الأعلمية وأثرها في التقليد
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
يدور هذا البحث حول النقاط التالية:
1 ـ ما المراد بالأعلم ؟
2 ـ ما المرجع في تعيين الأعلمية ؟
3 ـ ما حكم تقليد الأعلم والرجوع إليه ؟
4 ـ ما هو الحكم في حالة عدم وجود فتوى للأعلم ؟
5 ـ لزوم الرجوع الى الأعلم في البقاء على تقليد الميت ؟
النقطة الاُولى: ما المراد بالأعلم ؟
قال السيد اليزدي: « مسألة 17: المراد من الأعلم من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة وأكثر إطلاعاً لنظائرها وللأخبار وأجود فهماً للأخبار، الحاصل: أن يكون أجود استنباطاً ».
أقول: إنّ المقصود بالأعلم من تكون نكتة الحجية في فتاواه وهي الخبروية أرجح منها في فتاوى غيره، سواء أفرض أنّ تعيين الأعلم كان ممّا نستنبطه بوجه من الوجوه من نفس دليل الحجية أم فرض أنّه ثبت بنص خاص، وسواء أفرض أنّ أصل دليل الحجية عبارة عن البناء العقلائي على الرجوع إلى أهل الخبرة أم عبارة عن نص خاص.
فإن كان الدليل على أصل حجية فتوى الفقيه عبارة بناء العقلاء وكان ترجيح الأعلم أيضاً ببناء العقلاء فمن الواضح أنّ الترجيح العقلائي يكون بنفس ترجيح النكتة العقلائية للحجية وهي الخبروية.
وإن كان الدليل على حجية فتوى الفقيه عبارة عن بناء العقلاء وكان دليل ترجيح رأي الأعلم عبارة عن نص خاص فمن الواضح أنّ النص الخاص ينصرف إلى الترجيح برجحان نفس النكتة العقلائية.
وإن كان الدليل على حجية فتوى الفقيه عبارة عن نص خاص فلا إشكال في أنّ هذا النص منصرف إلى نفس النكتة العقلائية للحجية، فعندئذٍ إن كان ترجيح الأعلم مستقى من بناء عقلائي فمن الواضح أنّ البناء يكون على الترجيح بنفس نكتة الحجية، وإن كان مستقى من نص خاص فمن الواضح أيضاً انصرافه الى الترجيح بنفس نكتة الحجية العقلائية.
وعليه فكلّ ما كان دخيلاً في الخبروية ويكون رجحانه دخيلاً في الأعلمية سواء أكان ذلك عبارة عن القوة في فهم الكبريات والقواعد الأصولية أم الفقهية قدرة أو استحضارها لدى التطبيق أو الإحاطة بالصغريات أو قوة التطبيق وما إلى ذلك من الاُمور.
النقطة الثانية: ما المرجع في تعيين الأعلمية ؟
إنّ المرجع في تعيين الأعلمية هو أهل الخبرة قال السيد اليزدي: « والمراجع في تعيينه أهل الخبرة والاستنباط » (1)، وهذا واضح؛ فإنّ تشخيص ذلك من الأمور التخصصية، وليس بيد كلّ أحد، والذي يعتبر متخصصاً في فهم ذلك يكون الرجوع إليه داخلاً في كبرى الرجوع إلى أهل الخبرة.
النقطة الثالثة: ما هو حكم تقليد الأعلم والرجوع إليه ؟
قال السيد اليزدي: « مسألة 12: يجب تقليد الأعلم مع الإمكان على الأحوط ويجب الفحص عنه » (1).
أقول: نحن نفترض أولاً أنّ المقلِّد شخَّص الأعلم وأنّه عرف الخلاف بينه وبين غير الأعلم فهل يجب عليه تقليد الأعلم أو لا ؟
ولذلك فرضان:
الفرض الأول: أن نفترض أنّ المقلِّد هو الذي يريد أن يشخّص وظيفته في التقليد باعتبار أنّ التقليد في أصل التقليد لامعنى له، وعندئذٍ إن قطع بجواز أصل التقليد له لأحدهما وتردّد بين التعيين والتخيير كان عليه إحرازاً لفراغ الذمة أن يقلِّد الأعلم في أصل جواز تقليد غير الأعلم، فإن سمح له الأعلم بذلك صح له أن يقلِّد غير الأعلم إن شاء، وإن أوجب عليه تقليد الأعلم بقي على تقليد الأعلم في سائر أعماله.
وإن لم يقطع بجواز ذلك واحتمل وجوب الاحتياط ولو بالأخذ بأحوط القولين احتاط أيضاً بتقليد الأعلم في أصل جواز تقليد الأعلم.
الفرض الثاني: أن نفترض أنّ المقلِّد رجع الى مجتهد في وجوب تقليد الأعلم وعدمه وثوقاً به واعتماداً عليه فعندئذٍ يقع على عاتق هذا المجتهد تمييز ماذا ينبغي له أن يفتي به، فهل يفتي بوجوب تقليد الأعلم أو لا ؟
وهنا نقول: تارة نبحث المسألة بناء على أصالة التساقط في فرض التساوي، واُخرى بناء على التخيير في فرض التساوي.
الشق الأول: بنائ على أصالة التساقط في فرض التساوي.
أمّا بناء على التساقط لدى التساوي فتارة نفترض أنّ دليلنا على أصل التقليد الإرتكاز، واُخرى نفترض دليلنا على أصل التقليد هو الدليل اللفظي.
أ ـ أمّا بناءاً على الارتكاز فبعد فرض التساقط في الارتكاز لدى التساوي لايكون مجرّد الأعلمية ولو بمقدار ضئيل منجياً لفتواه عن التساقط في الارتكاز، وإنّما الذي نجّى فتواه عن التساقط في الارتكاز إذا كانت أعلميته وترجيحه على الأعلم بفاصل كبير ملحوظ بحيث يفترض أنّه يتزاحم رأيه مع رأي غير الأعلم، فيكون رأي غير الأعلم هو الذي يسقط عن الكاشفية ورأي الأعلم يبقى على الكاشفية بالمستوى المألوف لأدنى درجات الاستنباط غير المبتلى بالمعارض؛ وذلك بأن يكون الفاصل في الفقه والفهم بين الأعلم وغير الأعلم بمقدار كافٍ لصدق الاجتهاد لو كان هذا الفاصل فحسب موجوداً في أحد.
ب ـ وأمّا بناء على الدليل اللفظي للتقليد، فإن آمنا بالارتكاز أيضاً وكان للارتكاز جانب سلبي مانع عن التخيير لدى التساوي فهنا يأتي عين ما شرحناه من أنّ الأعلمية المختصرة لاننجي فتواه عن التساقط؛ لأنّ الارتكاز في هذا الفرض أيضاً يوجب التساقط، وظهور الدليل اللفظي أيضاً يكون محكوماً للارتكاز، وإنّما الذي يوجب إنقاذ فتواه من التساقط لدى الارتكاز هو الفاصل الكبير في الفقه وفهم الأحكام.
أمّا إذا لم يفترض للارتكاز جانب سلبي أو لم نكن نؤمن بالارتكاز وكان دليلنا على التقليد هو الدليل اللفظي فحسب فهنا قد يتصور أنّ الفارق المختصر بين الأعلم وغيره كافٍ لوجوب تقليد الأعلم؛ وذلك لأنّ سقوط فتوى غير الأعلم قطعي على كلا الفرضين، أعني فرض التساقط وفرض ترجيح رأي الأعلم، فيصبح رأي الأعلم بمنجى عن مشكلة التعارض، وهو غير مقطوع السقوط؛ لمكان احتمال الترجيح على الأقلّ، فنتمسك لإثبات حجيته بإطلاق الدليل.
إلا أنّ الظاهر أنّ هذا البيان غير صحيح؛ فإنّ هذا التقريب المقتضب يجب أن يرجع إلى أحد بيانات ثلاث كلّها غير صحيحة:
البيان الأول: أن يفترض أنّ الدليل اللفظي قد انعقد له ظهور في الحجية بالنسبة لكلتا الفتويين.
وعندئذٍ نقول: إنّ ظهوره في الحجية بالنسبة لفتوى غير الأعلم ساقط عن الحجية يقيناً، وظهوره في الحجية بالنسبة لفتوى غير الأعلم معلوم السقوط، فنأخذ في ذلك بقانون حجية الظهور.
إلا أنّ هذا البيان واضح البطلان بداهة عدم انعقاد الظهور في الحجية لكلا الرأيين المتضادين، لأنّ عدم إمكان حجية كلا الرأيين المتضادين ارتكازي ارتكازاً كالمتصل؛ وذلك مانع عن انعقاد الظهور.
البيان الثاني: أن يقال: إنّ أصل ظهور دليل التقليد لفتوى غير الأعلم مقطوع السقوط، سواءاً كان ذلك على فرض التعارض والتساقط أم على فرض ترجيح فتوى الأعلم، وعليه فظهور دليل التقليد في حجية فتوى الأعلم قد نجا من التعارض الداخلي، فلا مبرّر لسقوطه، فيبقى دالاً على حجية فتوى الأعلم.
إلا أنّ هذا البيان أيضاً غير صحيح؛ وذلك لأنّ سقوط ظهور الدليل بلحاظ فتوى غير الأعلم لم يكن بسبب وضوح نكتة تخصها، بل كان بسبب وضوح الجامع بين ما يخصها وهو مرجحيتها وما يعمها ويعم الفتوى الاُخرى، وهو التمانع في الحجية، وبما أنّ أحد فردي هذا الجامع يشمل فتوى الأعلم أيضاً، فلا محالة يسري الإجمال إلى إطلاق الدليل لفتوى الأعلم أيضاً.
البيان الثالث: أن يقال: إنّ ظهور الدليل في حجية كلّ من الفتويين على الإطلاق وإن كان ساقطاً بالتعارض لكن ظهوره في حجية كلّ واحدة من الفتويين على تقدير عدم حجية الاُخرى ثابت على حاله، وبذلك تحصل لنا قضيتان شرطيتان:
الاُولى: أنّ فتوى زيد مثلاً حجة على تقدير عدم حجية فتوى عمرو.
والثانية: أنّ فتوى عمرو مثلاً حجة على تقدير عدم حجية فتوى زيد.
والشرط في القضية الشرطية بلحاظ الأعلم محرز؛ للقطع بعدم حجية فتوى غير الأعلم إمّا لسقوطها وحدها أو لسقوط المتعارضين، فالمشروط أيضاً محرز، وهو حجية فتوى الأعلم.
وهذا البيان أيضاً غير صحيح؛ وذلك لأنّ القضية الشرطية المستفادة في المقام ليست هي حجية فتوى الأعلم على كلّ تقادير سقوط فتوى غير الأعلم حتى تقدير سقوطه بالتمانع، بل هي حجية فتوى الأعلم على تقدير مانع عن الحجية خاص بفتوى غير الأعلم، وهذا التقدير غير محرز.
إذن فحتى بناء على الدليل اللفظي أيضاً لا نستطيع أن نثبت حجية رأي الأعلم على الإطلاق.
نعم، لو كان الفاصل بين الأعلم وغير الأعلم كبيراً بنحو كان يوجب سقوط رأي غير الأعلم عن الكاشفية وعدم سقوط رأي الأعلم عن الكاشفية، وذلك بفرضية أنّ مقدار الترجيح كان بنفسه بقدر ملاك الاجتهاد الكامل، فعندئذٍ لا إشكال في أنّ دليل التقليد يكون منصرفاً الى رأي الأعلم. هذا كلّه بناء على الإيمان بالتساقط لدى التساوي.
الشقّ الثاني: بناء على التخيير في فرض التساوي
وأمّا بناء على التخيير لدى التساوي، فإن كان دليل التخيير هو الارتكاز الممضى بعدم الردع أو المحقّق لظهور الدليل اللفظي في التخيير فالظاهر أنّ هذا الارتكاز يشمل فرض الفاصل المختصر بين الأعلم وغير الأعلم، نعم لا شك في أنّه لا يشمل فرض الفاصل الكبير بينهما الذي يوجب سقوط خصوص فتوى غير الأعلم عن الكاشفية دون الأعلم.
وإن كان دليل التخيير هو فرض الإطلاق البدلي للدليل اللفظي لحجية فتوى الفقيه أو الدليل اللفظي الوارد في الأخبار العلاجية فأيضاً يكون هذا الدليل ثابتاً لدى فرض الفاصل المختصر بينهما، ويثبت التخيير عندئذٍ رغم الأعلمية المختصرة، أمّا مع الفاصل الكبير بالنحو الذي أشرنا إليه فالإطلاق منصرف عن فتوى غير الأعلم إلى فتوى الأعلم لا محالة.
ثمّ إنّ هناك طريقاً آخر لتعيين الأعلم للتقليد ولوكانت الأعلمية بدرجة مختصرة، إلا أنّ هذا الطريق مبني على بيان قد ظهر من بحثنا بطلانه فيكون هذا الطريق في الحقيقة فرضاً في فرض.
وحاصله: أن يفترض:
أوّلاً: قيام دليل لبّي لدى التعارض على عدم التساقط من إجماع أو ارتكاز أو نحو ذلك.
وثانياً: عدم وجود دليل لفظي على التخيير لدى تعارض الفتويين.
وثالثاً: عدم وضوح الارتكاز في التخيير إمّا مطلقاً أو في خصوص ترجيح أحدهما في العلم، وبعد كلّ هذا يصبح الأمر لدى أعلمية أحدهما دائر بين التعيين والتخيير، وبما أنّ أصل التكاليف منجّزة مسبقاً إمّا بالعلم الإجمالي أو بالشك قبل الفحص، فالأصل هو التعيين، أعني وجوب تقليد الأعلم.
هذا تمام الكلام وفق القواعد في فرض معرفة الأعلم ومعرفة الاختلاف في الفتوى.
أمّا لو عرفنا الاختلاف في الفتوى ولم نعرف الأعلمية فبناء على التساقط لدى التساوي يجب الفحص عن الأعلم أو الأخذ بأحوط الأقوال؛ إذ بدون ذلك لا يحرز العمل بالحجية، لأنّ المفروض هو التساقط لو كانوا متساويين.
وبناءاً على التخيير يكون الشك في الأعلمية بدرجة توجب الترجيح مساوقاً للشك في المعارض؛ لأنّ فتوى المساوي ليست معارضة في الحجية، لأننا فرضنا التخيير، وقد مضى أنّ الفحص عن المعارض في باب الأمارات لو لم يفترض علم إجمالي بوجود للمعارض غير واجب.
وأمّا لو لم نعرف الاختلاف في الفتوى ولو بعلم إجمالي فحتى لو عرفنا وجود الأعلمية بالدرجة التي توجب الترجيح لدى الاختلاف بل وحتى لو عرفنا الأعلم بالذات لم تسقط فتوى غير الأعلم عن الحجية؛ لأنّ مجرّد احتمال المعارض لا يسقط الأمارة عن الحجية.
هذا، وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه حتى الآن:
أولاً: أنّ الأعلمية إنّما يثبت لها الأثر في إبطال التساقط أو إبطال التخيير لو كانت بفاصل كبير ملحوظ، أمّا لو كانت بفاصل مختصر فلا أثر لها مادمنا نمشي في البحث وفق القواعد العامة.
وثانياً: أنّه مع عدم معرفة وجود الأعلم أو عدم معرفة الاختلاف لا يجب الفحص. نعم، مع فرض معرفة الاختلاف والعلم الإجمالي بوجود الأعلمية بالمقدار الذي يوجب الترجيح يجب الفحص أو الاحتياط بالأخذ بأحوط الأقوال.
وكلّ هذا إنّما أتممناه وفق القواعد العامة.
وفي المقابل قد يدّعى ورود بعض النصوص الخاصة الدالّة على لزوم اتّباع الأعلم، فلو تمّ ذلك فقد يثبت به:
أولاً: أنّ الأعلمية المختصرة أيضاً واجبة الاتّباع؛ وذلك تمّسكاً بإطلاق دليل شرط الأعلمية.
وثانياً: أنّ الفحص عنه واجب لدى الشك في وجود الأعلمية؛ لأنّ الحجية اختصت به في ما بين المتعارضين.
وإليك بعض تلك النصوص:
1 ـ مقبولة عمر بن حنظلة التي ورد فيها قوله (عليه السلام) «... الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما و أصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر... » (1).
2 ـ ما عن داود بن الحصين بسند تام عن الامام الصادق (عليه السلام)، وفيه « ينظر الى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه، ولا يلتفت الى الآخر » (2).
3 ـ ما عن موسى بن أكيل عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفيه « ينظر الى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه » (1). وفي السند ذبيان بن حكيم.
4 ـ ما في عهد الإمام علي (عليه السلام) إلى مالك الأشتر « ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك » (2).
5 ـ مرسلة الاختصاص، قال رسول الله صلى الله عليه وآله « من تعلّم علماً ليماري به السفهاء أو ليباهي به العلماء أو يصرف به الناس، يقول: أنا رئيسكم، فليتبوّأ مقعده من النار، إنّ الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم لم ينظر الله إليه يوم القيامة » (3).
6 ـ مرسلة تحف العقول عن الإمام الصادق (عليه السلام) « من دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه فهو مبتدع ضالّ » (4).
7 ـ النبوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله « من تقدّم على قوم من المسلمين وهو يرى أنّ فيهم من هو أفضل منه فقد خان الله ورسوله والمسلمين » (5).
8 ـ مرسلة عيون المعجزات عن الإمام الجواد (عليه السلام) مخاطباً لعمّه عبد الله بن موسى ـ حينما أجاب على أسئلة القوم بغير الصحيح ـ « يا عم عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لم تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الاُمة من هو أعلم منك ؟. » (6).
9 ـ ما روي عن أبي عمر زاذان من كلام للامام الحسن (عليه السلام) جواباً لمعاوية، وفيه « وأقسم بالله لو أنّ الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله صلى الله عليه وآله لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها، وما طمعت فيها يا معاوية، فلمّا خرجت من معدنها تنازعتها قريش بينها فطمعت فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء أنت وأصحابك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما ولّت اُمة رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا... » (7).
وسند الحديث ما يلي: أمالي الطوسي عن جماعة عن أبي المفضل عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي عن أبيه عن عمّار أبي اليقظان عن أبي عمر زاذان، قال: لمّا وادع الحسن بن علي &lsquo؛ معاوية...، وهذا السند ضعيف من عدّة جهات، فأبو المفضل الشيباني مضعّف من قبل الأصحاب، ومحمد بن عبيد الله العزرمي لم يوثّق، وعمّار أبو اليقظان إن كان هو الأسدي فلا توثيق له، وإن كان هو الساباطي فهو موثّق.
10 ـ ما عن الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة « إنّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به » (1).
11 ـ ما عن الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة أيضاً « أيّها الناس إنّ أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه... » (2).
والظاهر أنّ هذه الروايات عدا الروايات الأربعة الاُولى راجعة إلى الإمامة أو الولاية، وإسراء مفادها إلى التقليد بما هو مجرّد الرجوع إلى أهل الخبرة في الفتاوى الفقهية لا مبرّر له.
والروايات الثلاث الاُولى واردة في الترافع لدى حاكمين واختلافهما في الحكم، فمن المحتمل أنّ الترجيح الوجوبي بالأعلمية مثلاً كان لأجل الوصول إلى فصل النزاع؛ إذ لولا هذا الترجيح لبقي النزاع قائماً. ولا مبرّر للتعدّي إلى المقام.
والرواية الرابعة واردة في القضاء، ولا أظنّ أنّ المقصود بأفضل الرعية أفضلهم في العلم بالفقه، بل الظاهر أنّ المقصود أفضلهم من حيث مجموع الكمالات المؤثّرة في باب القضاء من العلم والموضوعية في القضاء والصبر والحلم أمام مشاكل القضاء والورع والتقوى ونحو ذلك.
ومن المحتمل أن يكون إصدار هذا التكليف من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر حكماً ولائياً عليه، لا إفتاء فقهياً يتعدّى من مورده إلى باب التقليد بمثل دعوى عدم احتمال الفرق.
النقطة الرابعة: ما هو الحكم في حالة عدم وجود فتوى للاعلم ؟
قال السيد اليزدي: « المسألة 14: إذا لم يكن للأعلم فتوى في مسألة من المسائل يجوز في تلك المسألة الأخذ من غير الأعلم وإن أمكن الاحتياط » (1).
إنّ هذا الأمر إجمالاً لا إشكال فيه؛ لأنّ فتوى الأعلم في ذاتها كانت واجدة لشرائط الحجية، وإنّما تسقط عن الحجية بوجود حجة أقوى على خلافها، وهي فتوى الأعلم، وقد فرضنا أنّ الأعلم لافتوى له.
ولا فرق بين أن يفتي الأعلم بالحكم الواقعي أو يفتي بالحكم الظاهري، بمعنى أن يرى باب الوصول إلى الحكم الواقعي منسداً بأن يُخطّئ من يفتي في المقام بالحكم الواقعي، فيرى انتهاء الأمر إلى الحكم الظاهري فيفتي به من براءة أو احتياط مثلاً فعندئذٍ لايجوز الرجوع إلى غير الأعلم في إفتائه بخلاف ذلك سواء أفتى بحكم ظاهري مخالف لما أفتى به الأول أو أفتى بالحكم الواقعي؛ لأنّ الأعلم قد خطّأه على كلّ حال، وهذا بخلاف ما لو كان الأعلم غير معتقد بخطأ غير الأعلم إمّا بسبب عدم تكميله للفحص أو بسبب تحرّج نفسي عن الإفتاء بما أفتى به غير الأعلم من غير جزم بخطأ غير الأعلم في فتواه أو في مدركه، فعندئذٍ يجوز للمقلِّد الرجوع في تقليده إلى غير الأعلم.
وكأنّ هذا هو مقصود اُستاذنا الشهيد الصدر. حينما كان يفصّل في احتياطاته هو بين ما كان احتياطاً في الفتوى أو فتوى بالاحتياط، فكان يجوّز الرجوع إلى غير الأعلم في الأول دون الثاني.
إلا أنّه كان المترقّب في بادئ النظر هو أن يقول في موارد الاحتياط في الفتوى بالرجوع إلى غير الأعلم مع قيد الأعلم فالأعلم؛ لأنّ من هو أعلم في المرتبة الثانية لو كانت له فتوى فهي تمنع عن حجية فتوى من هو في المرتبة الثالثة لدى التخالف بين الفتويين في حين أنّه. كان يجوّز في موارد احتياطه في الفتوى الرجوع إلى غير الأعلم من دون ملاحظة هذا القيد الذي لو كان الأعلم في المرتبة الثانية يفتي مثلاً بالحرمة ولكن الفقيه الذي في المرتبة الثالثة كان يفتي بالترخيص، فقد كان شهيدنا الصدر. يجوِّز لمقلّديه الرجوع إلى الفقيه الثالث، وهذا معناه أنّ احتياطاته في الفتوى لم تكن نتيجة عدم الفحص وأنّه. لم يكن يفتي بخطأ مدرك القول بالترخيص.
وكان يفتي بخطأ مدرك الإفتاء بالإلزام وإن كان يتحرّج نفسياً من الإفتاء بالترخيص أو من الجزم، فكانت النتيجة هي الإجازة لمقلِّديه في الرجوع إلى من يفتي بالترخيص.
أمّا لو كان الاحتياط في الفتوى نتيجة عدم تكميل الفحص أو كان لايجزم بخطأ مدرك الإفتاء بالإلزام فلابدّ من الإلتزام في الرجوع في التقليد إلى الغير بقيد الأعلم فالأعلم.
ولو شك المقلِّد في الاحتياط في الفتوى من أيّ نمط ولم تكن في كلام الأعلم قرينة على جزمه بخطأ مدرك المفتي بالإلزام وجب عليه في الرجوع إلى الغير التقيّد بقيد الأعلم فالأعلم.
ولو شك المقلِّد في أصل أنّ الاحتياط هل هو احتياط في الفتوى أو فتوى بالاحتياط ولم تكن في كلام الأعلم قرينة على أحد الأمرين جاز له الرجوع إلى غير الأعلم؛ لعدم إحرازه للمزاحم لحجية فتوى غير الأعلم.
النقطة الخامسة: تقليد الميت بفتوى الأعلم
قال السيد اليزدي +: « مسألة 15: إذا قلّد مجتهداً كان يجوّز البقاء على تقليد الميت فمات ذلك المجتهد لايجوز البقاء على تقليده في هذه المسألة، بل يجب الرجوع إلى الحيّ الأعلم في جواز البقاء وعدمه » (1).
الوجه في ذلك هو ما يقال من أنّ فتوى الميت بجواز البقاء لايمكن أن تكون حجة في ذاتها في جواز البقاء؛ لأنّ حجية نفس هذه الفتوى أيضاً أول الكلام، ولايمكن إثبات حجية نفسها بنفسها، كما أنّه لو حرّم الميت البقاء على تقليد الميت لم يؤثّر ذلك في إثبات التحريم؛ لأنّ حجية هذه الفتوى أول الكلام، فلابدّ إذن من الرجوع في مسألة البقاء الى أعلم الأحياء.
صحيح أنّه لو رجع إلى مثل صاحب العروة. لأفتاه بجواز البقاء ـ كما مضى منه في المسألة رقم. ـ ولكن هذا لاينافي أن يقول هنا: إنّ المقلِّد لايمكنه أن يعتمد ابتداء على رأي الميت في البقاء، بل هو مضطرّ إلى أعلم الأحياء
في ذلك.
وتحقيق الكلام يقع في أمرين:
الأمر الأول: في أننا لو سلّمنا هذا المبنى وهو أنّ المعتمد الأول في مسألة البقاء هو رأي أعلم الأحياء بالبيان الذي عرفت فما هي النتائج التي يجب تسجيلها في فروع متعدّدة لهذه المسألة ؟
والأمر الثاني: في أنّ أصل هذا المبنى هل هو صحيح أو لا؟ وما هي النتيجة التي تسجّل على تقدير عدم صحته ؟
مناقشة الأمر الأول:
أمّا الأمر الأول: فقد يفترض أنّ الحيّ يحرّم البقاء.
وهنا النتيجة واضحة، وهي ضرورة العدول إليه على كلّ تقدير؛ إذ لا قيمة لرأي الميت في ذاته في البقاء أيّاً كان على ما هو المفروض في المبنى، ورأي الحيّ هو الذي يحمل الحجية على ما هو المفروض في المبنى.
واُخرى يفترض أنّ الحيّ يجوّز البقاء ولكن تجويزه للبقاء مقيّد بقيد غير موجود في فتوى الميت في البقاء، كما لو كان تجويز الحيّ للبقاء مشروطاً بالعمل بالفتوى التي يبقى المقلِّد عليها ولم يكن المقلِّد عاملاً فيما سبق بهذه الفتوى أو كان تجويز الحيّ للبقاء مشروطاً بالتعلّم ولم يكن المقلد متعلّماً لفتوى الميت في مسألة البقاء، ونحو ذلك من الأمثلة.
وهنا أيضاً تكون النتيجة واضحة، وهي ضرورة الاعتماد للمقلِّد في هذه المسألة على رأي الحيّ من الجواز بالمعنى الأخص أو الوجوب، فيجوز له أو يجب البقاء على تقليد الميت في سائر المسائل التي عمل بها أو تعّلمها مثلاً رغم أنّ الميت يفتي بحرمة البقاء؛ فإنّ هذه الفتوى بالخصوص لا حجية لها حسب الفرض.
وثالثة يفترض أنّ الحيّ يجوِّز البقاء ولايكون تجويزه هذا مشروطاً بشيء أو كان مشروطاً بشرط موجود في فتوى الميت بالبقاء.
وعلى هذا الفرض الثالث تارة يفترض أنّ الميت أيضاً يجوّز البقاء في نفس دائرة تجويز الحيّ.
واُخرى يفترض أنّ الميت يجوّز البقاء في دائرة أوسع من دائرة تجويز الحيّ، وثالثة يفترض أنّ الميت يجوّز البقاء في دائرة أضيق من تلك الدائرة أو يحرّم نهائياً، فهذه فروض ثلاثة:
الفرض الأول: أن يتفق الميت مع الحيّ في دائرة تجويز البقاء
وهنا لا إشكال على المبنى الماضي في جواز اعتماد المقلِّد على رأي الحيّ، وإنّما الكلام يقع في جواز اعتماده على رأي الميت في البقاء بعد إضفاء الحجية عليه ببركة فتوى الحيّ.
وهذا البحث هنا لا أثر عملياً له؛ لأنّ المفروض أنّ دائرتي التجويز متساويتان، فحجية فتوى الميت أو عدمها في البقاء سيّان من حيث النتيجة العملية، فيكون البحث في ذلك علمياً بحتاً، حيث يقال: أنه هل أصبحت باقي فتاوى الميت حجة بدليلين: بدليل إفتاء الحيّ بحجيتها وبدليل إفتاء الميت أيضاً بحجيتها بعد أن أصبح هذا الإفتاء حجة ببركة فتوى الحيّ؟ أو إنّ فتوى الميت في البقاء لا معنى لحجيتها ويكون الدليل على حجية باقي فتاواه منحصر بفتوى الحي ؟
ذهب السيد الخوئي رحمه الله الى الثاني؛ لأنّ نفس فتوى الحيّ بجواز البقاء التي يفترض إضفاؤها للحجية على فتوى الميت بجواز البقاء قد أضفت الحجية على باقي فتاوى الميت في عرض إضفائها للحجية على إفتائه بجواز البقاء، فافتراض إضفاء الحجية عليها مرة اُخرى بتوسيط إفتائه بالجواز تحصيل للحاصل (1).
ويرد عليه:
أنّ حجية باقي فتاوى الميت المتولّدة من حجية فتوى الحيّ بالبقاء وإن كانت في عرض حجية إفتاء الميت بالبقاء لكننا لا نؤمن بأنّ المتأخّر عن أحد العَرضيين يكون متأخّراً عن الآخر رتبة أو أنّ ما مع المتقدّم متقدّم حتى يلزم من ذلك كون حجية باقي فتاوى الميت المتولّدة من حجية إفتائه بجواز البقاء في طول حجيتها المتولّدة من حجية فتوى الحيّ كي يلزم تحصيل الحاصل، وغاية ما يلزم في المقام هو اجتماع دليلين على حجية باقي فتاوى الميت أحدهما فتوى الحيّ بحجيتها والثاني فتوى الميت بذلك بعد إضفاء الحجية على هذه الفتوى ببركة فتوى الحيّ، ولامحذور في ذلك.
ويمكن أن يقرّب الإشكال بتعبير آخر وهو أن يقال: إنّ حجية فتاوى الميت في سائر المسائل غير مسألة البقاء كانت في عرض ما قد يفترض من حجية فتواه في البقاء؛ لأنّهما معاً وليدتان لحجية رأي الحيّ في البقاء، فلو كانت حجية فتوى الميت في مسألة البقاء تخلق حجية لباقي فتاوى الميت لكانت هذه الحجية في طول حجية فتواه في البقاء، وهذه الحجية الثانية لباقي فتاواه لو فرضت مندكّة في الحجية الاُولى لتلك الفتوى فهو غير ممكن؛ لأنه يلزم من ذلك أن تكون حجية باقي الفتاوى في عرض حجية فتواه في البقاء وفي طولها في وقت واحد، ولو لم تفرض مندكّة في تلك الحجية لزم اجتماع حجتين على شيء واحد، وهذا غير ممكن.
ولعلّ هذا هو مقصود السيد الخوئي رحمه الله وإن كان هذا الإشكال لا ينبغي أن يعبّر عنه بالتعبيرات الواردة في التنقيح من لزوم تحصيل الحاصل والتنجيز بعد التنجيز والتعذير بعد التعذير.
وعلى أيّة حال فالجواب على هذا الإشكال هو أنّ الطولية الرتبية بين أمرين وإن كانت حدّاً من الحدود وأمراً إيجابياً معبّراً عن ظرف رتبي لكن العرضية الرتبية لا تعبّر عن ظرف ما، وإنّما هي عبارة عن عدم الترتّب لا عن حدّ إيجابي، ولهذا لا يشترط في العرضية بين شيئين كونهما معلولين لشيء ثالث، بل كلّ أمرين لا يوجد ترتّب بينهما يعتبران عرضيين.
كما أنّه في ما نحن فيه أيضاً ليست الحجيتان في عالم التطبيق والفعلية ـ وهو عالم تعدّدهما ـ وليدتين لشيء واحد، بل تكون حجية فتوى الميت في البقاء وليدة لفتوى الحيّ بحجية هذه الفتوى، وحجية باقي فتاواه وليدة لفتوى الحيّ بحجية باقي الفتاوى.
إذن، فلا محذور في اندكاك حجية باقي فتاواه التي هي في طول حجية فتواه في البقاء في حجية باقي فتاواه التي هي في عرض حجية فتواه في البقاء؛ لأنّ العرضية لا تعني إلا عدم نكتة الطولية، وعدم ثبوت نكتة الطولية في جهة لا يمنع عن ثبوتها من جهة اُخرى.
والواقع إنّ كلا التقريبين اللذين ذكرناهما للإشكال متلازمان، والجوابان راجعان إلى روح واحدة؛ وذلك لأننا لو فرضنا أنّ العرضية ظرف رتبي إيجابي وحدّ حقيقي، فكما يتمّ الإشكال الثاني كذلك يتم الإشكال الأول؛ لأنّه مع إيجابية الظرفين يكون ما مع المتقدّم متقدّماً لا محالة، لأنّ ظرف الأب شكّل ظرفاً حقيقياً في عالم الرتب للعم، فكيف يكون ابن الأخ المتأخّر في الظرف في رتبة عمه؟ !
ولو فرضنا أنّ ما مع المتقدّم ليس متقدّماً فارتفع الإشكال الأول فقد ارتفع كذلك إشكال عدم إمكان الاندكاك؛ لأنّ حجية باقي الفتاوى المتولّدة من حجية فتوى الحيّ بعد أن لم تكن متقدّمة رتبة على حجيتها المتولّدة من فتوى الميت بالبقاء، فهما عرضيتان، وإذا كانتا عرضيتين فلا مانع من اندكاك إحداهما في الاُخرى.
ولعلّه يمكن أن يقرّب الأمر إلى الذهن عرفياً بمثال، وإن كان هذا المثال ليس شاهداً لنا بالدقة العقلية؛ لأنّ الإشكال لو تم في المقام يسري إلى هذا المثال أيضاً.
وهذا المثال هو أن يفترض أنّ بيّنة ثابتة العدالة شهدت بالهلال وشهدت أيضاً بعدالة بيّنة اُخرى شاهدة بالهلال، فحكم الهلال يثبت ببينتين وإن كانت حجية البينة الثانية ثبتت بشهادة البينة الاُولى بعدالتها.
وعلى أيّة حال فالبحث هنا لا ثمرة عملية له.
الفرض الثاني: أن تكون فتوى الميت بجواز البقاء أوسع دائرة من فتوى الحيّ بجواز البقاء.
وهنا تتضح الثمرة العملية لحجية فتوى الميت بالبقاء؛ لأنّ المقلِّد لو اقتصر في البقاء على الاعتماد على فتوى الحيّ فتلك لا تصحّح له مباشرة البقاء إلا في دائرة ضيّقة، في حين أنّ فتوى الميت بالبقاء بعد أن اُضفيت عليها الحجية ببركة فتوى الحيّ توسّع له دائرة جواز البقاء.
والإشكال الذي مضى عن السيد الخوئي رحمه الله في الفرض الأول لو تم هناك لا مورد له هنا؛ لأنّ ما زاد على دائرة تجويز الحيّ لم يكن حجة ببركة فتوى الحيّ مباشرة كي يلزم من حجيتها بسبب فتوى الميت تحصيل الحاصل أو وجود الحجية في مرتبتين وعدم الاندكاك.
والنتيجة التي يجب أن تسجّل هنا هي أنّ للمقلِّد البقاء في الدائرة الأوسع ولو كان الحيّ مانعاً عن البقاء في المساحة الزائدة؛ وذلك لأنّ المفروض أنّ الحيّ أفتى بأنّ الميت يكون في مسألة البقاء بمنزلة الحيّ، وعندئذٍ فالمفروض تقدّم رأي الميت في البقاء على رأي الحيّ؛ لكونه أعلم منه مثلاً.
الفرض الثالث: أن يكون الميت مفتياً بحرمة البقاء أو مفتياً بالجواز في دائرة أضيق من دائرة إفتاء الحيّ بالجواز.
فلو فرضنا كون الميت مفتياً بالجواز في دائرة أضيق وكان الميت في الفاصل بين الدائرتين فاقداً للفتوى بالجواز أو التحريم فلا مشكلة في المقام؛ فإنّ هذا الفاصل بين الدائرتين يمكن إثبات جواز البقاء فيه بفتوى الحيّ بلا محذور.
وكذلك الحال فيما لو فرضنا أنّ الميت لا فتوى له نهائياً بجواز البقاء ولا بعدمه.
وإنّما الكلام يقع فيما لو كان الميت مفتياً بحرمة البقاء مطلقاً أو في الفاصل بين الدائرتين.
وعندئذٍ تارة نفترض أنّ فتواه بحرمة البقاء تكون مطلقة أو مشروطة بشرط موجود في نفس هذا الإفتاء، كما لو أفتى بحرمة البقاء فيما لم يتعلّمه المقلِّد، وكان المقلِّد غير متعلّم لمسألة حرمة البقاء.
واُخرى نفترض أنّ فتواه بحرمة البقاء مشروطة بشرط مفقود في نفس هذه الفتوى، كما لو أفتى بحرمة البقاء فيما لم يتعلّمه المقلِّد، وكان المقلِّد قد تعلّم نفس هذه المسألة.
أمّا في الفرض الثانيِ: فالنتيجة التي يجب أن تسجَّل في المقام هي أنّ فتوى الميت بالتحريم استقت الحجية من فتوى الحيّ، وهي حرمة البقاء للمقلِّد في الدائرة الواجدة لذلك الشرط، فلا يجوز له البقاء في تلك الدائرة ويجوز له البقاء في غير تلك الدائرة ممّا يكون مشمولاً لتجويز الحيّ للبقاء.
وأمّا في الفرض الأول: فهنا يتجلّى التضادّ القويّ بين فتوى الحيّ بالجواز الشامل لنفس رأي الميت في البقاء وبين فتوى الميت. ومن الواضح عندئذٍ أنّه لا يمكن تجويز البقاء بفتوى الحيّ على فتوى الميت بتحريم البقاء زائداً تجويز البقاء بفتوى الحيّ على باقي فتاوى الميت التي حرّم هو البقاء عليها؛ لأنّ البقاء عليهما معاً غير ممكن للتضادّ المستبطن في ذلك، فما هي الوظيفة ؟
ذكر السيد الخوئي رحمه الله هنا (1): أنّ المتعيّن في المقام هو الثاني، أي إضفاء الحجية على باقي فتاوى الميت بفتوى الحيّ؛ لأنّ إضفاء الحجية على إفتاء الميت بحرمة البقاء بفتوى الحيّ الذي أفتى بالجواز غير ممكن؛ وذلك لوجهين:
الوجه الأول: أنّ حجية فتوى الميت بتحريم البقاء يلزم من وجودها عدمها، فتصبح مستحيلة.
والوجه الثاني: أننا نعلم إجمالاً أنّ فتوى الميت بالتحريم إمّا خلاف الواقع أو ليست حجة؛ لأنّه إن كان البقاء في علم الله جائز فالفتوى بالتحريم خلاف الواقع، وإن كان غير جائز فهذه الفتوى غير حجة؛ لأنّ حجيتها تعني جواز البقاء، وبما أنّ الحكم الظاهري مشروط باحتمال المطابقة للواقع، فلا معنى لافتراض الحجية لشيء معلّقة على مخالفته للواقع.
أقول: إنّ الوجه الأول قد فرضت فيه استحالة ما يلزم من وجوده عدمه بعد تسليم أنّه يلزم من وجوده عدمه، وقد وضّحنا في بعض مباحثنا أنّ أصل إستلزام وجود شيء لعدمه مستحيل، وحجية الفتاوى انحلالية، فحجية فتواه بالتحريم تستلزم عدم حجية باقي فتاواه لا عدم حجية نفس هذه الفتوى.
نعم لو قال أحد: إننا لا نحتمل حجية هذه الفتوى ـ أعني الفتوى بالتحريم ـ فحسب دون باقي فتاواه في حين أننا نحتمل العكس كان معنى ذلك الجزم الابتدائي بعدم حجية هذه الفتوى دون توسيط فكرة استلزام وجود الشيء لعدمه؛ وذلك لأنّ الأمر منحصر عقلاً في أربعة فروض:
1 ـ حجية جميع فتاواه بما فيها الفتوى بتحريم البقاء
2 ـ أو عدم حجية شيء منها
3 ـ أو حجية فتواه بتحريم البقاء دون باقي الفتاوى
4 ـ أو العكس
والأول مستحيل لاستحالة اجتماع حجية فتواه بالتحريم مع حجية باقي فتاواه، والثالث فرضناه مقطوع العدم، والثاني والرابع معناهما عدم حجية فتواه بتحريم البقاء، فهذا يعني القطع بعدم حجية هذه الفتوى بالخصوص.
أمّا الوجه الثاني فالظاهر أنّه صحيح؛ لأنّ الحياة إمّا هي شرط في علم الله في حجية رأي الفقيه حتى بقاءً أو لا ؟
فإن كان شرطاً في علم الله في ذلك فلا مبرّر لحجية فتواه بتحريم البقاء؛ لأنّ شرط حجيته هو الحياة، وهي مفقودة، وإن لم يكن شرطاً في علم الله في ذلك فتحريمه للبقاء خلاف الواقع.
إذن فالنتيجة: هي أنّ فتوى الميت بالتحريم لاتصلح للحجية، فتكون الحجية عندئذٍ فتوى الحيّ بجواز البقاء، فيجوز للعامي البقاء على سائر فتاوى الميت في مسائل الصلاة والصوم وغيرهما من الفروع.
مناقشة الأمر الثاني:
الأمر الثاني: هو أنه هل من الصحيح ما ذكر من أنّ المعتمد ابتداءً في مسألة البقاء يجب أن يكون هو الحيّ؛ لأنّ حجية رأي الميت أول الكلام حسب الفرض، ولا يمكن إثبات حجية رأي الميت برأي الميت ؟
الظاهر أنّ هذا المبنى غير صحيح، وتوضيح ذلك: أنّه كما لا يجوز للعامي التقليد في أصل التقليد كذلك لا يجوز له أن يقلِّد في خصوصيات التقليد إلا من يكون داخلاً في القدر المتيقّن أو أن يتخذ ما أجمع على صحته تمام الأطراف المحتملة، ومن هنا تُخُيِّل أنّ المستند في البقاء على تقليد الميت يجب أن يكون هو أعلم الأحياء؛ وذلك بتخيّل أنّ الحيّ هو المتيقّن من جواز التقليد، إذ يحتمل شرط الحياة في التقليد ولا يحتمل شرط الموت، في حين أنّ الواقع هو أنه لو كان الميت أعلم من أعلم الأحياء مثلاً لم يكن هناك متيقّن بينهما؛ لأنه كما يحتمل تعيّن الحيّ للتقليد لأنه حي كذلك يحتمل تعيّن الميت للتقليد ولو بقاء؛ لأنه أعلم من الحيّ، فلو اتفق أعلم الأحياء مع الميت على شيء في مسألة البقاء صح للعامي الأخذ بذلك الشيء، ولو قطع العامي بشيء في ذلك حسب فهمه أو حسب كلام من أورث الوثوق في نفسه أيضاً صح له أن يعمل به، وإلا فليس رأي الحيّ متيقّن الحجية.
قد تقول: إنّ المتيقّن موجود في المقام، وهو رأي الحيّ؛ لأنّ الأعلمية ليست شرطاً للتقليد في ذاته، وإنّما يُسقِط رأي الأعلم رأي غيره بالتعارض، في حين أنّه يحتمل كون الحياة شرطاً للتقليد في ذاته. إذن فرأي الحي حجة في ذاته، ولم يثبت له معارض؛ لعدم معلومية حجية رأي الميت إلا بإفتاء نفس الحيّ بحجية رأي الميت ولو بقاءً.
والجواب: أنّه من هو الذي جزم بأنّ الأعلمية ليست شرطاً للتقليد في ذاته وجزم أو احتمل أنّ الحياة شرط في التقليد وعرف أنّه في هكذا حالة يصبح ما يعلم بحجيته في ذاته مع احتمال سقوطه بالمعارض مقدّماً على ذاك المعارض المشكوك حجيته في ذاته ؟
فلو كان الذي يعلم كلّ هذا عبارة عن أعلم الأحياء مع الميت الأعلم منه فقد دخل ذلك فيما فرضناه من اتفاق الحيّ مع الميت في وجوب الرجوع في هذه المسألة إلى الحيّ، وقد قلنا إنّه عندئذٍ لا إشكال في رجوع العامي في هذه المسألة إلى الحيّ.
ولو كان الذي يعلم بكلّ هذا هو نفس المقلِّد دخل ذلك فيما فرضناه من عمل العامي بما يقتنع به حسب فهمه.
ولو كان الذي يعلم بكلّ هذا أحد الشخصين الميت وأعلم الأحياء مع مخالفة الشخص الآخر فأنّى للمقلِّد بترجيح رأي الحيّ المفضول بالقياس للميت على رأي الميت الأعلم من الحي ؟. وكيف يصبح ذات الحيّ قدراً متيّقناً في الحجية له؟ هذا مضافاً إلى أنّ الأمارة الحجة إنّما تكون حجيتها ثابتة رغم الشك في المعارض بلا حاجة إلى الفحص عن المعارض إذا كان الشك في وجود المعارض الحجة دون ما إذا كان الشك في حجية المعارض الموجود، وفيما نحن فيه لو اختلف الحيّ والميت في جواز البقاء وعدمه فالشك ليس في وجود المعارض الحجة لفتوى الحي، وإنّما الشك في حجية المعارض الموجود، والمعارض للأمارة ـ الثابتة الحجية في نفسها ـ تكون حجيته مشروطة عقلائياً بوصوله، ولا تكون مشروطة بوصول نفس تلك الحجية؛ فإنّ أخذ وصول الحكم في موضوع نفسه لو أمكن عقلاً بإرجاعه إلى أخذ وصول الجعل في موضوع المجعول فهو ليس عرفياً بنحو يحمل عليه اللفظ لولا دلالة نصّ خاص عليه.
فروع:
وبعد إبطال هذا المبنى ـ أعني مبنى كون رأس الخيط في البقاء أو العدول هو رأي الحيّ ـ تصل النوبة إلى إعادة البحث مرة اُخرى في ما هي النتائج التي ينبغي أن تسجِّل في الفروع المختلفة للمسألة؛ لأنّ ما مضى من تسجيل النتائج كان مبتنياً على المبنى الذي أبطلناه، فالآن نحن بحاجة إلى تسجيل النتائج مرة اُخرى، فنقول:
الفرع الأول: ما لو كان الحيّ مفتياً بحرمة البقاء على تقليد الميت وقد قلنا هناك أنّ النتيجة التي تسجَّل في المقام هي حرمة البقاء لا محالة؛ لأنّ رأي الميت في البقاء لا قيمة له، وإنّما القيمة في هذه المسألة لرأي الحيّ حسب المبنى الذي كان مفروضاً هنا.
أمّا هنا فنقول: لو أفتى الحيّ بحرمة البقاء، فإن وافقه الميت على ذلك أصبحت المسألة مورد اتفاق للطرفين اللذين لا يخلوان من الحجة وبين العامي على ذلك، هذا لو لم ندّع الدعوى التي مضى ذكرها في ضمن بعض الفروع على المبنى الأول، وهي دعوى القطع بعدم حجية فتوى الميت بتحريم البقاء، أمّا لو ادّعيت هذه الدعوى فرأي الحيّ بحرمة البقاء يكون ساقطاً، ويكون الأمر في الحجية دائراً بين فتوى الحيّ بحرمة البقاء وفتاوى الميت في الصلاة والصوم وغيرها من الفروع، فيضطرّ المكلّف أن يأخذ بأحوط الرأيين في كلّ مسألة من مسائل الفروع.
وإن خالفه الميت بالإفتاء بالجواز بالمعنى الأخص أخذ العامي بأحوط الرأيين وهو حرمة البقاء.
وإن خالفه الميت بالإفتاء بوجوب البقاء اضطرّ العامي في الاحتياط في المساحة المشمولة للفتويين المتضاربين بالأخذ بأحوط الرأيين في كلّ مسألةٍٍ مسألةٍ في تلك المساحة، لا في أصل البقاء والعدول؛ إذ لا احتياط بين الإيجاب والتحريم.
الفرع الثاني: ما لو أجاز الحيّ البقاء بقيد غير موجود في فتوى الميت في البقاء، وقد قلنا هناك إنّ العامي يأخذ برأي الحيّ في البقاء في مسائل صلاته وصومه ونحوهما.
أمّا هنا فنقول: لو وافق الميت الحيّ في فتواه في البقاء عمل العامي بتلك الفتوى؛ لأنّه اتفقت عليه الأطراف التي لاتخلو من الحجة.
ولو اختلفا فإن كان أحد الرأيين أحوط أخذ العامي به، كما لو كان أحدهما يفتي بالجواز بالمعنى الأخص والآخر بالوجوب، فيأخذ العامي بالوجوب، أو كان الحي يفتي بالجواز المعنى الأخص والميت يفتي بالتحريم، فيعدل إلى الحيّ.
هذا، إن لم ندّع القطع عندئذٍ بعدم حجية رأي الميت في التحريم، والآخر ـ أي الحيّ ـ في الجواز لا معارض له، فيؤخذ به.
وإن تضادّ الرأيان بالوجوب والتحريم اضطرّ العامي أن يأخذ في كلّ مسألةٍ مسألةٍ بأحوط الرأيين، إلا أن يدّعى القطع بعدم حجية رأي الميت في التحريم، فيؤخذ بوجوب البقاء.
الفرع الثالث: ما لو أجاز الحيّ في البقاء من دون قيد منتفٍ في فتوى الميت في البقاء، وقد مضى منا تقسيم هذا الفرع إلى فروض ثلاثة:
الفرض الأول: أن يكون الميت مجوّزاً أيضاً للبقاء في نفس الدائرة التي جوّز الحيّ، وقد قلنا هناك إنّه يثبت للعامي الجواز في تلك الدائرة، وهنا أيضاً نقول بأنّه يثبت له الجواز في تلك الدائرة إلا أنّنا نضيف هنا: أنّه لو كان أحدهما يفتي بالجواز بالمعنى الأخص والآخر بالوجوب إلتزم العامي بالوجوب؛ لأنّه أحوط الرأيين.
والفرض الثاني: أن يكون الميت مجوّزاً في دائرة أوسع من دائرة تجويز الحيّ، وقد قلنا فيما مضى بجواز اتباع العامي للتجويز في الدائرة الأوسع، وهنا أيضاً نسجّل نفس النتيجة، ونضيف إلى ذلك: أنّه لو كان أحدهما يقول بالجواز بالمعنى الأخص والآخر يقول بالوجوب إلتزم العامي بالوجوب؛ لأنّه أحوط الرأيين.
الفرض الثالث: أن يكون الميت محرّماً للبقاء في تمام مساحة تجويز الحيّ أو في جزء منها، وهناك قلنا بأنّه لو كان تحريم الميت للبقاء مشروطاً بشرط لم يوجد في نفس هذه الفتوى أصبحت هذه الفتوى حجة ببركة فتوى الحيّ، وأوجبت حرمة البقاء في موارد وجدان ذاك الشرط، ولو لم يكن مشروطاً بشرط من هذا القبيل فهذه الفتوى لا يمكن أن تكون حجة، ويجوز البقاء في الدائرة التي جوّزه الحيّ فيها.
وهنا نقول في الشق الأول ـ وهو ما لو كان تحريم الميت مشروطاً بشرط لم يوجد في نفس هذه الفتوى ـ: إنّه يأخذ المقلِّد بأحوط الرأيين، وهو التحريم لو كان تجويز الحي تجويزاً بمعنى الإباحة بالمعنى الأعم، أمّا لو كان الحيّ يوجب البقاء والميت يحرّمه فيضطرّ إلى الأخذ بأحوط الرأيين في كلّ مسألة.
وفي الشق الثاني ـ وهو ما لو لم يكن تحريم الميت مشروطاً بشرط لم يوجد في نفس هذه الفتوى ـ: أنّ فتوى الحيّ بالجواز لا مزاحم له، لا من ناحية فتوى الميت بالتحريم؛ لأنّه لا يمكن أن يكون حجة، ولا من ناحية فتاوى الميت في سائر الفروع؛ لأنه لا تضادّ بين حجيتها وحجية فتوى الحيّ بالجواز. إذن فتوى الحيّ بالجواز سارية المفعول.