63

صلاة الجمعة في عصر الغيبة

64

 

65

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.

إنّ وجوب صلاة الجمعة عند عدم وجود الحاكم العادل قد يعني: وجوب إقامتها، وقد يعني: وجوب الالتحاق بها لو أُقيمت، وكلّ واحد من المعنيين قد يُستفاد من بعض الروايات.

فقد يدل على كلا الوجوبين ما عن عمر بن يزيد بسند تام عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة، وليلبس البرد والعمامة ويتوكّأ على قوس أو عصا، وليقعد قعدة بين الخطبتين...»(1).

وما عن زرارة بن أعين بسند تام عن الباقر (علیه السلام): «إنّما فرض الله(وجل عز) على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة منها صلاة واحدة فرضها الله(وجل عز) في جماعة، وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة: عن الصغير، والكبير، والمجنون، والمسافر،

 


(1) وسائل الشيعة، ج7، ص313، الباب6 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، ح5.

66

والعبد، والمرأة، والمريض، والأعمى، ومن كان على رأس فرسخين»(1).

وقد يدل على الوجوب الثاني ما عن أبي بصير ومحمد بن مسلم بسند تام عن أبي عبدالله(علیه السلام): «إنّ الله(وجل عز) فرض في كلّ سبعة أيّام خمساً وثلاثين صلاة منها صلاة واجبة على كلّ مسلم أن يشهدها إلّا خمسة: المريض، والمملوك، والمسافر، والمرأة، والصبي»(2).

وفي رأيي أنّ عمدة ما يقيّد إطلاق ما يدل على الحكم الثاني ويوجب حمل ما يدل على الحكم الأوّل على الاستحباب ارتكاز أو احتمال ارتكاز كون الوجوب الأوّل خاصّاً بالحاكم العادل وكون الوجوب الثاني خاصّاً بما إذا تصدّى الحاكم العادل بنفسه أو بتعيين نائب عنه، وأقصد بذلك الارتكاز في زمن صدور النصّ، فإنّ احتمال ذلك يعني احتمال القرينة المتصلة، وهو يبطل الظهور والإطلاق، وإذا كانت القرينة المتصلة المحتملة عبارة عن الارتكاز لم يمكن دفعها بترك ذكر الراوي لها.

وتؤيّد هذا الاحتمال روايات من قبيل:

1_ رواية زرارة بسند تام عن الباقر(علیه السلام): «صلاة الجمعة فريضة والاجتماع إليها فريضة مع الإمام...»(3)، حيث إنّ المظنون أنّ المقصود بالإمام في هذا الحديث هو الحاكم العدل لا إمام الجماعة؛ إذ لو كان المقصود هو إمام الجماعة لم يكن القيد احترازيّاً؛ إذ من الواضح أنّ الاجتماع إليها لا يمكن أن يكون إلّا مع إمام الجماعة، وبناءً على الجزم بظهور الإمام في هذا النص في الحاكم العدل يصبح هذا الحديث بنفسه دليلاً على عدم وجوب صلاة الجمعة إلّا مع الحاكم العدل، ويكفينا عن

 


(1) وسائل الشيعة، ج7، ص295، الباب الأول من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، ح1.

(2) المصدر السابق، ص299، ح14.

(3) المصدر السابق، ص297، ح8 و12.

67

الاستدلال بالارتكاز أو احتمال الارتكاز.

2_ ما عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(علیه السلام)قال: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين (المؤمنين) ولا تجب على أقلّ منهم: الإمام، وقاضيه، والمدّعي حقّاً، والمدّعى عليه، والشاهدان، والذي يضرب الحدود بين يدي الإمام»(1)، وهنا من الواضح أنّ المقصود بالإمام هو الحاكم العدل لا إمام الجماعة، ونحن وإن كنّا لا نقول بمفهوم اللقب لكن قد يقال: إنّ ذكر الإمام هنا في مقام التحديد، وأمّا ذكر القاضي والمدّعي...، فكأنّ المقصود منه أنّ الحاكم العدل أقلّ ما يتصوّر معه هو أن يكون له قاض، وضارب الحدود، والمتخاصمان، والشاهدان، وهذا عدد كاف لوجوب الجمعة.

إلّا أنّه يكفي في التحفّظ على كون ذكر الإمام هنا في مقام التحديد والتقييد كونه مقيّداً لخصوص الوجوب الأوّل، فالوجوب الأوّل ثابت على الإمام لا على كلّ الناس، فهو الذي يجب عليه أن يصلّي بالناس الجمعة أو يهيّئ نائباً عنه في ذلك، وليس هذا الوجوب ثابتاً على الآخرين، إذاً فلا شاهد في هذا الحديث على تقييد الوجوب الثاني، فلو وجد من يقيم الجمعة فمقتضى إطلاق دليل الوجوب الثاني وجوب الالتحاق به ولو لم يكن إماماً ولا نائباً عنه في ذلك.

3_ ما عن زرارة بسند تام قال: «حدثّنا أبو عبدالله(علیه السلام)على صلاة الجمعة حتّى ظننت أنّه يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: لا، إنّما عنيت عندكم»(2)، حيث إنّ هذا الحديث ظاهر في تعوّد زرارة على الترك.

وأوضح منه في هذا المعنى ما عن عبدالملك أخي زرارة _ والسند إلى ما قبل عبدالملك تام _ عن أبي جعفر(علیه السلام)قال: «قال: مثلك يهلك ولم يصلّ فريضة فرضها الله. قال:

 


(1) المصدر السابق، ص305، الباب5 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، ح9.

(2) المصدر السابق، ص309، ح1.

68

قلت: كيف أصنع؟ قال: صلّوا جماعة يعني صلاة الجمعة»(1) فهذا واضح في تعوّد عبدالملك على الترك.

إلّا أنّه من المحتمل كون الترك في ذاك الزمان كان لعدم إقامة الجمعة ممن يصح الاقتداء به، فهاتان الروايتان إنّما تشهدان على تقييد الوجوب الأوّل فحسب.

4_ ما عن هشام بسند تام عن أبي عبدالله(علیه السلام)قال: «إنّي لأُحبّ للرجل أن لا يخرج من الدنيا حتّى يمتّع ولو مرّة، وأن يصلّي الجمعة في جماعة»(2)، لظهور كلمة «أُحبّ» والإقران بين الجمعة والمتعة في الاستحباب.

إلّا أنّ هذا أيضاً لا ينفي وجوب الالتحاق على تقدير إقامتها من قِبَل من يصحّ الاقتداء به، فهذا لا يشهد لأكثر من تقييد الوجوب الأوّل.

وعلى أيّ حال فثبوت ارتكاز أنّ إقامة صلاة الجمعة هي شأن الحاكم غير بعيد في ذاك الزمان الذي كان المتعارف عند الناس هو ذلك، وإن كانوا قد أخطأوا في تشخيص الحاكم الصحيح الذي من حقّه شرعاً أن يحكم، والقدر المتيقّن من هذا الارتكاز هو ارتكاز كون وجوب الإقامة خاصّاً بالحاكم، لكن من المحتمل على أيّ حال توسعة الارتكاز لوجوب الالتحاق بأن يفترض أيضاً ارتكاز اختصاص وجوب الالتحاق بما لو أقامها الحاكم بنفسه أو بتعيين نائب لذلك عنه، واحتمال ذلك كاف في تقييد كلا الوجوبين.

أمّا التفصيل بين الوجوبين بأن نعترف بأنّ وجوب الإقامة خاص بالحاكم العدل ونقول في نفس الوقت بأنّه لو أقامها غير الحاكم ممن يصحّ الاقتداء به وجب الحضور، فيمكن تخريجه بأحد وجوه:

 


(1) وسائل الشيعة، ج7، ص310، الباب5 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها، ح2.

(2) المصدر السابق، ج21، ص14، الباب2 من أبواب المتعة، ح7.

69

1_ أن يُدّعى أنّ المقيّد للإطلاقات هو الإجماع دون الارتكاز، وأنّ القدر الثابت من الإجماع إنّما هو الإجماع على تقيّد الوجوب الأوّل.

ولكن قد عرفت أنّ الارتكاز مقيّد في المقام.

2_ أن يُجعل المقيّد هو الارتكاز ويقتصر في الارتكاز على ما كان ثابتاً عملاً وقتئذٍ من كون إقامة الجمعة شأن الحكّام، أمّا أنّه لو أقامها غير الحاكم أو نائبه فهل على الناس الحضور عند الاطّلاع أو لا؟ فهذا ما لم يتّفق عملاً وقتئذٍ، فيدّعى الجزم بعدم ارتكاز لعدم الوجوب وقتئذٍ للحضور، فنتمسّك بالإطلاقات الناظرة إلى خصوص الوجوب الثاني.

ولكن لا جزم لنا بعدم التوسعة في الارتكاز على أنّه لا يبعد مقيّدية رواية زرارة الماضية، وهي تقيّد كلا الوجوبين.

3_ أن يجعل المقيّد هو الأخبار الماضية التي ذكرناها كتأييد لوجود ارتكاز من هذا القبيل مع إنكار مقيّدية الخبر الأوّل منها بدعوى عدم ظهور لكلمة الإمام فيه في الحاكم، فمن المحتمل كون المقصود به إمام الجماعة، وقد عرفت أنّ باقي الأخبار لو قيّدت فإنّما تقيّد الوجوب الأوّل، وحينئذٍ لو كان كلا الوجوبين ثابتين بإطلاق واحد لَانخرم إطلاق الوجوب الثاني أيضاً بوحدة السياق، لكن عرفت أنّ بعض الإطلاقات خاص بالوجوب الثاني، فيبقى على حاله.

4_ أن يقال: إنّ المقيّد هو احتمال الارتكاز الثابت في كلّ الروايات المطلقة، ولكن الآية الشريفة سليمة عن هذا الاحتمال؛ إذ لم يكن ارتكاز في أوّل تشريع صلاة الجمعة، والآية لا تدل إلّا على الوجوب الثاني، وهو السعي إذا نودي للصلاة في يوم الجمعة.

إلّا أنّنا لو آمنّا بمقيّدية الرواية الأُولى من الروايات التي جعلناها مؤيّدة لفرضيّة الارتكاز _ وهي رواية زرارة الماضية _ فهي تقيّد الآية أيضاً.

70

على أنّه لا يبعد انصراف الآية إلى نداء الحاكم باعتبار أنّ النداء والإعلان هو عادة شأن الحاكم، أمّا غيره فقد يخبر بعض أصدقائه عن إقامته لصلاة الجمعة، لكن هذا لا يسمّى نداءً.

وقد اتّضحت بكلّ ما ذكرناه قوّة تقييد كلا الوجوبين.

ثم الظاهر أنّ الارتكاز موضوعه مطلق الحاكم العدل لا خصوص الإمام المعصوم، وكذلك الظاهر أنّ المفهوم من كلمة الإمام في هذه الروايات حينما لا يكون مستعملاً في إمام الجماعة هو الحاكم الذي يحكم فعلاً عن حقّ، لا خصوص الإمام المعصوم الذي استقرّ أخيراً اصطلاح الشيعة على استعمال كلمة الإمام فيه.

71

تقدّم الزكاة على الخمس أو بالعكس

72

 

73

بسم الله الرحمن الرحيم

قد يتّفق في السكك الذهبيّة كالسكّة الإيرانية أو العثمانية أو غيرهما أنّها تصبح موضوعاً للزكاة لتماميّة النصاب، وفي نفس الوقت تكون زائدةً على المؤونة فيتعلّق بها الخمس، فيدور الأمر بين أن تزكّى أوّلاً ثم يخمّس الباقي وبذلك ستقلّ حصّة الخمس، أو تخمّس أوّلاً ثم يزكّى الباقي وبذلك ستقلّ حصّة الزكاة، بل قد تنعدم نهائيّاً بسبب سقوط المال باستثناء خمسه عن النصاب، فأيّ الطريقين هو الصحيح؟ ويتصوّر نحو هذا الحديث في الغلّات والأنعام أيضاً.

وقد تقول في سكك الذهب المألوفة اليوم إنّها خارجة عن هذا البحث؛ لأنّها ليست من النقد الرائج في السوق، وذلك إمّا بسبب عدم وضوح مقدار قيمة الذهب والفضّة لأكثريّة الناس، أو بسبب تزلزل مقدار قيمة المادّة بالصعود والنزول في مساحة واسعة من درجات الصعود والنزول أو في أزمنة متقاربة، وقد تكون كلّ هذه الأُمور مجتمعة مؤثّرة في عدم رواج التعامل.

إلّا أنّ الدليل على شرط الرواج بهذا المعنى غير واضح، فإنّ المتيقّن من تقييد إطلاقات الزكاة في الذهب والفضّة من قبيل روايات الباب الثامن من أبواب زكاة

74

الذهب والفضة هو التقييد بالسكّة كما ورد في صحيحة علي بن يقطين: «قلت: وما الركاز؟ قال: الصامت المنقوش»(1).

والدليل على شرط الرواج الفعلي بالسوق يمكن أن يكون أحد أُمور ثلاثة:

الأوّل: خبر علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى بن جعفر(علیه السلام): «لا تجب الزكاة في ما سبك فراراً به من الزكاة، ألا ترى أنّ المنفعة قد ذهبت فلذلك لا تجب الزكاة»(2).

فقد يستظهر منه: أنّ المقصود بالمنفعة الذاهبة رواجه الفعلي كنقد في السوق.

إلّا أنّ سند الحديث ضعيف بإسماعيل بن مراد.

والثاني: عنوان الدرهم والدينار الواردين في موضوع زكاة النقدين فإنّهما لا يخلوان من الإشارة إلى رواج النقديّة في السوق.

والجواب: أنّ موضوع الزكاة في الروايات _ كما أشرنا _ إنّما هو الذهب والفضّة، وأمّا الدينار والدرهم فأكثر ذكرهما في الروايات لا يكون بعنوان شرط رواج النقديّة، بل يكون بعنوان تحديد النصاب،(3) وقسم منها ورد عنوان الدينار والدرهم فيهما كإشارة إلى ما يقابل التبر أو النقر أو غير المسكوك، وليست واضحة في الإشارة إلى رواج النقديّة في السوق بحيث تكون صالحة لتقييد إطلاق عنوان الصامت المنقوش أو عنوان الذهب والفضّة برواج النقديّة في السوق، فمقتضى إطلاق الأدلّة كفاية النقش الثابت على السكك الذهبية المألوفة اليوم.

والثالث: دعوى انصراف عنوان النقش أو ما يشير إليه أيضاً إلى نكتة الرواج في السوق؛ إذ لا تتصور نكتة عرفية أو عقلائية لدخل النقش في ضريبة الزكاة إلّا بنكتة دخلها في الرواج السوقي.

 


(1) وسائل الشیعة، ج9، ص154، الباب8 من أبواب زكاة الذهب والفضة.

(2) المصدر السابق، ص160، الباب 11 من أبواب زكاة الذهب والفضة، ح11.

(3) راجع المصدر السابق، ص137، الباب الأول والثاني من أبواب زكاة الذهب والفضة.

75

والجواب: أنّه يكفي في بقاء الإطلاقات على إطلاقها احتمال عقلائي آخر، وهو أن يكون أثر النقش من قبل السلطة إعطاؤه للذهب أو الفضّة قوّة التعامل بهما ولو بمقدار ما ينشأ عن سكّة الحكومة من ضمان الوزن والجودة، وهذا ثابت في السكك الذهبية المألوفة اليوم. وعليه فالأقوى تعلّق الزكاة بها.

وأمّا الحديث عن تقدّم الخمس على الزكاة وبالعكس فقد يقال: إنّه يخرج عن هذا البحث ما يتعلّق به الخمس منذ البدء كما في المعدن والغوص والكنز وغنيمة الحرب، فإنّ الزكاة تجب بعد سنة والخمس قد وجب قبل ذلك، وطبيعي أنّ الزكاة لا تجب إلّا على ما بقي في الملك وهي الأربعة أخماس الباقية لو بقيت سنةً.

ومن هنا قد يقال: إنّ الخمس دائماً يتقدّم على الزكاة؛ لأنّ الخمس يتعلّق دائماً بالمال من أوّل يوم وإن كان متعلّقه هو المال الذي سيبقى في علم الله سنة كاملة ولا يصرف في المؤونة، ولهذا يجوز إخراج الخمس من أوّل السنة وإن جاز تأخيره إلى آخر السنة، في حين أنّ الزكاة تجب في آخر السنة فلا تجب إلّا في الأربعة أخماس الباقية.

وهذا البيان لو تم فإنّما يتم في الأعيان الزكوية التي تكون الزكاة فيها مشروطة بمضي الحول وهي النقدان والأنعام.

أمّا لو مضى الحول على أُصول الغلّات وخُمِّست بعينها قبل بدو الصلاح فاختصاص الزكاة على المالك الأوّل بغلّات ما بقي في ملكه واضح، ولو أُخرج خمس الأُصول بدفع القيمة فبقيت الأُصول لمالكها فثبوت الزكاة على تمام الغلّات واضح، ولو بقي غاصباً لخمس الأُصول فاختصاص الزكاة بغلّات الأربعة أخماس غير المغصوبة واضح.

وهناك وجه ثان لإثبات تقديم الخمس على الزكاة وهو أنّ الزكاة تتعلّق بالماليّة، لا بالعين بخصوصيّاتها العينية؛ بدليل جواز إخراجها من غير ذات الأعيان المتعلّقة للزكاة، ولكن الخمس يتعلّق بالأعيان على نحو الشركة والإشاعة على ما هو الظاهر من رجوع الضمير إلى ما غنمتم في قوله تعالى: ﴿َكوَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ

76

خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ و...﴾(1)وقد فسّرت الغنيمة الواردة في الآية في صحيحة علي بن مهزيار بمطلق الفائدة، حيث قال بعد قراءة الآية: فالغنائم والفوائد يرحمك الله، فهي الغنيمة يغنمها المرء والفائدة يفيدها... (2).

وعليه فتعلّق الخمس يُسقط ملكيّة خمس العين وقد أُخذ في موضوع الزكاة شرط ملكيّة العين، إذاً فالخمس متى ما تعلّق بالعين الزكوية يكون رافعاً لموضوع الزكاة.

ولعلّه لأحد هذين الوجهين أفتى السيد الخوئي(رحمه الله) بتقدّم الخمس على الزكاة حيث ورد عليه سؤال هذا نصّه:

«الأموال التي تتعلق بها الزكاة _ الغلّات والنعم والنقدين _ إذا حال عليها الحول، هل تخمّس أيضاً، وعلى فرض التخميس أيّهما يقدم أوّلاً؟».

فأجاب(رحمه الله) بما نصّه:

«نعم، إذا كانت بشرائط كلّ واحد منهما والخمس منهما مقدّم، والله العالم» (3).

والآن نريد أن نقلب الأمر فنفترض أنّ الزكاة هي التي ترفع موضوع الخمس وذلك لعدّة وجوه:

الأوّل: روايتان قد تفترض دلالتهما على ذلك، أوليهما: صحيحة علي بن مهزيار كتب إليه إبراهيم بن محمد الهمداني: «أقرأني عليّ كتاب أبيك في ما أوجبه على أصحاب الضياع أنّه أوجب عليهم نصف السدس بعد المؤونة وأنّه ليس على من لم تقم ضيعته بمؤونته نصف السدس ولا غير ذلك، فاختلف من قبلنا في ذلك فقالوا: يجب على الضياع الخمس بعد المؤونة، مؤونة الضيعة وخراجها لا مؤونة الرجل

 


(1) الأنفال: 41.

(2) وسائل الشيعة، ج9، ص501، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، ح5.

(3) صراط النجاة، ج3، ص 119.

77

الأوّل: روايتان قد تفترض دلالتهما على ذلك، أوليهما: صحيحة علي بن مهزيار كتب إليه إبراهيم بن محمد الهمداني: «أقرأني عليّ كتاب أبيك في ما أوجبه على أصحاب الضياع أنّه أوجب عليهم نصف السدس بعد المؤونة وأنّه ليس على من لم تقم ضيعته بمؤونته نصف السدس ولا غير ذلك، فاختلف من قبلنا في ذلك فقالوا: يجب على الضياع الخمس بعد المؤونة، مؤونة الضيعة وخراجها لا مؤونة الرجل وعياله. فكتب وقرأه عليّ بن مهزيار: عليه الخمس بعد مؤونته ومؤونة عياله وبعد خراج السلطان»(1).

والسند منتهٍ بإبراهيم بن محمد الهمداني وهو وكيل الناحية، فإن لم تثبت وثاقته بذلك وفقاً لمناقشة السيد الخوئي(رحمه الله) في ثبوت الوثاقة بالوكالة(2) فلعلّه يكفي في المقام ما في الحديث من جملة: «وقرأه علي بن مهزيار» فإنّ هذا إسقاط لإبراهيم بن محمد الهمداني من السند ويصبح علي بن مهزيار راوياً مباشرة.

وأمّا الدلالة فيقال: إنّ خراج السلطان هو الزكاة أو يشمل الزكاة، فالحديث دلّ على أنّ الخمس يحسب بعد خروج الزكاة.

ويمكن أن تناقش هذه الدلالة أوّلاً: بأنّ المقصود بالسلطان السلطان الجائر، فمعنى العبارة أنّ ما يأخذه السلطان قهراً على الإنسان لا يجب دفع خمسه، وهذا لا علاقة له بأنّه لو كان السلطان عادلاً فهل تحسب معه أوّلاً الزكاة ثم الخمس أو بالعكس.

وثانياً: أنّ هذا وارد في الضياع والغلّات والتي قلنا: إنّ بدوّ الصلاح فيها لا يعني مرور الحول عليها، وإذا أُخذ منها شيء سواء كان بظلم السلطان أو بعنوان الزكاة من قبل إمام عدل فمن الواضح أنّه حينما يمرّ عليه الحول لا يتعلّق به الخمس إلّا بما هو موجود فعلاً عنده.

والثانية: رواية أحمد بن محمد بن عيسى بن يزيد(3) أو رواية أحمد بن محمد بن عيسى عن زيد(4) قال: «كتبت جعلت لك الفداء تعلّمني ما الفائدة وما حدّها؟

 


(1) وسائل الشيعة، ج9، ص500، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، ح4.

(2) معجم رجال الحدیث، ج1، ص71.

(3) الكافي، ج2، ص729، الباب 130 من أبواب التاريخ، ح12.

(4) وسائل الشيعة، ج9، ص 503، الباب 8 من أبواب ما يجب فیه الخمس، ح7.

78

رأيك أبقاك الله أن تمنّ عليّ ببيان ذلك لكي لا أكون مقيماً على حرام لا صلاة لي ولا صوم، فكتب: الفائدة ممّا يفيد إليك في تجارة من ربحها وحرث بعد الغرام أو جائزة»(1). بناءً على أنّ هذا الحديث أفضل دلالة من الحديث الأوّل؛ لإمكان أن يقال: إنّ المقصود بالغرام ما يغرمه الإنسان من زكاة، سواء دفعها للسلطان الجائر أو للإمام العادل، وأنّه لا يختصّ بالحرث بل يشمل ربح التجارة.

ولو صحّ كلّ هذا فسنده ساقط إمّا بأحمد بن محمد بن عيسى بن يزيد لجهالته أو بزيد لجهالته.

والثاني: روايات أنّ الخمس بعد المؤونة، كصحيحة علي بن أبي راشد: «قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك وأخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم: وأيّ شيء حقّه؟ فلم أدر ما أجيبه؟ فقال: يجب عليهم الخمس فقلت: ففي أيّ شيء؟ فقال: في أمتعتهم وصنائعهم قلت: والتاجر عليه والصانع بيده؟ فقال: إذا أمكنهم بعد مؤونتهم»(2). ووجه الاستدلال بذلك على المقصود هو أنّ الزكاة إمّا أن تعتبر مؤونة فيكون الخمس بعد الزكاة، أو تعتبر في الفهم العرفي أولى من المؤونة؛ إذ لا شكّ أنّ الزكاة لو تعلّقت بالصرف مثلاً بالذمّة كان أداؤها من المال مؤونة ولا خمس فيها، فكيف بالزكاة المتعلّقة بالعين حالياً؟! وعليه فالخمس بعد الزكاة.

وهذا يرفع موضوع الوجهين اللذين بيّنّاهما لتقديم الخمس على الزكاة وهو كون الخمس بنحو الشركة أو كونه متعلّقاً بالمال من أوّل السنة؛ لأنّ دليل (الخمس بعد المؤونة) قيّد الخمس بأيّ وجه كان بما بعد الزكاة، فالزكاة رافعة لموضوعه فلا خمس حتّى يكون بنحو الشركة أو يثبت من أوّل السنة.

 


(1) وسائل الشيعة، ج9، ص 503، الباب 8 من أبواب ما يجب فیه الخمس، ح7.

(2) المصدر السابق، ص500، ح3.

79

والثالث أنّ روايات تعلّق الزكاة ساكتة جميعاً عن مشكلة تعلّق الخمس بالعين الزكوية، كما أنّ روايات تعلّق الخمس ساكتة جميعاً عن مشكلة تعلّق الزكاة بالعين التي هي متعلّقة للخمس.

وهذا السكوت الثاني إنّما فرضناه لأنّنا نفترض التنازل عن الوجه السابق وهو كون الزكاة مؤونة أو كالمؤونة، وإلّا فروايات الخمس ليست ساكتة عن ذلك.

وعندئذٍ نقول: لا غرابة في سكوت روايات الخمس عن مشكلة تعلّق الزكاة؛ لأنّ دائرة الأعيان التي تتعلّق بها الخمس واسعة جدّاً، فقد يكون النظر فيها إلى الحكم الحيثيّ؛ أي أنّ الحكم من حيث وظيفة الخمس بما هي كذا باعتبار أنّ الموارد الغالبة خالية عن مسألة الزكاة، وهذا بخلاف أدلّة زكاة النقود أو الأنعام فإنّها واردة في ما هو عين زكويّة، وفي نفس الوقت هو عين يتعلّق بها الخمس، فلو كان يتقدّم الخمس على الزكاة لكان المفروض أن ينبّه عليه.

80

 

81

مسألتان في العمرة

82

 

83

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

حد الفصل الواجب بين العمرتين المتتاليتين

المسألة الأُولی: من أتی بعمرتين متتاليتين، فهل يشترط في صحّة العمرة الثانية الفصل بينهما بوقوع كلّ واحدة منهما في شهر هلالي غير الشهر الآخر على أساس أنّ لكلّ شهر عمرة، أو يُشترط الفصل بينهما بمقدار شهر أو لا يشترط، لا هذا ولا ذاك؟

الظاهر أنّ أصل اشتراط أحدهما لا ينبغي التشكيك فيه؛ لروايات الباب 12 من كفّارات الاستمتاع من الوسائل(1)، الناصّة في من اعتمر عمرة مفردة فغشي أهله قبل أن يفرغ من طوافه وسعيه على أنّه قد أفسد عمرته، وعليه بدنة، وعليه أن يقيم بمكّة حتى يخرج الشهر الذي اعتمر فيه، فيخرج إلى بعض المواقيت. وفي إحدى تلك الروايات: «يخرج إلى الوقت الذي وقّته رسول الله(صلى الله عليه و آله) لأهله»، فيحرم منه ثم يعتمر. فلولا فساد العمرة الثانية بعدم الفصل لم يكن وجه لضرورة إقامته إلى أن

 


(1) وسائل الشيعة، ج13، ص 128-129.

84

ينتهي الشهر السابق، بل كان بإمكانه أن يخرج للعمرة قبل انتهاء الشهر.

والظاهر من مصطلح الشهر في لسان الشريعة الشهر الهلالي: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾(1).

فالصحيح أنّ الشرط في صحة العمرة الثانية وقوعها في شهر هلالي غير الشهر الذي وقعت فيه العمرة الأُولى، لا فاصل مقدار الشهر بينهما.

هل يجوز الرجوع إلی مكة محلّاً في نفس شهر الخروج منها؟

المسألة الثانية: من كان في مكة بصورة مشروعة وخرج من مكة ومن الحرم وأراد الرجوع في نفس الشهر، فهل يجوز له الرجوع مُحلّاً مطلقاً، أو يُشترط في جواز رجوعه مُحلاً أن يكون قد اعتمر في ذلك الشهر؟ الظاهر هو الأول، ويدلّ على ذلك خبران صحيحان:

الأول: صحيح حمّاد بن عيسى عن أبي عبدالله(علیه السلام): «...قلت: فإن جهل فخرج إلى المدينة أو إلى نحوها بغير إحرام ثم رجع في إبّان الحج في أشهر الحجّ يريد الحجّ فيدخلها مُحرماً أو بغير إحرام؟ قال: إن رجع في شهره دخل بغير إحرام، وإن دخل في غير الشهر دخل مُحرماً...»(2).

فإنّه جعل العنوان لوجوب الإحرام وعدمه رجوعه في شهره أو في غير شهره، وهذا غير عنوان كونه مُعتمراً في ذلك الشهر وعدمه.

والثاني: صحيح جميل بن درّاج عن أبي عبدالله(علیه السلام): «في الرجل يخرج إلى جدّة في الحاجة؟ قال: يدخل مكة بغير إحرام»(3).

فإنّ تقييده بمن أتی بالعمرة في نفس الشهر خلاف ما فيه من الإطلاق.

 


(1) التوبة: 36.

(2) وسائل الشيعة، ج11، ص303، الباب 22 من أبواب أقسام الحج، ح6.

(3) المصدر السابق، ج12، ص407، الباب 51 من أبواب الإحرام، ح3.

85

ويؤيّدهما خبران غير تامّين سنداً:

أحدهما: مرسلة حفص بن البختري وأبان بن عثمان عن رجل عن أبي عبدالله(علیه السلام): في الرجل يخرج في الحاجة من الحرم، قال: «إن رجع في الشهر الذي خرج فيه دخل بغير إحرام، وإن دخل في غيره دخل بإحرام»(1).

والثاني: مرسلة الصدوق عن الصادق(علیه السلام): «إذا أراد المتمتّع الخروج من مكة إلى بعض المواضع فليس له ذلك؛ لأنّه مرتبط بالحجّ حتی يقضيه إلا أن يعلم أنّه لا يفوته الحج، وإن علم وخرج وعاد في الشهر الذي خرج فيه دخل مكة مُحلّاً، وإن دخلها في غير ذلك الشهر دخلها مُحرماً»(2).

ولكن يعارض كل هذه الروايات موثّق إسحاق بن عمّار، قال: «سألت أبا الحسن(علیه السلام)عن المتمتّع يجيء فيقضي متعته ثم تبدو له الحاجة فيخرج إلى المدينة وإلى ذات عرقٍ، أو إلى بعض المعادن؟ قال: يرجع إلى مكة بعمرة إن كان في غير الشهر الذي تمتّع فيه؛ لأنّ لكلّ شهر عمرة، وهو مرتهن بالحجّ. قلت: فإنّه دخل في الشهر الذي خرج فيه؟ قال: كان أبي مجاوراً هاهنا فخرج يتلقّى بعض هؤلاء، فلمّا رجع فبلغ ذات عرق أحرم من ذات عرق بالحجّ، ودخل وهو مُحرم بالحج»(3).

فإنّه(علیه السلام)أمر في هذا الحديث بالإحرام لمن يدخل في غير الشهر الذي تمتّع فيه ولو كان دخوله في الشهر الذي خرج فيه، واستشهد(علیه السلام)بفعل أبيه(علیه السلام)الذي أحرم بإحرام الحجّ المفرد من ذات عرق باعتبار أنّه كان مجاوراً لمکّة، فکانت وظيفته الإفراد.

 


(1) المصدر السابق، ح4.

(2) المصدر السابق، ج11، ص304، الباب22 من أبواب أقسام الحج، ح10.

(3) المصدر السابق، ص303، ح8.

86

ومقتضى الجمع العرفي بين هذه الموثّقة وبين ما جعل العنوان الذي يجب معه الإحرام أو لا يجب (دخوله في شهر الخروج أو في شهر آخر) _ وهي الروايات الثلاث الأُولى _ هو حمل هذا الأمر على الاستحباب.

87

محلّ الذبح في الحج