نظرة الإسلام إلى الحقوق الزوجيّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصَّلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمّد وآله الطاهرين، واللَّعنُ على أعدائهم أجمعين.
إنّ من رأي الإسلام أنَّ سعادة الحياة البشريّة تكون بتطبيق نظام الاُسرة دون الشيوعيّة الجنسيّة؛ لأنّ النظام الاُسري يؤمِّن حاجتين مهمَّتين من الحاجات البشريّة، بل من أهمّها، وهما:
1 ـ حاجة الإنسان إلى استقرار الحياة ونظمها.
2 ـ حاجة الإنسان الروحيّة إلى الحبّ والوداد، والعطوفة والرحمة.
فمن أهمّ حاجاته الروحيّة والنفسيّة أن يُحِبّ وأن يُحَبّ، وأن يقيم علاقة الودّ والتعاطف مع آخرين. فالطفل بطبيعته الروحيّة بحاجة إلى من ينظر إليه بعين الرأفة والمحبّة، ويحنو عليه بقلب رؤوف، ويلاطفه بأعذب الكلمات، ويداعبه بيد العطوفة والرحمة. والمرأة تحسّ بالحاجة الماسّة الروحيّة إلى جذب عواطف الرجل وامتلاك قلبه. والرجل يحسّ بالحاجة إلى ريحانة ينشئ معها علاقة الودّ والرعاية إلى جنب علاقة الجنس، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ﴾(1).
والعلاقات الجنسيّة لاتلبّي إلّا حاجة الجسم والجانب المادّي، ولايرتوي بذلك الجانب الروحي؛ ولذا تراهم يحاولون إشباع هذه الحاجة الماسّة ـ بعد فقدهم للنظام الاُسري بشكله الصحيح الإسلامي ـ عن طريق الروابط غير المشروعة التي لاتفي بتأمين شيء من الحاجتين اللَّتين أشرنا إليهما، وكذلك ترى الطفل الذي لايتربّى تحت عطوفة كعطوفة الأب والاُمّ، ينشأ معقّداً في حياته بتعقيدات نفسيّة خطرة؛ بسبب أنّه لم تشبع حاجته النفسيّة إلى رأفة الوالدين وعطوفتهما، وبسبب أنّه لم يكن مَنْ قام بشأنه من هيئة حكوميّة أو نحو ذلك مندفعاً اندفاعاً حقيقيّاً إلى تربيته وتلبية حاجاته الجسديّة والروحيّة بالشكل الكامل.
وبعد أن رأى الإسلام لهذه الاُمور وأمثالها سعادة الحياة الاُسريّة في نظام الاُسرة، حرّم الإباحيّة والشيوعيّة الجنسيّة، وأقام المجتمع على أساس تركّبه من وحدات اُسريّة، واتّخذ الاحتياطات بهذا الصدد، ومن أهمّها مسألة الحجاب، أقول: بعد هذه الرؤية من قبل الإسلام أصبح الإسلام بصدد تنظيم حقوق الزوجيّة، فنظّمها على وفق ما تتطلّبه اُسس خمسة:
الأساس الأوّل: الإيمان بأنّ الحياة الموحّدة المشتركة بحاجة إلى قيادة موحّدة، وهذا هو أساس جعل الإسلام القيمومة في الحياة الزوجيّة دون حياة الأخ واُخته، أو الأب وبنته غير المتزوّجة. فتخصيصُ فكرة القيمومة بالحياة الزوجيّة دون غيرها يدلّ على أنّ الإسلام لاينظر إلى الاُنثى كوجود ناقص يحتاج إلى قيّم ووليّ، بل يراها حرّة في تصرّفاتها وفي قيمومتها على نفسها وعلى حياتها كالرجل؛ ولذا لم يَفْترِض قيمومة للأخ على الاُخت، أو للأب على البنت؛ لأنّه لم يكن المفروض في نظر الإسلام على الاُخت أو البنت أن تشكّل حياةً موحّدة مع الأخ أو الأب، بل ترك ذلك إلى الأحوال والملابسات. فلو اتّفقا بحسب الأحوال والملابسات على الاشتراك في الحياة الموحّدة، لأصبحت عادة القيمومة بيد أقواهما وأقدرهما وأعقلهما، لاكفرض من قبل القانون الإسلامي، بل كاختيار عملي من قبلهما، كما كان أصل الاشتراك في الحياة الموحّدة اختياريّاًمنهما، وهذا بخلاف الحال في الزوج والزوجة اللذين هما النواة الأساسيّة في الإسلام للمجتمع الاُسري الذي هو النواة في الإسلام للمجتمع كلّه. فاشتراكهما في حياة موحّدة أمرٌ مفروض من قبل الإسلام، وكذلك تطبيق فكرة القيادة الموحّدة لهذه الحياة أصبح أمراً مفروضاً من قبل الإسلام.
الأساس الثاني: أفضليّة الرجل على المرأة في غلبة الجانب العقلي فيه على الجانب العاطفي، بعكس ما هو الحال في المرأة من ناحية، وفي القوّة المزاجيّة وقدرته على الصمود أمام المشاكل والتغلّب عليها والاحتجاج لدى الخصم من ناحية اُخرى، قال الله تعالى: ﴿أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِين﴾(1)، وقال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾(2)، فهذا الأساس الثاني هو الذي أوجب أن تكون القيمومة المفترضة في الأساس الأوّل بيد الزوج دون الزوجة، وهذه القيمومة اقتضت:
أوّلاً: أن تكون رؤوس خيوط الحياة الزوجيّة بيد الزوج على شكل الحتم والوجوب، وعلى هذا الأساس جُعلت النفقة بيد الزوج، وجعل خروج الزوجة من البيت مشروطاً بإذن الزوج، وجعل التمتّع الجنسي في حالاته الغالبة بيد الزوج، وجعل إنهاء الحياة الزوجيّة بالطلاق، وكذلك الرجوع إليها في العدّة بيده، وكان المهر الذي فرض في أصل عقد هذه الحياة عليه وليس عليها(3).
وثانياً: استحباب إعطاء الزوجة زمام اُمورها الشخصيّة بيد الزوج. أمّا لماذا صار هذا مستحبّاً ولم يصبح واجباً؟ فهذا ما يتّضح من مجموع ما سنذكره في ضمن بحثنا عن الأساسين الرابع والخامس إن شاء الله.
الأساس الثالث: الشهوة الجنسيّة، فبعد أن كان الإسلام ديناً واقعيّاً يهدف إلى تلبية الحاجات الجسديّة كالروحيّة سواء بسواء، ولايجوّز طغيان أحد الجانبين على حقوق الجانب الآخر، هدف إلى تهذيب الطرق الموصلة إلى إشباع تلك الحاجات، والمنع من السرف في بعض الجوانب على حساب باقي الجوانب ومن الأساليب غير المشروعة، ولم يهدف إلى إقصاء بعض القوى، أو سدّ الباب أمام تلبية حاجة طبيعيّة بمثل الرهبنة أو الزهد بمعناه غير الصحيح.
ومن حاجات البشر الملحّة هي حاجته إلى إشباع الرغبة الجنسيّة، فكان لابدّ من إشباعها في النظام الإسلامي؛ حفاظاً على واقعيّة الإسلام، وكونه دينَ فطرة، وتلبيةً للحاجات، وحفظاً للنسل، ولم يجوّز إشباعها عن طريق الإباحيّة الجنسيّة؛ لما مضى: من أنّ الإسلام رأى سعادة الحياة البشريّة في النظام الاُسري؛ فلأجل التجاوب مع الرغبة الجنسيّة من ناحية، ولأجل الحثّ على النظام الاُسري الذي هو الطريق الوحيد لإسعاد المجتمع من ناحية اُخرى، ولأجل تفادي المضاعفات المترتّبة على شهوة الجنس حينما لاتُروى بالشكل المشروع من ناحية ثالثة، حثّ الإسلامُ على الزواج، بل على الزواج المبكِّر، وجعله من أعظم المستحبّات، ومن سُنَنِ الإسلام التي من رغب عنها فقد رغب عن سُنّة رسول الله (صلى الله عليه و آله).
ولمّا كانت شهوة الرجل على شكل الثوران الآني بين الفينة والفينة وبنحو يصعب عليه ضبط نفسه وضبط أعصابه والانشغال بسائر وظائفه، وعلى العكس من ذلك وضعُ الزوجةِ، كان هذا سبباً آخر لإعطاء زمام أمر الاستمتاع الجنسي بيد الزوج؛ ولأجل إيجاد نوع من التعادل والتلاؤم بين الزوجين جَبَرَ الإسلام عدم التماثل الموجود في شكل الشهوتين بحثّ الزوجة على تلبية طلبات الزوج في كلّ ما يريد من ناحية الجنس وإيجابِ ذلك عليها ما عدا بعض الموارد، ولم يكن من الضروري عادة أن يوجب على الزوج إشباعَ رغبة الزوجة في الجنس؛ فإنّ هذا أمرٌ فطري وطبيعي في الزوج يحقّقه بفطرته، ومع هذا اتّخذ الإسلام بهذا الصدد احتياطات: من قبيل إيجابُهُ على الزوج المبيت معها ليلة واحدة من كلّ أربع ليال، وجعلُهُ حقّ الجماع مرّة واحدة في كلّ أربعة أشهر حقّاً إلزاميّاً للزوجة، وترغيبُهُ للزوج على شكل الندب والاستحباب لإشباع الحاجة الجنسيّة للزوجة.
الأساس الرابع: الاُلفة والمودّة، فالتعايش بين الزوج والزوجة لايهنأ ولايروي الحاجة الروحيّة حينما يُقام على أساس قوانين صارمة ومحدّدة، وليس التعايش بينهما من قبيل التعايش بين رئيس المصنع وعمّاله مثلاً، الذي قد لايقصد من ورائه عدا إشباع المصالح الاقتصاديّة للطرفين، وإنّما تهنأُ الحياةُ الزوجيّةُ حينما تُقام على أساس الاُلفة والمحبّة.
وممّا أعمله الإسلام في سبيل الحفاظ على هذا الأساس اُمور أربعة:
الأوّل: تعظيم الزوج وتبجيلُهُ في عين الزوجة، وجعل حقوق احترامه عليها حتّى ورد في بعض الروايات عن رسول الله (صلى الله عليه و آله): «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»(1).
وهذا يعني: أنّ الإسلام يحاول أن يحرّك الزوجة عاطفيّاً نحو التجاوب مع الزوج؛ حفاظاً على حبل المودّة والاُلفة عن طريق تحسيسها بعظمة الزوج باعتباره أقوى الموجودَيْن وأفضلهما.
الثاني: محاولة الإسلام لتحريك الزوج نحو التجاوب مع زوجته والحفاظ على مصالحها عن طريق إشعارها بعاطفته وترقيقها أمام الزوجة باعتبارها أضعف الموجودَيْن كما ورد عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: «اتّقوا الله في الضعيفين. يعني بذلك: اليتيم والنساء»(2)، وورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «المرأة ريحانة، وليست بقهرمانة»(3)، وورد عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): إنّما المرأة لعبة، من اتّخذها فلايضيّعها»(4)، وورد عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): أيضرب أحدكم المرأة، ثُمّ يظلّ معانقها!!»(5)، وورد عن رسول الله (صلى الله عليه و آله): «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»(6)، وعنه (صلى الله عليه و آله): «أوصاني جبرئيل بالمرأة حتّى ظننت أنّه لاينبغي طلاقها، إلّا من فاحشة مبيّنة»(7)، إلى غير ذلك.
الثالث: أنّ الإسلام جعل الأعمال التي تقوم بها الزوجة خدمة للزوج في غير دائرة التمتُّع وفي غير الجوانب الراجعة إلى الحياة المشتركة أعمالاً استحبابيّة، ولم يجعلها حقوقاً واجبة، فخدمة الزوجة للزوج مثلاً في البيت من طبخ وغسل وماشابه ذلك تعتبر أمراً مندوباً إليه ولاتعتبر واجباً. فعدمُ تصعيد هذه الأعمال إلى مستوى الوجوب إضافة إلى اشتماله على الاحتفاظ بحقّ الحريّة للمرأة يشتمل على نكتتين اُخريين أيضاً:
إحداهما: ما سيأتي في بيان الأساس الخامس، والاُخرى: مرتبطة بهذا الأساس الرابع، وهي: أنّه لو كانت تلك الحقوق واجبة، لأصبحت الحياة الزوجيّة قائمة على أساس الصرامة والجبر، لاعلى أساس المودّة والصفاء والحبّ، وكانت علاقتهما أشبه شيء بعلاقة التاجر بعمّاله أو المالك بمملوكه في نظام الرقّ.
الرابع: أنّ الإسلام جعل الزواج مستحبّاً، ولم يجعله واجباً على الرغم من أنّ المصلحة المترتّبة عليه ربّما لاتقلُّ في غالب الأحيان عن المصلحة المترتّبة على بعض الواجبات، وجعل الطلاق مكروهاً، ولم يجعله محرّماً على الرغم من كونه مبغوضاً إلى حدّ الحرمة غالباً، فقد يكون السبب في ذلك ـ إضافة إلى ما سيأتي في الأساس الخامس ـ هو: أنّه لو لم تكن الرغبةُ الجنسيّة ولاالاستحبابُ الأكيد الثابت للزواج، أو الكراهةُ الأكيدة الثابتة للطلاق من قِبَل الشارع في مورد ما كافية لتحريك الشخص نحو الزواج، أو منعه من الطلاق لما كان ينبغي في ذلك المورد إيجاب الزواج، أو تحريم الطلاق؛ لأنّ الحياة الزوجيّة إن اُقيمت على أساس هكذا إيجاب أو تحريم، فربّما لاتُضفى عليها المودّة والرحمة، فتصبح حياة لاتُطاق.
الأساس الخامس: عنصر المرونة في الإسلام، فمن كمالات الإسلام وفضائله الجليلة اشتمالُه على عنصر المرونة والمطّاطيّة ممّا يجعله قابلاً للتطبيق في كلّ زمان ومكان، ومع كلّ الملابسات والأحوال، وقد أعمل الإسلام في نظامه عنصر المرونة بثلاثة أشكال:
الشكل الأوّل: فرض منطقة الفراغ، وجعل ملأها بيد وليّ الأمر، كما شرحنا ذلك في أبحاثنا عن ولاية الفقيه.
الشكل الثاني: تقييد نفس مواضيع الأحكام في غير منطقة الفراغ بقيود مرنة تجعلها تختلف بحسب التطبيق الخارجي باختلاف الأحوال والملابسات: من قبيل تقييد كثير من الأحكام الإلزاميّة بعدم العسر والحرج، أو تقييد كثير من الأحكام بعدم الضرر، ممّا يختلف في مدى صدقه أو عدم صدقه خارجاً بحسب اختلاف الأحوال والملابسات، وأحياناً إعطاء مواضيع مرنة في حدّ ذاتها: من قبيل مفهومي الغنى أو الفقر المختلفَيْن في المصداق باختلاف الزمان والمكان.
الشكل الثالث: جعل بعض الأحكام غير الإلزاميّة، فليس عدم الإلزام دائماً من باب عدم اشتمال متعلّق الحكم على ملاك الإلزام، بل قد يكون الترخيص وعدم الإلزام في الإسلام بملاك المرونة، أو تكون المرونة أحد ملاكاته، وقد يكون من هذا القبيل ما سنذكره من عدّة أمثلة:
الأوّل: مسألة الزواج، فعلى الرغم من أنّ الزواج من أحبّ الأشياء في الإسلام حتّى ورد بسند تامّ عن صفوان، عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): ما من شيء أحبّ إلى الله عزّوجلّ من بيت يعمر في الإسلام بالنكاح»(1)، وورد عن رسول الله (صلى الله عليه و آله): «من رغب عن سنّتي، فليس منّي»(2)، نرى أنّ الإسلام لم يجعل الزواج واجباً، وهذا لايعني: عدم بلوغ المصالح والآثار المترتّبة عليه إلى مستوى الوجوب، وإنّما يعني: الإلتفات إلى عنصر المرونة.
وتوضيح ذلك: أنّ الزواج صحيح كان بشكل عامّ موجباً لسعادة الحياة ولاستمرار حياة الاُمّة بما هي اُمّة، ولكن توجد موارد استثناء عديدة على أساس أحوال ومكتنفات نفسيّة أو خارجيّة تجعل الزواج موجباً للشقوة في الحياة، ولم يكن بالإمكان تحديدها بشكل دقيق ومضبوط في مقياس مفهوم لنا؛ فإنّ هذه المسألة قد تصبح من أشدّ المسائل الحياتيّة تعقيداً، وترتبط بدقائق الاُمور النفسيّة أو الخارجيّة، فكان أفضل اُسلوب لتنزيل النظام التشريعي من قبل الشريعة الإسلاميّة بشكل يحفظ المصالح المتضاربة في أكثر الموارد، هو إعمال عنصر المرونة عن طريق التنزّل من إيجاب النكاح إلى بيان أنّ النكاح في حدّ ذاته من أحبّ الأشياء عند الله، علماً بأنّ المسلم المتديّن لايخلو عادة من إحدى حالات ثلاث:
1 ـ فإمّا أن يكون من الواضح لديه أنّ الزواج يسعد حياته، وأنّه غير مبتلىً بالحالات الاستثنائيّة التي توجب عسر النكاح عليه، أو إيجابه للشقاء في الحياة، وهذا عادة يتزوّج بلاحاجة إلى مرغِّب شرعي.
2 ـ وإمّا أنّ النكاح يستوجب في نظره تحمّل المشاقّ، ولكنّه حينما يضمّ الترغيب الشرعي للنكاح واستحبابه الأكيد، وأنّه في حدّ ذاته من أحبّ الأشياء لله إلى ما يعرفه هو من فوائد النكاح وحاجته الحياتيّة إليه يكفي ذلك في قبوله لتلك المشاقّ وتحمّله لها. وهذا الإنسان المؤمن تكفيه تلك الرواياتُ الحاثّة على النكاح في إقدامه على ذلك.
3 ـ وإمّا أنّ النكاح يستوجب في نظره تحمّل مشاقّ لايستعدّ هو لتحمّلها ما لم يكن النكاح واجباً. وهنا لم يكن بالإمكان إعطاءُ ضابط عامّ يفهمه المكلّف لتشخيص أنّ الزواج هل يسعده، وأنّ رجحانه من حيث الدين والدنيا هل يفوق الشقاء الذي يراه، أو العكس هو الصحيح؟ فكان الأفضل عدم تشريع حكم إلزامي في المقام؛ كي لايقع المكلّف في حرج من ناحية تشخيص وظيفته الشرعيّة، ويمارس الأمر على وفق موازينه العقلائيّة التي قد تختلف من نظر إلى آخر، أو من حدس إلى حدس آخر.
الثاني: مسألة الطلاق، فعلى الرغم من أنّ الطلاق في حدّ ذاته من أبغض الأشياء عند الله ـ حتّى ورد بسند تامّ عن صفوان، عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه و آله): ما من شيء أبغض إلى الله عزّوجلّ من بيت يخرب في الإسلام بالفرقة» يعني الطلاق. ثُمّ قال الصادق (عليه السلام): «إنّ الله عزّوجلّ إنّما وكّد في الطلاق وكرّر فيه القول من بغضه الفرقة»(1) ـ لم يحرّم الطلاق، ولم يذكر مقياساً للتمييز الكامل بين موارد رجحان عدم الطلاق فيحرّمه مثلاً، وبين حالات استثنائيّة فيحلّله فيها؛ إذ لم يكن هناك مقياسٌ عامّ قابل للفهم لدى المكلّفين، وكان الأفضل في استعمال عنصر المرونة التنزّلَ من التحريم إلى بيان كون الطلاق في حدّ ذاته من أبغض الأشياء عند الله، وشرح ذلك يشبه ما ذكرناه في الزواج، فلانعيد.
الثالث: مسألة الأعمال المستحبّة للزوج على الزوجة، فلعلّ النكتة في جعلها مستحبّة لاواجبة ـ إضافة إلى ما مضى ـ هي: نكتة المرونة بمعنى آخر غير ما مضى من فكرة الاحتفاظ بعنصر التحابّ والمودّة، وذاك المعنى هو: أن يقال: إنّ طاعة الزوجة للزوج في غير الموارد المنصوص على وجوبها قد تؤكّد جانب القوّاميّة والقيادة إلى شاطئ الخير والسعادة، ولكن قد تنافي ذلك، وتصل إلى حدّ إعمال الزوج التحكّم، ولم يمكن علاج ذلك بتقييد فرض إيجاب الطاعة فيما إذا لم يصل الأمر إلى مستوى التحكمّ؛ فإنّ هذا لايُعَدّ فيصلاً ومانعاً من التحكّم المقيت؛ لأنّهما عادة يختلفان في صدق التحكّم وعدمه، فكان خيرُ اُسلوب لإعمال عنصر المرونة في المقام جعلَ الطاعة على الزوجة في غير الموارد المعهودة المنصوص على وجوبها أمراً مستحبّاً لاواجباً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
عام 1408 هـ ق
كاظم الحسينيّ الحائريّ