لا يكون إلّا إذا فرضت الأرضون الموات من الأنفال.

وأمّا سند الحديث فتامّ؛ لأنّ شعيباً هنا عبارة عن شعيب بن يعقوب العقرقوفي، والدليل على ذلك أنّ حمّاد بن عيسى راوٍ لكتابه وهو ابن اخت أبي بصير يحيى بن القاسم. وهو ثقة عين لا غبار عليه.


(1) المقنعة، ص290،الباب38 من کتاب الزکاة والخمس والجزية.

(2) وسائل الشيعة، ج9، ص524، الباب الأوّل من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام، ح4.

(3) المصدر السابق،‌ص533، ح28؛ کتاب التفسیر(للعيّاشي)، ج2، ص48.

(4) تهذيب الأحکام، ج7، ص148، الباب11 من کتاب التجارات،‌ح6.

(5) وسائل الشيعة، ج25، ص416، الباب4 من کتاب إحياء الموات، ح1

289

ولو فرضنا عدم الجزم بكونه العقرقوفي فالشخصان المعروفان في هذه الطبقة عبارة عن شعيب بن يعقوب العقرقوفي وشعيب بن أعين الحدّاد، وكلاهما ثقة.

5_ صحيحة عمر بن يزيد قال: «سمعت رجلاً من أهل الجبل يسأل أبا عبدالله عليه السلام عن رجل أخذ أرضاً مواتاً تركها أهلها فعمرها وكرى أنهارها وبنى فيها بيوتاً وغرس فيها نخلاً وشجراً؟ قال: فقال أبو عبدالله(عليه السلام): كان أميرالمؤمنين عليه السلام يقول: من أحيى أرضاً من المؤمنين فهي له وعليه طسقها يؤدّيه إلى الإمام في حال الهدنة، فإذا ظهر القائم فليوطّن نفسه على أن تؤخذ منه»(1).

وقوله: «من أحيى أرضاً» يشمل بإطلاقه الموات الأصلية وثبوت الطسق عليه، وتوطين نفسه على أن تؤخذ منه لدى ظهور القائم(عجل الله تعالى فرجه الشريف) دليل على كونها من الأنفال.

وعلى أيّ حال فبعد فرض عدم قبول دلالة روايات الأرض الخربة وعنوان بطون الأودية على المقصود تنحصر الروايات في مثل هذه الروايات الخمس، والصحيح سنداً منها منحصر في الرواية الرابعة والخامسة.

وبعد، فإنّي لا أشكّ في صحّة ما ادّعاه الشيخ الأنصاري رحمه الله من استفاضة الروايات الدالّة على أنّ الموات الأصلي للإمام؛ وذلك بضمّ روايات الأرض الخربة والتي يوجد أكثرها في الباب الأوّل من الأنفال من الوسائل إلى مثل الروايات الماضية وإلى روايتي: «الأرض كلّها لنا» اللتين مضت الإشارة إليهما.

وأمّا ما أفاده السيّد الخوئي رحمه الله من أنّ المقصود بها ما تكون عامرة ثم خربت لا الموات الأصلي من الأرض(2) فهو وإن كان صحيحاً ولكنّ العرف يتعدّى من الأرض الخربة إلى الموات الأصلي الذي لا ربّ له، ولا يحتمل اختصاص امتلاك الإمام بالأرض الخربة أو التي باد أهلها دون الموات الأصلي الذي لا ربّ له.


(1) المصدر السابق، ج9، ص549، الباب4 من أبواب الأنفال وما یختص بالإمام، ح13.

(2) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج37، ص231.

290

ولا بأس بأن أذكر هنا عين النصّ لصحيحتي أبي سيّار والكابلي:

أمّا صحيحة أبي سيّار فقد روى في الوسائل عن الشيخ بسند تام عن أبي سيّار مسمع بن عبدالملك قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): إنّي كنت وُلّيت الغوص فأصبت أربعمائة ألف درهم وقد جئت بخمسها ثمانين ألف درهم وكرهت أن أحبسها عنك وأعرض لها وهي حقّك الذي جعل الله تعالى لك في أموالنا فقال: وما لنا من الأرض وما أخرج الله منها إلّا الخمس؟! يا أبا سيّار الأرض كلّها لنا فما أخرج الله منها من شيء فهو لنا قال: قلت له: أنا أحمل إليك المال كلّه، فقال لي: يا أبا سيّار قد طيّبناه لك وحلّلناك منه، فضمّ إليك مالك، وكلّ ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محلّلون ومحلّل لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيدي سواهم، فإنّ كسبهم من الأرض حرام عليهم حتّى يقوم قائمنا فيأخذ الأرض من أيديهم ويخرجهم منها صغرة»(1).

وذيل الحديث بادٍ عليه التشويش؛ إذ ما معنى جبايتهم طسق ما كان في أيدي سواهم؟!

والذي يرفع التشويش نسخة الكافي التي وردت فيها عبارة ساقطة عن وسط هذا التعبير(2) فقد روى في الوسائل عن الكافي نفس الحديث بفرق أنّه قال: «إنّي كنت وُلّيت البحرين الغوص ثم قال في آخره: فيجبيهم طسق ما کان في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم، وأمّا ما كان في أيدي غيرهم فإنّ كسبهم من الأرض حرام...»(3).

وأمّا صحيحة الكابلي فهي ما ورد في الوسائل بسند تام عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر عليه السلام قال: «وجدنا في كتاب علي(عليه السلام): ﴿إِنَّ الأَرْضَ لِلّٰهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ


(1) وسائل الشيعة، ج9، ص548، الباب4 من أبواب الأنفال وما یختص بالإمام، ح12.

(2) الکافي، ج1، ص408، باب أنّ الأرض کلّها للإمام(عليه السلام) من کتاب الحجّة، ح3.

(3) المصدر السابق.

291

مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ﴾(1) أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الأرض ونحن المتّقون، والأرض كلّها لنا، فمن أحيى أرضاً من المسلمين فليعمرها وليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها، فإن تركها وأخربها فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها وأحياها فهو أحقّ بها من الذي تركها فليؤدّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي وله ما أكل منها حتّى يظهر القائم من أهل بيتي بالسيف فيحويها ويمنعها ويخرجهم منها كما حواها رسول الله(صل الله عليه وآله) ومنعها إلّا ما كان في أيدي شيعتنا فإنّه يقاطعهم على ما في أيديهم ويترك الأرض في أيديهم»(2).

ويشهد لما قلناه من أنّ هاتين الصحيحتين ناظرتان إلى مسألة الأنفال، لا إلى ما تنظر إليه الروايات الأربع التي نقلناها عن الكافي من مملوكية الدنيا بأجمعها للإمام ما ورد في خصوص هاتين الصحيحتين _ دون تلك الروايات _ من تفريع أداء الطسق أو الخراج في هاتين الصحیحتين على كون الأرض كلّها لهم(عليهم السلام).

يبقى الكلام في أنّنا كيف نثبت وثاقة أبي خالد الكابلي الراوي لهذه الرواية فنقول:

وجه وثاقته رواية صفوان بن يحيى عنه وهو أحد الثلاثة الذين لا يروون ولا يرسلون إلّا عن ثقة.

فقد روى حمدويه بن نصير قال: حدّثنا أيّوب عن محمد بن الفضل وصفوان عن أبي خالد القمّاط عن حمران قال: «قلت لأبي جعفر(عليه السلام): ...»(3).

وأيضاً روى محمد بن يعقوب عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبدالجبّار وعن أبي العبّاس الرزّاز عن أيّوب بن نوح وعن حميد بن زياد عن ابن سماعة ومحمد بن


(1) الأعراف: 128.

(2) وسائل الشيعة، ج25، ص414، الباب3 من کتاب إحياء الموات، ح2.

(3) رجال الکشي، ص3.