105

أداء مثله، ولعلّه لم يتعرّض في النصوص لضمان المثل إيكالاً إلى الارتكاز العقلائي، وأنّ هذا ممّا يفهمه كلّ أحد، فلو تلف المبيع بالعقد الفاسد وكان مثليّاً لزم أداء مثله(1).

أقول: إنّ هذا الكلام في الجملة صحيح، لكنّه لا يمكن الالتزام به على إطلاقه؛ فإنّ الارتكاز العقلائي كما يحكم بضمان خصوصيّات المثل كذلك يحكم بضمان المالية، فلا يمكن أن يقول الغاصب للثلج في حرّ الصيف وأراد إرجاع مثله في قلب الشتاء حينما لم تبق أيّة قيمة للثّلج: إنّني أخرج من الضمان بدفع المثل.

وهو رحمه الله التفت إلى ذلك واعترف بأنّ في فرض سقوط المثل عن القيمة نهائيّاً _ كما في الثلج المغصوب في الصيف إذا سقط عن القيمة نهائيّاً في الشتاء _ لا يمكن الخروج عن الضمان بأداء ما سقط عن القيمة بشكل كامل، موضَّحاً ذلك _ بحسب ما ورد في التنقيح _ بأنّ سقوط المثل عن القيمة يجعله ملحقاً بما إذا تعذّر المثل؛ لأنّ المفهوم من دليل الضمان من السيرة وغيرها هو وجوب ردّ المال، فلابدّ أن تكون للمضمون مالية، والمفروض في المقام عدم بقاء مالية للمثل(2).

ولكن الخطأ العظيم الذي وقع رحمه الله فيه أنّه التزم بكفاية دفع أدنى القيم من حين بدء المثل بالسقوط إلى ما قبل لحظة السقوط الكامل، ففي مثال الثلج يكفي هذا الغاصب أن يدفع أقلّ قيمة وصل الثلج إليه قبل أن يبرد الجوّ إلى حدّ يسقط نهائياً عن القيمة؛ لأنّ العين تثبت في الذمّة إلى يوم الدفع، فلو طالبه في يوم السقوط بالقيمة وجب دفع قيمة ذاك اليوم لا قيمة يوم التلف ولا أعلى القيم ولا غيرهما من الوجوه المذكورة في المسألة(3).

أقول: إنّ نفس الارتكاز العقلائي الذي يحكم بضمان المثل يحكم أيضاً _ في حين


(1) المصدر السابق.

(2) راجع المصدر السابق، ص266 و270.

(3) راجع المصدر السابق، ص270.

106

نزول القيمة الاستعمالية للمال المغصوب أو نحوه _ بضمان القيمة الاستعمالية، فلا يكتفي في الثلج الذي نزلت قيمته ببرودة الجوّ _ من دون السقوط الكامل _ بقيمته في دور النزول.

وأيضاً قال رحمه الله _ على ما ورد في التنقيح _ : لو نزلت قيمة التالف المثلي يوم الردّ فالظاهر أنّه يجب ردّ المثل دون القيمة؛ لأنّ حاله حال العين إذا كانت باقية وتنزّلت قيمتها السوقية فلا إشكال في أنّ ردّ الزائد عن المثل غير واجب على الضامن؛ لأنݧّه ضامن للمثل، ولا ربط لنقصان القيمة في السوق به.

ويؤيّده ما عن محمد بن الحسن الصفّار عن محمد بن عيسى عن يونس قال: «كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه كان لي على رجل دراهم وأنّ السلطان أسقط تلك الدراهم وجاءت دراهم أعلى(1) من الدراهم الأُولى ولها اليوم وضيعة، فأيّ شيء لي عليه؛ الأُولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب(عليه السلام): لك الدراهم الأُولى»(2)، فإنّ الإمام عليه السلام حكم بأنّ له الدراهم الأُولى مع فرض تنزّل قيمتها وأنّ لها وضيعة.

ولا يتوهّم دلالتها على اشتغال الذمّة بالمثل حتّى مع فرض سقوطه عن المالية بالمرّة؛ لأنّ الدراهم المتعارفة في تلك الأعصار كانت من الفضّة، فكانت لموادّها مالية، فإسقاط السلطان كان موجباً لنقص ماليّتها لا زوال ماليّتها رأساً(3).

أقول: أمّا استشهاده رحمه الله بصحيحة يونس بن عبدالرحمن بحسب نقل الشيخ(4)


(1) وفي نسخة: الأغلی.

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص206، الباب20 من أبواب الصرف، ح2. وفي هامش المخطوط من الوسائل ذكر الشيخ الحرّ: «في الفقيه زيادة: عشرة».

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص265 _ 266.

(4) الاستبصار، ج3، ص99، الباب2 من أبواب الصرف، ح1.

107

والصدوق(1) التي ورد فيها قوله: «لك الدراهم الأُولى» فيرد عليها أنّها معارضة بنسخة الكافي: «كتبت إلى أبي الحسن الرضا(عليه السلام): أنّ لي على رجل ثلاثة آلاف درهم وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيّام وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب إليّ: لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس»(2).

والرواية الأُولى بحسب نقل الصدوق عبّر بتعبير: «كان لي على رجل عشرة دراهم»، فهذا شاهد على تعدّد الرواية؛ لأنّ نقل الكافي ورد فيه «ثلاثة آلاف درهم».

ولكن على نقل الطوسي عبّرت بتعبير: «كان لي على رجل دراهم»، وهذا يناسب وحدة الروايتين كما تؤيّد الوحدة وحدة الإمام ووحدة السند من محمد بن عيسى إلى الإمام، وعلى تقدير وحدة الرواية تدخل في عنوان الرواية مضطربة المتن، وإن كانت تؤيّد نسخة: «لك الدراهم الأُولى» ما ورد في مضمرة صفوان: «لصاحب الدراهم الدراهم الأُولى»(3).

وعلى أيّ حال فالجمع المنقول بين الروايتين عن الطوسي أو الصدوق جمع تبرّعي لا قيمة له، وجمع الصدوق ما يلي: قال: «والحديثان متّفقان غير مختلفين، فمتى كان للرجل على الرجل دراهم بنقد معروف فليس له إلّا ذلك النقد، ومتى كان له على الرجل دراهم بوزن معلوم بغير نقد معروف فإنّما له الدراهم التي تجوز بين الناس»(4).

وجمع الشيخ في الاستبصار ما يلي: «قال: فأمّا ما رواه محمد بن أحمد بن يحيى


(1) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص191، باب الدین والقرض من کتاب المعيشة، ح3716.

(2) الکافي، ج5، ص252، باب آخر من کتاب المعيشة، ح1.

(3) وسائل الشيعة، ج18، ص307، الباب2 من أبواب الصرف، والسند ساقط بمحمد بن عبدالجبّار الذي لا دليل على وثاقته عدا وروده في تفسير القمي والعبّاس بن صفوان الذي هو مجهول.

(4) من لا يحضره الفقيه، ج3، ص191، باب الدین والقرض من کتاب المعيشة، ذيل الحديث3716.

108

عن سهل بن زياد عن محمد بن عيسى... لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس»(1) فلا ينافي الخبرين الأوّلين؛ لأنّه إنّما قال: لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس يعني بقيمة الدراهم الأُولى ما ينفق بين الناس؛ لأنّه يجوز أن تسقط الدراهم الأُولى حتّى لا يكاد تؤخذ أصلاً فلا يلزمه أخذها وهو لا ينتفع بها، وإنّما له قيمة دراهمه الأوّلة وليس له المطالبة بالدراهم التي تكون في الحال»(2).

وعلى كلّ تقدير فتأييد السيّد الخوئي رحمه الله ما اختاره برواية مبتلاة بالمعارض أو باضطراب المتن ليس في محلّه.

وأمّا قوله رحمه الله: «لا إشكال في أنّ ردّ الزائد عن المثل غير واجب على الضامن؛ لأنّه ضامن للمثل، ولا ربط لنقصان القيمة في السوق به»(3) فيرد عليه: أنّ نقصان القيمة السوقية إن كان بمثل انتشار السلعة في السوق فصحيح أنّ ذلك في باب القرض لا يوجب الضمان وفق القاعدة مادام تأخير أداء القرض كان جائزاً ولم يكن بحكم الغصب؛ لأنّ الارتكاز العقلائي لا يقضي بضمان الخسارة التجارية، وإلّا لكان استيراد التاجر للمتاع الموجب لخسارة التاجر السابق تجاريّاً موجباً لضمان التاجر الثاني للتاجر الأوّل، وهذا ما لا يقبله الارتكاز. ولكن حينما يكون بنقص القيمة الاستهلاكية كما في مثال الثلج بعد برد الجوّ أو مثال الدرهم بعد تبديل السلطان إيݧّاه فنفس الارتكاز العقلائي يقضي بالضمان، فسوق القسمين من النقص السوقي مساقاً واحداً ليس في محلّه.

ثم إنّ أصل الدليل الذي اختاره السيّد الخوئي رحمه الله في التنقيح من السيرة العقلائية أو الارتكاز العقلائي الحاكم بأنّ من أتلف شيئاً من أموال غيره لزمه أداء المثل يجري في القيميّات أيضاً، وقد اعترف هو بذلك في التنقيح فيما إذا كان مثل التالف في


(1) الاستبصار، ج3، ص100، الباب2 من أبواب الصرف، ح3.

(2) المصدر السابق، ذیل الحدیث3.

(3) موسوعة الإمام الخوئي(رحمه الله)، ج36، ص265.

109

القيمي موجوداً صدفة أو كان في ذمّة المالك مثله للضامن، فقال رحمه الله: «لا ريب في أنّ القيمي إذا تلف وكان مثله موجوداً لزم أداء المثل دون القيمة، وأمّا ما ورد من أداء القيمة في بعض النصوص فهو محمول على صورة تعذر المثل... وأمّا الإجماع المدّعی في المقام على ضمان القيمي بالقيمة لا إطلاق له يشمل صورة تيسّر المثل، وكذا لو كان التالف في يد المشتري هو القيمي وكان في ذمّة المالك أيضاً مثله للضامن فلا تصل النوبة إلى القيمة أيضاً، بل لابدّ من التهاتر القهري كما لو كان لكلّ منهما على ذمّة الآخر ذراع من الكرباس»(1).

أقول: وحيث إنّ السيّد الخوئي رحمه الله لا يؤمن بالإجماعات المنقولة وبالأخصّ المحتملة المدركية فالمفروض أن يكون الدليل على قيمية القيميّات:

إمّا دعوى التفكيك بينها وبين المثليّات بالارتكاز العقلائي، وعهدته على مدّعيه، ونحن ندّعي في مقابل تلك الدعوى أنّ المورد الذي يرى فيه الارتكاز ضمان المثل في المثليّات يری ذلك أيضاً في القيميّات، فتكون القيمة عبارة عن قيمة يوم الدفع.

وإمّا دعوى أنّ الروايات الخاصّة واردة في القيميّات.

الکلام في الروايات التي يدّعی دلالتها علی ضمان القيمة في القيميّات

ومن هنا ننتقل إلى بحث الروايات التي قد يدّعى دلالتها على ضمان القيمة فيما قد يسمّى بالقيميّات، وننقل منها ما يلي بحول الله وقوّته:

الأُولى: روايات عتق أحد الشركاء نصيبه من العبد الدالّة على ضمان المعتق قيمة حصص الباقين.

وأكثر تلك الروايات ليس فيها تصريح بغير قيمة يوم الأداء فيحتمل فيها إرادة قيمة يوم الدفع(2).


(1) المصدر السابق، ص272.

(2) من قبيل: ح 1 و5 و7 و9 و11 و12 من الباب18 من کتاب العتق من الوسائل، ج23، ص36 _ 40.

110

وقد مضى أنّ هذا ينسجم مع كون المضمون هو المثل، فلنقتصر في ذكر هذه الروايات على روايات قيمة يوم العتق حتّى يمكن أن يقال: لو كان المضمون هو المثل لكان المترقّب أن تكون عليه قيمة يوم الأداء، لا قيمة يوم الإتلاف، وهو يوم العتق. وتلك الروايات ما يلي:

1_ ما عن محمد بن قيس بسند تامّ عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من كان شريكاً في عبد أو أمة قليل أو كثير فأعتق حصّته وله سعة فليشتره من صاحبه فيعتقه كلّه، وإن لم يكن له سعة من مال نظر قيمته يوم أُعتق ثم يسعى العبد في حساب ما بقي حتّى يعتق»(1).

إلّا أنّ هذا الحديث وإن ذكر قيمة يوم العتق، لكنّه لم يجعلها على عاتق المُتلف أو من هو بمنزلة المتلف وهو الذي أعتق حصّته، وإنّما حكم على المعتق بشراء باقي الحصص، وطبيعي أنّه يشتريها بقيمة يوم الشراء أو بأيّ قيمة يتراضی عليها مع شريكه، لا بقيمة يوم العتق. أمّا العبد الذي يستسعى فليس ضامناً أصلاً، فالرواية أجنبية عمّا نحن فيه.

2_ ما عن محمد بن قيس بسند تامّ عن أبي جعفر(عليه السلام): «قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في عبد كان بين رجلين، فحرّر أحدهما نصفه وهو صغير، وأمسك الآخر نصفه حتّى كبر الذي حرّر نصفه. قال: يقوّم قيمة يوم حرّر الأوّل وأُمر المحرَّر(2) أن يسعى في نصفه الذي لم يحرّر حتّى يقضيه»(3).


(1) وسائل الشيعة، ج23، ص37، الباب 18 من کتاب العتق، ح3.

(2) الوارد في الوسائل في طبعة الربّاني وطبعة مؤسّسة آل البيت «وأُمر الأوّل» ولم أُراجع الطبعة الحجرية القديمة، وهذا غلط، فإنّ الذي يستسعى هو المحرَّر بالفتح وليس المحرّر بالكسر، فالصحيح هو ما في نسخة الأصل وهو الكافي وهو «المحرَّر» بالفتح. الکافي، ج6، ص183، باب المملوك بین شرکاء يعتق أحدهم نصيبه أو يبيع، ح4.

(3) وسائل الشيعة، ج23، ص37، الباب 18 من کتاب العتق، ح4.

111

وهذا أيضاً يأتي فيه نفس النقاش الذي ذكرناه في الحديث الأوّل.

3_ ما عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله قال: «سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قوم ورثوا عبداً جميعاً، فأعتق بعضهم نصيبه منه، كيف يصنع بالذي أعتق نصيبه منه؟ هل يؤخذ بما بقي؟ فقال: نعم، يؤخذ بما بقي منه بقيمته يوم أُعتق»(1).

وهذا فرقه عن الحديثين السابقين أنّه جعل قيمة يوم العتق على من هو بمنزلة المُتلف، وهو المعتق.

إلّا أنّ جملة «منه بقيمة يوم أُعتق» إنّما وردت في نسخة الكافي(2)، وسندالكافي ضعيف بمعلّى بن محمد ولم ترد في نسخة التهذيب(3) الذي يكون سنده تامّاً.

على أنّ نصّ الكافي أيضاً يبدو وجود الخلاف بين نسخه، فإنّ صاحب الوسائل الذي نقل النصّ عن الكافي اقتصر على «نعم، يؤخذ بما بقي منه». ثم قال في هامش المخطوط: في نسخة زيادة: «بقيمته يوم أُعتق».

الثانية: ما عن السكوني بسند فيه النوفليّ عن أبي عبدالله(عليه السلام): «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين. فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): يقوّم ما فيها ثم يؤكل؛ لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرموا له الثمن. فقيل: يا أمير المؤمنين عليه السلام لا يدری سفرة مسلم أو سفرة مجوسي. فقال: هم في سعة حتّى يعلموا»(4).

إلّا أنّ الظاهر أجنبية الحديث عمّا نحن فيه؛ لأنّ الذي يبدو لنا أنّ المقصود بالتقويم ثم الأكل أنّهم يتملّكون الطعام بقيمته ثم يأكلون، لا أنّهم يأكلون مال الناس فيضمنون فتكون عليهم قيمة يوم الإتلاف.


(1) المصدر السابق، ص38، ح6.

(2) الکافي، ج6، ص183، باب المملوك بین شرکاء يعتق أحدهم نصيبه أو يبيع، ح6.

(3) تهذيب الأحکام، ج8، ص219، الباب الأوّل من کتاب العتق والتدبير والمکاتبة، ح17.

(4) وسائل الشيعة، ج17، ص468، الباب23 من کتاب اللقطة، ح1.

112

وتطرّق احتمال ما ذكرناه إلى حدّ الإجمال يكفي في عدم إمكان التمسّك بهذا الحديث على المقصود.

الثالثة: روايات نكاح الأمة المسروقة الواردة في الوسائل(1) الدالّة على أداء قيمة الولد.

ولكن يمكن تطبيقها على يوم الأداء إن لم نقل بانصرافها إلى ذلك، کما لا يتصوّر عادة إمكانية أداء المثل، فمن الطبيعي الانتقال إلى أداء قيمة يوم الأداء. فهذه الروايات أجنبية عن المقام.

الرابعة: روايات وقوع التهاتر بين الدين والرهن التالف عن تقصير(2). فلولا كون الرهن قيميّاً لكان المترقّب عدم التهاتر واسترجاع الدين وإرجاع مثل العين المرهونة.

وبطلان الاستدلال بهذه الروايات في غاية الوضوح؛ لأنّ العين المرهونة غير مشخّصة في هذه الروايات، فقد تكون ممّا يكثر مثلها، كما قد تكون ممّا لا مثل لها، فلو فرضت دلالة هذه الروايات علی القيمية لدلّت على قيمية كلّ شيء.

والواقع أنّ مفاد هذه الروايات هو أنّه كما كانت العين المرهونة رهناً في مقابل الدين، أي أنّه إذا لم يؤدّ الدين اقتصّ من العين المرهونة، كذلك الدين رهن في مقابل العين المرهونة، أي أنّها لو تلفت بتقصير اقتصّ من الدين، فالتهاتر في المقام يكون على أساس التراهن المفروض شرعاً بينهما، لا على أساس قيمية العين المرهونة.

وقد أفاد السيّد الإمام رضوان الله عليه: أنّ مقتضى روايات التهاتر في باب الرهن في مقابل الدين هو القول بالضمان بالقيمة في جميع الأُمور حتّى فيما يكثر مثله(3).

إلّا أنّه رحمه الله لم يفت بذلك، وأفتى في المثلي الذي يوجد مثله _ لا المتعذّر ولا نادر الوجود _ بضمان المثل مستشهداً بأنّ ذلك من قطعيات الفقه. وهذا نصّ كلامه رحمه الله:


(1) وسائل الشيعة، ج21، ص203، الباب88 من أبواب نکاح العبيد والإماء.

(2) راجع المصدر السابق، ج18، ص385 و390، الباب5 و7 من کتاب الرهن.

(3) راجع كتاب البيع (للإمام الخميني(رحمه الله))، ج1، ص583 فصاعداً.

113

«والظاهر أنّ المثلي الذي وجد مثله خارج عنها، ويكون ضمانه بالمثل كما ادّعي الإجماع عليه. وقال صاحب الجواهر: إنّه من قطعيّات الفقه. وعن غاية المراد: أطبق الأصحاب على ضمان المثلي بالمثل إلّا ما يظهر من ابن الجنيد وقد أُوّل كلامه أيضاً، وكيف كان فلا دليل على خروج مطلق المثلي، بل الخارج ما هو موجود مثله، لا المتعذّر ولا نادر الوجود»(1).

أقول: اتّضح ما في هذا الكلام ممّا ذكرناه من أنّ التهاتر بين الرهن والدين أمر طبيعي للتقابل الموجود بينهما، والمفروض من قبل الطرفين، والممضى في فقه الشريعة، ولا علاقة لذلك بمسألة المثلية والقيمية.

الخامسة: روايتا البُختي المغتلم:

ففي صحيحة الحلبي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سئل عن بُختي(2) اغتلم(3) فخرج من الدار فقتل رجلاً، فجاء أخو الرجل فضرب الفحل بالسيف. فقال(عليه السلام): صاحب البُختي ضامن للدية، ويقتصّ ثمن بُختيّه»(4).

وفي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن بختي مغتلم قتل رجلاً فقام أخو المقتول فعقر البختي وقتله ما حاله؟ قال(عليه السلام): على صاحب البختي دية المقتول، ولصاحب البختي ثمنه على الذي عقر بختيّه»(5).

وقد اتّضح جوابهما من جوابنا على بعض الروايات السابقة، وهو أنّ هذا الحكم ينسجم أن يطبّق على قيمة يوم الأداء والتي تنسجم مع فرض الضمان بالمثل.


(1) المصدر السابق، ص592.

(2) الإبل الخراساني.

(3) نقل عن قاموس المحيط أنّ الاغتلام هيجان البعير عند الشهوة الجنسية.

(4) وسائل الشيعة، ج29، ص250، الباب14 من أبواب موجبات الضمان، ح1.

(5) المصدر السابق، ص251، ح4

114

السادسة: صحيحة أبي ولّاد(1) حيث جاء فيها: «...فقلت له: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني؟ قال(عليه السلام): نعم، قيمة بغل يوم خالفته»، وکذلك قوله(عليه السلام): «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اکتری کذا وکذا فيلزمك»، فيقال: إنّ هذا يعني وجوب أداء قيمة يوم الغصب، وهذا يدلّ على كون البغل قيميّاً؛ إذ لو كان مثليّاً لكان المترقّب أن تكون عليه قيمة يوم الأداء، لا قيمة يوم الغصب.

إلّا أنّ هناك نكتتين تثيران الانتباه في هذه الرواية:

الأُولى: أنّ المترقّب على تقدير قيمية البغل أن تكون العبرة بقيمة يوم التلف؛ لأنّه يوم الانتقال إلى القيمة، فيا تُرى لماذا فرض في الحديث أنّ العبرة بقيمة يوم الغصب؟!

والثانية: لماذا جعلت العبرة في الحديث في قيمة التالف بقيمة يوم الغصب، وفي الأرش بقيمة يوم الأداء حيث قال(عليه السلام): «عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه»، فأيّ فرق بين فرض التلف وفرض العيب؟ وجعل يوم الردّ قيداً لخصوص العيب لا لقيمة العيب، مع فرض كون العبرة بقيمة يوم الغصب _ أي قيمة العيب الثابت في يوم الردّ بلحاظ سوق يوم الغصب _ بعيد؟

وبالإمكان أن يقال: إنّ اختلاف قيمة البغل خلال خمسة عشر يوماً _ وهي المدّة المفروضة في الحديث حيث قال: «وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوماً» _ على أساس التضخّم أو على أساس قوانين العرض والطلب بعيد:

أمّا التضخّم فلأنّه بحسب الوضع الاقتصادي المبسّط وقتئذٍ لا يحتمل التضخّم عادةً في هذا الوقت القصير.

وأمّا اختلاف العرض والطلب في هذه المدّة القصيرة فأيضاً بعيد؛ لأنّ البغل ليس كالفاكهة مثلاً فيفترض أنّه بعد خمسة عشر يوماً ازدادت على الأشجار فكثر استيرادها في الأسواق أو انتهى وقتها فقلّ وجودها فيها.


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص120، الباب17 من کتاب الإجارة، ح1.

115

وإنّما الشيء المترقّب هو اختلاف قيمة البغل باختلاف أوصافه سمناً وهزالاً وصحّةً وسقماً وكسلاً ونشاطاً، فالمقصود بقيمة البغل يوم المخالفة قيمة البغل في أوصافه التي ثبتت في يوم المخالفة.

وإذا فسّرت الرواية بهذا التفسير كان الفرق العقلائي بين فرض التلف ومسألة الأرش واضحاً، فقد جعلت العبرة في ضمان التالف بلحاظ حالات البغل سمناً وهزالاً وصحّةً ومرضاً بيوم المخالفة باعتباره يوم الغصب، وجعلت العبرة في الأرش بمدى سعة وضيق الجرح أو الكسر يوم الردّ؛ لأنّه لو توسّع الجرح أو الكسر يوم الردّ كان مضموناً، ولو تضيّق فقد خرج من ضمان ذاك المقدار من الصحّة بالتسليم.

وكذلك أصبحت النكتة العقلائية لجعل الضمان مرتبطاً بما في يوم المخالفة دون يوم التلف واضحة؛ لأنّه إن تدهور وضع الحيوان من بعد يوم المخالفة كان التدهور مضموناً على الغاصب، وإن تحسّن وضعه ثم تراجع مرّة أُخرى فهذا التحسّن كان تحت رعايته فمن المعقول أن لا يكون مضموناً عليه.

وهنا تقريب آخر لإبطال دلالة هذه الرواية على المقصود، وهو أنّ من المحتمل صحّة النسخة التي لم يدخل فيها اللام على البغل ولعلّها هي النسخة المشهورة، فيكون النص هكذا: «نعم، قيمة بغل يوم خالفته»(1) لا: «قيمة البغل يوم خالفته»(2) وعلى هذا التقدير من المحتمل كون كلمة «البغل» غير منوّنة بأن تكون القيمة مضافة إلى بغل يوم المخالفة لا مضافة إلى البغل مع كون مجموع المضاف والمضاف إليه مضافاً إلى يوم المخالفة، والفرق بينهما واضح، فإذا افترضنا أنّ قيمة البغل مضافة إلى يوم المخالفة فقد يقال: إنّ هذا يشمل بالإطلاق فرض اختلاف القيمة على أساس التضخّم أو على أساس قانون العرض والطلب. أمّا إذا افترضنا


(2) وسائل الشيعة، ج19، ص120، الباب17 من کتاب الإجارة، ح1.

(1) الوافي، ج18، ص933، الباب17 من کتاب الإجارة، ح18614 .

116

أنّ القيمة مضافة إلى بغل يوم المخالفة فالاختلاف ابتداءً بين يوم المخالفة ويوم آخر إنّما هو في البغل واختلاف القيمة يكون بتبع اختلاف البغل، فلا إطلاق له لفرض اختلاف القيمة على أساس التضخّم أو قانون العرض والطلب، وإنّما النظر يكون إلى اختلاف القيمة بلحاظ اختلاف أوصاف نفس البغل، ومع وجود هذا الاحتمال لا يتمّ الإطلاق.

ولنا تقريب ثالث لإبطال دلالة الحديث على قيمية القيميّات، وهو: أنّ إطلاق الحديث لفرض اختلاف القيمة السوقية باعتبار التضخّم أو تبدّل وضع العرض والطلب غير ثابت، لا لمجرّد كون هذا فرضاً نادراً حتّى يقال: إنّ الندرة لا توجب الانصراف إلّا الانصراف البدوي، بل لما مضى منّا من دعوى ارتكازية ضمان المثل مطلقاً ونستفيد من الندرة مساعدتها على سهولة الانصراف، أي: أنّ هذا الارتکاز إن صعب فرضه موجباً للانصراف عن حالة شائعة فلا صعوبة في فرضه موجباً للانصراف عن حالة نادرة.

والسابعة: رواية أبي الورد قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل قتل عبداً خطأً قال(عليه السلام): عليه قيمته ولا يجاوز بقيمته عشرة آلاف درهم. قلت: ومن يقوّمه وهو ميّت؟ قال(عليه السلام): إن كان لمولاه شهود أنّ قيمته كانت يوم قتل كذا وكذا أُخذ بها قاتله، وإن لم يكن له شهود على ذلك كانت القيمة على من قتله مع يمينه يشهد بالله ما له قيمة أكثر ممّا قوّمته، فإن أبى أن يحلف وردّ اليمين على المولى فإن حلف المولى أُعطي ما حلف عليه ولا يجاوز بقيمته عشرة آلاف...»(1).

وسند الحديث ضعيف بأبي الورد.

وأمّا من حيث الدلالة فاحتمال الخصوصية في العبد وارد، فإنّ المبلغ الذي يعطيه ليس من باب ضمان التالف بحتاً حتّى تحمل عليه موارد الضمان التالف المشابهة،


(1) وسائل الشيعة، ج29، ص208، الباب7 من أبواب ديات النفس، ح7.

117

بل هو مطعّم بعنوان الدية؛ ولذا قال: «ولا يجاوز بقيمته عشرة آلاف»، أي: لا يجاوز دية الحرّ، كما ورد هذا المضمون في بعض روايات أُخرى(1)، بل ورد في بعضها تسمية قيمة العبد التي تعطى لدى قتله بالدية(2)، والدية تثبت في الذمّة بمجرّد القتل، ودية العبد عبارة من قيمته، فإن کانت القيمة التي تأتي في الذمّة ابتداءً في دية العبد عبارة عن ثمنه يوم قتله لم يدلّ ذلك على أنّ ضمان التالف القيمي يكون على العموم بالقيمة في الذمّة يوم التلف لا المثل.

هذا تمام الكلام في أصل المثلية والقيمية.

وقد اتّضح أنّ المختار دائماً هو ضمان المثل، أو قل: إنّ المختار هو ضمان المثل لدى وجوده، وقيمة يوم الأداء لدى عدم وجود المثل.

نعم، قد يتّفق ضمان أمر أكثر من المثل أو قيمة يوم الأداء، كما في انكسار القيمة الاستهلاكية للثّلج ببرودة الجوّ، فإنّ الارتكاز العقلائي يقتضي ضمان هذا الانكسار.

وأخيراً أقول: إنّه وردت في انكسار القيمة الشرائية للنقد روايتان متعارضتان تامّتان سنداً:

إحداهما: عن يونس قال: «كتبت إلى الرضا(عليه السلام): أنّ لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيّام وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب إليّ: لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس»(3).

والثانية: عن يونس قال: «كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام أنّه كان لي على رجل


(1) راجع المصدر السابق، ص207، الباب6 من أبواب ديات النفس.

(2) راجع المصدر السابق.

(3) المصدر السابق، ج18، ص206، الباب20 من أبواب الصرف، ح1. ورواها الشيخ أيضاً إلّا أنّ في سندها سهل بن زياد(الاستبصار، ‌ج3، ص100، الباب65 من کتاب البيوع، ح3).

118

دراهم وأنّ السلطان أسقط تلك الدراهم وجاءت دراهم أعلى من الدراهم الأُولى ولها اليوم وضيعة، فأيّ شيء لي عليه؛ الأُولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب(عليه السلام): لك الدراهم الأُولى»(1).

وهناك رواية ثالثة ساقطة سنداً تقول: «لصاحب الدراهم الدراهم الأُولى»(2).

والأُوليان إمّا هما رواية واحدة متضاربة المتن أو روايتان متعارضتان كما مضى ذلك منّا.

وقد مضى منّا: أنّ الجمع بينهما لا يكون إلّا جمعاً تبرّعيّاً لا قيمة له(3).

وأقول هنا: لا ينبغي الإشكال في أنّ الارتكاز العقلائي يقتضي ضمان البديل، فهذا ما نفتي به ولو بمعونة كون مخالفة هذا الحقّ العقلائي ضرراً منفيّاً بقاعدة لا ضرر.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص206، الباب20 من أبواب الصرف، ح2. وفي هامش المخطوط من الوسائل ذكر الشيخ الحرّ: «في الفقيه زيادة: عشرة».

(2) المصدر السابق، ص207،‌ح4

(3) راجع بصدد فهم ما قيل في الجمع: من لا يحضره الفقيه، ج3، ص191، باب الدین والقرض من کتاب المعيشة، ذيل الحديث3716؛ والاستبصار، ‌ج3، ص100، الباب 65 من کتاب البيوع، ذيل الحديث3.

119

 

 

 

شروط المتعاقدين في البيع

 

 

 

 

121

 

 

 

الشرط الأوّل: البلوغ

قال الشيخ الأعظم(قدس سره) في المكاسب: «المشهور _ كما عن الدروس والكفاية _ بطلان عقد الصبي بل عن الغنية الإجماع عليه وإن أجاز الولي.

p>وفي كنز العرفان نسبة عدم صحّة عقد الصبي إلى أصحابنا، وظاهره إرادة التعميم لصورة إذن الولي.

وعن التذكرة أنّ الصغير محجور عليه بالنصّ والإجماع سواء كان مميّزاً أو لا في جميع التصرّفات إلّا ما استثنی كعباداته وإسلامه وإحرامه وتدبيره ووصيّته وإيصال الهدية وإذنه في الدخول على خلاف في ذلك»(1).

أقول: لا أُريد أن أجنح إلى ما قد ينقل من قدماء الأصحاب من أنّ الصبي مسلوب العبارة كما هو المفهوم ممّا نقلناه عن الشيخ عن الغنية من الإجماع على بطلان عقد الصبي وإن أجازه الولي، وإنّما أقصد الاستدلال على أنّ الصبي محجور عن التصرّف في ماله بالبيع والشراء، وهذا لا ينافي عدم انسلاب عبارته وصحّة بيعه بإذن الولي أو بإجازته.

ويمكن الاستدلال على ذلك بالكتاب الكريم، وذلك لقوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوْا الْيَتَامَىٰ


(1) کتاب المكاسب، ج3، ص275.

122

حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوْا النَّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مَّنْهُمْ رُشْدَاً فَادْفَعُوْا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ... ﴾(1).

والمحتملات العرفية لكلمة ﴿حَتَّىٰ﴾ في الآية المباركة ثلاثة:

الأوّل: أن تكون للغاية بمعنى النهاية.

والثاني: أن تكون للتعليل بمعنى بيان فائدة الحكم وحكمته.

والثالث: أن تكون حرف ابتداء.

ويؤيّد الاحتمال الأوّل أنّ التعبير بـ ﴿حَتَّىٰ إِذَا﴾ ورد في موردين آخرين في القرآن الكريم ممّا قد يقال إنّه ينحصر حمله على الغاية بمعنى النهاية:

أحدهما: قوله تعالى: ﴿وَسِيْقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَىٰ الْجَنَّةِ زُمَرَاً حَتَّىٰ إِذَا جَاؤُوْهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوْهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوْا الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبݧݧَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَی الْمَلَائِکَةُ حَافَّيْنَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبَّحُوْنَ بِحَمْدِ رَبَّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقَّ وَقِيْلَ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبَّ الْعَالَمِيْنَ﴾(2).

والوجه في عدم صلاحيّتها إلّا للحمل على الغاية بمعنى النهاية أنّ كلمة ﴿إِذَا﴾ جعلت مدخولها من الجملة ناقصة والجملة المعطوفة على تلك الجملة لا تكملها؛ لأنّها معطوفة وليست جواباً لـ ﴿إِذَا﴾، في حين أنّ التعليل بمعنى بيان الفائدة والحكمة من الحكم وكذلك الابتداء بحاجة إلى جملة تامّة.

وثانيهما: قوله تعالى:

﴿َعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلَّفُوْا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوْا أَنْ لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللّٰهِ إلَّا إِلَيْهِ...﴾(3). فهذه لا تناسب الابتداء؛ لأنّ


(1) النساء: 6.

(2) الزمر: 75 _ 73.

(3) التوبة: 118:

123

الجملة المتأخّرة معطوفة فلم تكمل الكلام، ولا تناسب التعليل؛ لأنّ المورد لا ينسجم مع التعليل، ولأنّ الجمل المعطوفة لم تكمّل الكلام. فلو أردنا أن تكون آيتنا مشابهة لهاتين الآيتين فلابدّ من حملها على معنى الغاية، أي: النهاية.

إلّا أنّ هذا المقدار اليسير من الآيات لا يورث اطمئناناً بحمل آيتنا علی معنی الغاية بمعنی النهاية.

والتحقيق: أنّنا لو مشينا على هذا المنهج لتعيّن الحمل على الابتداء وتوضيح ذلك:

أنّ التعبير بـ ﴿حَتَّىٰ إِذَا﴾ قد تكرّر في القرآن اثنتين وأربعين مرّة، وإليك كامل القائمة بذلك:

1_ مرّة واحدة في سورة آل عمران، الآية: 152. وهي تناسب الابتداء فحسب.

2_ مرّتين في سورة النساء، الآية: 6 و18، والآية 6 وهي الآية المرتبطة بمحلّ بحثنا تناسب الوجوه الثلاثة، والآية 18 تناسب الابتداء فحسب.

3_ أربع مرّات في سورة الأنعام، الآية: 25 و31 و44 و61. وكلّها تناسب الابتداء فحسب.

4_ ثلاث مرّات في سورة الأعراف، الآية: 37 و38 و57. وكلّها تناسب الابتداء فحسب.

5_ مرّة واحدة في سورة التوبة، الآية: 118. وهي تناسب الغاية.

6_ ثلاث مرّات في سورة يونس، الآية: 22 و24 و90. وكلّها تناسب الابتداء فحسب.

7_ مرّة واحدة في سورة هود، الآية: 40. وهي تناسب الابتداء فحسب.

8_ مرّة واحدة في سورة يوسف، الآية: 110. وهي تناسب الابتداء فحسب.

9_ ثمان مرّات في سورة الكهف، الآية: 71 و74 و77 و86 و90 و93 و96 (مرّتين). وکلّها جميعاً تناسب الابتداء فحسب، إلّا الآية 74 فهي تناسب كلّاً من الغاية والابتداء.

10_ مرّة واحدة في سورة مريم، الآية: 75. وهي تناسب كلّاً من الغاية والابتداء.

11_ مرّة واحدة في سورة الأنبياء، الآية: 96. وهي تناسب الابتداء فحسب.

124

12_ ثلاث مرّات في سورة المؤمنون، الآية: 64 و77 و99. والأخيرة تناسب الابتداء فحسب، والأوليتان تناسبان كلّاً من الغاية والابتداء.

13_ مرّة واحدة في سورة النور، الآية: 39. وهي تناسب الابتداء فحسب.

14_ مرّتين في سورة النمل، الآية: 18 و84. والأُولى تناسب الابتداء فحسب، والثانية تناسب الابتداء والتعليل.

15_ مرّة واحدة في سورة سبأ، الآية: 23. وهي تناسب الابتداء فحسب.

16_ مرّتين في سورة الزمر، الآية: 71 و73. والأُولى تناسب الابتداء والتعليل، والأخيرة تناسب الغاية.

17_ مرّة واحدة في سورة غافر (المؤمنون)، الآية: 34. وهي تناسب الابتداء فحسب.

18_ مرّةً واحدة في سورة فصّلت، الآية: 20. وهي تناسب الابتداء فحسب.

19_ مرّة واحدة في سورة الزخرف، الآية: 38. وهي تناسب الابتداء فحسب.

20_ مرّة واحدة في سورة الأحقاف، الآية: 15. وهي تناسب الابتداء فحسب.

21_ مرّتين في سورة محمد، الآية: 4 و16. وهما تناسبان كلّاً من الغاية والابتداء.

22_ مرّة واحدة في سورة الجنّ، الآية: 24. وهي تناسب الابتداء فحسب.

ومن يلاحظ هذه القائمة من الآيات يتّضح له:

أوّلاً: أنّ الأكثرية القاطعة لهذه الآيات تناسب الابتداء فحسب.

وثانياً: أنّ الآيات القليلة التي افترضنا تأتّي احتمال الغاية فيها يأتي فيها احتمال الابتداء أيضاً ما عدا آيتين افترضنا عدم تأتّي احتمال الابتداء فيهما، وهما آية التوبة 118، وآية الزمر 73، وكان السبب في افتراضنا عدم تأتّي احتمال الابتداء في هاتين الآيتين أنّ كلمة «حتّى» لم تدخل على كلام تامّ؛ لأنّ الجمل التي جاءت بعد ذلك لم تكمل الجملة المشتملة على «إذا»؛ لأنّها عطفت عليها بحرف العطف.

125

والآن أقول: إنّ افتراض تماميّتها يمكن أن يكون بمثل فرض حذف أو تقدير أو اكتفاء بالقرينة المقالية أو الحالية والمقامية ممّا هو كثير في القرآن الكريم ومألوف فيه، فليس هذا الفرض خلاف الظاهر، فالظاهر أنّ القيام بالفحص في مجموعة آيات «حتّى إذا» يشرفنا على القطع بأنّ «حتّى» في جميع هذه الموارد للابتداء.

وعلى أيّ حال فنحن ندقّق في معنى آيتنا المباركة: ﴿حَتّىٰ إِذَا بَلَغُوْا النَّكَاحَ﴾ على كلّ محتملاتها الثلاثة كي نرى هل تتمّ دلالتها على حجر الصبي على جميع المحتملات المفروضة أو على بعضها أو لا؟

الاحتمال الأوّل: أن تكون «حتّى» حرف غاية. وهذا يعني أنّ زمان ابتلاء اليتامى مغيّی بزمان البلوغ.

وعندئذ نقول: إنّ في كلمة «إذا» احتمالين:

الأوّل: أن تكون مجرّد ظرف زمان وليست مطعّمة بمعنى الشرطية، وهذا يعني أنّ غاية الابتلاء هي زمان بلوغ النكاح وبعده إن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم، وهذا يعني استمرار الحجر على مال الصغير إلى حين البلوغ والرشد. ودلالة ذلك على بطلان بيع الصغير واضح.

والثاني: أن يكون مطعّماً بمعنى الشرط، وقد وقع في جزائه المعيّن بالفاء شرط وجزاء. وهذا يعني أنّه بعد ما حصلت غاية الابتلاء وهي بلوغ النكاح يقسّم الحكم بلحاظ شروع الرشد وعدمه إلى قسمين باعتبار انتهاء الحجر وعدمه، فأصل استمرارية الحجر إلى حين البلوغ ثابتة، وهذا هو المقصود.

الاحتمال الثاني: أن تكون حرف تعليل، وهذا يعني أنّ ابتلاء اليتامى معلّل بعدم تأخير الحجر عليهم بعد البلوغ إن كانوا راشدين، وهذا أيضاً يعني أنّ الحجر عليهم لحين بلوغ النكاح ثابت على كلّ تقدير، أي سواء كانوا راشدين أو غير راشدين، فالنتيجة نفس النتيجة، وهي الحجر قبل البلوغ.

126

الاحتمال الثالث: أن تكون حرف ابتداء، وهذا يعني أنّ ابتلاء اليتامى يكون في زمان يتمهم، ثم يبتدأ الكلام بأنّه بعد بلوغ النكاح يقسّمون إلى قسمين: راشدين وغير راشدين، ويختلف الحكم في الحجر وعدم الحجر عليهم بعد بلوغ النكاح باختلاف هذين القسمين، والمفهوم العرفي لذلك أنّ الحجر قبل بلوغ النكاح ثابت على كلّ حال، فالنتيجة نفس النتيجة السابقة(1).

فالاستدلال بهذه الآية المباركة على حجر الصبي عن مثل البيع والشراء واضح الصحّة على جميع محتملاتها المفترضة.

وعليه فالروايات التي وردت في تصحيح بعض تصرّفات الصبي في أعمار مختلفة حسب رشده كالوصيّة أو العتق أو ما إلى ذلك لا تحمل على معنى أنّ المقياس تماماً في عدم الحجر على الصبي هو رشده، فلو أصبح رشيداً بتمام معنى الكلمة قبل البلوغ رفع عنه الحجر تماماً، بل تبقى مخصوصة بمواردها.

فلو استفدنا من الآية الحجر الكامل بدعوى أنّ ﴿فَادْفَعُوْا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ دلّ بإطلاق المفهوم على الحجر الكامل قبل البلوغ فهذا الإطلاق مقيَّد بتلك الروايات ونافذ في غير تلك الموارد.

ولو استفدنا من الآية الحجر على خصوص البيع والشراء والتجارة بدعوى أنّ ﴿وَابْتَلُوْا الْيَتَامَىٰ﴾ يعني ابتلاؤهم في ذلك فلا منافاة بين الآية وتلك الروايات.

ثم إنّ كلمة «اليتامى» في الآية يحتمل شمولها لليتيمات، فإنّ إرادة الأعمّ من المذكّر والمؤنّث من الجمع _ وبالأخصّ الجمع المكسّر _ أمر متعارف في لغة العرب.

ولو فرضت اختصاصها بالذكور لم تضرّنا ذلك لتعميم الحكم على الإناث؛ إذ لا يوجد فقهيّاً احتمال اختصاص الحجر قبل البلوغ بالذكور دون الإناث.


(1) وعلى هذين الاحتمالين الأخيرين لا يمكن أن تكون (إذا) ظرفاً بحتاً؛ لأنّ الحكمة المعلّل بها الحكم وكذا الجملة المبتدأ بها يجب أن تكون جملة تامّة.

127

متی يرفع الحجر عن البنت؟

ولكن المشكلة الموجودة في المقام هي عكس هذا المطلب، وهو احتمال أنّ مجرّد بلوغ النكاح لا يكفي في البنت لزوال الحجر إلى أن تحيض أو تتزوّج، ومنشأ الإشكال في ذلك هو بعض الروايات، من قبيل:

1_ رواية حمران: قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام قلت له: متی يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامّة وتقام عليه ويؤخذ بها؟ قال: إذا خرج عنه اليتم وأدرك. قلت: فلذلك حدّ يعرف به؟ فقال: إذا احتلم أو بلغ خمس عشرة سنة أو أشعر أو أنبت قبل ذلك أُقيمت عليه الحدود التامّة وأُخذ بها وأُخذت له. قلت: فالجارية متى تجب عليها الحدود التامّة وتؤخذ بها ويؤخذ لها؟ قال: إنّ الجارية ليست مثل الغلام، إنّ الجارية إذا تزوّجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودفع إليها مالها وجاز أمرها في الشراء والبيع وأُقيمت عليها الحدود التامّة وأخذ لها بها، قال: والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع ولا يخرج من اليتم حتّى يبلغ خمس عشرة سنة أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك»(1).

فهذه الرواية ظاهرها أنّ كمال التسع سنين في اليتيمة لا يكفي في ذهاب الحجر عنها إلّا إذا زوّجت ودخل بها؛ فكأنّ للزواج والدخول بها أثراً تكوينيّاً في اكتمالها ونضجها. إلّا أنّ في سند الحديث عبدالعزيز العبدي وقد ضعّفه النجاشي(2).

2_ ويمكن أن نجد ما يقارب نفس المضمون في حديث تامّ السند، وهو صحيح العيص بن القاسم عن أبي عبدالله عليه السلام قال: «سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها مالها؟ قال: إذا علمت أنّها لا تفسد ولا تضيّع، فسألته إن كانت قد تزوّجت؟ فقال: إذا تزوّجت فقد انقطع ملك الوصيّ عنها»(3). ويحتمل نظر الرواية إلى أنّ إشراف


(1) وسائل الشيعة، ج1، ص43، الباب4 من أبواب مقدّمة العبادات، ح2.

(2) رجال النجاشي، ص244، رقم641.

(3) وسائل الشيعة، ج19، ص366، الباب 45 من کتاب الوصايا، ح1.

128

الزوج عليها وترشيده إيّاها في تصرّفاتها المالية يكفيها عن ملك الوصيّ إيّاها.

ولا شكّ في أنّ المقصود بما في صدر الحديث من قوله: «إذا علمت أنّها لا تفسد ولا تضيّع» ليس هو رفع الحجر عن اليتيمة بحصول الرشد الاقتصادي لها ولو قبل بلوغ النكاح بحصول تسع سنين؛ فإنّ هذا غير محتمل فقهيّاً ولا متشرّعيّاً، بل المقصود حصول الرشد بعد البلوغ، وإنّما الكلام يكون حول أنّ بلوغ النكاح بانتهاء السنة التاسعة هل هو كاف في رفع الحجر أو لابدّ من الزواج ما لم تبلغ مبلغ النساء من الحيض، وعندئذٍ نقول: إنّ ذيل الحديث قريب جدّاً من الرواية الأُولى التي لم تكن تامّة سنداً، فذيل الحديث يشترط التزويج بقوله: «إذا تزوّجت فقد انقطع ملك الوصيّ عنها» فالرواية قريبة الأُفق جدّاً مع الرواية السابقة، وهي تحمل أيضاً على معنى أنّ الزواج يسرّع في حصول الرشد تكويناً بعد استبعاد التعبّد البحت في ذلك متشرّعيّاً.

3_ ومثل هاتين الروايتين رواية يزيد الكناسي وفق نقل اختصّ به الشيخ الطوسي رحمه الله بسنده التامّ عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن أبي أيّوب الخرّاز (الخزّاز) عن يزيد الكناسي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث مفصّل «...قلت: أفيقام عليها الحدود وتؤخذ بها وهي في تلك الحال وإنّما لها تسع سنين ولم تدرك مدرك النساء في الحيض؟ قال: نعم، إذا دخلت على زوجها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم ودفع إليها مالها...»(1) .

فهذه الرواية أيضاً شرطت الدخول على الزوج في انتهاء الحجر على اليتيمة التي لها تسع سنين.

4_ والذي يعارض هذه الروايات ويدلّ على كفاية البلوغ تسع سنين في رفع الحجر رواية واحدة، وهي نفس رواية يزيد الكناسي في نقلها الآخر الذي اشترك فيه الشيخ


(1) تهذيب الأحکام،‌ج7،‌ص383، باب عقد المرأة علی نفسها النکاح و...، ح20؛ وسائل الشيعة، ج20، ص278، الباب 6 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، ح9.

129

الطوسي(1) والكليني(2)، فكلاهما نقلا بسند تامّ عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن أبي أيّوب الخزّاز عن يزيد الكناسي عن أبي جعفر(عليه السلام): «قال: الجارية إذا بلغت تسع سنين ذهب عنها اليتم وزوّجت وأُقيمت عليها الحدود التامّة عليها ولها...»(3).

فلو جزمنا بوحدة الرواية _ رغم أنّ النقل الأوّل مشتمل على أحكام وتفاصيل كثيرة غير موجودة في الثاني، والثاني مشتمل على حكم آخر غير موجود في الأوّل _ وذلك لوحدة السند ووحدة الإمام ووحدة المضمون غير اشتراط الدخول على الزواج وعدمه أصبحت الرواية مضطربة المتن لا نعلم أيّ التعبيرين هو الصحيح، ولو لم نجزم بذلك أصبحت الروايات متعارضة.

ويحتمل عدم الاضطراب وعدم التعارض بأن يقال: لم يكن المقصود أساساً شرط الزواج، وإنّما جعل الزواج كاشفاً عن الرشد بسبب أثره التكوينيّ في ذلك، فلو تمّ الرشد بلا زواج رفع عنها الحجر.

وعلى كلّ حال وهذا الحديث لعلّه لا يخلو بلحاظ السند من تأمّل، وذلك بسبب يزيد الكناسي، فإن جزمنا بأنّ يزيد الكناسي متّحد مع يزيد أبي خالد القمّاط فلا إشكال في وثاقته، لشهادة النجاشي بذلك(4) إضافة إلى رواية البجلّي عنه.

وقد ذكر السيّد الخوئي رحمه الله في رجاله بعض القرائن على الوحدة كالتالي: «إنّ النجاشي ذكر أن يزيد أبا خالد القمّاط له كتاب، ومع ذلك فلم يذكر الشيخ في فهرسته إلّا يزيد أبا خالد الكناسي، فلو لم يكن الكناسي متّحداً مع القمّاط لم يكن لترك ذكره وجه. ويؤيّد الاتّحاد أيضاً أنّ يزيد أبا خالد القمّاط كوفي على ما صرّح به النجاشي،


(1) تهذيب الأحکام، ج10، ص38، الباب الأوّل من کتاب الحدود،‌ح133.

(2) الکافي، ج7، ص198، باب حدّ الغلام والجارية اللذين يجب عليهما الحدّ تامّاً، ح2.

(3) وسائل الشيعة، ج28، ص20، الباب6 من أبواب مقدّمات الحدود وأحکامها العامة، ح 1.

(4) رجال النجاشي، ص452، رقم1223.