الذي لم يستنبط الحكم لا يزال يكون جاهلاً بالحكم، فلا يمكن أن نثبت عن هذا الطريق عدم جواز التقليد له، وإنّما المهم كما قلنا: إنّ الارتكاز القائل بالرجوع إلى أهل الخبرة هل يشمل هذا الشخص أو لا يشمله؟
ولعلّه من نافلة القول: أنّ البحث ينبغي أن يكون على مستوى الارتكاز العقلائي دون سيرة المتشرّعة؛ إذ لا دليل يكشف لنا تفاصيل سيرة المتشرّعة المعاصرة للمعصوم.
وعلى أيّة حال فقد يقال بثبوت الارتكاز على جواز التقليد له ما دام غير مستنبط بالفعل؛ لأنّه يكون بالفعل جاهلاً فهو داخل في مصاديق كبرى رجوع الجاهل إلى العالم.
كما قد يقال العكس، أي: إنّ هذا الرجل خارج عن تحت هذه القاعدة قياساً له بالناسي الذي يمكنه أن يراجع رسالته العملية الموضوعة في الرفّ كي يتذكّر ما استنبطه لكنّه لا يراجع الرسالة ويصرّ على التقليد، أفليس هذا خلاف الارتكاز؟ أو ليس هذا مع ما نحن فيه سواء؟
ويمكن أن يذكر في المقام أحد تفصيلين:
الأوّل: أنّ المقلَّد يكون له عادةً مستوى من الركون إلى قول الفقيه، كركون المريض إلى قول الطبيب وغير ذلك من موارد الرجوع إلى أهل الخبرة. وهذا الذي حصلت له ملكة للاستنباط قد يفترض أنّه زال
عنه _ نتيجة لهذا المقام العلمي _ ذاك الركون إلى قول غيره من الذين استنبطوا بالفعل، فعندئذٍ لا يساعد الارتكاز على تقليده لغيره، بل عليه أن يستنبط أو يحتاط. وقد يفترض أنّه لم يزل عنه ذاك الركون فيساعد الارتكاز على تقليده.
أمّا ما شبّهنا به مورد البحث من المستنبط الفعلي الذي يجعل رسالته العملية في الرفّ ولا يراجعها فيما ينساه ويكتفي بالتقليد في مورد نسيانه، فمن الواضح أنّ هذا الشخص أقرب إلى عدم الركون ممّن هو واجد لمجرّد ملكة الاستنباط.
والثاني: أنّ واجد الملكة قد يترك الاستنباط كسلاً، وأُخرى يتركه لانشغاله بأُمور أُخرى معاشية مثلاً، فقد يقال: إنّ الثاني واجد لنفس النكتة العقلائية الكامنة من وراء قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة، وتلك النكتة عبارة عن تقسيم التخصّصات تسييراً للحياة؛ إذ لو فرض أنّه كان على كلّ أحد أن يشتمل على كلّ التخصّصات المحتاج إليها لشلّت عجلة الحياة عن السير، فهذا الثاني يجوز له التقليد بخلاف الأوّل.
والقدر المتيقّن أنّ الجامع لكلا العنوانين _ أعني أوّلاً بقاء حالة الركون في نفسه إلى قول المستنبط، وثانياً حاجته إلى التقليد لانشغاله بسائر الأُمور الحياتية لا لأجل الكسل وحده _ يساعد الارتكاز على
تقليده للمستنبطين، وفاقد العنوانين لا يساعد الارتكاز على تقليده، وما بينهما متوسطات.
ولو وسوس أحد في مساعدة الارتكاز على تقليد واجد العنوانين فلا أقلّ من وضوح أنّ العقلاء لا يمانعون مَن تَقَمَّصَ قميص المولويّة عن جعله الحجّية لكلام أهل الخبرة بالنسبة لهذا الشخص وعندئذٍ لا مانع من التمسّك بإطلاق قوله: «فإنّهم حجّتي عليكم»، بل لعلّ أحد الأمرين أعني الركون أو الحاجة الحياتيّة كافٍ في عدم الممانعة هذه وبالتالي في الرجوع إلى الإطلاق.
وظيفة المتجزّي
الأمر الثالث: في أنّ المتجزّي هل يعمل بما استنبطه أو عليه أن يقلّد أو يحتاط؟
إنّ حديثنا عن ذلك يأتلف من أمرين:
الأوّل: إنّ الاستنباط أو الإفتاء يكون بمجموع شيئين:
أحدهما: استفراغ الوسع على مستوى القُدُرات العلميّة في الوقت الحاضر للاستنباط، فلو أُحيي اليوم الشيخ الطوسي أو السيّد المرتضى أو العلّامة وأضرابهم من الأعاظم قد يرجعون اليوم مقلّدين إلى أن يصلوا
إلى مستوى الاستنباط مرّةً أُخرى؛ وذلك لأنّهم قد لا يكونون منذ البدء قادرين على استفراغ الوسع بمستوى القدرات العلمية في الوقت الحاضر لتجدّد كثير من التدقيقات العلمية الدخيلة في الاستنباط.
وثانيهما: حصول اليقين أو الإطمئنان بما ينتهي إليه من النتيجة العملية من حكم واقعي أو ظاهري أو وظيفة عملية، وإلّا كان إفتاء داخلاً في كبرى الإفتاء بغير علم، وكان مشمولاً للنهي الوارد في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.
والمتجزّي لو طوى هاتين المرحلتين فلا معنى لعدم حجّية فتواه لنفسه؛ فإنّها فتوى بالعلم.
والثاني: إنّ هناك عقبتين عظيمتين أمام إفتاء المتجزّي لا تجعلان وصوله إلى الفتوى مستحيلاً، ولكن توجبان لنا التحفّظ الكبير في الإيمان بحصولها، فنحن لا نقبل بحصول التجزّي إلّا باحتياطٍ وتحفّظٍ كبيرين:
الأُولى: التشابك العجيب الموجود في المدارك والأدلّة والروايات والدقائق العلمية فيما بين الأبواب المختلفة، فقد تجد رواية أو مدركاً أو نكتة علميّة في باب تنبّهك على أمر من باب آخر لم يكن بالحسبان
(1) الإسراء: 36.
دخل فيما ذلك الباب عليه؛ وذلك إمّا بأن تكون تلك الرواية أو النكتة مؤثّرة في حكم الباب الآخر أو يتّفق لها مجرّد لفت نظرك ولو صدفة على ما يؤثّر في الباب الآخر؛ ولذلك ينبغي للمفتي أن تكون له نحو إحاطة بالأبواب المختلفة والتي لا تكون عادةً إلّا لمن هو مطلق في ملكة الاستنباط إطلاقاً عرفيّاً.
والثانية: إنّ الشيء الثاني من الشيئين اللذين ذكرناهما كشرط للوصول إلى الفتوى وهو حصول اليقين أو الاطمئنان النفسي يكون أبعد تحقّقاً في نفس المتجزّي منه في نفس الفقيه المطلق؛ وذلك أوّلاً لأنّ مقدار التمرين له دخل كبير في القدرة على الاستنباط، وتمرين المتجزّي يكون عادةً أقلّ من تمرين الفقيه المطلق. وثانياً لأنّ ما مضت الإشارة إليه من التشابك بين الأبواب في المدارك والنكات تجعل وصول المتجزّي إلى اليقين أو الاطمئنان النفسي أصعب من الفقيه المطلق، وكلّما ضاقت دائرة التجزّي برزت هاتان العقبتان بشكل أوضح.
وعلى أيّة حال فمهما استطاع المتجزّي أن يجتاز هاتين العقبتين صحّ له أن يعمل بفتوى نفسه، ومهما عجز عن اجتيازهما لم تكن له فتوى، ولكن عدم ثبوت الفتوى له لا يعني حتماً جواز التقليد له؛ وذلك لأنّه قد يتّفق أنّ استنباطه الذي استنبطه _ ولكنّه لم يستطع
تحصيل ركون النفس إليه _ يمنعه عن الركون إلى فتوى من خالفه بحيث يفقد التقليد ما ينبغي أن تكون له من الطريقية والمرآتية، فإذا صار الأمر كذلك اضطرّ إلى الاحتياط.
ثم إنّ المشكلتين اللتين أبرزناهما أمام فتوى المتجزّي تجعلان فكرة التجزّي فكرة مرنة قد تصحّ وقد لا تصحّ، لا كما قد يقال من استحالة التجزّي؛ لأنّ الملكة بسيطة لا تتجزّء، ولا كما قد يقال من ضرورة التجزّي لاستحالة الطفرة.
وقد أُجيب على الأوّل: بأنّ الملكة والقدرة وإن كانت بسيطة ولكن مصبّها _ وهي استنباط الأحكام _ متعدّد ومختلف باختلاف الموارد في السهولة والصعوبة، أو في مقدار المراس الذي يمتلكه صاحب الملكة في ذلك الحقل.
وقد عُلّق على الثاني: بأنّ هذه الاستحالة استحالة عادية لا عقليّة؛ إذ لا مانع من حصول ملكة الاجتهاد المطلق دفعة واحدة ولو بالإعجاز والإفاضة من الله تعالى.
أقول: إنّ حالة الركون التي تحصل للفقيه بفتواه قد لا تحصل للشخص إلّا في الأخير، أي: حينما يصبح فقيهاً مطلقاً؛ لما تكتمل
(1) راجع التنقيح، ج1، بحث الاجتهاد والتقليد، ص33 _ 35.
عنده وقتئذٍ من سعة الاطلاع وكثرة المراس.
ثم إنّ الحديث في التجزّي والإطلاق منصبّ عادة على الملكة، أمّا بلحاظ الفعلية فعادة يكون الإطلاق مسبوقاً بالتجزّي ويكون رأي المتجزّي حجّة لنفسه لا محالة، ولكن البيان الذي شرحناه ليس خالياً عن التأثير نهائيّاً في جانب الفعلية أيضاً.
ثم إنّ المشكلة تبرز بشكل أقوى لدى من يحاول تقليد المتجزّي منها لدى نفس المتجزّي، فيصعب في كثير من الأحيان للمقلّد الملتفت الوثوق بالإحاطة الكافية للمتجزّي على ما له دخل في استنباط ما استنبطه أو المراس الكافي في الاعتماد على ما استنبطه.
ونفس المشكلتين تبرزان كثيراً في قضائه أيضاً.
وهناك روايتان في باب القضاء قد يستفاد من إحديهما أنّ المنصوب من قبل الإمام(علیه السلام) للقضاء هو الفقيه المطلق وقد يستفاد من الأُخرى أنّ المنصوب من قبله يشمل المتجزّي.
فالأُولى: مقبولة عمر بن حنظلة التي ورد فيها: «...ينظران من كان منكم ممّن قدر روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً...».
(1) وسائل الشيعة، ج27، ص13، الباب الأول من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح5.
والثانية: رواية أبي خديجة التامّة سنداً عن الصادق(علیه السلام): «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه».
ولو ثبت شرط الإطلاق بالحديث الأوّل فظاهره إطلاق الفعلية لا الملكة.
والصحيح أنّ الحديثين معاً ينظران إلى النكتة الارتكازية وهي المعرفة بالأحكام بالقدر الذي يُركن إليه في مورد المرافعة.
على أنّ رواية أبي خديجة وردت بصياغة أُخرى تشبه المقبولة، وهي عبارة عمّا ورد في الوسائل عن محمد بن الحسن بإسناده عن محمد ابن علي بن محبوب عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن أبي الجهم عن أبي خديجة قال: «بعثني أبو عبدالله(علیه السلام) إلى أصحابنا فقال: قل لهم إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداری في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد
(1) وسائل الشيعة، ج27، ص13، الباب الأول من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح5.
جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر».
والمكنّون في كتب الرجال بأبي الجهم عبارة عن شخصين:
أحدهما: بكير بن أعين، ولو كنّا نحن ومن نقل عنه أبو الجهم في روايتنا هذه وهو أبو خديجة لكنّا نقول: يحتمل في المقام أن يكون هو المقصود، فإنّ وضع الطبقة يناسب ذلك؛ لأنّ أبا خديجة من أصحاب الصادق والكاظم؟عهما؟، وبكير بن أعين من أصحاب الباقر والصادق؟عهما؟، وورد في عبارة للشيخ الطوسي(رحمه الله) في الفهرست في ترجمة زرارة بعد عدّ إخوة له منهم بكير قوله: «ولهم روايات عن علي ابن الحسين...»، إلّا أنّنا لم نجد رواية له عن علي بن الحسين(علیه السلام)، وعلى أيّ حال فأبو خديجة وإن كان أعلى طبقة من بكير بن أعين؛ لأنّ بكيراً من أصحاب الباقر والصادق؟عهما؟، وأبو خديجة من أصحاب الصادق والكاظم؟عهما؟، ولكن ما داما معاً قد أدركا الصادق(علیه السلام) فاحتمال رواية بكير عن أبي خديجة وارد؛ إذ لم نجزم أنّ بكيراً مات قبل زمان أبي خديجة.
(1) المصدر السابق، ص139، الباب11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح6.
وبكير بن أعين يمكن أن يستدلّ على وثاقته:
أوّلاً: بما رواه الكشّي في ترجمة إخوة زرارة بسند تام عن الحسن بن علي بن يقطين قال: «حدّثني المشايخ أنّ حمران زرارة وعبدالملك وبكيراً وعبدالرحمان بن أعين كانوا مستقيمين...».
وثانياً: برواية ابن أبي عمير عنه بناءً على ما ورد في مشيخة الصدوق من قوله: «وما كان فيه عن بكير بن أعين فقد رويته عن أبي؟رض؟ عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن محمّد بن أبي عمير عن بكير بن أعين وهو كوفيّ يكنّى أبا الجهم من موالي بني شيبان، ولمّا بلغ الصادق(علیه السلام) موت بكير بن أعين قال: أما والله لقد أنزله الله؟عز؟ بين رسوله وأمير المؤمنين صلوات الله علیهما».
إلّا أنّ هذا النقل يكون غريباً جدّاً إذا جمعنا بين ما قالوا من أنّ بكير بن أعين مات في زمان الإمام الصادق(علیه السلام) وما كتبه الشيخ(رحمه الله) في ترجمة محمد بن أبي عمير من قوله: «وأدرك من الأئمّة ثلاثة: أبا إبراهيم موسى بن جعفر؟عهما؟ ولم يرو عنه، وروی عن أبی الحسن الرضا(علیه السلام) وروى عنه أحمد بن محمد...» . فإنّ هذا يدل على أنّه لم يدرك الصادق(علیه السلام)
(1) راجع معجم رجال الحديث، ج6، ص259.
(2) من لا يحضره الفقيه، ج4، ص441، بیان الطريق إلی بکیر بن أعین.
(3) الفهرست، ص404.
وكذلك ما كتبه النجاشي في ترجمة محمد بن أبي عمير من قوله: «لقى أبا الحسن موسى(علیه السلام) وسمع منه أحاديث...» ، فإنّ هذا أيضاً ظاهر في أنّه لم يلق الصادق(علیه السلام).
وقد يكون الحلّ هو حمل محمد بن أبي عمير الوارد في هذا السند على محمد بن أبي عمير بيّاع السابري الذي كان من أصحاب الصادق(علیه السلام) ومات في زمن الكاظم(علیه السلام)، لا على محمد بن أبي عمير الأزدي الذي تدل روايته على وثاقة من يروي عنه، إلّا أنّ المشكلة عندئذٍ تقع في نقل إبراهيم بن هاشم عن ابن أبي عمير؛ فإنّ ابن أبي عمير هذا مات في زمان الكاظم(علیه السلام) وإبراهيم بن هاشم لقي الرضا(علیه السلام).
وثانيهما: ثوير بن أبي فاختة، وهذا أيضاً محتمل في المقام لو بقينا نحن وروايته عن أبي خديجة؛ لأنّه قد عدّه الشيخ من أصحاب السجّاد والباقر والصادق؟عهم؟ فيمكن روايته عن أبي خديجة الذي كان من أصحاب الصادق والكاظم؟عهما؟، وقد ورد في البحار ، حديث عن المحاسن عن أبيه عن هارون بن الجهم عن ثوير بن أبي فاختة عن
(1) رجال النجاشي، ص326.
(2) بحار الأنوار، ج83، ص259.
(3) المحاسن، ج2، ص269.
أبي خديجة عن أبي عبدالله(علیه السلام).
وقد يستدلّ على وثاقته بما رواه الكليني عن أحمد بن عبدالله عن أحمد بن محمد عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبي الجهم عن فضيل الأعور قال: «شهدتُ معاذ بن كثير قال لأبي عبدالله(علیه السلام): إنّي قد أيسرت فأدع التجارة؟ فقال: إنّك إن فعلت قلّ عقلك أو نحوه».
فإذا حمل ابن أبي عمير على الأزدي لا السابري بقرينة رواية محمد ابن خالد البرقي عنه وصرف أبو الجهم عن بکير بن أعين لأنّه مات في زمن الصادق(علیه السلام) فلا يمكن رواية ابن أبي عمير عنه، فيتعيّن مثلاً أن يكون أبو الجهم في المقام عبارة عن ثوير بن أبي فاختة الذي لم يذكر لنا تاريخ وفاته فتثبت بذلك وثاقته.
إلّا أنّ الشأن أوّلاً في توثيق أحمد بن عبدالله الذي روى عنه الكليني، وثانياً في قبول إمكان رواية ابن أبي عمير عن ثوير بن أبي فاختة الذي هو في مستوى بكير بن أعين تقريباً من حيث الطبقة والذي كان من أصحاب السجّاد(علیه السلام) أيضاً.
ثم إنّه لا يبعد أن يكون شخص ثالث أيضاً لا نعرفه مكنّى بأبي الجهم بقرينة رواية عدد من المتأخّرين عن أبي الجهم، والذين يقطع
(1) الكافي، ج5، ص148، باب فضل التجارة والمواظبة علیها من كتاب المعيشة، ح4.
بعدم روايتهم عن بكير بن أعين؛ لما عرفته من التصريح بوفاته في زمن الإمام الصادق(علیه السلام)، ويحدس بعدم روايتهم عن ثوير بن أبي فاختة المعاصر تقريباً لبكير بن أعين.
ومن تلك الروايات روايتنا، حيث رواها الحسين بن سعيد عن أبي الجهم وحسين بن سعيد من أصحاب الرضا والجواد والهادي؟عهم؟، فيبعد جدّاً روايته عن ثوير بن أبي فاختة الذي أدرك السجّاد(علیه السلام)، ولا يحتمل روايته عن بكير بن أعين الذي مات في زمان الصادق(علیه السلام). وبه يصبح أبو الجهم في المقام مجهولاً ويسقط السند.
اللّهم إلّا أن يدّعي أحد بالوثوق بوحدة من روى عنه الحسين بن سعيد بعنوان أبي الجهم ومن روى عنه ابن أبي عمير بعنوان أبي الجهم، باعتبار وحدة الطبقة بين ابن أبي عمير والحسين بن سعيد، وباعتبار عدم ذكر قرينة معيّنة في كلام أيّ واحد منهما. وتحصيل هذا الوثوق لا يخلو من إشكال.
ثم إنّ ثوير بن أبي فاختة له حفيد اسمه هارون بن الجهم وهو ثقة وله كتاب وكان من أصحاب الإمام الصادق(علیه السلام)، ويظهر من بعض الروايات أنّه كان يكنّى بأبي الجهم، من قبيل ما ورد في الوسائل عن أحمد بن
(1) وسائل الشيعة، ج11، ص408، الباب 29 من أبواب آداب السفر، ح 7.
أبي عبدالله البرقي في المحاسن عن أبيه عن أبي الجهم هارون بن جهم عن موسى بن بكر الواسطي قال: «أردت وداع أبي الحسن(علیه السلام)...» ، فلو سلّمنا ذلك واعتبرنا انصراف أبي الجهم في سند رواية أبي خديجة التي نتكلّم عنها إليه ولو باعتباره ذا كتاب صحّ سند الرواية.
ولو ناقشنا في الانصراف ولو باعتبار أنّ تسمية هارون بن الجهم في بعض موارد قليلة بأبي الجهم لا تُثبت كونه معروفاً بهذه الكنية رغم أنّه لم يكنّ بذلك في شيء من كتب التراجم والرجال فكيف يدّعى انصراف كلمة أبي الجهم في هذه الطبقة إليه؟! لم يتمّ سند الرواية.
وظيفة غير الأعلم
الأمر الرابع: في وظيفة غير الأعلم. وقد بحثنا ذلك مفصّلاً في كتابنا مباحث الأُصول الجزء الأوّل من القسم الثاني عن الشهيد الصدر(رحمه الله) مع بعض التعليقات عليه، فنرجّح هنا إحالة الأمر إلى هناك، والاقتصار هنا على ذكر نكتتين:
الأُولى: أنّه لو كانت مخالفة الأعلم لغير الأعلم أوجبت فقݨْد ركون
(1) المحاسن، ج2، ص356.
(2) مباحث الأُصول، ج1، ص196.
غير الأعلم إلى رأيه وامتناعه عن العلم بفتوى نفسه فهذا لا يعني بالضرورة جواز تقليده للأعلم؛ فإنّه في غير ما لو فرض الفرق بينهما عظيماً جدّاً لا يعتبر رجوعه إلى الأعلم من رجوع غير أهل الخبرة إلى أهل الخبرة بالنحو المسموح به في الارتكاز أو المشمول للإطلاقات، فعندئذٍ لابدّ له من الاحتياط أو التباحث مع الأعلم كي يتبيّن له الحال.
والثانية: أنّ الشبهة في اتكاء غير الأعلم على فتوى نفسه لها تقريبان:
الأوّل: أنّ غير الأعلم لا يستطيع أن يثق بصحّة ما وصل إليه من حكم واقعي أو ظاهري أو وظيفة عملية ما دام يحتمل أنّه إن تباحث مع الأعلم عد له عن رأيه.
وهذا ما يرد عليه أكثر النقوض المذكورة في كتابنا (مباحث الأُصول) مع حلّ حاصله أنّ تعديل الأعلم لغير الأعلم عن رأيه فيما يتصوّر فيه التفاضل لا يكون إلّا بتبديل موضوع الحجّية له بإبراز أمر أو نكتة له لم يكن واصلاً إليه في فحصه، فلا يبقى مجال عندئذٍ لهذا الإشكال إلّا بإرجاعه إلى التقريب الثاني.
والثاني: هو أنّ العمل بالحجّة اللفظية أو العملية أو الأمن العقلي متوقّف على الفحص، ومن الفحص الرجوع إلى الأعلم بالتباحث
معه إذا احتمل أنّه سيُعدِله عن رأيه، فيجب عليه ذلك، بل إذا احتمل الأعلم أيضاً تبدّل رأيه صدفة لو تباحث مع غير الأعلم وجب عليه ذلك؛ لأنّه نوع من الفحص.
وحاصل الجواب _ الذي يستفاد ممّا أسلفناه في كتاب مباحث الأُصول _ هو أنّ أدلّة الفحص لم توجب الفحص إلّا بمقدار فحص ذي الخبرة عن مصادر الأحكام من الكتاب والسنّة بالنحو المتعارف من الفحص، وليس من ذلك التباحث مع الأعلم.
إلّا أنّ الإنصاف أنّ هذا يرجع إلى مدى احتمال التراجع من الرأي لو تباحث مع غيره سواء الأعلم أو غيره، فلو كان الاحتمال كبيراً معتدّاً به دخل التباحث معه لدى الإمكان في الفحص المستفاد عرفاً وجوبه من أدلّة وجوب الفحص.
تحليل وفلسفة عملية الإفتاء والتقليد
الأمر الخامس: في تحليل وفلسفة عملية الإفتاء والتقليد.
لا شكّ أنّ التقليد في الفهم الارتكازي العقلائي الذي جوّزه عبارة عن رجوع غير أهل الخبرة إلى أهل الخبرة، وهذا ينطبق بوضوح حينما يخبر الفقيه عن الحكم الواقعي حيث يقال: إنّ الفقيه كان من أهل خبرة الأعمال، فجاز لغير الفقيه تقليده من باب رجوع غير أهل
الخبرة إلى أهل الخبرة.
ولكن الإشكال يقع في كثير من موارد إفتاء الفقيه التي يفتي فيها بالحكم الظاهري لا الواقعي حيث يقال: إنّ تلك الأحكام الظاهرية إنّما هي أحكام ظاهرية لنفس الفقيه لا للمقلّد؛ وذلك لا لأجل أنّ جعل الحكم كان مختصّاً بالفقيه دون العامّي، بل لأنّ الحكم الظاهري المجعول مشروط بشرائط غير فعليّة بشأن العامّي من قبيل الفحص أو اليقين السابق أو العلم الإجمالي ونحو ذلك، وعندئذٍ فهل يقلّد العامّي الفقيه في الحكم الواقعي أو في الحكم الظاهري الذي يكون للفقيه أو الحكم الظاهري الذي يكون لنفس العامّي؟
فإن فرض الأوّل فالفقيه لا يعلم بالحكم الواقعي حسب الفرض، فكيف يقلَّد فيما لا يعلمه؟! وإن فرض الثاني فلا معنى لأخذ المقلَّد حكم المقلَّد؛ فإنّ المقلَّد يريد حكم نفسه لا حكم مقلَّده. وإن فرض الثالث فهذا الفقيه ليس من أهل خبرة الأحکام الظاهرية لهذا العامي بل هو من أهل خبرة أحكام نفسه الظاهرية، فكيف يرجع إليه العامّي؟! في حين أنّ ظاهر الأدلّة اللفظية هو إمضاء نفس ما هو المرتكز عقلائيّاً، خصوصاً مثل قوله: «أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟!»، فالمفهوم عرفاً من مثل هذا اللسان هو أنّ الأحكام
سواء الواقعية منها أو الظاهرية مشتركة بين الفقهاء والعوام في المرتبة السابقة على جواز التقليد، وأنّ التقليد إنّما جاز لأنّه كان المقلَّد من ذوي الخبرة بتلك الأحكام، وهذا هو المرتكز متشرّعيّاً أيضاً، وهذا هو التطبيق للمرتكز العقلائي عن التقليد.
وبما أنّ البحث هنا ليس في أصل جواز التقليد، بل المفروض هو الفراغ عن جوازه، إمّا للأدلّة اللفظية أو للارتكاز المتشرّعي أو للارتكاز العقلائي الذي لولا ردع الشارع لسرى ولو خطأً إلى الشرعيّات، فعدم ردع الشارع يكون دليلاً للإمضاء، فبعد ذلك لا تبقى حجّية هذا الظهور أعني ظهور الروايات في نفس ما عليه الارتكاز من كون التقليد رجوعاً إلى أهل الخبرة، وكون الأحكام مشتركة بين العالم والعامّي في المرتبة السابقة على جواز التقليد؛ لأنّ حجّية الظهور إنّما تكون على تقدير أثر عملي لذلك في حين أنّه لا أثر عملي _ بعد فرض أصل جواز التقليد في الشرعيّات _ في التكييف العقلائي لذلك، وأنّه هل هو بملاك الرجوع إلى أهل الخبرة أو لا، فليكن اشتراك العامّي والعالم في الحكم بعد جواز التقليد أو بعد التقليد، وأيّ ضير في ذلك؟!
وقد يقال: إنّه يكفي أثراً لذلك جواز إفتاء العامّي بحكمه حتّى
لو لم يجز له تقليد هذا الشخص أو قل الإفتاء بحكم الله المشترك في المرتبة السابقة على جواز التقليد.
إلّا أنّ هذا الأثر غير كافٍ إلّا بناءً على قيام الظهور أو مطلق الإمارات مقام العلم الموضوعي الصفتي، أمّا بناءً على إنكار ذلك لعدم الاعتراف بالعلم الاعتباري الذي يقوله الشيخ النائيني(رحمه الله) وعدم شمول أدلّة الحجّية لأثر الإخبار؛ لأنّه من آثار القطع الموضوعي الصفتي، وليس من قبيل الاستصحاب مثلاً الذي لو كان أثراً لليقين السابق فالمستظهر كونه أثراً لليقين الطريقي، فلا دليل على حجّية ظهور الدليل في كون التقليد في الشرعيّات في تكييفه كالتقليد الثابت لدى العقلاء.
وقد يذكر لذلك في المقام بعض الآثار من قبيل:
1_ لو كان الإمام يصلّي تماماً مثلاً وهو فقيه وفتواه في وضعه الخاصّ هو القصر وليس التمام ؛ لأنّ عمله في السفر مثلاً، إلّا أنّه رغب في الاحتياط بالجمع بين القصر والتمام دركاً للواقع، فأراد المأموم أن يقتدي به في الوقت الذي كان مشغولاً بالتمام وكان مرجعه يفتي في من عمله في السفر بالتمام، فبناءً على التكييف العقلائي للتقليد يصحّ اقتداؤه بهذا الإمام؛ لأنّ صلاة الإمام التامّة صحيحة حسب فتوى مرجع المأموم وإن لم تطابق فتوى الإمام، أمّا
بناءًعلى أنّ الاشتراك في الحكم الظاهري إنّما يكون في طول جواز التقليد فبما أنّ الإمام هو فقيه ولا يجوز له تقليد هذا المرجع لا تثبت صحّة صلاته، لا بحكم واقعي؛ لعدم إفتاء المرجع بالواقع، ولا بحكم ظاهري؛ لأنّ ما يفتي به المرجع ليس حكماً ظاهريّاً للإمام، فلا يجوز الاقتداء به.
إلّا أنّ هذه الثمرة غير صحيحة؛ فإنّ موضوع جواز الاقتداء ليست هي صحّة صلاة الإمام وفق الحكم الذي يجوز للإمام اتّباعه ولو ظاهراً، بل موضوعه هو الصحّة الواقعية، إلّا أنّه يجوز للمأموم ترتيب آثار الصلاة الواقعية ظاهراً على صلاة الإمام متى ما كانت صلاة الإمام ظاهراً صحيحة بشأن المأموم، وفي المقام تكون صلاة الإمام ظاهراً صحيحة بشأن المأموم ولو في طول جواز تقليده لذاك المرجع.
2_ لو قلنا في الاستنابة عن الميّت مثلاً: إنّ ظاهر عقد الإجارة هو العمل بحكم الميّت، وكان مرجع النائب غير جائز التقليد للميّت؛ لأنّ الميّت كان فقيهاً، أو لأنّ ذاك المرجع في زمان حياة المنوب عنه لم يكن فقيهاً، أو لأيّ سبب آخر، فلو قلنا باشتراك الأحكام الظاهرية بين العالم والجاهل في الرتبة السابقة على جواز التقليد فللمقلّد أن يعمل في عمله النيابي وفق فتاوى مرجعه؛ لأنّها تمثّل أحكام الكلّ حتّى
الميّت، أمّا لو قلنا بأنّ الاشتراك فيها إنّما يكون على أثر جواز التقليد فبما أنّ مرجع النائب لم يكن يجوز للميّت تقليده فلا تمثّل فتاواه حكم الميّت، فلا يجوز للنائب أن يعمل في عمله النيابي وفق فتاوی مرجعه.
إلّا أنّ هذا الأثر نظريّ أكثر من كونه عمليّاً؛ لأنّه لو صحّ انصراف عقد الإجارة فإنّما ينصرف إلى ما كانت الوظيفة الفعلية للمنوب عنه، أي العمل وفق فتاوی من كان يرى المنوب عنه العمل بها مجزياً له من غير تأثير لطريقة تكييف التقليد على هذا الانصراف سلباً أو إيجاباً.
3_ لو قلنا في باب العلم الإجمالي بالإلزام بأنّ قيام الأمارة في بعض الأطراف وفق المعلوم بالإجمال تحلّ العلم الإجمالي ولكن قيام الأصل المثبت للتكليف في بعض الأطراف لا يحلّه، فقد يقال في المقام: إنّه بناءً على اشتراك الحكم بين العالم والعامّي في الحكم لو أفتى العالم في طرف من أطراف العلم الإجمالي وفق الحكم المعلوم بالإجمال على أثر أمارة دلّت عليه ففتواه أمارة للعامّي على الحكم، وينحلّ علمه الإجمالي، أمّا بناءً على كون هذا الاشتراك في طول جواز التقليد، فقد يقال: إنّ فتوى الفقيه عندئذٍ لا تكون إلّا بحكم الأصل، فلا تحلّ العلم الإجمالي.
إلّا أنّ هذه الثمرة أيضاً علمية أكثر منها عملية، فإنّه لو سلّمنا التفصيل بين الأمارة والأصل في كون الأُولى تحلّ العلم الإجمالي دون
الثانية فغاية ما نكتشف بذلك بعد فرض مسلّميّة إمضاء ما يفهمه العرف من التقليد في مقام العمل هي أنّ فتوى الفقيه حتّى ولو كانت في طول جواز التقليد جعلت أمارة وعلماً مثلاً لا أصلاً عمليّاً بحتاً، ولا تصل النوبة إلى اكتشاف اشتراك كلّ الأحكام الظاهرية بوجه من الوجوه بين العالم والعامّي قبل التقليد وقبل جواز التقليد.
وعلى أيّة حال فلتكييف عملية التقليد في مورد الأحكام الظاهرية بنحو يرجع إلى قانون الرجوع إلى أهل الخبرة المرتكز لدى العقلاء وجوه:
الوجه الأوّل: ما قد يناسب مباني الشيخ النائيني(رحمه الله) من أنّ الفقيه يفتي بالواقع لا بالحكم الظاهري فحسب؛ وذلك على أساس العلم الاعتباري بالواقع. ولا إشكال في اشتراك الواقع بين الكلّ.
وهذا الوجه لا يتمّ مبنىً ولا بناءً:
فإنّنا لا نؤمن بأصل مبنى جعل العلم اعتباراً، ولو كان فقد اختصّ الجواب بمورد الإفتاء بالأمارات دون الإفتاء بالأُصول، على أنّ العلم الاعتباري ليس خبرة كي يجعل التقليد رجوعاً إلى أهل الخبرة، فتقليد العالم بهذا العلم يشبه تقليد من حصل له العلم بالرمل أو الأُسطرلاب أو الاستخارة ممّا لا علاقة له بتقليد أهل الخبرة وإن كان تقليداً للعالم.
الوجه الثاني: أنّنا نستكشف من جواز التقليد _ الذي فرغنا
عنه _ تماميّة موضوع الحكم الظاهري بشأن العامّي بتنزيل حالات الفقيه منزلة ثبوتها للعامّي، فكأنّ فحص الفقيه فحص للعامّي، وعلمه الإجمالي علم له، ويقينه يقين له وهكذا.
إلّا أنّ هذا الوجه لا ينفع في تطبيق ما ثبت جوازه في الشرع من التقليد على ما هو المرتكز عقلائيّاً من حقيقة التقليد؛ لأنّ التنزيل المفروض إنّما ثبت بجواز التقليد، ففي الرتبة السابقة على جواز التقليد ليست الأحكام الظاهرية مشتركة بين العالم والعامّي؛ لعدم تحقّق شروطها في العامّي، فليس الرجوع إليه رجوعاً ناتجاً من كونه خبرةً، فجواز هذا التقليد أمر تعبّدي بحت، وقد فرضنا أنّ ظاهر روايات التقليد هو الإشارة إلى نفس الأمر المرتكز لدى العقلاء.
الوجه الثالث: أن يقال: إنّنا نكتشف من دليل جواز التقليد _ بعد ظهوره في الإشارة إلى الأمر العقلائي _ إطلاق الأحكام الظاهرية للعالم والعامّي على حدّ سواء حتّى بلحاظ ما قبل جواز التقليد، أي: إنّ الحكم الظاهري الذي يكتشفه الاستنباط الصحيح المشتمل على الشروط _ من الفحص والعلم الإجمالي واليقين السابق وما شابه _ جعله الله حكماً ظاهريّاً عامّاً للناس، ولو كان الحكم عقليّاً وشرطه منتفٍ في العامّي فقد جعل الله الحكم المماثل له بشأن العامّي، وبما أنّ كلّ فقيه يعتقد أنّ
استنباطه هو الاستنباط الصحيح فهو يعتقد أنّ الحكم الذي اكتشف مطلق يشمل العامّي فيفتي بذلك، فاكتشاف إطلاق الأحكام للعامّي وإن كان في طول دليل أصل جواز التقليد في الجملة، ولكنّه ليس في طول نفس جواز التقليد، فحتّى الذي لا يكون مستجمعاً لشروط جواز التقليد كما لو كان فاسقاً أو يكون مؤهّلاً للتقليد ولكن صاحبه فقيه لا يجوّز له التقليد يكون من حقّه أن يفتي صاحبه بما استنبطه من الأحكام.
وهذا الوجه وكذلك الوجه السابق لولا الإشكال الماضي يتوقّف:
أوّلاً: على فرض ثمرة عمليّة لظهور دليل التقليد في كونه إمضاء لنفس الارتكاز العقلائي حتّى يكون حجّة تعبّداً، أو كون هذا الظهور من الظهورات المورثة للقطع.
وثانياً: على فرض عدم وجود حلّ آخر تامّ بمقتضى القواعد من دون حاجةٍ إلى استكشاف مؤونة زائدة كمؤونة هذا الوجه أو مؤونة الوجه السابق.
الوجه الرابع: _ وهذا الوجه يكون تاماً بمقتضی القواعد، وبلا حاجة إلى أيّ مؤونة زائدة تعبّدية _ هو أنّ شروط الحكم الظاهري كلّها متوفّرة بشأن العامّي، فإنّ تلك الشروط عبارة عن الفحص والعلم الإجمالي واليقين السابق والشكّ، أمّا الفحص فليس هو في واقعه
شرطاً، وإنّما الشرط هو عدم المقيّد أو المخصّص أو الحاكم أو المُلزِم في معرض الوصول وأهل الخبرة هو الذي يشخّص تحقّق ذلك.
وأمّا العلم الإجمالي فبشأن العامّي يحلّ محلّه مجرّد احتمال التكليف قبل الفحص، أو يقال بأنّ منشأ العلم الإجمالي التعبّدي الحاصل للفقيه وهو خبر الثقة مثلاً والذي هو في معرض الوصول (ولذا وصل إلى الفقيه) يكون هو المنجِّز للأطراف، وأمّا اليقين السابق فقد نقّحنا في محلّه عدم اشتراطه في الاستصحاب وكفاية ذات المتيقّن السابق، والفقيه هو الذي يكون خبرة لتشخيص ذلك، وأمّا الشكّ فهو موجود لدى العامّي بلا إشكال.
الوجه الخامس: _ وهو أيضاً يكون تامّاً على مقتضى القواعد وبلا حاجة إلى مؤونة تعبّديّة _ أنّنا لو لم نسلّم بكفاية عدم المخصّص والمقيّد والحاكم والمُلزم والمتيقّن السابق والمنشأ التعبّدي للعلم الإجمالي كخبر الثقة لم تصل النوبة إلى مثل شرط الفحص، بل يكون الشرط إحراز تلك الأُمور ولو تعبّداً.
والوجه في قولنا: ولو تعبّداً، هو إيماننا بأنّ التعبد يقوم مقام العلم الطريقي والموضوعي الطريقي.
وعندئذٍ نقول: إنّ تقليد العامّي في الحكم النهائي يرجع بنظرة تحليليّة إلى تقليده أوّلاً في عدم المقيّد والمخصّص والحاكم والمُلزِم وفي ثبوت