insert into `lib_pages` (`book_id`, `page_id`, `title`, `text`, `footnote`, `sort`) values (14, 1, 'book', '
 $
 $
 $
 $
 $
القضاء
في فقه الاسلامي
$
', '', 1), (14, 2, 'book', ' $
$
', '', 2), (14, 3, 'book', ' $
القضاء
في الفقه الاسلامي
دراسة استدلالية تتناول أهم مباحث القضاء
في فقه الاسلامي مقارناً في جملة منها للفقه الوضعي
 $
تأليف
سماحة آية الله السيد كاظم الحسيني الحائري
 $
 $
 $
$
', '', 3), (14, 4, 'book', 'قم ـ ص. ب 3654 / 37185 ـ ت: 7744810 ـ 774818
الكتاب: القضاء في الفقه الاسلامي
المؤلّف: آية الله السيّد كاظم الحائري
الناشر: مجمع الفكر الإسلامي
الطبعة: الثالثة / 1428 هــ ق
ليتور غراف: الهادي
المطبعة: ظهور ـ قم
الكمية: 1500 نسخة
«جميع الحقوق محفوظة للمؤلّف»
$
', '', 4), (14, 5, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
 $
$
', '', 5), (14, 6, 'book', '$
', '', 6), (14, 7, 'book', '$
', '', 7), (14, 8, 'book', '$
', '', 8), (14, 9, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
كلمة المجمع
 $
 $
إنّ من نتائج الصحوة الإسلاميّة التي شهدتها اُمّتنا الإسلاميّة في العصر الأخير ازدهار الفكر الإسلامي الأصيل على مستوى التأليف والتحقيق والنشر في مختلف أبعاد هذا الفكر وعلى كافّة المستويات.
ومن جملة المجالات التي ازدهر فيها الفكر الإسلامي في هذا العصر مجال القضاء من وجهة النظر الفقهيّة، إذ توجّه العلماء والمفكّرون الإسلاميّون إلى بحث الفقه الإسلامي في هذا المجال وخاصّة بعد قيام الثورة الإسلاميّة المباركة في إيران بوصفه حاجةً فكريّةً حيّة.
وممّن قام بأعباء هذا البحث وألّف فيه سماحة آية اللّه السيّد كاظم الحائري، إذ قدّم بحثاً علميّاً استدلاليّاً قيّماً أتحف به المكتبة الإسلاميّة في العصر الحاضر.
وقد امتاز هذا البحث باشتماله على المقارنة بين الفقه الإسلامي والفقه الوضعي في جملة من الفروع العلميّة من بحث القضاء ممّا زاد في حيويّته وفائدته.
ومن حسن التوفيق لنا أن نقوم بنشر هذا البحث القيّم خدمةً للفكر الإسلاميّ
', '', 9), (14, 10, 'book', 'الأصيل ومساهمةً في رفع راية الإسلام على وجه الأرض ريثما يظهر صاحبها الإمام المهديّ المنتظر عجّل اللّه تعالى فرجه وجعلنا من أعوانه وأنصاره.
ونقدّم شكرنا الجزيل إلى سماحة السيّد المؤلّفدام ظلّهوإلى كلّ مَن ساهم في تحقيق هذا الكتاب أو ساعدنا في مراحل طبعه ونشره، فجزاهم اللّه جميعاً خير الجزاء وهو وليّ التوفيق.
 $
13 / رجب / 1414 هـ
المصادف لذكرى ميلاد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)
مجمع الفكر الإسلامي
$
', '', 10), (14, 11, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
الحمد للّه ربّ العالمين، و أفضل الصلوات على أفضل النبيين محمّد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد فهذه مجموعة ما بحثناه في باب القضاء ـ وأقصد به فصل الخصومة بإصدار الحكم ـ اُقدّمها لأهل العلم والفضيلة مشتملةً على خمسة فصول:
 $
الفصل الاول: في وجوب القضاء.
الفصل الثاني: في شخصية القاضي.
الفصل الثالث: في طرق الإثبات لدى القاضي.
الفصل الرابع: في الحكم على الغائب.
الفصل الخامس: في مدى نفوذ حكم القاضي.
راجياً من اللّه تبارك و تعالى أن يجعل ذلك ذخراً لي ليوم فقري و فاقتي إنّه سميع مجيب.
كاظم الحسيني الحائري
$
', '', 11), (14, 12, 'book', '$
', '', 12), (14, 13, 'book', ' $
 $
 $
 $
$
', '', 13), (14, 14, 'book', ' $
$
', '', 14), (14, 15, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
 $
ذكروا: أنّ القضاء واجب كفاية، وادعي عليه الإجماع.
قال في الجواهر: «في التحرير وغيره أنّ القضاء واجب على الكفاية، بل في الرياض نفي الخلاف فيه بيننا...»(1).
 $
أدلّة الوجوب:
ولعلّ خير ما يستدلّ به على ذلك توقّف ما نقطع بعدم رضا الشارع بفوتهعليه من حفظ النظام، وسدّ أبواب الظلم و المعاصي.
وأورد المحقّق العراقي (رحمه الله) على الاستدلال بتوقّف حفظ النظام عليه بمنع ذلك لإمكان إحقاق الحقوق بطور آخر، ومايضيع من بعض الحقوق في الطور الآخر يضيع أيضاً بقدره في فرض القضاء.
وأورد على الاستدلال عليه بمقدّميته للنهي عن المنكر: بمنع صدق المنكر قبل الحكم على عمل من اعتقد صحّة رأيه من الطرفين، ومع الشكّ فيه لايتحقّق
', '(1) الجواهر ج 40 ص 10.
', 15), (14, 16, 'book', '
موضوع المنكر بالنسبة إليه قبل قيام الحجّة عليه، ومع قيامها يكفي هذا في تحقّق موضوعه بلاحاجة إلى القضاء(1).
أقول: من يستدلّ على وجوب القضاء بتوقّف النهي عن المنكر عليه يقصد بذلك أنّ كثيراً من الظالمين المتعمّدين في الظلم لايمكن دفعهم عن ظلمهم قبل إقامة الحجّة عليهم أَمام خصومهم وأَمام الناس و قبل قيام الحجّة لنفس الدافع، وهذا كلّه لايكون إلّا بالقضاء. ولايقصد بذلك إقامة الحجّة أَمام نفس الخصم الذي لولاها لم يعرف أنّ عمله منكر، و بالتالي لم يكن منكراً كي يورد عليه بما ذكره (رحمه الله).
أمّا دعوى عدم توقّف حفظ النظام على القضاء فأكثر غرابة، اللّهم إلّا أن يقصد بذلك أنّ هذا لايثبت وجوب القضاء كفاية من قبل العدول مع الإمكان عند وجود قضاة الحاكم الغاصب، لأنّ وجود القضاة من قبل الحاكم الغاصب يمنع ـ على أيّ حال ـ من اختلال النظام.
 $
بحث المسألة على صعيدين:
أقول: إنّنا تارة نبحث المسألة على مستوى معرفَة جزء من خطّة الإسلامالشاملة في إدارة المجتمع، وأُخرى نبحث المسألة على مستوى وجوب إقامة القضاء الحقّ لو أمكن ولو في ظلّ حكومة غاصبة.
أمّا إذا بحثنا المسألة على المستوى الأوّل، فمن الواضح أنّ المعروف من الإسلام أنّه يملأ الفراغات اللازمة الملء لحفظ النظام ونفي الهرج و المرج، أي أنّ كلّ ما يكون عدم ملئه موجباً لاختلال النظام يملؤه الإسلام بطريقته الخاصّة، أمّا فرض
', '(1) كتاب القضاء للمحقّق العراقي (رحمه الله) ص 4 و 5.
', 16), (14, 17, 'book', '
ملئه من قبل الأعداء بطريقتهم الخاصّة فهو رغم علاجه لمشكلة اختلال النظام بطريقتهم لايمنع الإسلام عن علاجه بطريقه الخاص. إذن فالإسلام كنظام شامل للحياة مشتمل على وجوب القضاء الحقّ حتماً. نعم هذا لايكفي لإثبات وجوب القضاء الحقّ في ظلّ دولة غاصبة عند الإمكان.
وأمّا إذا بحثنا المسألة على المستوى الثاني فقد يقال: إنّه لا يمكن الاستدلال على وجوب القضاء الحقّ عند الإمكان في ظلّ دولة غاصبة بلزوم الاختلال بتركه؛ لوضوح أنّ نفس الدولة الغاصبة تقوم بطريقتها الخاصّة بالمنع عن الاختلال، ولكن مع ذلك لاينبغي الإشكال في وجوب إقامة القضاء الحقّ حتى في ظلّ دولة غاصبة إن أمكن، وذلك:
أوّلا ـ لأجل ما سيأتي ـ إنْ شاءاللّه ـ في محلّه من تحريم الشريعة الإسلامية للتحاكم لدى الطاغوت ـ على الأقلّ عند إمكان التحاكم الى من يقضي بالحقّ ـ، والمفهوم عرفاً من هذا التحريم بمناسبة الحكم و الموضوع أنّ التحاكم عند الطاغوت مفسدة اجتماعية مبغوضة لدى الشارع لايرخّص فيها إلّا لأجل نفي الحرج مثلا، وعلى المجتمع سدّ هذه المفسدة بشكل لايوجب اختلال النظام، فكما يجب على المترافعين أن لايترافعا عنده كذلك يجب على من يستطيع التصدّي للقضاء الحقّ أن يتقبّل منهما رفع التنازع إليه.
وثانياً ـ لأنّ قضاة الجور كثيراً ما يقضون بالظلم والجور، بينما دفع الظلم ورفع المنكر واجبان كفايةً، فيجب كفايةً على القادرين على علاج ذلك بتصدّيهم للقضاء الحقّ التصدّي لذلك.
هذا. وذكر في الجواهر مامضمونه: أنّ القضاء بما هو منصب من المناصب إنّما يعطى للشخص من قبل الإمام، فلا معنى لوجوبه كفايةً على المسلمين. نعم يجب القضاء كفايةً على المنصوبين له من قبل الإمام، أو يجب تولّي القضاء من الإمام سنخ
', '', 17), (14, 18, 'book', 'غسل الميّت الواجب كفايةً على المسلمين المتوقّف صحّته على إذن الولي، فيجب كفايةً تحصيل الإذن من الولي كي يُصلّى على الميّت، ولعلّ ذلك ونحوه مرادهم من الوجوب على الكفاية(1).
أقول: من الواضح أنّه حينما يضاف الوجوب إلى القضاء يقصدبه وجوب فعل القضاء، ولانظر لذلك إلى الجانب الوضعي للقضيّة من مدى صحّة القضاء وثبوت هذا المنصب. نعم إذا وجب فعل القضاء كفايةً، وشروط صحّة القضاء لم تكن موجودة، وجب ـ طبعاً ـ بالكفاية تحصيل الشروط، وتحصيل المنصب ممّن له حقّ إعطاء هذا المنصب. إذن فباب وجوب الفعل باب، وباب ثبوت المنصب باب آخر، ولم تكن حاجة إلى الخلط والتطويل.
$
', '(1) راجع الجواهر ج 40 ص 10 و 11.
', 18), (14, 19, 'book', '
الفصل الثاني
 $
 $
 $
$
', '', 19), (14, 20, 'book', ' $
$
', '', 20), (14, 21, 'book', ' $
 $
 $
 $
المقدّمة
 $
 $
قد قسّموا القاضي إلى القاضي المنصوب، وقاضي التحكيم.
ولعلّه ليس المقصود من جعل قاضي التحكيم في مقابل القاضي المنصوب أنّ قاضي التحكيم ليس بحاجة إلى النصب من قبل الإمام، فإنّ نفوذ القضاء هو خلاف الأصل حتى مع فرض التحكيم، وليس الحكم إلّا للّه تعالى، ثمّ لمن أعطاه اللّه إيّاه، ثمّ لمن نصبه المعيّن من قبل اللّه. فكأنّ المقصود من تقسيم القاضي إلى هذين القسمين هو أنّ القاضي: تارةً يكون منصوباً ابتداءً وبالذات من قبل الإمام، فلو رفع أحد المتخاصمين الشكوى إليه فطلب القاضي من الآخر الحضور و الخضوع للحكم وجب عليه ذلك؛ لأنّ هذا المنصب ثابت له من قبل الإمام. وأُخرى لايكون منصوباً من قبل الإمام إلّا في طول المحاكمة، فلوتحاكم المتخاصمان عند شخص كان ذلك الشخص مخوَّلا من قبل الإمام في الحكم، وإن لم يكن منصوباً ابتداءً وبالذات من قبل الإمام للحكم.
وبما أنّنا نعيش اليوم عصر الغيبة الكبرى فلايكون النصب من قبل الإمام نصباً لشخص معيّن بالخصوص، وإنّما النصب يكون بشكل عامّ لكلّ من هو متّصف بمواصفات معيّنة. نعم بناءً على مبنى ولاية الفقيه قد يقال بأنّ للفقيه حقّ تعيين شخص مّا للقضاء، ولو لم توجد فيه المواصفات المذكورة في من ورد من الإمام
', '', 21), (14, 22, 'book', 'المعصوم نصبهم بشكل عام للقضاء، وهذا أيضاً يدخل في القاضي المنصوب. ثمّ قد يقال: إنّ من حقّ المتخاصمين أن يتراضيا على المحاكمة عند شخص غير واجد لمواصفات القاضي المنصوب من قبل الإمام المعصوم، ولا المنصوب من قبل الفقيه. إذن فيقع البحث حول شخصيّة القاضي:
أولا ـ في أنّه هل وصلنا نصب عامّ من قبل الإمام المعصوم للقضاء وفق مواصفات معيّنة أوْلا؟.
وثانياً ـ في أنّه على تقدير الإجابة بالإيجاب على السؤال الأوّل، فما هي المواصفات المشترطة في من نصبه المعصوم بشكل عامّ؟ وهل يجوز للفقيه أن ينصب من هو فاقد لتلك المواصفات أوْلا؟ وهل يجوز له أن يوكّل في القضاء الفاقد لتلك المواصفات أوْلا؟.
وثالثاً ـ هل يحق للمترافعين تحكيم غير المنصوب من قبل الإمام ولا من قبل الفقيه ـ وهو المسمى بقاضي التحكيم ـ أوْلا؟.
$
', '', 22), (14, 23, 'book', ' $
 $
 $
 $
النصب العام للقضاء
 $
 $
أمّا الأمر الأوّل ـ وهو أنّه هل هناك نصب عامّ من قبل المعصوم للقضاء أولا؟ فعمدة الدليل على النصب أحاديث ثلاثة:
أحدها ـ التوقيع الشريف الذي رواه إسحاق بن يعقوب: (أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة اللّه)(1). أو (وأنا حجّة اللّه عليهم) كما في إكمال الدين، أو (وأنا حجّة اللّه عليكم) كما في غيبة الطوسي بناءً على دلالة هذا الحديث على ولاية الفقيه بشكل عامّ، ومن أغصان الولاية العامّة هي ولاية القضاء.
والثاني ـ مقبولة عمر بن حنظلة قال: (سألت أباعبداللّه (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذه سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت وما أمراللّه أن يكفر به. قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا و حرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 9، ص 101.
', 23), (14, 24, 'book', '
عليكم حاكماً؛ فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخّف بحكم اللّه، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرّاد على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه)(1).
وقد ردّ السيّد الخوئي (رحمه الله) كلا هذين الحديثين بضعف السند، ويقصد بذلك عدم ثبوت وثاقة إسحاق بن يعقوب في الحديث الأوّل، وعمر بن حنظلة ـ كما صرّح به ـ في الحديث الثاني، ورغم هذا آمن بأصل فكرة القاضي المنصوب على أساس توقّف حفظ النظام المادّي والمعنوي على القضاء الموجب لوجوبه كفاية.
وقد يقال إنّ الوجوب الكفائي حكم تكليفي لايثبت النصب الذي هو حكم وضعي، والحكم لايحقّق موضوعه و شروطه، فلو كان الشرط في نفوذ القضاء هو النصب فكيف يمكن إثبات ذلك بوجوبه؟!.
إلّا أنّه بالإمكان الإجابة على ذلك: بأنّه لوكان الوجوب الكفائي للقضاء ثابتاً بنصّ خاصّ مثلا مشروطاً بنصب الإمام صحّ القول بأنّ هذا الوجوب لايثبت النصب، فإذا لم يكن دليل على النصب لم يمكن إثباته بالوجوب الكفائي، ولكنّ الوجوب الكفائي هنا ثبت بعلمنا بعدم رضا الشارع باختلال النظام، وهذا العلم كما يثبت وجوب القضاء كذلك يثبت نفوذه؛ لأنّنا نعلم أنّ مجرّد الوجوب بلا نفوذ لايرفع الاختلال، ونفوذه يعني إمضاء الشارع لقضائه. حينئذ لوكان إمضاء الشارع لقضائه بعد فرض ترافع المتنازعين لديه كافياً في رفع الاختلال ثبت بذلك قضاء التحكيم، أمّا لو فرض أنّ مجرّد ذلك لايرفع الاختلال لأنّه كثيراً ما يتّفق أنّ أحد المتخاصمين لا يرضى بالتحاكم، فلابدّ من قاض منصوب يحقّ له جلب المتخاصم عند طلب المتخاصم الآخر ثبت بذلك على الإجمال أنّ الشريعة الإسلامية نصبت بعض الناس قضاة.أمّا من هم هؤلاء البعض؟ ـ وقد افترضنا عدم
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 1، ص 99.
', 24), (14, 25, 'book', '
نصّ خاصّ يرشدنا إليهم ـ فلابدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن لو كان، وهذا ما سنبحثه إن شاء اللّه عند بحث الشروط.
وعلى أيّ حال فالصحيح تماميّة سند الخبرين الماضيين:
أمّا توقيع إسحاق بن يعقوب فلما ذكرناه في أساس الحكومة الإسلاميه(1) في تصحيح سنده ولا نُعيده هنا. وأمّا مقبولة عمر بن حنظلة فلثبوت و ثاقته على مبنانا برواية بعض الثلاثة الذين لا يروون إلّا عن ثقة عنه.
 $
$
', '(1) وحاصله: أن الرواية رويت بسندين:
الأول: الصدوق في إكمال الدين، عن محمّد بن محمّد بن عصام، عن محمّد بن يعقوب، عن إسحاق بن يعقوب ... .
الثاني: الشيخ في الغيبة، عن جماعة، عن جعفر بن محمّد بن قولويه و أبي غالب الزراري وغيرهماكلهم، عن محمّد بن يعقوب.
والسند الثاني إلى إسحاق بن يعقوب صحيح مطمأن إليه حيث يرويها جماعة ـ منهم المفيد فإن الشيخ يروي جميع كتب وروايات ابن قولويه عن جماعة احدهم المفيد ـ عن جماعة ـ منهم ابن قولويه و الزراري المقطوع بوثاقتهما ـ عن الكليني، فلايبقى في السند غير إسحاق بن يعقوب، ولااسم له في الرجال فيكون مجهولا، لكن مجهوليته لاتضرهنا، لانهاإنما تضرلوجود احتمال الكذب أو التساهل، وهو هنا منتف، لأن احتمال الكذب أو التساهل إن فرض في أصل دعوى صدور التوقيع، يردّه: أن احتمال أن يخفى على مثل الكليني افتراء التوقيع في زمانه بعيد جداً لا يعتنى به، خاصةً وأنّ التوقيعات لم تكن تصدر إلّا إلى الخواصّ لشدّة التقيّة. وإن فرض التساهل في نقل الخصوصيّات ـ بعد انتفاء احتمال الكذب في أصل النقل ـ فهو إمّا لمصلحة شخصيّة تدعو إلى التغيير، وهي غير متصورة في المقام، وإمّا لعدم الضبط و التساهل في النقل وهذا إنّما يكون في النقل الشفهى عادة لافي الكتاب ـ راجع ص 155 من أساس الحكومة الإسلاميّة.
', 25), (14, 26, 'book', '
 $
وثاقة من روى عنه بعض الثلاثة:
والأصل في توثيق كلّ من روى عنه أحد الثلاثة هو ما عن الشيخالطوسي (رحمه الله) في كتاب العدّة في أواخر بحثه عن خبر الواحد حيث قال:
«وإذا كان أحد الراويين مسنداً والآخر مرسلا نظر في حال المرسل، فإن كان ممّن يعلم أنّه لايرسل إلّا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره، ولأجل ذلك سوّت الطائفة بين مايرويه محمّد بن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، وأحمد بن محمّد بن أبي نصير، وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنّهم لايروون ولايرسلون إلّا عمّن يوثق به وبين ما أسنده غيرهم»(1).
فهذا إخبار من قبل الشيخ الطوسي (رحمه الله) يحمل على الحس أو ما هو قريب من الحسّ بأنّه كان من المعروف عند الأصحاب بشأن هؤلاء الثلاثة أنّهم لايروون إلّا عن ثقة، وبتصديق هذا الخبر من الشيخ على أساس حجّية خبر الثقة تثبت شهادة جملة من الأصحاب بأنّ هؤلاء الثلاثة لايروون إلّا عن ثقة. إذن فنقل واحد من هؤلاء الثلاثة عن شخص توثيق له.
هذا إضافة إلى أنّ هؤلاء الثلاثة هم من أصحاب الإجماع، فلو قلنا بأنّ أصحاب الإجماع لايروون إلّا عن ثقة ثبت ذلك بشأن هؤلاء الثلاثة.
والأصل في دعوى الإجماع هذه هو الكشّي في رجاله حيث قال في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي جعفر وأبي عبداللّه (عليهما السلام):
«أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأولين من أصحاب أبي جعفر،
', '(1) العدّة للشيخ الطوسي ص 386.
', 26), (14, 27, 'book', '
وأصحاب أبي عبداللّه (عليهما السلام)، وانقادوالهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأولين ستة: زرارة، ومعروف بن خربوذ، وبريد، وأبوبصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمّد بن مسلم الطائفي. قالوا: وأفقه الستة زرارة وقال بعضهم مكان أبي بصير الأسدي: أبوبصير المرادي، وهو ليث بن البختري»(1).
وقال في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي عبداللّه (عليه السلام):
«أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم لما يقولون، وأقرّوا لهم بالفقه ـ من دون اُولئك الستة الذين عدّدناهم وسمّيناهم ـ ستة نفر: جميل بن دراج، وعبداللّه بن مسكان، وعبداللّه بن بكير، وحماد بن عثمان، وحماد بن عيسى، وأبان بن عثمان. قالوا: وزعم أبوإسحاق الفقيه ـ وهو ثعلبة بن ميمون ـ أنّ أفقه هؤلاء جميل بن دراج، وهم أحداث أصحاب أبي عبداللّه (عليه السلام)»(2).
وقال في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم، وأبي الحسن الرضا (عليهما السلام):
«أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء و تصديقهم، وأقرّوا لهم بالفقه والعلم، وهم ستة نفر اُخر دون الستة نفر الذين ذكرناهم في أصحاب أبي عبد اللّه (عليه السلام) منهم: يونس بن عبدالرحمن، وصفوان بن يحيى بياع السابري، ومحمّد بن أبي عمير، وعبد اللّه بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر. وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب: الحسن بن علي بن فضال، وفضالة بن أيوب. وقال بعضهم مكان فضالة بن أيوب: عثمان بن عيسى. وأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى»(3).
$
', '(1) الرقم 431، من اختيار معرفة الرجال، ص 238.
(2) الرقم 705 من نفس المصدر، ص 375.
(3) الرقم 1050 من نفس المصدر، ص 556.
', 27), (14, 28, 'book', '
ومن الواضح في الستة الاُولى أنّ قوله: (أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء...) لايدلّ إلّا على توثيقهم دون توثيق من يروون عنه. نعم قد يتوهّم بالنسبة لتعبيره في الستة الثانية و الثالثة بتصحيح ما يصحّ عن هؤلاء أنّ معنى ذلك هو أنّ ما صحّ إلى هؤلاء فهو صحيح إلى الإمام، وهذا يعني وثاقة الرواة الذين وقعوا بينهم وبين الإمام، أو أنّهم كانوا متأكّدين من صدق الرواة الذين بينهم وبين الإمام في تلك الروايات. ولكنّك ترى أنّ هذه العبارة أيضاً لادلالة فيها على أكثر من تصحيح ما يصحّ عنهم، بمعنى أنّ ما صحّ سنده إليهم فسنده صحيح بلحاظهم، أي أنّهم ثقاة في النقل، أمّا أنّهم لاينقلون إلّا عن ثقة مثلا فلم يعلم من ذلك، ويؤيّد هذا المعنى عطف قوله: «وتصديقهم» على قوله: «تصحيح ما يصحّ عنهم»، فإنّ الظاهر أنّه من باب عطف المرادف. أمّا كونه من باب عطف شيء أقلّ وأخفّ ـ وهو مجرّد التوثيق ـ على شيء أكبر وأوسع ـ وهو صحّة روايته إلى الإمام ـ فخلاف الظاهر، وكذلك يؤيّده عطف الكشّي للستة الثانية على الستة الاُولى بقوله: «من دون اُولئك الستة الذين عدّد ناهم». وكذلك الستة الثالثة على الثانية ممّا يفهم منه أنّ المقصود من العبائر الثلاث كان على نسق واحد، ومن الواضح أنّ العبارة الاُولى إنّما دلّت على وثاقة نفس الستة دون وثاقة من ينقلون عنه.
وعلى أيّ حال فالمهمّ في المقام هي العبارة التي نقلناها عن الشيخ الطوسي (رحمه الله)؛ حيث يبدو أنّها تدلّ على أنّ هؤلاء الثلاثة لاينقلون إلّا عن ثقة.
إلّا أنّ السيّد الخوئي قد ناقش في ذلك في مدخل كتابه (معجم رجال الحديث)(1)بعدّة مناقشات:
الاُولى ـ حمل نقل الشيخ تسوية الطائفة بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم
', '(1) معجم رجال الحديث، الجزء الاول، ص 75.
', 28), (14, 29, 'book', '
على الحدس والاجتهاد، إذ لو كانت هذه التسوية صحيحة وأمراً معروفاً متسالماً عليه بين الأصحاب لذكرت في كلام أحد من القدماء، وليس منها في كلماتهم عين ولا أثر عدا ما جاء عن النجاشي بخصوص مراسيل محمّد بن أبي عمير من سكون الأصحاب إليها معلّلا بضياع كتبه وهلاكها، فمن المطمأنّ به أنّ منشأ هذه الدعوى هي دعوى الكشّي الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء، ويشهد لذلك أنّ الشيخ لم يخصّ ماذكره بالثلاثة بل عمّمه لغيرهم من الثقاة الذين عرفوا بأنّهم لايروون إلّا عن ثقة، بينما لم يعرف أحد بذلك من غير جهة دعوى الكشّي الإجماع على التصحيح، وممّا يكشف عن كون هذه النسبة اجتهادية وغير ثابتة في نفسها نقض الشيخ نفسه لذلك في كتابيه التهذيب والاستبصار، حيث يناقش فيهما سند بعض الروايات بالإرسال رغم كون المرسل أحد الثلاثة، أو أحد أصحاب الإجماع.
أقول: لا إشكال في أنّ الأصل في الخبر هو الحسّ، فحمل كلام الشيخ على الحدس والاجتهاد، أو التحميل عليه بأنّه استفاد ذلك من كلام الكشّي في تصحيح ما يصحّ عن جماعة بحاجة إلى مبّرر، وتبرير ذلك (بأنّه لوكانت هذه التسوية صحيحة وأمراً معروفاً متسالماً عليه بين الأصحاب لذكرت في كلام أحد من القدماء، بينما لايوجد عين ولاأثر من ذلك) قد أورد عليه الشيخ عرفانيان في كتابه (مشايخ الثقات) بأنّه ما أكثر كتب الأصحاب التي تلفت، ولم تصل بأيدينا، فلعلّ هذا كان مذكوراً في الكتب التالفة(1).
أقول: لئن فرضت صحّة استبعاد وجود تسوية من هذا القبيل من قبل الأصحاب بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم من دون أن نجد عيناً ولاأثراً فيما وصل بأيدينا من كتبهم رغم ترقّب ذكر ذلك في كتب الفقه والأُصول و الرجال،
', '(1) مشايخ الثقات ص 13.
', 29), (14, 30, 'book', '
وقد وصلنا من مجموع الأصناف الثلاثة من الكتب عدد معتدّبه، لئن فرضت صحّة استبعاد ذلك بالنسبة لنقل التسوية، فمن الواضح عدم صحّته بالنسبة لإخبار الشيخ (رحمه الله) عن أنّهم عرفوا بأنّهم لايروون و لايرسلون إلّا عمّن يوثق به. والحاصل أنّه قد جاء في كلمات الشيخ التي نقلناها تعبيران: أحدهما التعبير بالتسوية بين مراسيل هؤلاء و المسانيد، والآخر التعبير بأنّهم عرفوا بعدم النقل عن غير الثقات، فلئن شككنا في الأول فالتشكيك في الثاني أوضح بطلاناً، لأنّ معروفيّة عدم نقلهم عن غير الثقات إنّما يترقّب ذكرها في كتب الرجال فحسب سنخ التوثيق والتضعيف، أي لااستغراب في عدم ذكر ذلك في كتب الفقه والأُصول، وكتب الرجال الواصلة بأيدينا ليست في الكثرة بمثابة نستبعد معها عدم وصول ذلك إلينا عن غير كتاب العدّة، فلعلّ هذا سنخ الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن جماعة الذي انحصر مدركه الأصلي لدنيا في نقل الكشّي، أو سنخ ما جاء في عدّة الشيخ الطوسي من معروفيّة السكوني بالوثاقة، بينمالم نَرمن ذلك عيناً ولاأثراً في كتب الرجال، والتفكيك بين الأمرين ـ أعني معروفية هؤلاء بأنّهم لايروون، ولايرسلون إلّا عن ثقة، والتسوية بين مراسيلهم و مسانيد الآخرين ـ أمر معقول؛ إذ قد يسلّم شخص بالأول، ولكنّه لا يسلم بالتسوية على أساس دعوى أنّه عند الإرسال نبقى نحتمل أنّ واقع من أرسل عنه لعلّه مجروح من قبل آخرين، ولعلّ واقع من أرسل عنه نعلم بعدم وثاقته، والعامّ المفهوم من قاعدة: (لايروون، ولايرسلون إلّا عن ثقة) ساقط عن الحجّية بهذا المقدار، فالتمسّك به تمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية، ولا أقصد الآن البحث عن مدى صحّة هذا الإشكال، وإنّما مقصودي أنّ التفكيك بين الأمرين أمر معقول:
وبما ذكرنا ظهر الجواب على استشهاد السيّد الخوئي لكون مدّعى الشيخ بشأن الثلاثة مأخوذاً من نقل الكشّي الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن جماعة بأنّه
', '', 30), (14, 31, 'book', 'عمّم الأمر إلى غير هؤلاء الثلاثة، بينما لم يعرف أحد بذلك من غير جهة دعوى الكشّي الإجماع. فالجواب: أنّه من أين عرفنا أنّه لم يعرف أحد بذلك من غير جهة الكشّي مع أنّه لم يصلنا من كتب الرجال إلّا القليل؟! وماذا يقول السيّد الخوئي في نفس إجماع الكشّي الذي لم يصلنا عن غير طريق الكشّي؟!.
وأمّا استشهاده بنقض الشيخ نفسه في كتابيه لقاعدة التسوية فقد أجاب عليه الشيخ عرفانيان:
تارةً بأنّ كتاب العدّة متأخّر تأليفاً عن التهذيب والاستبصار، فلعلّه في الزمن الثاني التفت إلى تسوية الأصحاب.
وأُخرى بأنّ مبنى الشيخ في التهذيب و الاستبصار الاعتذار عن تعارض الأخبار تارةً بالجمع، وأُخرى بإسقاط أحد السندين، وذلك أمام من طعن علينا بكثرة التعارض في أخبارنا، فلعلّ المناقشة بالإرسال كانت بهذه النكتة(1).
وهذا الجواب الثاني وإن كان قابلا للمناقشة لكنّ الجواب الأول صحيح.
ويمكن تصحيح الجواب الثاني أيضاً بإرجاعه إلى القول بأن مفاد كلام الشيخ في كتابيه كقوله في باب العتق: (وأمّاما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «السائبة وغير السائبة سواء في العتق» فأوّل ما فيه أنّه مرسل، وما هذا سبيله لا يعارض به الأخبار المسندة)(2) ليس معارضا لكلامه الذى جاء في العدة من أنهم لا يروون، ولايرسلون إلّا عن ثقة، وذلك لأن من المحتمل أن يكون مقصوده بما في كتابيه أنه لدى المعارضة يقدّم المسند على المرسل
', '(1) مشايخ الثقات ص 31 ـ 30.
(2) التهذيب ج 8 باب العتق و احكامه الحديث 932، والاستبصار ج 4، باب ولاء السائبة، الحديث 87.
', 31), (14, 32, 'book', '
لاعدم حجية المرسل فى ذاته، وهذا اجتهاد منه في مقام علاج التعارض، باعتبار أن عدم معروفية الساقط اسمه لنا يجعلنا نحتمل اننا لو عرفناه لرأيناه غير ثقة خلافاً لما بنى عليه ابن ابي عمير مثلا، فكان هذا سبباً في رأي الشيخ الطوسي لتقديم المستند الذي عرفنا وثاقة كلّ رواته على ذاك المرسل، وهذا ـ كما ترى ـ لا يعارض ما في العدّة.
أضف إلى ذلك ما عرفته من عدم الملازمة بين الإيمان بأنّ هؤلاء الثلاثة لايروون إلّا عن ثقة ـ أي عمّن يثقون به ـ و التسوية، فلعلّ الشيخ استشكل في كتابيه في التسوية بين مراسيل هؤلاء الثلاثة و مسانيد غيرهم رغم إيمانه بأنّ الأصحاب سوّوا بينهما بنكتة أنّهم لايروون إلّا عن ثقة، وسيأتي إن شاء اللّه أنّ معنى كونهم لايروون إلّا عن ثقة أنّهم لايروون إلّا عمّن يؤمنون هم بوثاقته، فلا ينافي ذلك التوقّف في مراسيلهم باعتبار عدم معرفتنا بالشخص المحذوف، واحتمال وجود الجرح بشأنه.
الثانية ـ أنّه لوفرض ثبوت التسوية من قبل الأصحاب القدامى بين مراسيل هؤلاء و مسانيد غيرهم فمن المظنون كون ذلك على أساس ما نسب إليهم، و اختاره جمع من المتأخّرين كالعلّامة من البناء على حجّيّة خبر كلّ إماميّ لم يظهر منه فسق، لا على أساس أنّهم لا يروون إلّا عن ثقة.
أقول: نحن لا نتمسّك بمجرّد إخبار الشيخ عن تسوية الأصحاب بين مراسيل هؤلاء و مسانيد غيرهم كي يُلقى احتمال من هذا القبيل لدفع الاستدلال، بل نتمسّك بإخبار الشيخ بأنّ هؤلاء عرفوا بأنّهم لا يروون و لايرسلون إلّا عن ثقة.
الثالثة ـ أنّ دعوى أنّ هؤلاء الثلاثة لايروون ولايرسلون إلّا عن ثقة لايمكن أن تتمّ إلّا عن طريق إخبارهم هُم عن أنّهم لا يروون إلّا عن ثقة، ولاطريق آخر لكشف ذلك، بينما لم ينسب إلى أحد من هؤلاء التصريح بشيء من هذا القبيل.
وقد أجاب على ذلك الشيخ عرفانيان حفظه اللّه بأنّ الأصحاب القدامى خاصّة
', '', 32), (14, 33, 'book', 'التلامذة المباشرين لهؤلاء الثلاثة بإمكانهم اكتشاف ذلك عن ظاهر حالهم، والقرائن الموجودة في حياتهم وأحوالهم، وليس طريق الكشف منحصراً في تصريحهم(1).
أقول: لوكان طريق الكشف منحصراً في تصريحهم لدلّت هذه الشهادة من قبل الشيخ على صدور تصريح بذلك من قبلهم، ولادليل على ضرورة وصول ذلك إلينا بأكثر من هذا المقدار من الوصول. والواقع أنّ طريق الكشف ليس منحصراً في تصريحهم بذلك، بل بإمكان تلامذتهم أن يكتشفوا ذلك عن ظاهر حالهم واستقراء جملة من نقولهم و سنخ اهتماماتهم ونحو ذلك من القرائن، كما يكتشفون عدالتهم أو وثاقتهم بهذا الأُسلوب، ومعنى شهادة الشيخ بأنّهم عُرفوا بأنّهم لا يروون ولايرسلون إلّا عن ثقة هو الشهادة بأنّ الأصحاب كانوا يعتقدون بأنّ ظاهر حال هؤلاء ـ لولم يكن تصريح منهم ـ كان بنحو يورث نقلهم عن أحد الاطمئنان للإنسان المتعارف المطّلع على حالهم بأنّه ثقة عند الناقل، وهذا كاف في ثبوت وثاقته عندنا؛ لأنّه إخبار من قبل الشيخ الثقة عن الأصحاب الثقات إمّا بوثاقة من يروي عنه هؤلاء الثلاثة في اعتقاد هؤلاء الثلاثة وهو إخباربما يقرب من الحس، وإمّا بأمر حسّيّ (وهو ظهور حالهم) ملازم ـ ملازمةً عاديةً بقدر إفادة الاطمئنان ـ لكون المروي عنه ثقة عند أحد هؤلاء الثلاثة الثقات، وملازمات الأمارة حجّة، فكأنّنا إطمئنَنّا بإخبار أحد هؤلاء الثلاثة بوثاقة المروي عنه.
أمّا لو استظهرنا أنّ هذه المعروفيّة لوكانت سوف لن تخفى على نفس هؤلاء الثلاثة، إذن فهذا يعني أنّ هؤلاء الثلاثة كانوا يعلمون بأنّهم حينما ينقلون عن أحد فالناس سوف يفترضون وثاقة المروي عنه، وحينئذ سيكون سكوتهم عن قدح المروي عنه شهادة من قبلهم بوثاقته، فتتأكّد بذلك دلالة نقلهم عنه على وثاقته.
$
', '(1) مشايخ الثقات ص 33.
', 33), (14, 34, 'book', '
الرابعة ـ أنّ هؤلاء نقلوا أحياناً عن غير الثقات في موارد ذكر جملة منها الشيخ نفسه فكيف يدّعى أنّ هؤلاء لايروون عن الضعفاء.
لايقال: إنّ رواية هؤلاء عن الضعفاء لاتنافي دعوى أنّهم لايروون إلّا عن ثقة؛ إذ معنى ذلك هو أنّهم لايروون إلّا عمّن يعتقدون بوثاقته، فرواية أحدهم عن شخص شهادة منه على وثاقته تؤخذبها ما لم يثبت خلافها.
فإنّه يقال: إنّ الشيخ أراد بقوله: «لايروون، ولايرسلون إلّا عن ثقة» الوثاقة في الواقع وفي نفس الأمر، لافي نظر هؤلاء الثلاثة، والدليل على ذلك أنّه لوكان المقصود هو الوثاقة في نظر هؤلاء لما أمكن الحكم بالتسوية بين مراسيلهم ومسانيد غيرهم؛ إذمن المحتمل أن يكون الواسطة من ثبت ضعفه عندنا. هذا ما أفاده السيد الخوئي في المقام.
أقول: من الواضح أنّ الشهادة بأنّهم لا يروون إلّا عمّن هو ثقة في الواقع غير معقولة إلّا بنحو القضية الخارجية، وعلى أساس الاستقراء التامّ، ومن البديهي أنّ الاستقراء بلحاظ المراسيل على الأقلّ غير معقول. وبهذه النكتة يصبح ظاهر قوله: «لايروون، ولايرسلون إلّا عن ثقة» هو الوثاقة بنظر هؤلاء لاالوثاقة في الواقع. وأمّا أنّه هل تصحّ على هذا التسوية بين المراسيل و المسانيد أوْلا؟ فهذا بحث علمي، ومن المعقول افتراض أنّهم اعتقدوا صحّة التسوية، وليس من الواضح عدم صحّتها كي لانحتمل اعتقادهم بذلك، بل هناك وجه فنّي لصحّة التسوية قابل للبحث و النقاش، وهو أنّه حينما أرسل أحد هؤلاء الثلاثة روايةً فقد حصلت لنا شهادة بوثاقة الشخص المحذوف، واحتمال وجود التضعيف بشأنه وإن كان وارداً لكن هذا لايعني عدا احتمال وجود المعارض لتلك الشهادة، والدليل لايسقط بمجرّد احتمال وجود المعارض.
نعم لوفرض نادراً أنّنا عرفنا في مورد مّا أنّ أحدهم نقل عمّن كان يرى هو
', '', 34), (14, 35, 'book', 'عدم ثبوت و ثاقته فقد يتخيّل أنّ هذا يضرّ بتلك الشهادة.
والواقع أنّه حتى لوثبت ذلك نادراً فإنّه لايضرّ بالأمر.
توضيح ذلك: أنّه قد اتّضح ممّا سبق أنّ لاستفادة وثاقة المروي عنه من عبارة الشيخ (رحمه الله) أحد طرق ثلاثة:
الأوّل ـ أن يفترض فى أنّ تلك العبارة تدلّ على أنّ هؤلاء الثلاثة قد صرّحوا بأنّهم لاينقلون إلّا عن ثقة؛ إذلايمكن معرفة ذلك إلّا بتصريحهم مثلا، وعليه فقد حصلنا على شهادة من هؤلاء الثلاثة بوثاقة المروي عنه بعدد من رووا عنهم، وحينما تسقط بعض هذه الشهادات بثبوت الخطأ لايستلزم ذلك سقوط باقي الشهادات، إلّا أن يكثر نقلهم عن الضعفاء ممّا يكشف عن عدم وجود شهادة من هذا القبيل، ولم تردنا كثرة نقل لهم عن الضعفاء، والحمدللّه.
الثاني ـ أن يفترض أنّ نفس نقل أحدهم عن شخص شهادة ـ بمعونة سكوته عن قدحه ـ على وثاقته باعتبار علمه بمعروفيّته بأنّه لايروي إلّا عن ثقة. وعلى هذا الفرض أيضاً توجد لدنيا عدّة شهادات بعدد المروي عنهم، وسقوط بعضها لا يوجب سقوط الشهادات الأُخرى مالم يكثر النقل عن الضعفاء ممّا يكشف عن عدم شهادة من هذا القبيل.
الثالث ـ أن يقتصر على مجرّد أنّ ظاهر حالهم كان يبعث على الاطمئنان باعتقادهم بوثاقة من يروون عنه، ومن الواضح أنّ هذا الاطمئنان لايختلّ بمجرّد التخلّف في مورد نادر.
وقد اتّضح بما ذكرناه الجواب على الإشكال حتى لو فرض حمل قوله: «لا يروون إلّا عن ثقة» على معنى الوثاقة الواقعيّة، فيرجع ذلك في الحقيقة إلى شهادة العلماء القدامى بوثاقة كلّ من روى عنه أحد الثلاثة، فإنّنا لوافترضنا أنّ هذه الشهادة ثبت خلافها في بعض الموارد فهذا لايعني سقوط باقي شهاداتهم مادام لم
', '', 35), (14, 36, 'book', 'تبلغ موارد التخلّف من الكثرة إلى حدّ يستكشف منه عدم شهادة من هذا القبيل رأساً.
نعم هذه الشهادة سوف لن تفيدنا لتصحيح مراسيل هؤلاء الثلاثة؛ لأنّ شهادة الأصحاب بالوثاقة الواقعية لمن روى عنه أحد هؤلاء الثلاثة لايمكن أن تقبل بالنسبة لمن لم يعرفوه، ولايمكن أن تكون عن حسّ، والمفروض أنّ المروي عنه في المراسيل غير معروف.
ومن هنا ظهر أنّه لوأُريد جعل دعوى التسوية بين مراسيلهم ومسانيد غيرهم شاهدة على شيء، فجعلها شاهدة على أنّ المقصود بالوثاقة في المقام هي الوثاقة عند هؤلاء الثلاثة أولى من جعلها شاهدة على أنّ المقصود بها هي الوثاقة الواقعية.
بقي إشكال آخر قد يورد في المقام وهو أنّ نقل الشيخ لتسوية الأصحاب بين مراسيل هؤلاء الثلاثة و مسانيد غيرهم، وأنّهم عرفوا بأنّهم لايروون إلّا عن ثقة يشبه نقل الإجماع، فكما أن الإجماع المنقول غير حجّة كذلك هذا النقل لايكون حجّة.
والجواب: أنّ نقل الإجماع ليس إلّا نقلا لآرآء حدسية لانستكشف من المقدار الذي نستحصله عن طريق النقل رأي الإمام، وهذا بخلاف معرفة الأصحاب الحسّية أو القريبة من الحسّ بأنّ هؤلاء الثلاثة لايروون إلّا عن ثقة.
 $
مراسيل الثلاثة:
هذا. ولا بأس بأن نبحث بالمناسبة في خاتمة هذا البحث حال مراسيل هؤلاءالثلاثة، فقد عرفنا حتى الآن أنّ الذي يروي عنه أحد الثلاثة لو لم يردنا بشأنه تضعيف نحكم بوثاقته.
$
', '', 36), (14, 37, 'book', 'أمّا إذا حذف اسم الرجل فقال مثلا: «عن رجل عن الإمام» فقد يستشكل في توثيقه بأحد وجهين:
الأوّل ـ أنّ توثيقه بعموم أنّهم لايروون إلّا عن ثقة بعد أن عثرنا على نقلهم أحياناً من المجروحين، تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية، إذ أنّ ذاك الفرد المجروح قد خرج من تحت العامّ، ونحن نحتمل كون هذا الفرد المخذوف هو ذاك فكيف يمكن التمسّك بعامّ من هذا القبيل؟.
الجواب: أوّلا ـ إنّ مفردات موضوع هذا العام هي الروايات لا الرواة فالشهادة تقول: إنّ هؤلاء لايروون رواية عن غير الثقة، فلو روى أحدهم رواية عن غير الثقة ثمّ روى رواية أُخرى عن نفس ذاك الشخص، فهذا يعني تخلّف فردين عن هذا القرار العامّ لاتخلّف فرد واحد.
وثانياً ـ إنّه حتى لو فرض أنّ مفردات الموضوع هي الرواة، فحينما نرى أحدهم روى عمّن ضُعّف فهذا لايعني أنّ تضعيف من ضُعّف تخصيص للعام كي يأتي الكلام بأنّ فرض رواية أُخرى عنه هل هو تخصيص زائد يدفع بالعموم أوْلا، وإنّما يعني أنّ تضعيف من ضُعّف شهادة معارضة لهذه الشهادة بالوثاقة؛ إذليس هذا تضعيفاً صادراً من نفس ابن أبي عمير مثلا كاشفاً عن ضيق في مراده الجدّي عن العامّ، و إنّما هي شهادة معارضة من قبل شاهد آخر.
إذن فالمورد هو مورد الشكّ في المعارض لا الشكّ في المصداقيّة لتخصيص ثابت.
الثاني ـ ما جعله في (مشايخ الثقات) للشيخ عرفانيان حفظه اللّه (في كلام نسبه إلى أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)) ردّاً على الجوابين الماضيين عن الإشكال الأوّل، بينما هو يصلح إشكالا مستقلاّ، ولايصلح رداً على الجوابين، ولعلّ ذلك مسامحة في التعبير.
وحاصل هذا الوجه: هو أنّ أصالة عدم الاشتباه التي هي أحد جزئي معنى
', '', 37), (14, 38, 'book', 'حجّيّة خبر الثقة ـ إذ معناها نفي الكذب و نفي الاشتباه ـ لاتجري في المقام بعد ما رأيناه في أخبار ابن أبي عمير مثلا المسندة من أنّه روى أحياناً عن فلان الضعيف؛ إذ لو كان قد اعتقد اشتباهاً بوثاقة فلان، وكان الشخص المحذوف في الرواية المرسلة عبارة عن نفس هذا الشخص الضعيف لم يكن هذا اشتباهاً جديداً يُنفى بأصالة عدم الاشتباه(1).
والجواب على ذلك هو ماجاء أصله في نفس الكلام الذي نقله الشيخ عرفانيان عن أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) نذكره هنا مع قليل من الفرق، وهو أنّ ندرة مشاهدتنا لرواية ابن أبي عمير مثلا عمّن وصلنا تضعيفه تجعلنا نطمئنّ في كلّ رواية مرسلة له بأنّها ليست عن اُولئك الذين وصلنا تضعيفهم، فمثلا حينما لم نر في مشايخه من وصلنا تضعيفه إلّا بمقدار واحد من المائة أو اثنين من المائة أصبح احتمال كون هذه الرواية المرسلة مرويّة عن ذاك عبارة عن واحد أو اثنين من المائة، بل سيكون أقلّ من ذاك:
أولا ـ لاحتمال كونها مرويّة عن إنسان آخر غير اُولئك المشايخ الذين عرفناهم، ولم يصلنا طبعاً تضعيف ذاك الإنسان المجهول اسمه لدينا.
وثانياً ـ لأنّ احتمال كون المحذوف هو أحد الأشخاص الذين كثرت روايات ابن أبي عمير عنهم ـ وهم جملة من الثقات ـ أقوى من اِحتمال كونه هو ذاك الضعيف الذي قلّت رواية ابن أبي عمير عنه.
وهذا الجواب يصلح جواباً للوجه الأوّل من الإشكال أيضاً.
إلّا أنّ أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) حسب نقل الشيخ عرفانيان أورد على ذلك: بأنّ هذا الجواب إنّما يتمّ لو لم يكن هناك مقوٍّ لاحتمال كون هذه الرواية المرسلة مرويّة عن ذاك الضعيف يجعله أقوى من سائر البدائل المحتمله ممّا قد يخلّ بحصول
', '(1) مشايخ الثقات ص 42.
', 38), (14, 39, 'book', '
الاطمئنان، والمقوّي الذي يمكن دعوى وجوده في المقام هو نفس حذف اسم الوسيط؛ إذ يحتمل نشوء ذلك من درجة من عدم الاعتناء بالوسيط وعدم الوثوق به.
نعم يستثنى من هذا الإشكال مالو عبّر ابن أبي عمير مثلا بتعبير: عن غير واحد، أو عن جماعة، أو عن رهط، ونحو ذلك، لابتعبير: عن رجل، أو عن بعض أصحابه، ونحو ذلك؛ إذ هذا التعبير يتناسب مع الاهتمام لامع عدم الاهتمام، بل في هذا الفرض يشتدّ الاطمئنان لبُعد كون كلّ المحذوفين العَرْضيّين ـ وهم ثلاثة على الأقلّ ـ من أُولئك الذين وصلنا ضعفهم(1).
أقول: أنّ هذا الإشكال غريب في المقام، فترك ذكر اسم الوسيط لا أعرف كيف ينشأ ـ في احتمال معقول ـ من عدم الوثوق به، وإنّما ينشأ عادةً من نسيانه، ولو لم يكن ناسياً له فعدم ذكره لعلّه أنسب بوثوقه من عدم وثوقه به؛ باعتبار أنّه لو لم يكن واثقاً به كان ينبغي له ذكره كي يتكفّل السامع بنفسه عِبء الوثوق بالرواية أو عدم الوثوق بها.
هذا تمام الكلام في روايات الثلاثة مسنداً ومرسلا.
وقد تحصل بذلك أنّ مقبولة عمر بن حنظلة في المقام تامّة سنداً.
 $
دلالة الحديث:
وأمّا دلالةً، فقد يقال: بأنّها لم تدلّ على أكثر من قاضي التحكيم حيث قال:«فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»، فصحيح أنّ هذا نصب من قبل الإمام، لكنّه نصب لمن رضوابه حكماً؛ أي نصب بعد التحكيم، وقد قلنا: إنّ قاضي
', '(1) مشايخ الثقات ص 45.
', 39), (14, 40, 'book', '
التحكيم أيضاً لا بدّ من نصبه، إلّا أنّ نصبه يكون في طول التحكيم، بينما كلامنا الآن في النصب العامّ من قبل المعصوم قبل التحكيم.
والجواب: أنّ (فاء) التعليل في قوله: «فإنّي قد جعلته حاكماً» الذي علّل به قوله:
«فليرضوا به حكماً» ظاهر عرفاً في أنّ النصب ثابت في الرتبة السابقة على التحكيم، فكأنّه يقول: هذا منصوب من قبلي حاكماً فتحاكموا إليه. وهذا هو القاضي المنصوب.
هذا، وقد يقال: إنّ هذا الحديث لايفيدنا في زماننا لأنّه إنّما دلّ على النصب من قبل الإمام الصادق (عليه السلام) بوصفه وليّاً للأمر فيختص بزمانه، أمّا في زماننا هذا فنحن بحاجة إلى النّصب من قبل إمام العصر، أي يجب أن نرجع إلى التوقيع مثلا لإثبات منصب القضاء للفقيه لا إلى المقبولة.
والجواب: أنّ ظاهر هذا الحديث بإطلاقه هو الجعل المستمر إلى أن ينسخ، والإمام المعصوم تكون ولايته شاملة لما بعد وفاته لإطلاق دليل ولايته، ولم يثبت نسخ هذا النصب من قبل إمام متأخّر.
هذا تمام الكلام في الحديث الثاني من أحاديث النصب.
الحديث الثالث ـ ما ورد عن أبي خديجة بسند تامّ عن الصادق (عليه السلام): «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه»(1). وسيأتي إن شاء اللّه أنّ حمل هذا الحديث على قاضي التحكيم خلاف الظاهر.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 1 من صفات القاضي، ح 5، ص 4.
', 40), (14, 41, 'book', '
 $
 $
 $
 $
شرائط القاضي
 $
 $
واما الامر الثاني ـ أعني ماهي المواصفات المشترطة في القضاء في من هو منصوب رأساً من قبل المعصومين (عليهم السلام) حسب مبنانا من ورود هذا النصب، أو في من نعلم برضا الشريعة في قضائه حسب مبنى السيّد الخوئي من عدم وصول النصب إلينا، والاستفادة من علمنا بعدم رضى الشريعة باختلال النظام.
 $
شرط العلم
فأوّل هذه الشروط: هو العلم.
أصل اشتراط العلم:
ولا إشكال في أصل اشتراط العلم بالحكم الأعم من الواقعي والطاهري ولو بالتقليد، بضرورة من الفقه، وبآيات النهي عن اتباع غير العلم، فهي تدّل على حرمة القضاء بغير العلم، وتثبت بالملازمة العرفية عدم نفوذه، وبالروايات المتظافرة:
الناهي بعضها عن القول بغير العلم، من قبيل ما عن هشام بن سالم ـ بسند
', '', 41), (14, 42, 'book', 'تامّ ـ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): ما حقّ اللّه على خلقه؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون، ويكفّوا عمّا لايعلمون، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى اللّه حقّه»(1).
والناهي بعضها عن الإفتاء بغير العلم، من قبيل ما ورد بسند تامّ عن أبي عبيدة قال: «قال أبو جعفر (عليه السلام): من أفتى الناس بغير علم ولا هدىً من اللّه لعنته ملآئكة الرحمة وملآئكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه»(2) ـ والقضاء بغير علم مشتمل طبعاً على الفتيا بغير علم، و على القول بغير علم ـ.
والناهي بعضها عن القضاء بغير علم كالمرفوعة الواردة في الكافي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «القضاة أربعة ثلاثة في النار و واحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو لايعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة»(3)
والناهي بعضها عن العمل بغير العلم كما في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن أبي عبداللّه قال: «في وصية المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام)يقول: من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله؛ إنّ حجّة اللّه هي الحجّة الواضحة»(4).
 $
$
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 4 من صفات القاضي، ح 10 ص 12.
(2) نفس المصدر، ح 1، ص 9.
(3) نفس المصدر، ح 6، ص 11.
(4) الوسائل ج 18، ب 6 من صفات القاضي، ح 8، ص 35.
', 42), (14, 43, 'book', '
 $
اشتراط العلم الاجتهادي:
ولكنّ الكلام يقع في اشتراط كون العلم علماً اجتهادياً لاتقليديّاً.
والمفهوم عرفاً من مقبولة عمر بن حنظلة: (روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا) هو الاجتهاد والفقاهة، وهذا هو ما فهمه السائل من كلام الإمام، كما يشهد لذلك ما جاء في ذيل الحديث من قوله: «أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه ...»(1)، وهو المفهوم أيضاً من التوقيع الشريف (فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا)، فإنّ مقتضى مناسبات الحكم والموضوع كون المقصود برواة الحديث حملة الحديث فهماً وعلماً بصحيحها وسقيمها، وعامّها وخاصّها، ومطلقها ومقيدها إلى غير ذلك من الجوانب، لاحملة ألفاظ الحديث كمن يحمل أسفاراً.
وهناك فرق بين المقبولة والتوقيع، وهو أنّه لو ورد ما يدلّ على نصبهم (عليهم السلام)لفئة أوسع من فئة الفقهاء فالتوقيع لايعارضه؛ إذ التوقيع دلّ على ما هو أوسع من القضاء وهو الولاية العامّة ومن ضمنها القضاء، فلعلّ الإجتهاد شرط في هذا النصب الواسع لا في خصوص القضاء. وهذا بخلاف المقبولة الواردة في خصوص القضاء، فهي تدلّ بمقتضى ورودها في مقام التحديد على عدم نصب غير الفقيه للقضاء.
إلّا أنّ صاحب الجواهر (رحمه الله) حاول افتراض المقبولة كالتوقيع من هذه الناحية بدعوى أنّ قوله (عليه السلام): «فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً» يدلّ على الحكومة، وهي الولاية العامّة لاخصوص القضاء(2).
$
', '(1) الوسائل ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 1، ص 76.
(2) راجع الجواهر، ج 40، ص 18.
', 43), (14, 44, 'book', '
إلّا أنّ هذا الكلام غير صحيح:
أوّلا ـ لعدم تسليم كون الحكم هنا بمعنى مطلق الولاية، بل مقتضى ظاهر السياق هو النظر إلى الحكم بمعنى القضاء.
وثانياً ـ لأنّه لو فرض كون المقصود مطلق الولاية فهذا الحكم المطلق جاء في التعليل الموجود في ذيل الرواية، وما قبل هذا التعليل كلام تامّ دالّ على جعل منصب القضاء للفقيه، ولكونه في مقام التحديد قد دلّ على عدم جعله لغير الفقيه.
وعلى أيّ حال فحتّى لو افترضنا أنّ المقبولة كالتوقيع في عدم معارضتها لما يدلّ على عدم اشتراط الفقاهة ـ لو ورد ـ فهذا الفرض لا أثر عملي له لو لم يثبت ورود ما يدلّ على عدم اشتراط الفقاهة؛ لأنّ المقبولة والتوقيع على أي حال لم يدلاّ على أكثر من نصب الفقيه، فنصب غير الفقيه بحاجة إلى دليل، وهو مفقود.
إلّا أنّ صاحب الجواهر حاول إبراز أدلّة على عدم اشتراط الفقاهة، فاستشهد بأدلّة ضرورة كون الحكم حكماً بالعدل بدعوى أنّ إطلاقها ينفي اشتراط الفقاهة(1)، وذلك من قبيل قوله ـ تعالى ـ: ﴿وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾(2) بينما من الواضح أنّ هذه الأدلّة إنّما هي بصدد بيان ما ينبغي أن يحكم به لا بصدد بيان من له حقّ الحكم.
ولعلّ أقوى هذه النصوص دلالة على مطلوبه (رحمه الله) هو رواية (القضاة أربعة) التي مضت آنفاً، وذكرها (رحمه الله) هنا بهذا الصدد، فقد يقال: إنّها قد تدلّ بإطلاقها على المقصود حيث جاء في ذيلها: «ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة» فقد يقال: إنّ قوله (عليه السلام): «فهو في الجنة» يدلّ بالإطلاق على أنّه في الجنّة سواء كان علمه
', '(1) راجع الجواهر، ص 15، و 16.
(2) سورة النساء الآية: 58.
', 44), (14, 45, 'book', '
بالحقّ عن طريق الاجتهاد أو التقليد. إلّا أنّ هذا أيضاً كما ترى غير تامّ، فإنّ قوله (عليه السلام): «فهو في الجنّة» كلام حيثيّ يميّز الشقّ الرابع ـ وهو من يقضي بالحقّ وهو يعلم ـ عن الشقوق الثلاثة الأُخرى من حيثية أنّ هذا اتّبع العلم بالحقّ بخلاف الآخرين، ولا ينظر إلى مطلق شرائط القاضي، على أنّ هذا النصّ ساقط سنداً.
واستدلّ (رحمه الله) أيضاً على مدّعاه برواية أبي خديجة: (إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه)(1) حيث دلّ هذا الحديث على عدم اشتراط الاجتهاد وكفاية العلم ببعض القضايا.
هذا وقد ورد متن آخر عن أبي خديجة أيضاً غير مشتمل على تقييد العلم بالعلم ببعض القضايا؛ حيث قال: «بعثني أبو عبداللّه (عليه السلام) إلى أصحابنا فقال: قل لهم: إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ و العطاء أنّ تحاكموا إلى أحد من هؤلآء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا و حرامنا فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، و إياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر»(2).
إلّا أنّ هذا سنده ضعيف بأبي الجهم المحتمل انطباقه على ثوير بن أبي فاختة الذي لم تثبت وثاقته، ورواية ابن أبي عمير عن أبي الجهم لاتدلّ على وثاقة ثوير بن أبي فاختة؛ لاحتمال كون المقصود به بكير بن أعين الذي ورد أيضاً عن ابن أبي عمير الرواية عنه باسمه الصريح.
والحاصل: أنّ أباالجهم مردّد في المقام بين من لم تثبت وثاقته وهو ثوير بن
', '(1) الوسائل ج 18، ب 1 من صفات القاضي، ح 5، ص 4.
(2) الوسائل ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 6، ص 100.
', 45), (14, 46, 'book', '
أبي فاخته ومن ثبتت وثاقته وهو بكير بن أعين الذي ثبتت وثاقته برواية ابن أبي عمير عنه. وقد يقال أيضاً بثبوت وثاقته برواية الكشّي بسند تامّ عن الفضل وإبراهيم ابني محمّد الأشعريين قال: «إنّ أباعبداللّه (عليه السلام) لمّا بلغه وفاة بكير بن أعين قال: أما واللّه لقد أنزله اللّه بين رسول اللّه و أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهما»، أو برواية الصدوق في مشيخة الفقيه نفس المضمون عن الصادق (عليه السلام).
ويرد على الثاني إرساله.
وعلى أيّ حال فبعد الدوران بين الثقة وغير الثقة يسقط السند عن الحجّيّة.
هذا مضافاً إلى وجود شبهة الإرسال في المقام، فإنّ سند الحديث كمايلي: (محمّد بن الحسن بإسناده عن محمّد بن علي بن محبوب عن أحمد بن محمد عن الحسين ابن سعيد عن أبي الجهم عن أبي خديجة). فلو حملنا الحسين بن سعيد على الحسين بن سعيد المعروف والمتعارف رواية أحمد بن محمّد بن عيسى عنه، وحملنا أباالجهم على أحد الراويين المعروفين الّذين قلنا: إنّ أحدهما ثبتت وثاقته وهو بكير بن أعين، والآخرلم تثبت وثاقته وهو ثوير بن أبي فاخته جاءت شبهة الإرسال سواء فرض أنّ المقصود بأبي الجهم هو بكير أو ثوير:
أمّا بكير فهو من أصحاب الباقر و الصادق (عليهما السلام)، وقد ورد في الكتب الرجالية التصريح بموته في زمن الصادق (عليه السلام)، ومع فرض موته في زمن الصادق (عليه السلام) تستبعد رواية الحسين بن سعيد الذي هو من أصحاب الرضا والجواد والهادي (عليهم السلام) عنه .
وأمّا ثوير فهو من أصحاب الإمام زين العابدين و الباقر والصادق (عليهم السلام)فتبعد حياته بعد الإمام الصادق (عليه السلام)، ولم نر رواية له من بعد الصادق (عليه السلام)، فتستبعد أيضاً رواية الحسين بن سعيد عنه.
وعلى أيّة حال فهذا الحديث بمتنه الأوّل لابأس به سنداً، وسنده كمايلي:
', '', 46), (14, 47, 'book', '(محمد بن علىّ بن الحسين، بإسناده عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال). وأبوخديجة سالم بن مكرم ثقة بشهادة النجاشي (رحمه الله).
نعم ورد عن الشيخ الطوسي (رحمه الله) تضعيفه، ولكنّ الظاهر أنّ تضعيفه يحمل على اشتباهه بسالم بن أبي سلمة على ما يظهر من عبارته (رحمه الله) من أنّ سالم بن مكرم يكنّى أبوه بأبي سلمة، بينما الآخرون ذكروا أنّ أباسلمة كنية لنفس سالم، ولاأقلّ من احتمال استناد تضعيف الشيخ إلى ذلك بمقدار يسقط كلامه (رحمه الله) عن الحجّيّة و صحّة الاعتماد عليه.
وأمّا دلالةً: فقد ذكر السيّد الخوئي أنّ هذا راجع إلى قاضي التحكيم؛ لأنّ قوله (عليه السلام) «قد جعلته قاضياً» متفرّع على قوله (عليه السلام): «فاجعلوه بينكم» وهو القاضي المجعول(1).
أقول: لم أعرف الفرق بين التعبير الذي جاء في هذا الحديث وهو قوله (عليه السلام): «فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً»، وقوله (عليه السلام) في المقبولة: «فليرضوا به حكماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً».
وقد فسّر السيّد الخوئي الثاني بأنّه أمرٌ بالرضا به حَكَماً و إلزامٌ بذلك، وقد عللّ هذا الإلزام بأنّه قد جعله حاكماً. إذن هذا يعني ثبوت النصب في المرتبة السابقة على الرضا به، وأنّ الرضا به واجب على هذا الأساس(2).
وعين هذا التفسير يأتي في خبر أبي خديجة حيث أمره بجعله بينهم، وهذا يعني الإلزام بجعله بينهم، وعلّل ذلك بأنّه قد جعله قاضياً، وهذا يعني ثبوت النصب في المرتبة السابقة على جعله بينهم.
$
', '(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 8.
(2) المصدر السابق، ج 1: ص 7.
', 47), (14, 48, 'book', '
اللّهم إلّا أن يقال: إنّ كلمة: (اجعلوه بينكم) تعطي معنى الجعل التشريعي ـ أي إعطاء الحاكمية له ـ وهذه كناية عن قاضي التحكيم. إلّا أنّ الظاهر أنّ المقصود من (اجعلوه بينكم) هو نفس ما يفهم من قوله: (فليرضوا به حكماً).
وكيف كان فالأوْلى تفصيل الكلام بين اشتراط العلم بحكم الأئمة (عليهم السلام) في مورد القضاء مباشرة لاتقليداً وبين اشتراط الإطلاق الفعلي في الاجتهاد.
فبالنسبة لاشتراط العلم بحكمهم (عليهم السلام) قد يستظهر من جملة: (يعلم شيئاً من قضايانا) أو (يعلم شيئاً من قضائنا) هو العلم لابواسطة التقليد. أمّا لو قلنا بالإطلاق، وأنّه بعد وضوح أنّه ليس المقصود بالعلم هنا العلم الوجداني وبلاواسطة من يتعبّد بكلامه ـ إذ العلم بقضاياهم (عليهم السلام) كثيراً ما يكون بواسطة الأخذ التعبّدي من الرواة ـ لايبقى فرق بين أن يكون العلم بقضاياهم علماً بواسطة التعبّد بنقل الراوي، أو علماً بواسطة التعبّد بفتوى الفقيه. أقول: لوقلنا بإلاطلاق من هذا القبيل فهذا الإطلاق وإن لم يمكن تقييده بالتوقيع؛ لأنّ التوقيع دلّ على إعطاء منصب أوسع من منصب القضاء، ومن المحتمل أن يشترط في ذلك مالايشترط في خصوص منصب القضاء، ولكن يمكن تقييده بمقبولة عمر بن حنظلة الواردة في خصوص القضاء، والظاهرة في كونها في مقام التحديد، وهي تدلّ على اشتراط الاجتهاد.
هذا، والسيّد الخوئي ـ الذي لم يقبل وجود نصّ تامّ سنداً ودلالةً على القاضي المنصوب، واستفاد شرعيّة القاضي المنصوب من الضرورة الاجتماعية الدالّة على الوجوب الكفائي ـ اشترط الاجتهاد على أساس الاقتصار على القدر المتيقّن.
إلّا أنّ هذا الطريق لإثبات اشتراط الاجتهاد قد يبتلى بإشكال: كما لو دار الأمر بين مجتهد لا يمتلك ذكاء أكثر من المقدار المتعارف في كيفيّة تمييز الصادق من الكاذب وأخذ الإقرار من الظالم، ومقلّد يتقن الأحكام عن طريق التقليد وهو
', '', 48), (14, 49, 'book', 'يمتلك ذكاءً خارقاً بهذا الصدد، فهل يفترض القضاء بيد هذا أو بيد ذاك؟ ولا قدر متيقّن هنا كي يتمسّك به، وحينئذ لو قلنا بأنّ الضرورة الاجتماعية الدالّة على الوجوب الكفائي بالغة مرتبة يستنبط منها في مثل هذا الفرض أيضاً جعل حكم ظاهري بنفوذ قضاء أحدهما، فقد يطبّق هنا قانون الانسداد، ويعيّن أحدهما بالظنّ، أو يقال بالتخيير، أو يقال بوجوب التعاون فيما بينهما مع الإمكان، وإصدار حكم مشترك يتصادقان عليه.
أمّا نحن ففي فسحة عن هذا؛ لأنّنا استفدنا شرعيّة القاضي المنصوب عن طريق النصّ.
 $
هل يشترط الإطلاق في الاجتهاد؟
وأمّا بالنسبة لاشتراط الإطلاق في الاِستنباط الفعلي فرواية أبي خديجةلاتدلّ على ذلك، ولا يبعد أن يقال: إنّ مقبولة عمر بن حنظلة وإن كان مقتضى الاِقتصار على حاقّ لفظها هو اشتراط الإطلاق، ولكن المفهوم عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع أنّه كان الهدف من ذكر قوله (عليه السلام): «نظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» هو الطريقية إلى التأكّد من معرفة حكم مورد القضاء، فلايستفاد منها أكثر ممّا يستفاد من رواية أبي خديجة، وعلى فرض إجمالها نتمسّك بإطلاق رواية أبي خديجة.
نعم التجزّي بمعنىً يسلب عادةً الوثوق بمعرفته بالحكم في مورد القضاء ـ وهو التجزّي في أصل الوصول إلى مرتبة قوّة الاجتهاد ـ لا إشكال في دلالة المقبولة على عدم كفايته، ولو فرض إطلاق في رواية أبي خديجة يقيّد بذلك.
 $
$
', '', 49), (14, 50, 'book', ' $
هل تشترط الأعلمية؟
يبقى الكلام في اشتراط الأعلمية، ومقتضى إطلاق ما عرفته من الرواياتعدم الاشتراط.
نعم لو أخذنا بفكرة القدر المتيقّن ـ التي مشى عليها السيد الخوئي في إثبات اشتراط الاجتهاد ـ كان مقتضاها اشتراط الأعلميّة أيضاً، وإلّا فالظاهر عدم اشتراط الأعلميّة، ولايقاس ذلك بباب التقليد، فإنّه في باب التقليد تسقط فتوى المجتهد عند المعارضة بفتوى من هو أعلم منه عن الحجّيّة، إمّا على أساس سقوطها عن الطريقيّة، أو على أساس تعارضهما وتساقطهما بلحاظ الدليل اللفظي وتعيّن فتوى الأعلم للحجّيّة عندئذ بالبناء العقلائي. أمّا في باب القضاء فليس الملحوظ فيه محض الطريقيّة، بل له موضوعيّة في النفوذ لخصم النزاع حتى مع علم المحكوم عليه بالخلاف كما سيأتي إن شاء اللّه في بحث مدى نفوذ القضاء. وليس المفروض بعد تماميّة القضاء من قبل فقيه أن يقضى مرّةً أُخرى في المورد من قبل فقيه آخر ـ كما سيأتي إن شاء اللّه في البحث عن مدى نفوذ حكم القاضي ـ كي يقع التعارض. نعم لو ترافعا في عرض واحد عند شخصين، أو اختار كلّ واحد منهما شخصاً غير الآخر وتعارضا في الحكم، فقد ورد(1) كما يأتي إن شاء اللّه الترجيح بالأعلميّة وغيرها، و لكن هذا لا ربط له بشرط الأعلميّة في القضاء، بل نفس تلك النصوص لعلَّها ظاهرة في الفراغ عن أنّ كلّ واحد من القضائين لوكان وحده لكان نافذاً رغم أعلميّة
', '(1) راجع بهذا الصدد: التهذيب، ج 2، ص 302 و 303، الحديث 50 الى 52، وراجع: أُصول الكافي، ج 1، ص 67 و 68 الحديث 10، و راجع: الفقيه، ج 3، ص 5 و 3، باب 9 من أبواب القضايا و الأحكام، وراجع: الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 1 و 20 و 45.
', 50), (14, 51, 'book', '
الشخص الآخر.
يبقى التمسّك لإثبات اشتراط الأعلميّة بقدر الإمكان بقول أمير المؤمنين (عليه السلام)في عهده إلى مالك الأشتر: «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك»(1).
والكلام يقع في ذلك سنداً ودلالةً:
سند عهد الأشتر:
أمّا من حيث السند: فعهد الإمام إلى مالك الأشتر قد ذكر له سند(2) غير تام عن طريق النجاشي (رحمه الله) ولانبحثه، وسند آخر عن طريق الشيخ (قدس سره)وهو الجدير بالبحث، وهو ابن أبي جيد عن محمّد بن الحسن عن الحميري عن هارون بن مسلم و الحسن بن طريف جميعاً عن الحسين بن علوان الكلبي عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
والإشكال في هذا السند يقع من عدّة وجوه:
الوجه الأوّل ـ عدم ورود توثيق لابن أبي جيد، وابن أبي جيد ثقة عند السيّد الخوئي باعتباره من مشايخ النجاشي، ولكنّنا لانقبل بهذا المبنى، إذن هو غير ثابت
', '(1) نهج البلاغة، الكتاب 53، ص 1000، بحسب الطبعة المترجمة بقلم فيض الإسلام.
(2) وهو هكذا: أخبرنا ابن الجندي عن علي بن همام عن الحميري عن هارون بن مسلم عن الحسين بن علوان عن سعد بن طريف عن الأصبغ بالعهد.
والعيب الخاصّ بهذا السند دون سند الشيخ هو:
أوّلا ـ ابن الجندي وهو من مشايخ النجاشي.
وثانياً ـ علي بن همام، فإنّه لم يعرف إلّا إذا صحّ حدس الشيخ محمّد تقي التستري حيث قال في قاموس الرجال: «الظاهر كونه محرّفاً عن أبي علي بن همام، وهو محمّد بن همام». فإن صحّ ذلك فهو ثقة، وممّا يشهد لكون الصحيح هو أبوعلي بن همام رواية ابن الجندي عنه، وكذلك عدم وجود اسم علي بن همام في كتب الرجال إطلاقاً.
', 51), (14, 52, 'book', '
الوثاقة عندنا، ولكن يمكن التخلّص عنه في المقام على أساس نظرية التعويض في السند، باعتبار أنّ الشيخ له سند تامّ إلى محمد بن الحسن بن الوليد، وكذلك إلى عبداللّه بن جعفر الحميري الواقعين في هذا السند قبل ابن أبي جيد.
نظريّة التعويض في السند:
وبما أنّ نظرية التعويض تنفعنا في كثير من الموارد ممّا يمكن رفع نقص السند بها لا بأس ببيانها في المقام، و أصلها من أُستاذنا الشهيد (رحمه الله).
فنقول: إنّ تعويض السند الضعيف بسند تامّ يمكن أن يتمّ على عدّة أشكال:
الشكل الأوّل للتعويض: هو الاعتماد على مثل ما جاء كثيراً في كلام الشيخ الطوسي (رحمه الله) في ترجمته للرجال في فهرسته من عبارة: (أخبرني بجميع كتبه ورواياته فلان عن فلان).
فإذا وجدنا عن الشيخ (رحمه الله) رواية وكان في سندها رجل ضعيف، أو غير ثابت التوثيق، وكان قبل ذاك الرجل من الطرف الذي يقرب إلى الإمام ثقة، وكان الشيخ قد ذكر في فهرسته بشأن ذاك الثقة عبارة: (أخبرني بجميع كتبه و رواياته فلان عن فلان)، و كان السند الوارد في هذه العبارة تامّاً، فمن حقّنا أن نبدّل القطعة الأُولى من السند الواقعة بين الشيخ و ذاك الثقة و التي فيها ذاك الإنسان غير ثابت التوثيق بالسند الذي ذكره الشيخ في تلك العبارة في الفهرست.
ومدى تماميّة هذا الذي ذكرناه أو عدمها يرتبط بما نفهمه من معنى قوله: «أخبرنا بجميع كتبه و رواياته» ففي ذاك عدّة احتمالات:
الأوّل ـ أن يكون المقصود بذلك كلّ ما لذاك الثقة من كتب وروايات في علم اللّه، وعندئذ يتمّ هذا الوجه الذي شرحناه للتعويض؛ إذلولم يكن قد وصل هذا الحديث إلى الشيخ عن الطريق الذي ذكره في الفهرست بقوله: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته فلان عن فلان» لكان يعلم الشيخ بكذب هذا الحديث؛ إذ لوكان صادراً
', '', 52), (14, 53, 'book', 'عنه حقّاً لكان قد وصله بهذا الطريق حسب ما تدلّ عليه تلك العبارة، ولو كان يعلم الشيخ بكذبه لما رواه.
إلّا أنّ هذا الاحتمال في ذاته واضح البطلان؛ إذ لاسبيل للشيخ عادةً إلى الإحاطة بكلّ روايات هذا الشخص بنحو يقطع بأنّه لارواية له غير هذه الروايات التي وصلته عن طريق هذا السند.
الثاني ـ أن يكون المقصود بذلك كلّ ما نُسبت إلى ذاك الثقة من كتب وروايات، وهذا أيضاً في البطلان كالأوّل، فلا سبيل للشيخ عادةً إلى الإحاطة بكلّ ما نسبت إلى ذاك الثقة من كتب وروايات بحيث ينفي أن يكون قد نسبت إليه رواية عن غير ذاك الطريق.
ولو تمّ هذا الوجه ثبت المقصود؛ لأنّ الرواية التي نحن بصدد تصحيح سندها قد نسبت إليه قطعاً، فهي داخلة في هذا العموم.
الثالث ـ أن يكون المقصود بذلك جميع ما رواه الشيخ عنه من كتب وروايات، وهذا احتمال معقول، وبناءً على هذا الاحتمال يثبت المقصود أيضاً؛ لأنّ هذه الرواية ممّا رواها الشيخ حسب الفرض.
الرابع ـ أن يكون المقصود بذلك جميع ما وصل إلى الشيخ عنه من كتب وروايات، وهذا الاحتمال كسابقه في المعقوليّة، وفي ثبوت المقصود بناءً عليه؛ لأنّ هذه الرواية قد وصلت إلى الشيخ حسب الفرض؛ إلّا أنّه يختلف عن سابقه في أنّنا لووجدنا كتاباً في مكتبة الشيخ لهذا الثقة بحيث عرفنا أنّه واصل إلى الشيخ، ولكن لم نعرف أنّه رواه عنه، أمكن تصحيح سند هذا الكتاب بهذا الوجه، بخلافه على الاحتمال الثالث. وعلى أيّ حال، فهذه الثمرة في زماننا غير متحقّقة على أىّ حال، فالاحتمالان عملا متساويان في النتيجة.
الخامس ـ أن يكون المقصود بذلك جميع ما اعتقد الشيخ وجداناً أو تعبداً أنّه
', '', 53), (14, 54, 'book', 'صادر عن هذا الثقة من كتاب أو رواية، وبناءً على هذا الاحتمال لايثبت المقصود في المقام؛ إذ اعتقاد الشيخ وجداناً أو تعبّداً بأنّ الرواية المبحوث عنها صادرة عنه أوّل الكلام، فيصبح التمسّك بقوله: «أخبرنا بجميع كتبه و رواياته ...»تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة.
إلّا أنّ هذا الاحتمال في ذاته خلاف الظاهر كما ذكره أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)؛ لأنّ ظاهر قوله: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته ...» هو أنّه يتكلمّ بما هو راو ومتحدّث لا بما هو مجتهد في الأحاديث يحكم بثبوت هذا الحديث عنه وجداناً أو تعبّداً، ولأنّ هدف الشيخ (رحمه الله) من هذه العبارة تزويدنا بسند إلى تلك الكتب والروايات، بينما لو كان المقصود هو أنّ هذا سند لكلّ ما يعتقد هو أنّه لفلان ففي الحقيقة لم يزوّدنا بسند إطلاقاً؛ إذ ما يدرينا أنّ الرواية الفلانيّة داخلة في ما يعتقد الشيخ بصدوره عن فلان أوْلا؟!.
وأُستاذنا الشهيد (رحمه الله) لم يتعرّض للاحتمال الثالث، وباستبعاد الاحتمال الخامس عيّن الاحتمال الرابع. وعلى أيّ حال فقد عرفت أنّه لا ثمرة عملية فعلا بين الاحتمال الثالث والرابع، وما دمنا قد استبعدنا الاحتمال الخامس فالمقصود ثابت على أيّ حال.
يبقى الكلام في أنّ الشيخ كثيراًمّا ينقل في كتابيه روايةً عن كتاب مسقطاً مالديه من سند إلى صاحب ذاك الكتاب، وتعرّض في آخر الكتابين إلى ذكر السند لغالب ما حذف أسانيده إليه، وحينئذ قد يفترض أنّ الرجل غير ثابت التوثيق وقع ضمن ذاك السند، والرجل ثابت التوثيق ـ الذي كان للشيخ في فهرسته سند تامّ إلى جميع كتبه ورواياته ـ عبارة عن نفس صاحب الكتاب أو عن شخص آخر أقرب إلى الشيخ من صاحب الكتاب، وهنا لا إشكال في التعويض، وأُخرى يفترض أنّ الرجل الثقة ـ الذي كان للشيخ سند تامّ إلى جميع كتبه ورواياته ـ وقع قبل صاحب
', '', 54), (14, 55, 'book', 'الكتاب ـ أي كان أقرب إلى الإمام سواء كان الشخص غير ثابت التوثيق قبل صاحب الكتاب أو بعده ـ فهنا هل نطبّق عليه نظرية التعويض أوْلا؟ قد يقال بعدم الفرق بين الفرضيتين تمسّكاً بإطلاق قوله: «أخبرنا بكتبه ورواياته».
ولكن الظاهر عندي هو التفصيل بين الفرضيتين، فنحن إنمّا نقبل بنظرية التعويض هذه حينما يكون ذاك الثقة ـ الذي كان للشيخ إلى جميع رواياته سند تامّ ـ عبارة عن نفس صاحب الكتاب الذي روى الشيخ الحديث عن كتابه، أو من كان واقعاً في السند الذي يصل الشيخ بذلك الكتاب. أمّا إذا كان بين الإمام وصاحب الكتاب فلانطبّق عليه هذا القانون، وهذا الكلام ينشأ من فهمنا لكلمة (رواياته) في قوله: «أخبرنا بكتبه ورواياته»، أو قوله: «أخبرنا برواياته».
توضيح ذلك: أنّه يحتمل في كلمة (رواياته) أمران:
الأوّل ـ أن يشمل الروايات الشفهيّة، فكأنّه حينما قال: «أخبرنا بكتبه ورواياته» قصد بذلك أنّه أخبرنا بما رواه في كتبه وبما رواه في كتب وكتابات الآخرين وبما رواه من روايات شفهية فلان عن فلان، وبناءً على هذا الاحتمال يتمّ 3مامضى من بطلان الاحتمال الأوّل من الاحتمالات الخمسة، وهو إرادة واقع الكتب والروايات؛ لما قلنا من أنّه لا سبيل للشيخ إلى الإحاطة بكلّ رواياته بنحو يقطع أنّه لم يروِ أيّ رواية أُخرى إلى غير ذاك السند، ويتمّ أيضاً ما ذكرناه من التمسّك بإطلاق جملة (أخبرنا بكتبه ورواياته)، أو جملة (أخبرنا برواياته) لإثبات عدم الفرق بين ما لو وقع الثقة ـ الذي للشيخ إليه سند تامّ ـ بين الشيخ وصاحب الكتاب، أو بين الإمام وصاحب الكتاب. إلّا أنّ هذا الاحتمال بعيد غاية البعد، فإنّ الشيخ (رحمه الله)قد تكررت منه كثيراً هذه الجملة، وبشأن كثيرين ممّن يكون الفاصل بينه وبين الشيخ متعدّداً، ورواياته الشفهية كثيرة ومتناثرة و واصلة إلى الشيخ ضمن كتب المتأخرين عنه، وعادةً لايمكن للشيخ الشهادة بوصول كلّ رواياته ـ الواقعية أو
', '', 55), (14, 56, 'book', 'الواصلة الى الشيخ أو التي يرويها الشيخ ـ بالسند الذي يذكره، وإنّما الشيء المعقول هو الاحتمال الثاني.
الثاني ـ أن يكون المقصود بروايته رواياته لكُتب وكتابات الآخرين، أو لكتبه هو والآخرين دون رواياته(1) الشفهية، وهذا ممّا يمكن الإحاطة به، فكان من المتعارف وقتئذ إخبار شيخ الإجازة لمن يروي عنه بجميع ما يرويه من كتب مؤلّفة لنفسه أو لغيره قراءةً عليه أو سماعاً منه أو إجازةً.
وبناءً على هذا الاحتمال قد يبطل ما ذكرناه في إبطال الاحتمال الأوّل من الاحتمالات الخمسة من أنّ الشيخ لايستطيع أن يحصر كلّ روايات هذا الثقة في علم اللّه فيما وصله بهذا السند؛ إذ هذا الحصر بالنسبة للكتب والمؤلّفات المروية أمر معقول، إلّا أنّ الصحيح مع ذلك أنّ التتبّع في فهرست الشيخ ورجال النجاشي يشرف المتتبّع على القطع ببطلان الاحتمال الأوّل؛ إذ كثيراً ما يذكر أحدهما راوياً ذاكتب كثيرة، ويعدّد منها ما هو أقلّ من عدد الكتب ممّا يوحي أنّه لم يصله بمالديه من سند كلّ الكتب، ومع ذلك يقول بالأخير: «أخبرنا بكتبه ـ أو بجميع كتبه ـ فلان عن فلان»، وتوجد أحياناً بعض القرائن الواضحة على عدم وصول كلّ الكتب إليه كقول النجاشي في عليّ بن الحسن بن فضّال: «وقد صنّف كتباً كثيرة منها ما وقع إلينا: كتاب الوضوء، كتاب الحيض ...»، وكقول الشيخ بشأن يونس بن عبدالرحمن: «له كتب كثيرة أكثر من ثلاثين كتاباً، وقيل: إنّها مثل كتب الحسين بن سعيد وزيادة» ثمّ يعدّد بعضها ثمّ يقول: «أخبرنا بجميع كتبه ورواياته ...»، ومن الواضح أنّه لوكان وصله كلّ الكتب لما قال: «قيل: إنّها مثل كتب الحسين بن سعيد وزيادة»،
', '(1) أو يشمل طائفة من رواياته الشفهيّة، وهي التي أعطاها بالسند الفلاني الوارد في الفهرست، لامطلق رواياته الشفهيّة.
', 56), (14, 57, 'book', '
وكقول الشيخ بشأن علي بن الحسن بن فضال: «قيل: إنّها ـ يعني كتبه ـ ثلاثون كتاباً: منها كتاب الطبّ، كتاب فضل الكوفة...».
وعلى أيّة حال، فبناءً على هذا الاحتمال ـ وهو الذي نستظهره ـ يتّضح الفصل بين مالوكان ذاك الثقة ـ الذي كان للشيخ إلى كتبه ورواياته سند تامّ ـ واقعاً بين الشيخ و الكتاب الذي روى الحديث عنه، أو بين الكتاب و الإمام، ففي الأوّل يمكن تطبيق نظرية التعويض وفي الثاني لايمكن ذلك؛ إذ لم يثبت لنا أنّ هذا الحديث وارد في كتاب من الكتب التي يرويها هذا الثقة، فلعلّه كان رواية شفهيّة.
هذا. ولا أقلّ من الإجمال، وهو يكفينا لعدم تسرية قاعدة التعويض إلى ما إذا كان ذاك الثقة بين الكتاب و الإمام، ولا إلى ما إذا كان الخبر بكلّ تسلسله شفهيّاً.
ومن هنا يظهر أنّ تطبيق هذه النظرية على عهد الإمام إلى مالك الأشتر في ما لو فرضنا أو احتملنا أنّ الرواة الواقعين في سند الشيخ من ابن أبي جيد إلى الحميري إنّما تناقلوه شفةً عن شفة غير صحيح، نعم بناءً على دعوى الاطمئنان بأنّ العهد كان مكتوباً وموروثاً على شكل الكتاب وكان فيما نقله ـ من الكتب و الكتابات ـ الحميري إلى ابن الوليد، أو ابن الوليد إلى ابن أبي جيد، صحّ التعويض في المقام.
وقبل أن ننتقل إلى الشكل الثاني من أشكال التعويض ينبغي أن نذكر أمرين:
أحدهما ـ أنّ الشيخ (رحمه الله) عبّر بشأن بعض الرواة بقوله: «أخبرني بكتبه ورواياته فلان عن فلان»، وبشأن بعض الرواة بقوله: «أخبرني برواياته فلان عن فلان» كما هو الحال فيما نحن فيه على بعض النسخ، حيث عبّر فيه بشأن ابن الوليد بالتعبير الثاني، وكذلك بشأن الحميري في نسخة القهبائي، وبشأن بعض الرواة بقوله: «أخبرني بكتبه» من دون عطف كلمة (رواياته)، ولاإشكال في صحّة تطبيق نظرية التعويض في مورد التعبير الأوّل و الثاني، ولكن قد يناقش في مورد التعبير الثالث، باحتمال كون المقصود من الإخبار بكتبه الإخبار بعناوين الكتب وأسمائها مثلا
', '', 57), (14, 58, 'book', 'لابواقعها. نعم لو كان قد عطف كلمة (رواياته) على كلمة (كتبه) لأمكن أن يقال بمقتضى وحدة السياق: إنّ الكتب بالمعنى الذي يعطف عليه الروايات، إنّما هو واقع الكتب لاعناوينها، ولكن المفروض عدم العطف. إلّا أنّ مراجعة فهرست الشيخ وتتبّع موارد استعمال الشيخ (رحمه الله) لهذه الجملة لاتدع مجالا للشكّ في أنّ مقصود الشيخ (رحمه الله) من الكتب هو واقع الكتب، وأنّ هدفه هو تقديم سند للكتب لامجرّد تثبيت الأسماء و العناوين. هذا مضافاً إلى أنّ تحويل الشيخ في المشيختين على فهارس الأصحاب، وفي إحداهما على فهرسته هو ـ على ما سيأتي ـ دليل على أنّهم في الفهارس كانوا يقصدون ذكر السند دون تعديد الكتب فحسب، وإذن فلابأس بتطبيق نظرية التعويض في المورد، نعم لا يمكن عندئذ تطبيق النظرية إلّا حينما يكون سند الشيخ في فهرسته إلى نفس الكتاب الذي روى عنه الرواية. أمّا لوكان سنده إلى ثقة آخر بين الضعيف وصاحب الكتاب مثلا فلا يمكن التعويض؛ لأنّ المفروض أنّ سند الشيخ في فهرسته إنّما هو سند إلى كتبه فقط لا إلى كتبه ورواياته، والمفروض أنّ هذه الرواية غير مأخوذة من كتاب هذا الثقة.
الثاني ـ أنّ هذا الشكل من التعويض كما يمكن تطبيقه على القطعة الأُولى من السند من زمن الشيخ ـ كما شرحناه ـ يمكن تطبيقه على القطعة الثانية من السند، وذلك فيما لو وقع بعد ذاك الضعيف ـ أي أقرب إلى الشيخ مثلا ـ ثقة، وفرض أنّ ذاك الثقة كان له كتاب فيه فهرست لمشايخه وإجازاته، ويكون له طريق إلى جميع كتب وروايات ثقة وقع بعد ذاك الضعيف أو إلى الإمام رأساً؛ بأن يكون له طريق صحيح لجميع ما وصل إليه من الإمام مثلا. وهذه فرضيّة ذكرها أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في المقام، وهي صحيحة في حدّ ذاتها وإن كان المظنون عدم العثور على مورد له معروف لدنيا.
الشكل الثاني للتعويض ـ هو عبارة عن تعويض سند الشيخ مثلا إلى
', '', 58), (14, 59, 'book', 'صاحب كتاب في رواية ينقلها عن ذاك الكتاب، بسند النجاشي مثلا إلى ذاك الكتاب ضمن شروط ثلاثة. ونوضّح ذلك عبر مثال، فنقول:
مثاله: أنّنا نفترض أنّ الشيخ روى حديثاً عن علىّ بن الحسن بن فضّال، وسند الشيخ إلى علىّ بن الحسن بن فضّال فيه ضعف، وللنجاشي سند تامّ إلى علىّ بن الحسن بن فضّال، فنعوّض سند الشيخ بسند النجاشي ضمن شروط:
الشرط الأوّل ـ أن يكون الراوي المباشر للشيخ ثقة.
والشرط الثاني ـ أن يكون النجاشي مالكاً أيضاً لنفس السند الذي ملكه الشيخ وهو السند الضعيف، ويمتلك إضافة إلى ذلك سنداً صحيحاً.
والشرط الثالث ـ أن يكون النجاشي و الشيخ لم يكتفيا بالقول بنحو الإجمال: «أخبرنا بجميع كتبه فلان عن فلان»، بل صرّحا باسم الكتب، ورأينا أن الكتب التي سمّاها الشيخ قد سمّاها النجاشي أيضاً. فعند استكمال هذه الشروط يصحّ الاستبدال، وذلك لأنّ ظاهر كلام النجاشي الذي ذكر طريقين إلى كتب عليّ بن الحسن بن فضّال أنّ تلك الكتب نقلت له بالطريقين بنقلين متماثلين في النسخة، وإنّما الفرق بينهما في السند لافي المتن، ولايحتمل عقلائيّاً أنّ النسخة التي نقلت له بالطريق الضعيف تختلف عن النسخة التي وصلت إلى الشيخ بعين ذاك الطريق، فإنّ المفروض أنّ من وقع بعد الشيخ مباشرةً ثقة، فلايحتمل أنّه أعطى نسخة إلى أحدهما وأعطى كذباً نسخة أُخرى إلى الآخر، كما لا يحتمل عقلائيّاً أنّ ذاك الثقة كانت لديه نسختان مختلفتان من ذلك الكتاب لايدري أيّهما حقّ، وغفل ولم ينبّه الشيخ ولا النجاشي إلى اختلاف النسختين، أو لم ينتبه هو إلى ذلك رغم ما كان متعارفاً عندهم من التدقيق في متون الأخبار.
هذا، والشرط الثاني من الشروط الثلاثة قد يمكن التنازل عنه والاكتفاء بأنْ يكون للنجاشي إضافة إلى السند التامّ سند آخر يبتدىء بذلك الثقة المباشر للشيخ،
', '', 59), (14, 60, 'book', 'أو أن يكون الشخص المباشر للنجاشي في سنده التامّ هو نفس الثقة المباشر للشيخ بلا حاجة أصلا إلى أن يكون للنجاشي سندان، وذلك على أساس استبعاد عدم إشارة هذا الثقة ـ على أىّ حال ـ إلى وجود نسختين مختلفتين لوكان.
وهذا الفرض الأخير ـ أعني وجود سند صحيح للنجاشي يبتدىء بالثقة المباشر للشيخ ـ يرجع أيضاً إلى ما ذكرناه أخيراً في الشكل الأوّل للتعويض من تطبيقه على القطعة الثانية من السند.
ثمّ المثال الذي ذكرناه هو مثال واقعي إلى حدّ، وليس مثالا خياليّاً بحتاً، فإنّ سند الشيخ (رحمه الله) إلى علىّ بن الحسن بن فضّال ضعيف بابن الزبير، فإنّ سنده إليه عبارة عن: أحمد بن عبدون عن علي بن محمّد بن الزبير عن علىّ بن الحسن بن فضّال. وللنجاشي إليه إضافةً إلى هذا السند سند آخر وهو: (محمّد بن جعفر في آخرين عن أحمد بن محمّد بن سعيد عن علي بن الحسن). ومحمّد بن جعفر وإن لم يكن ثابت التوثيق إلّا بناءً على وثاقة كلّ مشايخ النجاشي ولانقول به، ولكن لايبعد أن يقال: إنّ كونه شيخاً للنجاشي منضماً إلى أنّه ليس الناقل الوحيد، بل نقل في آخرين ـ على حدّ تعبير النجاشي ـ يكفي في إيجاد الوثوق والاطمئنان، فإنّ الراوي في الحقيقة عبارة عن عدّة من مشايخ النجاشي، ولانحتمل عادة كذبهم جميعاً.
نعم قد توجد عدّة نقاط ضعف في هذا المثال:
الأُولى ـ تخلّف الشرط الثالث في كتاب واحد، فإنّ الكتب التي ذكرها الشيخ (رحمه الله) ذكرها جميعاً النجاشي ولو بفرق مّا نادراً في الاسم، كتعبير الشيخ باسم (كتاب أخبار بني إسرائيل)، وتعبير النجاشي باسم (كتاب عجايب بني إسرائيل) ما عدا كتاب واحد وهو: (كتاب صفات النبي (صلى الله عليه وآله))، حيث لم يأتِ هذا الاسم في الكتب التي عدّها النجاشي، ولكن النجاشي عدّ كتباً عديدة ممّا لم يعدّه الشيخ (رحمه الله)، ومنها: (كتاب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله))، فيأتي احتمال أنّ هذا هو عين كتاب صفات النبي،
', '', 60), (14, 61, 'book', 'و إنّما وقع خطأ عند أحدهما، فبدّلت كلمة الوفاة بكلمة الصفات، أو بالعكس، واحتمال أنّ ذاك الكتاب مشتمل على صفات النبي (صلى الله عليه وآله) ووفاته معاً فسمّي هنا باسم وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وهناك باسم صفات النبي (صلى الله عليه وآله). وعلى أىّ حال فيمكن التغاضي عن هذه النقطة من الضعف في المقام، لأنّ الشرط لم يتخلّف إلّا في كتاب واحد من كتب كثيرة، والتخلّف أيضاً احتمالي، وليس جزمياً كما عرفت، وعندئذ يصبح احتمال كون الحديث الذي نريد تصحيح سنده قد أخذه الشيخ من كتاب غير مشمول لسند النجاشي ضعيفاً إلى حدّ يطمأنّ بعدمه، خاصّة حينما لاتكون الرواية واردة بشأن صفات النبي (صلى الله عليه وآله).
الثانية ـ أنّ النجاشي ذكر سنديه إلى كتب علىّ بن الحسن بن فضّال بهذا التعبير:
«قرأ أحمد بن الحسين كتاب الصلاة، و الزكاة، ومناسك الحج، و الصيام، والطلاق، و النكاح، والزهد، والجنائز، والمواعظ، والوصايا، والفرائض، و المتعة، والرجال على أحمد بن عبدالواحد في مدّة سمعتها معه، وقرأت أنا كتاب الصيام عليه في مشهد العقيقة عن ابن الزبير عن علي بن الحسن.
وأخبرنا بسائر كتب ابن فضّال بهذا الطريق.
وأخبرنا محمد بن جعفر في آخرين عن أحمد بن محمد بن سعيد عن علي بن الحسن بكتبه».
ويحتمل في قوله: «أخبرنا بسائر كتب ابن فضّال ...» احتمالان:
أحدهما ـ كون هذا إجازة في النقل، وذلك في مقابل عدد من الكتب التي ينقلها قراءة على الشيخ، أوسماعاً لقراءة أحمد بن الحسين على الشيخ.
والثاني ـ كون هذا بمعنى الإخبار بمجرّد أسماء الكتب في مقابل عدد من الكتب التي لم يكن وصولها إليه بمعنى مجرّد وصول الأسماء. وقد يدّعي مدّع على أثر
', '', 61), (14, 62, 'book', 'التتبّع في كتاب النجاشي أنّ هدفه من مثل هذه العبارة إعطاء السند لامجرّد سرد أسماء الكتب، كما ادعينا ذلك بالنسبة لفهرست الشيخ، إلّا أنّ هذه الدعوى بالنسبة لفهرست الشيخ أوضح صحّة منها بالنسبة لرجال النجاشي كما يظهر للمتتبّع فيها. وعلى أىّ حال فما أشرنا إليه من إرجاع الشيخ في المشيختين إلى فهارس الأصحاب يؤيّد أيضاً كون مقصود النجاشي ذكرالسند لامجرّد سرد أسماء الكتب، فإنّ كتاب النجاشي داخل في عنوان الفهرست، بل ذكر الشيخ اليوسفي حفظه اللّه في ما كتبه كمقدمة لنسخة من رجال النجاشي طبعت أخيراً ما مفاده: أنّ النجاشي سمّى كتابه في ظهر النسخة بالفهرست حيث كتب على ظهر النسخة: (الجزء الأوّل من كتاب فهرست أسماء مصنّفي الشيعة وما أدركنا من مصنّفاتهم ...)، وكذلك كتب على ظهر الجزء الثاني أيضاً.
الثالثة ـ أنّ النجاشي ذكر فيما ذكر في المقام قوله: «ورأيت جماعة يذكرون الكتاب المنسوب إلى علىّ بن الحسن بن فضّال المعروف بأصفياء أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويقولون: إنّه موضوع عليه لاأصل له واللّه أعلم، قالوا: وهذا الكتاب ألصق روايةً إلى أبي العباس ابن عقدة و ابن الزبير، ولم نر أحداً ممّن روى عن هذين الرجلين يقول قرأته على الشيخ غير أنّه يضاف إلى كلّ رجل منهما بالإجازة حسب».
فإذا كان جماعة من الأصحاب يشهدون بوضع كتاب الأصفياء أفلا تسقط هذه الشهادة خبر المخبر بهذا الكتاب على أساس التعارض؟! وإذا سقط ذلك أفلا نحتمل بنحو الإجمال في أىّ رواية يرويها الشيخ عن علىّ بن الحسن بن فضّال (أن تكون مأخوذة من هذا الكتاب، واسم هذا الكتاب موجود في القائمة التي عدّدها الشيخ (رحمه الله) إلّا أن يُدعى في الرواية التي نراها في التهذيب أو الاستبصار ـ وهي واردة في الأحكام لا في شأن أصفياء أمير المؤمنين (عليه السلام) الاطمئنان بأنّها ليست
', '', 62), (14, 63, 'book', 'مأخوذة من كتاب أصفياء أمير المؤمنين (عليه السلام).
الرابعة ـ أنّ الشرط الأوّل منتف في المقام؛ لأنّ الراوي المباشر للشيخ هو أحمد بن عبدون ولم يرد توثيق بشأنه.
وهذا الإشكال يمكن تذليله على مبنى السيّد الخوئي القائل بوثاقة مشايخ النجاشي، ولكنّنا لانقول بهذا المبنى.
الشكل الثالث للتعويض ـ وهو أوسع مشرباً من الوجوه الماضية، وحاصله: أنّنا إذا وجدنا طريقاً ضعيفاً للشيخ إلى أحمد بن محمد بن عيسى مثلا، ولكن كان طريق الصدوق (رحمه الله) إليه في مشيخة الفقيه صحيحاً، حكمنا بصحّة ذاك الحديث سواء كان الصدوق داخلا في طريق الشيخ أولا، وذلك باعتبار أنّ طريق الشيخ إلى الصدوق صحيح، فيتلفّق من طريق الشيخ إلى الصدوق والصدوق إلى أحمد بن محمّد بن عيسى، طريق صحيح.
ويرد بدواً إلى الذهن الإشكال بأنّ المفروض أنّ هذه الرواية غير موجودة في الفقيه، وإلّا لتمسّكنابها ابتداءً، ومشيخة الفقيه طريق للروايات التي أوردها في الفقيه، فكيف نصحّح بذلك رواية واردة في التهذيب أو الاستبصار؟!.
ويمكن الجواب على هذا الإشكال بالتمسّك بماذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) من الحوالة في آخر المشيختين على فهارس الشيوخ، فقد قال في آخر مشيخته في التهذيب: (قد أوردت جملا من الطرق إلى هذه المصنّفات و الأُصول، ولتفصيل ذلك شرح يطول، وهو مذكور في الفهارس المصنّفة في هذاالباب للشيوخ (رحمهم الله) من أراده أخذه من هناك إن شاء اللّه ، وقد ذكرنا نحن مستوفىً في كتاب فهرست الشيعة).
وقال في آخر مشيخته في الاستبصار: (قد أوردت جملا من الطرق إلى هذه المصنفات و الأُصول، ولتفصيل ذلك شرح يطول، هو مذكور في الفهارس للشيوخ، فمن أراده وقف عليه من هناك إن شاء اللّه تعالى).
$
', '', 63), (14, 64, 'book', 'والاستدلال بهذا التعبير الوارد عن الشيخ في المشيختين يتوقّف على افتراض أنّ مقصود الشيخ ليس هو الحوالة على خصوص فهارس الشيوخ التي يذكر فيها طرقهم إلى أصحاب الكتب و الأُصول، بل هو إشارة بنحو القضيّة الخارجيّة إلى ما يكون من أجلى مصاديقه مشيخة الصدوق، وإن كانت بحسب مدلولها اللفظي مشيخة لخصوص الروايات المذكورة في الفقيه، فإطلاق كلام الشيخ شامل لذلك.
وتقريب ذلك: أنّه لم تكن لدى الأصحاب فهارس موسّعة كي يكون كلام الشيخ إشارة إليها فحسب، ويشهد لذلك أنّ الشيخ أشار في أوّل فهرسته في مقام بيان ما دعاه إلى وضع فهرسته إلى: (عدم سعة فهارس الأصحاب عدا فهرستين لابن الغضائري الحسين بن عبيداللّه: أحدهما فهرست للمصنفات، والآخر فهرست للاُصول، ولكنّهما تعرّضا للتلف). وأمّا (رجال النجاشي) الذي هو فِهْرِسْت من فهارس الأصحاب فهو متأخّر في التأليف عن التهذيب و الاستبصار بدليل أنّه ذكرهما في كتابه عند ترجمة الشيخ؛ إذن في ظرف من هذا القبيل تعتبر مشيخة الصدوق المفصّلة نسبياً من أجلى مصاديق ما يمكن أن تشير إليه إحالة الشيخ في المشيختين الى فهارس الأصحاب رغم أنّ مشيخة الصدوق ليست فهرستاً بالمعنى المصطلح، فإن لم نجزم بظهور من هذا القبيل لم يتمّ هذا الوجه. والإنصاف أنّ الجزم بهذا الظهور في غير محلّه.
وقد يقال: إنّ هذا الإطلاق حتى لو تمّ فهو معارض بقوله: «وقد ذكرنا نحن مستوفىً في كتاب فهرست الشيعة»، فإنّ ظاهر هذا التعبير أنّه ذكر جميع طرقه في فهرسته، فالحديث الضعيف في مشيخته إن وجدنا سنداً صحيحاً له في فهرسته فلا حاجة إلى مراجعة مشيخة الصدوق، وإلّا فمقتضى إخباره باستيفاء طرقه في الفهرست أنّه لايملك طريقاً صحيحاً إليه.
$
', '', 64), (14, 65, 'book', 'قلت: أوّلا ـ إِنّ هذا الظهور لكلمة (مستوفىً) غير معلوم، ولعلّه يعني بذلك: أنّنا ذكرنا ذلك مفصّلا في الفهرست من دون أن يعطي معنى الاستيعاب الكامل.
وثانياً ـ لو فرض تعارض من هذا القبيل في داخل كلامه في مشيخة التهذيب، فهذا يوجب إجمال العبارة في تلك المشيخة، ونرجع إلى عبارته في مشيخة الاستبصار، لأنّها غير مشتملة على مقطع من هذا القبيل، فلا إجمال فيها.
وثالثاً ـ إِنّ الشيخ ذكر في فهرسته طريقه إلى الصدوق، وهذا كاف لرفع التهافت بين الظهورين، فإنّ ذلك ذكر إجمالي لجميع طرق الصدوق الموجودة في مشيخته بعد حملها ـ بقرينة تحويل الشيخ إليها بالإطلاق ـ على أنّها طرق إلى جميع كتب الرواة المذكورين في الفقيه، وإن كان كلامه في مشيخته لايدلّ ـ من باب ضيق التعبير ـ على أزيد من كونها طرقاً إلى خصوص الروايات المذكورة في الفقيه.
وعلى أىّ حال فالإنصاف أنّ هذا الشكل الأخير من التعويض غير صحيح؛ لما قلنا من أنّ مشيخة الفقيه ليست فهرستاً، ولا معنى لفرض شمول إطلاق إرجاع الشيخ إلى الفهارس لها.
هذا تمام الكلام في نظريّة التعويض.
الوجه الثاني ـ من وجوه الإشكال في سند عهد الإمام (عليه السلام) إلى مالك الأشتر: هو وقوع الحسين بن علوان الكلبي في هذا السند، ولادليل على وثاقته عدا ما ورد عن النجاشي من قوله: الحسين بن علوان الكلبي مولاهم كوفي عامّي، وأخوه الحسن يكنى أبامحمد ثقة رويا عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، وليس للحسن كتاب، والحسن أخص بنا وأولى ... .
فبناءً على ما قد يتبادر إلى الذهن بدواً من أنّ قوله: (ثقة) يرجع إلى الحسن لايبقى لدنيا دليل على وثاقة الحسين. أمّا لو استظهرنا رجوع هذه الكلمة إلى الحسين، إمّا بقرينة ورود العبارة في ترجمة الحسين، أو بقرينة أنّه بيّن حال الحسن بعد
', '', 65), (14, 66, 'book', 'ذلك بقوله: (أخصّ بنا وأولى) ارتفع الإشكال، وإلّا فلا.
الوجه الثالث ـ سعد بن طريف أو سعد بن ظريف: حيث اختلف تقييم الشيخ له عن تقييم النجاشي، فذكر الشيخ عنه أنّه صحيح الحديث، وذكر النجاشي عنه أنّه يُعرف و ينكر. ومع التعارض لايبقى دليل على وثاقته، إلّا إذا تبنينا تفسير السيّد الخوئي لعبارة النجاشي من أنّ المقصود أنّ حديثه أحياناً يأتي حديثاً معروفاً، وأُخرى يأتي حديثاً غريباً أي لاتقبله العقول العادية المتعارفة، وهذا لاينافي الوثاقة. إلّا أنّ هذا التفسير قابل للتأمّل، وبالإمكان أيضاً أن يفسّر ذلك بتفسير آخر وهو أنّ هذا الإنسان يعرفه البعض بالوثاقة و مجهول عند البعض الآخر. وعلى أيّ حال فلو فرض إجمال في كلام النجاشي أو شكّ في معناه بقيت شهادة الشيخ بصحّة حديثه حجّة.
الوجه الرابع ـ كون الراوي للعهد هو الأصبغ بن نباتة: حيث لم يرد التصريح بوثاقته، و وروده في كامل الزيارات يفيد على مبنى السيد الخوئي، وليس على مبنانا، ورواية الشيخ الحر في الفائدة السابعة من خاتمة الوسائل (ص 89) توثيقه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لاتفيد، لعدم تمامية سند الرواية. نعم الظاهر أنّ قولهم: إنّ الأصبغ من خاصّة أمير المؤمنين (عليه السلام) كاف لوثاقته.
الوجه الخامس ـ أنّ الشيخ لم ينقل لنا متن عهد الإمام إلى مالك الأشتر، فلا يفيدنا ما ذكره من السند، فإنّ هذا السند سوف لن يثبت لمتن أخذناه من نهج البلاغة ـ مثلا ـ إلّا أن يقال: إنّ قول الشيخ: «أخبرنا بالعهد فلان عن فلان ...» إشارة إلى نفس هذا العهد الذي لم يعرف إلّا بالنسخ المألوفة، فيثبت ما اتفقت عليه النسخ.
دلالة عهد الأشتر:
وأمّا من حيث الدلالة: فكلمة (أفضل) لاتعطي معنى (أعلم) كي يثبت
', '', 66), (14, 67, 'book', 'المقصود، بل تعطي الترجيح من حيث مجموع الجهات، ويشهد بذلك نفس متن العهد أيضاً حيث قال (عليه السلام): «ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممّن لاتضيق به الأُمور، ولاتمحكه الخصوم، ولايتمادى في الزلّة، ولايحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولاتشرف نفسه على طمع، ولايكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشّف الأُمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم ممّن لايزدهيه إطراء، ولايستميله إغراء، وأُولئك قليل ...».
على أنّه لم يعلم كون هذا حكماً شرعيّاً، أوحكماً ولائيّاً نافذ المفعول إلى الآن؛ إذاً الموقف يناسب أيضاً كونه من تعاليمه (عليه السلام) بما هو رئيس الحكومة لمالك الأشتر بما هو منصوب من قبله علىمصر.
هذا تمام الكلام في اشتراط العلم.
 $
شرط البلوغ
الشرط الثاني ـ البلوغ. وقد يتمسّك لإثبات ذلك بما مضى من رواية أبيخديجة حيث جاء فيها: (اُنظروا إلى رجل منكم) فإن فرضنا أنّها ناظرة إلى قاضي التحكيم ثبت شرط البلوغ في القاضي المنصوب بطريق أولى. وإن فرضنا أنّها ناظرة إلى القاضي المنصوب ثبت شرط البلوغ في المنصوب بحيث يقيّدبها إطلاق غيرها لوكان، وذلك لاستظهار كون العبارة في مقام تحديد من سمح بالرجوع إليه، فينفى السماح بالرجوع إلى غير من ذكره.
وقد يستشهد لإثبات اشتراط البلوغ بما دلّ على كون غير البالغ مولّىً عليه، ومحجوراً في التصرفات ولو في الجملة، فمن يكون محجوراً عن التصرف في ماله كيف
', '', 67), (14, 68, 'book', 'لا يكون محجوراً عن القضاء، فيتعدّى إذن إلى باب القضاء إمّا بالأولويّة العرفيّة، أو ببيان أنّ جوّاً تشريعياً قام على أساس محجورية الصغير لا يتمّ فيه الإطلاق لدليل القضاء.
 $
شرط العقل و الرشد و الإسلام
الشرط الثالث و الرابع و الخامس: العقل و الرشد و الإسلام. ولاحاجةللبحث عنها.
 $
شرط الذكورة
الشرط السادس: الذكورة و يستدلّ لها بحديث أبي خديجة. فإن حملناه علىقاضي التحكيم ثبت في المنصوب بطريق أولى، وإن حملناه على القاضي المنصوب ثبت في المنصوب، وقيّدنا به إطلاق المطلق لو كان. وقد يستدلّ أيضاً لا شتراط الرجولة في القضاء بما دلّ على عدم صلاحيّتها لإمامة الجماعة مطلقاً أو للرجال، ومادلّ على عدم كون قيمة شهادتها كشهادة الرجل: إمّا بدعوى أنّ هذا يدلّ بالأولوية على اشتراط الرجولة في القضاء، أو بدعوى أنّ جوّاً تشريعيّاً من هذا القبيل يمنع عن انعقاد الإطلاق في دليل القضاء للمرأة.وقد يستدلّ أيضاً بالآيات الدالّة على نقصان مستوى المرأة: كآيات ذمّ من افترض أنّ اللّه ـ تعالى ـ اصطفى لنفسه البنات على البنين، وبالأخصّ قوله
', '', 68), (14, 69, 'book', 'ـ تعالى ـ: ﴿أو من يُنَشؤُا في الحلية وهو في الخصام غير مبين﴾(1) إمّا بدعوى دلالتها رأساً على عدم كون المرأة بمستوى إعطاء منصب القضاء، أو بدعوى أنّ جوّاً تشريعياً من هذا القبيل يمنع عن انعقاد الإطلاق في دليل القضاء.وتوجد أيضاً رواية دالّة على عدم تولّي المرأة للقضاء(2) إلّا أنّها ضعيفة سنداً.حقوق المرأة في الإسلام:وبهذه المناسبة لابأس ببحث الشبهة التي قد تورد على الإسلام من أنّه دينمتخلّف عن الحضارة المترقّية اليوم، ويناسب مستوى فهم العصور القديمة المتخلّفة ممّا يشهد لعدم كونه ديناً سماويّاً حقّاً، وذلك لأنّه قد ظلم المرأة في القضايا الاجتماعية، ولم يعطها حقّها، وحرمها من كثير من الأُمور من قبيل منصب القضاء.والمقدار المناسب من البحث للمقام و إن كان هو قسم القضاء، إلّا أنّه لابأس بشيء من التوسّع كي يكون البحث متكاملا شيئاً مّا.فنقول: قد يقال من قبل أعداء الإسلام، إنّ الإسلام قد ظلم المرأة في حقوقها الاجتماعية في عدّة حقول: 1 - أنّه حرمها من بعض المناصب، وجعل تلك المناصب من امتيازات الرجال من قبيل منصب القضاء، والإمرة، ومدى قيمة شهادتها. 2 - أنّه ظلمها في الحقل الاقتصادي؛ كما يظهر في باب الإرث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1) الزخرف: الآية 18.(2) الوسائل، ج 18، ب 2 من صفات القاضي، الحديث الوحيد في الباب، ص 6.
', '', 69), (14, 70, 'book', '3 - أنّه لم ينصفها في حقل الوداد و الوفاء حيث سمح للزوج بتعديد الزوجات، ولم يسمح لها بتعديد الأزواج، فلو فرض كون ذلك خلاف مراسيم الوداد و الحبّ و الوفاء فلماذا تحرم المرأة من هذه المراسيم، ويسمح للزوج بتعديد الزوجات، وإلّا فلماذا تمنع المرأة من تعديد الأزواج؟!.4 - وظلمها أيضاً في مجال الحرّيّة الشخصية حيث قيّدها بالحجاب من ناحية، وجعل الرجال قوّامين على النساء من ناحية اُخرى.5 - وقد يكون أشدّ من كلّ هذا أنّ الإسلام لم يعتبرها في حقّ الحياة والسلامة بمستوى الرجل بدليل أنّه جعل ديتها حينما تصل إلى مستوىً معين نصف دية الرجل وقبل أن ندخل في تفصيل الجواب عن كلّ واحد من هذه الإشكالات تباعاً نذكر مقدّمةً ما يجعل موقفنا كمسلمين موقف الهجوم أيضاً على مدرسة الغرب، وليس موقف الدفاع محضاً. فنقول: إنّ النظرة الأساسية إلى المرأة التي يجب أنّ تتفرّع عليها كلّ هذه الفروع و أمثالها هي إحدى نظرات ثلاث: الاُولى ـ نظرة الجاهليّة الاُولى إليها التي كانت متعارفة في البيئة التي كان منها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وهي أن تعدّ بمستوى الحيوانات أو أتعس، ولاتعدّ في صفوف الإنسان، وقد نطق بحكاية ذلك القرآن الكريم كما في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وإذا بُشّر أحدُهُم بالأُنثى ظلّ وجهُه مُسودّاً وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به أيُمسِكُهُ على هُوْن أم يدُسُّه في التُّراب﴾(1)، وقوله ـ تعالى ـ: ﴿وإذا المؤودةُ سُئِلت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1) النحل: الآية 58، 59.
', '', 70), (14, 71, 'book', 'بأىِّ ذنب قُتِلت﴾(1).الثانية ـ نظرة الجاهلية اليوم التي تدّعي أنّها ترى المرأة إنساناً كالرجل، فهي من ناحية تفترض أنّها ترى المرأة في عرض الرجل و مثله في الإنسانية، ومن ناحية أُخرى تغفل أو تتغافل عن الفوارق الفسلجية و السيكولوجية الثابتة فيما بينهما.الثالثة ـ نظرة الإسلام، فالإسلام يرى من ناحية أنّ المرأة في عرض الرجل ومثله في الإنسانية، ومن ناحية أُخرى لايُغفِل الفوارق الفسلجية والسيكولوجيّة الثابتة - بحسب طبيعة الخلقة ـ فيما بينهما، كغلبة الجانب العقلي على الجانب العاطفي في الرجل، وغلبة الجانب العاطفي على الجانب العقلي في المرأة، وقوّة الرجل بنيةً وقدرةً على الصمود في خضّم مشاكل الحياة، وضعف المرأة في ذلك، وكون المرأة مثاراً للشهوة أكثر من الرجل و غير ذلك.ولئن فرضنا صدق صاحب النظرة الثانية في دعواه للإيمان بالمساواة بينهما في الإنسانية وحقوقها ـ وهذا تماماً هو ما يؤمن به الإسلام، فغفلته عن أمر واقع ـ وهو الفوارق الفسلجية و السيكولوجية الثابتة بينهما بحسب الخلقة - أو تغافله عن ذلك أو جبت أن يصل في النتائج الخارجيّة إلى العكس ممّا كان يفترض تقصّده من إسعاد المرأة، و إعطائها الحقوق الطبيعية لها في عرض الرجل، فقد أدّت هذه النظرة إلى دمار وضع المرأة، و تردّي الحالة النفسيّة و الأخلاقيّة بشكل عامّ.وتوضيح ذلك: أنّ الإسلام يرى أنّ المجتمع السعيد ـ بلحاظ الحياة الدنيا، وبغضّ النظر عن مسألة الآخرة ـ هو المجتمع المبني من وحدات صغيرة عائليّة متماسكة، وذلك بنكتتين:الاُولى ـ أنّ النظام العائلي هو النظام الأنجح في تأمين مايحتاج إليه الإنسان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1) التكوير: الآية 8 و 9.
', '', 71), (14, 72, 'book', 'من استقرار الحياة و نظمها بأحسن وجه.والثانية ـ أنّ النفس البشريّة بحاجة إلى مسألة الحبّ و الوداد و العطف والرحمة، كما هي بحاجة إلى الخبز و الماء، فإنّ من أهمّ حاجات الإنسان الروحيّة الفطريّة أن يتبادل الحب، وأن يقيم علاقة الودّ و التعاطف مع آخرين، والطفل بطبيعته الروحية يحتاج إلى من ينظر إليه بعين الرأفة، ويلاطفه بعين المحبّة، ويداعبه بيد العطف والرحمة، و المرأة تحسّ بالحاجة الروحية الماسّة إلى جذب عواطف الرجل، وامتلاك قلبه، والرجل بحاجة روحيّاً إلى ريحانة يحبّها وينشىء معها علاقة الودّ و الرعاية إلى جنب العلاقة الجنسيّة، ومجرّد العلاقة الجنسيّة لايشبع إلّا حاجته الجسميّة، ويبقى جانبه الروحي غير مرتو، ولذا تراهم يريدون أن يشبعوا هذه الحاجة ـ بعد فقدهم للنظام العائلي بشكله الصحيح الإسلامي ـ عن طريق تبادل العشق، قال اللّه تعالى: ﴿ومن آياته أن خلق من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مؤدّة و رحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون﴾(1).وبما أنّ نظام الغرب أغفل الفوارق الطبيعية الموجودة في خلقة الجنسين أدّى ذلك إلى تمييع النظام العائلي، و تفسيخ أواصر المحبّة في أفراد العائلة، كما هو مشاهد في المجتمع الغربي، وذلك بنكتتين: 1 - حاجة الوحدة العائلية إلى قيّم يشرف عليها، وينظّم أمرها بنوع من الولاية، بينما قد فرض الرجل و المرأة على حدّ سواء، وهذا يُفقد الوضع العائلي حالة التماسك التي تحدث ضمن تنظيم الأمر عن طريق الولّي المشرف. 2 - رفع الحجاب عن المرأة التي هي مثار للشهوة بحجّة الحرّيّة الشخصيّة ممّا أوجب تفسخ الوضع العائلي بشكل كامل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1) الروم: الآية 21.
', '', 72), (14, 73, 'book', 'وبكل هذا قد فقد المجتمع الغربي نعمة الحبّ والوداد الحقيقي فيما بين الأفراد، وحلّ محلّ ذلك التفسخ الأخلاقي والنظرة الحيوانية البحتة في الحياة.بينما الإسلام لاحظ من ناحية أنّ المرأة كالرجل سواء بسواء في الإنسانية، فجعل يخاطبهما بنسق واحد، قال اللّه تعالى: ﴿فاستجاب لهم ربهم أنّي لا اُضيع عمل عامل منكم من ذكر أوأُنثى﴾(1)، وقال تعالى: ﴿إنّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدّقين والمتصدّقات والصائمين الصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين اللّه كثيراً والذاكرات أعدّ لهم مغفرة وأجراً عظيماً﴾(2). وقال تعالى: ﴿وإذا المؤودة سئلت بأيّ ذنب قتلت﴾(3).
ولاحظ من ناحية أُخرى أنّها تختلف عن الرجل في الخلقة في مدى القوة والضعف، ومدى غلبة الجانب العقلي أو العاطفي على الجانب الآخر، وغير ذلك. قال اللّه تعالى: ﴿أو من يُنَشؤُا في الحلية وهو في الخصام غير مبين﴾(4)، وقال تعالى: ﴿الرجال قوّامون على النساء بما فضّل اللّه بعضهم على بعض وبما أنفقوا﴾(5). وفي وصية أميرالمؤمنين (عليه السلام) لولده محمّد بن الحنفية بسند غير تامّ: (لا تملك المرأة من الأمر مايجاوز نفَسها، فإنّ ذلك أنعم لحالها وأرخى لبالها وأدوم لجمالها، فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فدارِها على كلّ حال، وأحسن الصحبة لها ليصفو
', '(1) آل عمران: الآية 195.
(2) الاحزاب: الآية 35.
(3) التكوير: الآية 8 و 9.
(4) الزخرف: الآية 18.
(5) النساء: الآية 34.
', 73), (14, 74, 'book', '
عيشك)(1).
وقد أسّس الإسلام كلّ تشريعاته بالنسبة للمرأة على أساس التفاته إلى هاتين النكتتين، أعني كون المرأة مساوية للرجل في الإنسانية، وحقوق الإنسانية من ناحية، وكونها مختلفة عنه في الخلقة سيكولوجياً وفيسيولوجيّاً من ناحية أُخرى.
والآن نبدأ بالجواب على الاعتراضات الماضية تباعاً:
أمّا الاعتراض الأوّل ـ وهو حرمانها من بعض المناصب كالقضاء: فالإسلام ينطلق من منطلق الإيمان بالفرق الموجود بين الجنسين في الخلقة وضعفها عن مقاومة الضغوط والمشاكل من ناحية، وغلبة الجانب العاطفي على الجانب العقلي فيها من ناحية أُخرى. ومن هذا المنطلق حرمها من بعض المناصب كالقضاء، وأعفاها أيضاً بالمقابل ـ منطلقاً من نفس النكتة ـ عن بعض المسؤوليات والأعباء كالجهاد. بل في رؤية الإسلام يرجع كلّ هذا إلى الإعفاء عن المسؤوليّات والأعباء، لأنّ من يتربّى بتربية الإسلام لاينظر إلى منصب القضاء ونحوه كمغنم، وليست أمثال هذه الأُمور في منطق الإسلام مغانم، بل ينظر إليها كمسؤوليّة وأمانة.
وأمّا الاعتراض الثاني ـ وهو ظلمها من الناحية الاقتصادية في مسألة الإرث، فازدياد حصّة الذكر في الغالب على الأُنثى في منطق الإسلام يوازي كون الرجل هو الذي يتحمّل عبء العائلة الاقتصادي دون المرأة.
وأمّا الاعتراض الثالث ـ وهو السماح بتعدّد الزوجات للرجل وعدم السماح بتعدّد الأزواج للمرأة فالواقع أنّ ملاك رفض التعدّد المشترك بين الجانبين يمكن أن يكون أحد أُمور ثلاثة:
$
', '(1) الوسائل، ج 14، ب 87 من ابواب مقدمات النكاح، ح 3، ص 120.
', 74), (14, 75, 'book', '
1 ـ الغيرة.
2 - الحسد.
3 - أنّ اللّه لم يجعل لرجل في جوفه من قلبين، فاتّخاذ زوجة أُخرى يوزّع قلب الرجل ومودّته بين الزوجتين، وهذا خلاف الوفاء بشأن الزوجة الاُولى.
أمّا الغيرة - فالواقع أنّها ليست شيئاً أصيلا في طبيعة الإنسان وثابتاً قبل القوانين والعادات؛ كي يترقّب تأثيرها على كيفيّة تشريع القوانين، بل هي وليدة للنظم والقوانين والعادات، وقد شاء نظام الإسلام أن يحرّم الغيرة على النساء، ويوجبها على الرجال للنكتة الآتية.
وأمّا الحسد ـ فهو محارب من أساسه من قبل الإسلام باعتبار قبحه العقلي من ناحية، ومفاسده الاجتماعية من ناحية أُخرى، فلا معنى لترتيب أثر على ذلك في المقام.
وأمّا الأمر الثالث ـ وهو أنّ القلب لا يمتلكه اثنان، وأنّه إذا وزّع الودّ على شخصين قلّت حصّة كلٍّ منهما عمّالو اختصّ القلب بأحدهما - فما أروع النقض الذي أورده المرحوم الشهيد الشيخ المطهري (رحمه الله)، وهو النقض بما هو محسوس ومجرّب من أنّ الإنسان المحبّ لولده والغارق في حبه حينما يحصل على ولد آخر يشعر بحبه كالأوّل من دون أن ينقص من الأول شيء.
والواقع أنّ النكتة التي أو جبت حرمة تعدّد الأزواج للمرأة، وجواز تعدّد الزوجات للرجل، وأوجبت الغيرة على الرجل وحرّمتها على النساء هي أنّه بعد أنْ رأى الإسلام أنّ حياة المجتمع ترتبط بمدى استحكام وتماسك بنية الوحدة العائلية، ورأى أنّ هذا التماسك في بنيتها يتوقّف على قوّاميّة الرجل كما سيأتي إن شاء اللّه رأى أنّ تعدّد القيّم بتعدّد الزوج يفسد وحدة وتماسك البنية العائلية، بينما لو اتّحد القيّم فتعدّد العائلة لايوجب مفسدة من هذا القبيل، بل هذا القيّم الواحد يبني وحدتين عائليّتين
', '', 75), (14, 76, 'book', 'من هذا القبيل، وكلّ منهما بحدّ ذاته وحدة متماسكة، على أنّ اختلاط النسل في موارد ثبوت النسل أيضاً يضر بتماسك بنية الوحدة العائلية ضرراً كبيراً كما هو واضح.
وأمّا الاعتراض الرابع ـ وهو سلب حرّيّة المرأة في مسألة الحجاب، وفي قوامية الرجال على النساء ـ: فالجواب عن مسألة الحجاب واضح ممّا تقدم، فإنّ الحجاب مبتن على الفرق الفسلجي الموجود بين الجنسين من كون المرأة مثاراً للشهوة؛ إذ على أساس ذلك يكون رفع الحجاب موجباً لارتباط الزوج برفيقات، وارتباط الزوجة برفاق ممّا يُنهي تماسك الحياة العائلية الذي قلنا أنّه هو أساس سعادة المجتمع في نظر الإسلام.
كما أنّ الجواب عن القوّاميّة أيضاً واضح ممّا تقدّم، وبيانه هو: أنّ القوّاميّه ليست ثابتة في الإسلام لجنس الذكر على جنس الأُنثى ولذا الاقواميّة للأخ على الأُخت مثلا، وإنّما هي ثابتة في خصوص الحياة العائلية للزوج على الزوجة، ومنشأ ذلك مجموع أمرين:
الأوّل ـ أنّ تماسك الوحدة العائلية الذي هو أساس سعادة المجتمع في نظر الإسلام يتوقّف على وجود قيّم واحد عليها.
والثاني ـ أنّ الرجل هو الأوْلى بالقيمومة لما له من امتياز فسلجي وسيكولوجي في القوّة والصمود في خضم المشاكل، وفي غلبة جانب العقل والحنكة فيه على جانب العاطفة بخلاف المرأة.
وأمّا الاعتراض الخامس ـ وهو أنّ الإسلام افترضها أقلّ شأناً من الرجل في حقّ الحياة والسلامة بدليل نقصان ديتها من دية الرجل، فالجواب على ذلك هو أنّ الحكم بنقصان ديتها من دية الرجل لاينشأ من كون حقّ الحياة والسلامة لها أخفّ من حقّ الرجل ودون حقّ الرجل، بل ينشأ من نظرة اقتصادية للإسلام إلى الرجل والمرأة؛ حيث إنّ الرجل كمنتج اقتصادي أقوى من المرأة بلحاظ الفوارق
', '', 76), (14, 77, 'book', 'الفسلجية والسيكولوجية بينهما. والذي يدلّنا على ذلك أنّ الإسلام أعطى للمرأة حقّ القصاص كاملا من الرجل مع دفعها لنصف الدية، ولم يحرمها من القصاص بأن يفرض عليها التنزّل منه إلى نصف الديّة، وهذا يعني أنّ النكتة في باب الدية لم تكن تكمن في حقّ الحياة والسلامة، بل كانت تكمن في الجانب الاقتصاديّ، فالرجل اقتصاديّاً يقوّم بأكثر ممّا تقوّم المرأة به للفوارق الفسلجية والسيكولوجية بينهما، أمّا بما هما إنسانان يستحقّان الحياة والسلامة فهما سيّان. ولذاترى أنّ الذمّي الذي ديته أقلّ من المسلم بنكتة اعتباره أقلّ مستوىً في حقّ الحياة والسلامة من المسلم حينما يقتله المسلم أو يجني عليه لا يسمح له بالقصاص ودفع الفارق من الدية، بل ينتقل رأساً إلى تغريم المسلم بدية الذمّي التي هي أقل من دية المسلم.
هذا، ولا يخفى أنّ كلّ ماذكرناه وأمثاله كمصالح وحكم للتشريعات الإسلامية إنّما هو مبلغ فهمنا وحدسنا، واقناعاً لبعض قطاعات الناس، والواقع هو أنّ الشريعة الإسلامية وأحكامها تقبل تعبّداً من قبل المشرّع بعد إثبات اللّه، والنبوة، والكتاب، والسنة، ببراهين عقلية؛ علماً بأنّ البشر لا يعرف ما يصلحه عمّا يفسده بالشكل الذي يعرفه خالقه و باريه وخالق العالم والكون أجمع.
 $
شرط طهارة المولد
الشرط السابع ـ طهارة المولد. ويدلّ عليه مادلّ على عدم صلاحيّته للإمامةفي الجماعة ولا الشهادة، إمّا بالأولويّة، أو بصنع جوّ تشريعي يمنع عن انعقاد الإطلاق في دليل القضاء.
 $
 $
$
', '', 77), (14, 78, 'book', 'شرط الإيمان
الشرط الثامن ـ الإيمان. وتدلّ عليه مقبولة عمر بن حنظلة(1)، ورواية أبيخديجة(2)، وأقصد بذلك التمسّك بما في ذيل الحديثين من قوله: «ينظران من كان منكم ...»، وقوله: «انظروا إلى رجل منكم ...». ويكفي أيضاً لإثبات شرط الإيمان بمعنى دخله في نفوذ الحكم ما دلّ على عدم صحّة الائتمام بغير المؤمن، وذلك بأحد التقريبين الماضيين من الأولويّة، أو صنع جوّ تشريعي يمنع عن انعقاد الإطلاق في دليل القضاء.
وأمّا صدر المقبولة ورواية أبي خديجة، فلا علاقة لهما بشرط الإيمان بالذات، بل يدلاّن على النهي التكليفي عن الترافع لدى طاغوت الزمان وأعوانه، والنهي التكليفي يدلّ بالالتزام العرفي على عدم نفوذ الحكم، بل مقبولة عمر بن حنظلة صريحة في عدم النفوذ، بل عدم جواز أخذ حقّه ـ رغم كونه حقّاً ـ عن طريق حكم الحاكم الجائر.
والحاصل أنّ صدر الروايتين أجنبيّ عمّا نحن فيه، ويدلّ على شرط آخر سنشير إليه في الشرط التاسع.
 $
 $
 $
$
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 1، ص 99.
(2) الوسائل، ج 18، ب 1 من صفات القاضي، ح 5، ص 4.
', 78), (14, 79, 'book', '
شرط عدم كونه طاغوتاً
الشرط التاسع: أن لايكون مصداقاً لسلطان الجور وأياديه ولو فرضشيعياً، وذلك تمسّكاً بإطلاق النهي الوارد عن التحاكم إلى الطاغوت الدالّ على الحرمة التكليفيّة، وعلى عدم النفوذ بالملازمة ـ كما أشرنا إليه في آخر الشرط الثامن ـ وكون مورد صدور الروايات خصوص غير الشيعي لا يمنعنا عن فهم الإطلاق. كما لا يبعد فهم الإطلاق من قوله ـ تعالى ـ: ﴿ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم أمنوا بما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروابه ...﴾(1). وإن أمكن الدغدغة في إطلاقها بأنّ الآية بصدد التنكيل ببعض الناس بنحو القضية الخارجيّة ولم تكن ابتداءً في مقام بيان تحريم التحاكم إلى الطاغوت بحيث يتمّ فيها الإطلاق في موارد الشكّ.
إلّا أنّ الجواب عن هذه الدغدغة هو أنّ تعليق الحكم على الطاغوت ينافي تخصيص الحكم بغير الشيعي؛ لأنّ هذا إلغاء لعنوان الطاغوت ومصير الى عنوان آخر لاتقييد بقيد إضافي كي تحتاج إلى الإطلاق بمعنى مقدّمات الحكمة، كي يستشكل فيه بما ذكر.
وعلى أيّ حال فلا ينبغي الإشكال في ثبوت هذا الشرط، ولافي حرمة الترافع إلى الطاغوت وأياديه تكليفياً في الجملة.
 $
 $
$
', '(1) النساء: الآية 60.
', 79), (14, 80, 'book', '
الترافع إلى الطاغوت لإنقاذ الحق:
لكن يقع الكلام في جواز أو حرمة الترافع إليهم بدافع انقاذ الحقّ عند العجزعن الترافع إلى حاكم العدل.
فمقتضى إطلاق بعض الروايات كالمقبولة ورواية أبي خديجة عدم الجواز، وإن كان بعضها الآخر وارداً في خصوص فرض إمكانية الرجوع إلى حاكم العدل، كرواية أبي بصير(1) ـ التامّة ببعض أسانيدها بناءً على تمامية أبي بصير، ورواية أبي بصير(2) ـ الضعيفة سنداً بعبد اللّه بن بحر. وسيأتي ذكرهما قريباً.
وهناك وجوه لإثبات جواز الرجوع إلى قاضي الجور لأجل إنقاذ الحقّ عند عدم إمكانيّة الترافع إلى حاكم العدل:
الوجه الأوّل ـ التمسّك ببعض الروايات التالية:
1 - مارواه عطاء بن السائب عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «إذاكنتم في أئمة جور فامْضوا(3) في أحكامهم ولا تشهروا أنفسكم فتقتلوا، وإن تعاملتم بأحكامنا كان خيراً لكم»(4). وإطلاقه لفرض إمكان الترافع إلى قاضي العدل يعالج بما سيأتي إن شاء اللّه من ذيل الرواية الثالثة الواردة في خصوص فرض إمكانيّة الترافع. إلّا أنّ سند هذا الحديث ضعيف، فإنّ عطاء بن السائب لم يوثق على
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 1 من صفات القاضي، ح 2.
(2) الوسائل، ج 18، ب 1 من صفات القاضي، ح 3.
(3) هكذا في التهذيب الطبعة الجديدة. أمّا في الوسائل الطبعة الجديدة والفقيه الطبعة الجديدة فقد ورد: (فاقضوا). والظاهر أنّ الصحيح هو نسخة التهذيب.
(4) الوسائل، ج 18، ب 1 من صفات القاضي، ح 7، ص 5، وب 11 من آداب القاضي، ح 2، ص 165.
', 80), (14, 81, 'book', '
أنّ هذا الحديث: تارةً ذكر في الفقيه(1) عن عطاء بن السائب، وسند الصدوق إلى عطاء بن السائب غير تامّ، فإنّ سنده عبارة عن الحسين بن أحمد بن إدريس عن أبيه عن محمّد بن أبي الصهبان عن أبي أحمد محمد بن زياد الأزدي عن أبان الأحمر عن عطاء بن السائب، بينما الحسين بن أحمد بن إدريس لم يرد توثيق بشأنه. وأُخرى في التهذيب(2) عن محمّد بن عليّ بن محبوب عن محمد بن إسماعيل بن بزيغ عن صالح بن عقبة عن عمرو بن أبي المقدام عن عطاء بن السائب، و صالح بن عقبة - سواء أُريد به صالح بن عقبة بن قيس بن سمعان كما هو الظاهر بقرينة رواية ابن بزيع عنه، أو اُريد به صالح بن عقبة بن خالد الأسدي - لم يوثق، وضعّف ابن الغضائري الأوّل بقوله: «غال كذّاب، لايلتفت إليه»، وإن كان لايلتفت إلى تضعيفه. وثالثة في التهذيب(3) بسنده عن سعد بن عبداللّه عن محمّد بن الحسين عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن صالح بن عقبة عن عمرو بن أبي المقدام عن عطاء بن السائب، وهذا أيضاً كما ترى مبتلىً بوجود صالح بن عقبة. ورابعة رواه الصدوق في العلل ـ على ما في الوسائل(4)- عن أبيه عن سعد عن عمرو بن أبي المقدام، إلّا أنّ لقاء سعد لعمرو بن أبي المقدام غير معقول، فالسند مبتلىً بالإرسال، على أنّ الرواية من حيث الدلالة أجنبيّة عن المقام، فإنّها ظاهرة في المماشاة معهم في الأحكام تقيّة.
2 - ما رواه الشيخ بسنده إلى أحمد بن محمد بن عيسى عن عليّ بن مهزيار عن علىّ بن محمد قال: «سألته هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذوه منّا في
', '(1) ج 3، ح 3، ص 3.
(2) ج 6، ح 536، ص 224.
(3) ج 6، ح 540، ص 325.
(4) الوسائل، الجزء 18، الباب 11 من آداب القاضي، ذيل الحديث 2.
', 81), (14, 82, 'book', '
أحكامهم؟ فكتب (عليه السلام): يجوز لكم ذلك إن شاء اللّه إذا كان مذهبكم فيه التقيّة منهم والمداراة لهم»(1). وأظنّ أنّ المقصود بعليّ بن محمد هو الهادي (عليه السلام) الذي كان عليّ بن مهزيار من أصحابه، لاأنّه راو روى لعليّ بن مهزيار عن الإمام (عليه السلام)، وعليه فالسند من أحمد بن محمّد بن عيسى إلى الإمام (عليه السلام) تامّ، ولكن يبقى الضعف الموجود في بعض أسانيد الشيخ إلى أحمد بن محمّد بن عيسى حيث نحتمل كون هذا الحديث بالسند الضعيف، إلّا أنّ هذا معالج بنظرية التعويض. وأمّا من حيث الدلالة، فهذه أيضاً أجنبية عن المقام، حيث إنّ ظاهرها السؤال عن أن نأخذ منهم وفق فقههم ما يأخذونه منّاكما في الشفعة بالجوار والعصبة ـ على حدّ تعبير صاحب الجواهر(رحمه الله)(2) ـ على أنّ الحديث غير مختصّ بفرض عدم إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل، إلّا أنّ هذا سيعالج إن شاء اللّه بما سيأتي في ذيل الرواية الثالثة.
3 - ما عن عليّ بن فضّال بسند تامّ قال: «قرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني (عليه السلام) وقرأته بخطه سأله ما تفسير قوله تعالى: ﴿ولاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكّام﴾؟ فكتب بخطّه: الحكّام القضاة، ثمّ كتب تحته هو أن يعلم الرجل أنّه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي قد حكم له إذا كان قد علم أنّه ظالم»(3). فيدلّ بالمفهوم على أنّه إذا لم يكن قد علم أنّه ظالم فهو معذور في أخذه لحقّه عن هذا الطريق، وهذا الكلام يدلّ عرفاً على جواز الترافع عنده.
$
', '(1) الوسائل ج 18، باب 11 من آداب القاضي، ح 1، ص 165.
(2) جواهر الكلام، ج 40، ص 35.
(3) الوسائل، ج 18، ب 1 من صفات القاضي، ح 9، ص 5. وأمّا الاية الكريمة فهي في سورة البقرة الآية 188، وتتمة الآية كمايلي: ﴿لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم و أنتم تعلمون﴾.
', 82), (14, 83, 'book', '
إلّا أنّه قد يقال: لم يعلم كون المقصود من ذلك هو قاضي الجور.
وقد يجاب على ذلك بأنّنا نثبت كون المقصود من ذلك قاضي الجور بقرينة رواية أُخرى حملت الحكّام في الآية الشريفة على قضاة الجور، وهي ما عن أبي بصير «قال: قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): قول اللّه ـ عزّ و جلّ ـ في كتابه: ﴿ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكّام﴾. فقال: يا أبابصير إنّ اللّه ـ عزّ وجلّ ـ قد علم أنّ في الاُمّة حكّاماً يجورون. أما إنّه لم يعن حكّام أهل العدل، ولكنّه عنى حكّام أهل الجور. يا أبا محمّد إنّه لو كان لك على رجل حقّ فدعوته إلى حكّام أهل العدل فأبى عليك إلّا أن يرافعك إلى حكّام أهل الجور ليقضوا له لكان ممّن حاكم إلى الطاغوت، وهو قول اللّه - عز وجلّ -: ﴿ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت﴾»(1).
هذا. وقد يقال: إنّ رواية ابن فضّال بعد حمل الحكّام في الآية بقرينة رواية أبي بصير على حكّام الجور تصبح معارضة للروايات الناهية عن الترافع عند حكّام الجور بالتباين، وليست خاصّة بصورة عدم إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل كي تخصّص روايات النهي بها، فلا يبقى فرق بين فرض إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل و عدمها، وكذلك الحال في الروايتين السابقتين، فغاية ما يفترض فيهما هي الدلالة على جواز الترافع عند حكّام الجور من دون وجود ما يدلّ على اختصاصهما بصورة عدم إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل، فلا موجب لتخصيص النهي بهما، ولامبرر للتفصيل بين فرض إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل و عدمها.
والجواب: أنّ بعض روايات النهي عن الترافع إلى قاضي الجور خاصّة بصورة إمكان الرجوع إلى قاضي العدل، كنفس رواية أبي بصير التي جعلناها قرينة
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 1 من صفات القاضي، ح 3، ص 3.
', 83), (14, 84, 'book', '
على حمل الحكّام في الآية على حكّام الجور، و كرواية أبي بصير الأُخرى عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال في رجل كان بينه و بين أخ له مماراة في حقّ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه و بينه، فأبى إلّا أن يرافعه إلى هؤلاء: (كان بمنزلة الذين قال اللّه عز وجل: ﴿ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أُنزل إليك و ماأُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به﴾الآية)(1).
فإمّا أن نبني على قاعدة انقلاب النسبة، ونقيّد رواية ابن فضّال و الروايتين السابقتين بما دلّ على النهي عن الترافع عند قضاة الجور مع إمكانيّة الترافع عند قضاة العدل، فتخصّ هذه الروايات بصورة عدم إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل، ثمّ نقيّد روايات المنع المطلق عن الترافع إلى قاضي الجور بهذه الروايات.
وإمّا أن لانبني على قاعدة انقلاب النسبة، فنقول بأنّ روايات المنع المطلق تعارضت مع هذه الروايات، وبعد التساقط رجعنا إلى روايات المنع المختصّة بفرض إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل، ويبقى الرجوع إلى قاضي الجور بهدف استنقاذ الحقّ عند العجز عن الرجوع إلى قاضي العدل باقياً تحت أصالة الجواز، فإنّ كلامنا هنا في الجواز وعدمه، لا في النفوذ و عدم النفوذ حتى تجري أصالة عدم النفوذ لاأصالة البراءة.
هذا وقد يقال في إبطال التمسّك برواية ابن فضّال لإثبات جواز الرجوع إلى قاضي الجور: إنّ ضعف سند رواية أبي بصير التي جعلناها قرينة على حمل الحكّام في الآية على حكّام الجور بعبداللّه بن بحر الواقع في سند هذا الحديث يجعلنا لا نملك دليلا على كون النظر في رواية ابن فضّال إلى حكّام الجور، فلعلّ المقصود من رواية ابن فضّال مجرّد تحريم العمل من قبل المحكوم له بحكم القاضي لو علم بينه و بين اللّه
', '(1) نفس المصدر في نفس الصفحة، ح 2.
', 84), (14, 85, 'book', '
أنّه ليس هو على حقّ، وأنّ خصمه هو المحقّ وهذا ممّا لاغبار عليه، ولاعلاقة له بما نحن بصدده.
إلّا أنّ الصحيح هو أنّ حمل الحكّام في الآية الشريفة على حكّام الجور ليس بحاجة إلى الاستشهاد له برواية أبي بصير حتى يردّ ذلك بضعف سند تلك الرواية، بل الآية في نفسها واضحة في إرداة حكّام الجور؛ لأنّ الآية بصدد النهي عن الإدلاء بالأموال إلى الحكّام، ومن الواضح أنّ أخذ الرشا إنّما هو شأن حكّام الجور دون حكّام العدل.
ومع هذا فقد يقال: إنّ رواية ابن فضّال لا تغنينا شيئاً في المقام، فإنّها مشتملة على فقرتين:
الاُولى: قوله: «الحكّام القضاة» وهذا راجع إلى تفسير قوله ـ تعالى ـ: ﴿وتدلوا بها إلى الحكّام﴾.
والثانية: قوله: «هو أن يعلم الرجل أنّه ظالم، فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي قد حكم له إذا كان قد علم أنّه ظالم»، وهذا لا علاقة له بقوله: ﴿تدلوا بها إلى الحكّام﴾، وإنّما هو راجع إلى قوله ـ تعالى ـ: ﴿لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾، فهذا يعني أنّالأكل بالباطل يكون من قبيل أنّ القاضي يحكم لصالح أحد المتخاصمين، وهو يعلم أنّه على باطل، وأنّ خصمه على حقّ، فيعمل بحكم القاضي، فهذا غير جائز، وهذا واضح لاشكّ فيه، ولم يؤخذ في موضوعه فرض كون القاضي جائراً. إلّا إذا استُظهِر أنّ المراد بالقاضي هو المراد من كلمة الحكّام في الآية الشريفة.
4 - روايات جواز تغيير الشهادة أمام حاكم الجور بالشكل الذي يُقنعه
', '', 85), (14, 86, 'book', 'بالقضاء الحقّ(1)، فلولا جواز المرافعة إلى حاكم الجور في الجملة لما كان موضوع لمسألة الشهادة أمامه بشيء من التغيير.
والجواب ـ بغضّ النظر عن ضعف سندها و ابتلائها بالمعارض(2) الذي ينهى عن التدليس حتى أمام محكمة الجور، وإن كان المعارض أيضاً ضعيفاً ـ: أنّ هذه الروايات قد فرض فيها أصل المرافعة أمام قاضي الجور مفروغاً عنه، فلعلّها كانت في مورد العسر و الحرج، أو في مورد كان الرفع إلى القاضي من قبل الطرف الآخر الذي هو غير ملتزم بحكم الشريعة بحرمة الرفع إلى قاضي الجور، فأصبح الطرف المقابل أمام أمر واقع، ووصلت النوبة إلى الشهادة و إلى التغيير في الشهادة لأجل إحقاق الحقّ.
الوجه الثاني ـ هو النقاش في أصل فرضيّة إطلاق يدلّ على النهي عن الترافع إلى قاضي الجور، ولو مع العجز عن الترافع إلى قاضي العدل، فإنّ روايات النهي عن ذلك بعضها صريح في الاختصاص بصورة إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل كروايتي أبي بصير الماضيتين، وبعضها الآخر لاتوجد فيه صراحة من هذا القبيل كمقبولة عمر بن حنظلة و رواية أبي خديجة، ولكن قد ذكر فيها فور النهي عن التحاكم عند قضاة الجور الإرشاد إلى التحاكم عند قضاة العدل ممّا قد يصلح للقرينيّة على عدم الإطلاق لفرض عدم إمكانيّة الرجوع إلى قاضي العدل، فإذا لم يتّم الإطلاق رجعنا إلى أصالة الجواز، فإنّ كلامنا في جواز الرجوع إلى قاضي الجور لاستنقاذ الحقّ، لافي نفوذ قضائه.
الّا أنّه قد يقال: لئن لم يتّم إطلاق في الروايات لتحريم التحاكم عند قاضي
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 4 من الشهادات، ص 230 و 231.
(2) الوسائل، ج 18، ب 18 من الشهادات، ح 1، ص 247.
', 86), (14, 87, 'book', '
الجور حينما نعجز عن الرجوع إلى قاضي العدل، فإنّنا نتمسّك في ذلك بإطلاق الآية الكريمة الناهية عن التحاكم إلى الطاغوت. قال اللّه ـ تعالى ـ: ﴿يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول و أُولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى اللّه والرسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا. ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروابه ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالا بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً﴾(1). فالآية الشريفة قد دلّت على أنّ الأمر بالكفر بالطاغوت يستوجب عدم التحاكم إليه، وهذا بإطلاقه يقتضي عدم جواز ذلك حتى عندالعجز عن التحاكم إلى قاضي العدل.
وقد(2)يناقش في ذلك بأنّ الآية وردت بلسان القضيّة الخارجية لا الحقيقية حيث تشير إلى طائفة من الناس بقوله: ﴿ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما اُنزل إليك وما اُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت﴾. ومن الواضح
', '(1) النساء: الآية 59 و 60 و 61.
(2) وقد يقال مضافاً إلى ما في المتن: إنّ المستفاد ممّا في الآية من التعليل بالأمر بالكفر بالطاغوت هو أنّ تحريم التحاكم إليه يكون بنكتة كون ذلك دعماً وتأييداً له، وهذه النكتة تكون أحياناً مفقودة؛ كما إذا كنّا نعيش في مجتمع تسوده سلطة الطاغوت بنحو لايُرى أيّ أثر للتحاكم إليه من قبل هذين المترافعين وعدمه. وهذا البيان يأتي أيضاً في مقبولة عمر بن حنظلة، بل وقد يأتي في رواية أبي خديجة بناءً على استظهار نفس النكتة منها بمناسبات الحكم والموضوع. إلّا أنّ النسبة بين مايستفاد من هذا البيان وبين جواز الترافع عند الطاغوت حين العجز عن الترافع عند قاضي الحقّ عموم من وجه.
', 87), (14, 88, 'book', '
أنّ اُولئك الناس الذين تشير إليهم الآية المباركة كانوا قادرين على التحاكم عند رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، فلا إطلاق في الآية لمن لا يقدر على التحاكم عند قاضي العدل. وصحيح أنّ ذكر الوصف المذكور في الآية وهو إرادة التحاكم عند الطاغوت مشعر بالعلّية، لكنّه ـ بعد أن كانت القضيّة خارجيّة ـ لا يدلّ على أنّه هو تمام العلّة وعدم دخل أىّ وصف آخر ـ كوصف القدرة على التحاكم عند قاضي العدل ـ في العلّة، على أنّ ما قبل الآية - من الأمر بردّ النزاع إلى اللّه والرسول -، وكذلك ما بعد الآية - الوراد في تنكيل من قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول فصدّوا عن ذلك - قديكون صالحاً للقرينية على عدم الإطلاق والنظر إلى خصوص فرض إمكانيّة الردّ إلى اللّه والرسول.
هذا وقد يقال: إنّ هناك آية أُخرى لا يبعد تمامية الإطلاق فيها، هي قوله - تعالى ـ: ﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار ومالكم من دون اللّه من أوليآء ثم لا تنصرون﴾(1). فهذه الآية تشمل ما نحن فيه حتى لو فسرت الآية بمعنى الركون إلى الظالم في ظلمه وبما هو ظالم لا مطلقاً، فإنّ التذرّع في تحصيل الحقّ إلى حاكم الجور ـ الذي يكون إشغاله لمنصب الحكومة ظلما - ركون إلى الظالم في ظلمه، فهو حرام حتى مع العجز عن التحاكم إلى قاضي العدل وفق إطلاق الآية الكريمة. إلّا أن يقال: بأنّ الركون يعطي معنى الاتّكاء على ركن ركين والارتباط بقدرة وهيمنة، ممّا لا يصدق على مجرّد الترافع عند شخص، فإنْ قيل هكذا لم يتمّ الإطلاق في الآية الكريمة للمقام، وكذلك لا يتمّ الإطلاق في الآية لو فسّر الركون بما فسّربه المرحوم العلّامة الطباطبائي (رحمه الله) في تفسير الميزان من أنّه الاعتماد على شيء عن ميل إليه لا
', '(1) هود: الآية 113.
', 88), (14, 89, 'book', '
مجرّد الاعتماد(1). إلّا أنّ هذا المعنى غير مذكور في كتب اللغة، ولكن العلاّمة الطباطبائي (رحمه الله) استشهد لذلك بتعديته بإلى لا بعلى، وقد يشهد له أيضاً ما جاء في تفسير علىّ بن إبراهيم من تفسيره بأنّه ركون مودّة ونصيحة وطاعة(2). وعلى أيّ حال فالظاهر أنّ هذا التفسير غير موجود في كتب اللغة.
الوجه الثالث ـ هو التمسّك بقاعدة نفي الحرج، و هذا الوجه تامّ، إلّا أنّه أخصّ من المدّعى؛ لأنّه خاصّ بفرض ما إذا كان الصبر على فوات حقّه حرجياً.
الوجه الرابع ـ هو التمسّك بقاعدة نفي الضرر، فإنّ فوات الحقّ ضرر دائماً. وهذا الوجه في تماميّته وعدم تماميّته يتبع البحث الأُصولي عن المباني في قاعدة نفي الضرر:
فمثلا على مبنى أنّ القاعدة لاتدلّ على أكثر من تحريم الإضرار، أو وجوب تداركه من قبل مسبِّب الضرر لايتمّ الاستدلال بها في المقام.
وعلى مبنى دلالتها على نفي كلّ حكم يأتي من قبله الضرر، أويوجب بقاء الضرر يتمّ الاستدلال بها في المقام.
وعلى مبنى أنّ نفس الحكم حينما يكون إضراراً يكون مرتفعاً بــ «لاضرر» يتمّ الاستدلال بها في المقام لو كان التحاكم لديه لإنقاذ الحقّ عند انحصار الطريق بذلك حقّاً عرفياً للإنسان، فكان سلبه ضرراً عرفاً.
 $
 $
$
', '(1) راجع: تفسير الميزان ج 11، ص 53.
(2) تفسير عليّ بن إبراهيم، ج 1، ص 338.
', 89), (14, 90, 'book', '
 $
شرط الحريّة والكتابة والبصر
الشرط العاشرو الحادي عشر والثاني عشر: الحرّية والكتابة والبصر. وذلكبناءً على احتمال دخلها في القضاء، وعدم دليل لفظي نتمسّك بإطلاقه، واستفادة أمثال هذه الشروط من مبنى الاقتصار على القدر المتيقّن، إمّا مع دعوى العلم بعدم الفرق كما ذكره السيّد الخوئي(1)، أو مع وجود دليل لفظي نتمسّك بإطلاقه كما حقّقناه، فلا مجال لهذه الشروط.
نعم في خصوص الحرّيّة قد يتمسّك لإثبات عدم جواز قضاء المملوك بمادلّ على عدم نفوذ شهادته، كماورد بسند تامّ عن محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الذمّي و العبد يشهدان على شهادة، ثمّ يسلم الذمّي، ويعتق العبد. أتجوز شهادتهما على ما كانا أُشهدا عليه؟ قال: نعم. إذا علم منهما بعد ذلك خير جازت شهادتهما»(2). إلّا أنّه معارض بما هو أقوى دلّ على نفوذ شهادته من قبيل ماورد بسند تامّ عن عبدالرحمن بن الحجاج عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لابأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا»(3)، وورد مثله عن الباقر (عليه السلام)عن علىّ (عليه السلام) في قصّته مع شريح(4)، وقد يحمل ما دلّ على عدم نفوذ شهادة المملوك على التقيّة، وسيأتي بحث ذلك إن شاء اللّه عند ذكر شرائط البيّنة.
 $
$
', '(1) في مباني تكلمة المنهاج: ج 1، ص 11 و 12.
(2) الوسائل، ج 18، ب 39 من الشهادات، ح 1، ص 385.
(3) الوسائل، ج 18، ب 23 من الشهادات، ح 1، ص 253.
(4) الوسائل، ج 18، باب 14 من كيفية الحكم، ح 6، ص 194.
', 90), (14, 91, 'book', '
 $
شرط الضبط
الشرط الثالث عشر ـ الضبط. واشتراط الجامع بينه وبين ما يؤدي نتيجتهمن إمكانيّة أن يضبط له غيره مالايضبطه واضح. أمّا اشتراط ما يكون أكثر من ذاك ممّا لا يؤدّي انتفاؤه إلى انتفاء شرط آخر كالاجتهاد بناءً على اشتراطه، فحاله حال اشتراط البصر.
 $
شرط عدم الصمم و الخرس
الشرط الرابع عشر، و الخامس عشر: عدم الصمم و الخرس . والواقع أنّهماإن أضرّا بشرط آخر كالضبط وغيره فدليله دليل ذاك الشرط، وإلّا فحال اشتراط عدمهما حال اشتراط البصر.
 $
شرط العدالة
الشرط السادس عشر ـ العدالة.
والكلام في ذلك: تارةً يقع فيما هو الدليل على اشتراط العدالة في القضاء، وأُخرى فيما هو معنى العدالة المقصود بها في المقام، وثالثة فيما هو الكاشف عن العدالة:
 $
 $
$
', '', 91), (14, 92, 'book', ' $
أصل اشتراط العدالة:
أمّا الدليل على اشتراط العدالة في القضاء فقد يستدلّ على ذلك بعدّة وجوه:
الوجه الأوّل ـ هو التمسّك بقوله ـ تعالى ـ: ﴿ولاتركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار، ومالكم من دون اللّه من أوليآء، ثم لا تنصرون﴾(1) بدعوى أنّ الفاسق ظالم، فالتحاكم إليه ركون إلى الظالم. وهذا الوجه لو تمّ فإنّما يثبت حرمة التحاكم إلى الفاسق، وبالملازمة العرفيّة أو القطع بعدم الانفكاك يثبت عدم نفوذ قضائه، ولايثبت شرط العدالة بناءً على وجود واسطة(2) بين العادل و الفاسق.
هذا واختصاص الحرمة بغير موارد الحرج مثلا ـ كما لو انحصر إنقاذ الحقّ بالترافع إلى الحاكم، وكان في عدم إنقاذه حرج ـ لايوجب اختصاص الدلالة على عدم نفوذ القضاء بذلك، فإنّ الملازمة ثابتة بين حرمة ذلك في الجملة و عدم النفوذ مطلقاً.
وعلى أىّ حال فقد يقال: إنّ هذا الوجه ـ وهو وجه تمسّك به السيّد الخوئي في مباني تكملة المنهاج(3) ـ لو تمّ للزم حرمة أيّ استعانة بالفاسق، فمثلا استيجار حمّال لحمل الثقل، أو بنّاء للبناء وهو فاسق غير جائز. ولاأظنّ السيّد الخوئي أو أيّ واحد آخر يلتزم بذلك فقهياً.
وقد يقال: إنّ مطلق الاستعانة والاستخدام مثلا لايعدّ ركوناً، وإنّما الركون
', '(1) هود: الآية 113.
(2) وهو من يكون جديد العهد بالبلوغ أو بالتوبة ولم يحصل بعد على ملكة العدالة.
(3) ج 1، ص 11.
', 92), (14, 93, 'book', '
عبارة عن الاعتماد على فرد أو جهة بفرض سيطرة و هيمنة له أولها، كما هو المفروض في باب القضاء حيث نتكلّم في نفوذه.
وقد يقال: إنّ الركون يعطي معنى الميل وسكون النفس على ما مضى من العلاّمة الطباطبائي (رحمه الله).
أو يقال كما مضى أيضاً: إنّه يعطي معنى الاتّكاء على قوّة وسيطرة وسكون النفس إليها و الارتباط بها، ممّا لايصدق بمجرّد الترافع عند شخص مّا.
هذا وقد يقال: لعلّ المقصود بالآية الشريفة هو الركون إلى الظالم بما هو ظالم وبحيثية ظلمه، فلو ثبت أنّ تصدّي الفاسق للقضاء ظلم، فقد تدلّ الآية على حرمة الركون إليه بالتحاكم عنده، إلّا أنّ هذا أوّل الكلام.
الوجه الثاني ـ ما مضى من رواية أبي خديجة: (إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق(1)...) بناءً على أنّ ذكر الوصف مشعر بالعليّة. وهذا الوجه لو تمّ فإنّما يدلّ على حرمة التحاكم عند الفاسق دون اشتراط العدالة بناءً وجود الواسطة بينهما. وقد استدلّ بهذا الوجه المحقّق العراقي (رحمه الله)(2)، ولو تمّت دلالة هذه الرواية، فقد مرّمنّا النقاش في سند هذه الرواية.
إلّا أن يقال: إنّه لاحاجة بنا إلى خصوص هذا المتن لحديث أبي خديجة الضعيف سنداً، بل يمكن التمسّك بالمتن الآخر التامّ سنداً الذي ورد فيه: إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور ...»(3) بدعوى أنّ أهل الجور أيضاً يعطي معنى
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 6، ص 100.
(2) كتاب القضاء، ص 7.
(3) الوسائل، ج 18، ب 1 من صفات القاضي، ح 5، ص 4.
', 93), (14, 94, 'book', '
الفاسق.
الوجه الثالث ـ هو التمسّك بما مضى في آخر مبحث اشتراط العلم من عهد الإمام عليّ (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، فإنّه يدلّ على وصف العدالة، أو ما هو فوق العدالة، إلّا أنّه إنّ تمّ سنداً فقد مضى النقاش فيه دلالة، من حيث احتمال كون ذلك حكماً من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) بوصفه وليّاً للأمر على مالك الأشتر بوصفه منصوباً من قبله (عليه السلام)، فلا هو يدلّ على شرط شرعي للعدالة في القاضي، ولا على أنّ المنصوب بالنصب العامّ من قبل الأئمّة المتأخّرين لا يكون إلّا من كان متّصفاً بالعدالة.
الوجه الرابع مقبولة عمر بن حنظلة (... فإن كان كلّ واحد منهما اختار رجلا من أصحابنا، فَرَضِيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما و أصدقهما في الحديث وأورعهما...)(1)، فإنّ ظاهر ذلك الفراغ عن عدالتهما معاً، حيث ذكر الترجيح بالأعدليّة، فدليل النصب إن كان هو مقبولة عمر بن حنظلة فهذا الذيل يمنع عن إطلاق الصدر لغير العادل، وإن كان غير مقبولة عمر بن حنظلة فذيل المقبولة يقيّد إطلاقه. إلّا أنّه لو وجدنا مورداً مّا احتملنا سقوط هذا الشرط فيه ـ كما في فرض صعوبة العثور على العادل ـ فقد يقال: بأنّ ذيل المقبولة لا يثبت القيد في هذا المورد بالخصوص بالإطلاق؛ إذ لم يكن بصدد بيان شرط العدالة كي يتّم فيه الإطلاق، إلّا أنّ الظاهر أنّ دليل النصب بعد أن قيّد في الموارد المتعارفة بشرط العدالة بحكم ذيل المقبولة لايبقى له إطلاق لغير العادل في موارد خاصّة؛ لأنّ احتمال انعقاد الإطلاق لفرض عدم العدالة بالنسبة لمورد نادر غير عرفي.
هذا ويشبه المقبولة ماورد عن موسى بن أكيل النميري عن أبي عبداللّه (عليه السلام)
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي ح 1 ص 75.
', 94), (14, 95, 'book', '
قال: «سئل عن رجل يكون بينه و بين أخ له منازعة في حقّ، فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما، فحكما، فاختلفا، فيما حكما. قال: وكيف يختلفان؟. قال: حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان. فقال: ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين اللّه، فيمضي حكمه»(1). إلّا أنّ هذه الرواية ضعيفة سنداً.
الوجه الخامس ـ هو التعدّي من دليل شرط العدالة في إمام الجماعة إلى المقام. والروايات الواردة في إمام الجماعة، وإن كان أكثرها لاتدلّ على أكثر من النهي عن الائتمام بالفاسق، وهذا لايمنع عن الائتمام بمن ليس فاسقاً ولاعادلا بناءً على تصوير وجود الواسطة بينهما، لكن فيها ما يستفاد منه شرط العدالة:
كما عن علىّ بن راشد قال: «قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إنّ مواليك قد اختلفوا فاُصلّي خلفهم جميعاً فقال: لاتصلّ إلّا خلف من تثق(2) بدينه»، هكذا في نسخة الكافي وفي التهذيب زاد: (وأمانته)(3).
وما عن يزيد بن حماد عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «قلت له: أُصلي خلف من لاأعرف؟ فقال: لاتصلّ إلّا خلف من تثق بدينه ...»(4) بناء على أنّ الوثوق بالدين يساوق إحراز العدالة. وكلاهما ضعيفان سنداً.
وما عن سماعة بسند تامّ قال: «سألته عن رجل كان يصلّي، فخرج الإمام وقد صلّى الرجل ركعة من صلاة فريضة، قال: إن كان إماماً عدلا فلْيصلّ أُخرى،
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 45 ص 88.
(2) قديفهم من كلمة الوثوق بالدين ـ بغضّ النظر عن عطف الأمانة ـ الوثوق بصحّة اعتقاداته.
(3) الوسائل، ج 5، ب 10 من صلاة الجماعة، ح 2، ص 389.
(4) الوسائل، ج 5، ب 12 من صلاة الجماعة، ح 1، ص 395. وتمام الحديث مذكور في الكشّي و في مجمع الرجال للقهبائي في ترجمة يونس بن عبدالرحمن.
', 95), (14, 96, 'book', '
وينصرف، ويجعلهما تطوّعاً، و لْيدخُلْ مع الإمام في صلاته كما هو، وإن لم يكن إمام عدل فليبنِ على صلاته كما هو، ويصلي ركعة أُخرى، ويجلس قدرما يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لاشريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده و رسوله، ثمّ ليتمّ صلاته معه على ما استطاع، فإنّ التقيّة و اسعة، وليس شىّ من التقية إلّا وصاحبها مأجور عليها إن شاء اللّه»(1). وعيب هذا الحديث إضماره، فلو قلنا بإضرار الإضمار فالظاهر أنّه لاتبقى لنا إلّا الروايات المانعة عن الصلاة خلف الفاسق وإن لم نقل بإضرار الإضمار ـ باعتبار انصرافه في عرف هؤلاء الرواة إلى الإمام المعصوم كما هو الظاهر، ولو لأجل أنّهم - عادة ـ كانوا يروون عن الإمام المعصوم ـ ثبت بذلك شرط العدالة في إمام الجماعة. ويحتمل كون هذه الرواية مأخوذة من قبل من رواها عن سماعة، وهو عثمان بن عيسى من كتاب سماعة حيث إنّ له كتاباً يرويه عنه عثمان بن عيسى، و إنّ الضمير راجع إلى الإمام الذي روى عنه الروايات السابقة في ذلك الكتاب.
أمّا وجه التعدّي عن إمام الجماعة إلى المقام فهو اِمّا عبارة عن القطع بلزوم التعدّي من إمامة الجماعة التي هي شبه قيادة، إلى القضاء الذي هو قيادة(2) حقيقة،
', '(1) الوسائل، ج 5، ب 56 من صلاة الجماعة، ح 2، ص 458.
(2) قد يقال: من المحتمل أنّ إمامة الجماعة اشترطت فيها العدالة لأنّها قيادة روحيّة. أمّا القضاء فليس عدا فصلا للخصومة بتشخيص الحقّ، وتكفي في ذلك الوثاقة في الحكم، فالقطع بالملازمة غير موجود. كما قد يناقش في الملازمة العرفية بأنّ الملازمة يجب أن تكون بيّنة بالمعنى الأخصّ حتى توجب ظهوراً عرفيّاً، بينما المتكلّم الذي يذكر شرط العدالة في إمام الجماعة قد يكون غافلا أصلا عن موضوع القضاء، فكيف تتمّ لكلامه دلالة التزاميّة عرفيّة على اشتراطها في القضاء؟.
و يمكن الجواب عن الأوّل بأنّ هذا قد يتمّ في قاضي التحكيم. أمّا منصب القضاء الذي يتحقّق بنصب ولىّ الأمر فهو شعبة من أرقى شعب القيادة قد لايحتمل كونها أقلّ مقاماً وقدسيّة من إمامة الجماعة.
ويمكن الجواب على الثاني بأنّ المقصود هو دلالة قوله: «تشترط العدالة في إمامة الجماعة» بالملازمة العرفية على نكتة لهذا الاشتراط ـ وطبعاً لايمكن افتراض غفلة المتكلّم عن نكتة شرطه ـ وتلك النّكتة موجودة بشكل أقوى في القضاء، وهي نكتة كون إمامة الجماعة منصباً رفيعاً و قيادةً، ونحو ذلك.
', 96), (14, 97, 'book', '
فلا يحتمل أن تكون العدالة شرطاً هناك، ولاتكون شرطاً هنا، أو عبارة عن أنّ جوّاً تشريعياً رافضاً لإمامة غير العادل يمنع عن انعقاد الإطلاق في دليل القضاء الذي هو أهّم من إمامة الجماعة بكثير، ومع عدم انعقاد الإطلاق يكون الأصل في قضاء الفاسق هو عدم النفوذ.
الوجه السادس ـ أن نتعّدى من دليل اشتراط العدالة في الشاهد إلى القاضي، فلئن كان الشاهد ـ الذي يكون دوره في فصل الخصومة، و إيصال الحقّ إلى مستحقّه أقلّ من دور القاضي ـ تشترط فيه العدالة، فالقاضي بطريق أولى، إمّا أولوية قطعيّة، أو أولوّية عرفيّة تُحقّق دلالة التزامية في دليل اشتراط العدالة في الشاهد.
أو يقال: إنّ جوّاً تشريعياً لايقبل شهادة غير العادل لا يتمّ فيه إطلاق لدليل القضاء بالنسبه لقاض غير عادل.
هذا. والروايات الواردة في اشتراط العدالة في الشاهد أو عدم الفسق عديدة: من قبيل رواية محمّد بن قيس التّامة سنداً عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: لاآخذ بقول عرّاف، ولا قائف، ولالصّ، ولا أقبل شهادة الفاسق إلّا على نفسه»(1). إلّا أنّ هذا النمط من الحديث إنّما تتمّ دلالته على اشتراط العدالة لو قلنا بعدم الواسطة بين العادل والفاسق.
$
', '(1) الفقيه، ج 3، باب من يجب ردّ شهادته ومن يجب قبول شهادته، ح 26، ص 30. وذيل الحديث ورد في الوسائل، ج 18، ب 41 من الشهادات، ح 7، ص 290.
', 97), (14, 98, 'book', '
ومن قبيل: رواية عبداللّه بن سنان التامّة سنداً قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): ما يردّ من الشهود؟ قال: فقال: الظنين و المتّهم، قال: قلت: الفاسق والخائن؟، قال: ذلك يدخل في الظنين»(1). وهذا النمط من الروايات ـ وهي عديدة ـ إنّما تدلّ على اشتراط العدالة إمّا على مبنى عدم الواسطة بين الفسق والعدالة، أو بناءً على أنّ الظنين يشمل من لم تحرز فيه ملكة العدالة وإن لم يصدر منه فسق لعدم تهيّؤ أسبابه مثلا؛ إذ لافرق في الظنّ به بين أن يكون قد صدر منه ذنب أو أن لا يكون صدر منه الذنب بنكتة عدم تهيّؤ أسبابه له.
ومن قبيل: رواية عبداللّه بن أبي يعفور التامة سندا قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): بِمَ تُعرَفُ عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان...»(2).
ورواية عبدالرحمن بن الحجّاج التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لابأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا»(3).
ورواية بريد بن معاوية التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في قصّة رجل من الأنصار قتل بخيبر: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)للطالبين بالدم: «أقيموا رجلين عدلين من غيركم أقيدوه برمّته...»(4).
على أنّه لوغضّ النظر عن الروايات فبالإمكان التعدّي إلى باب القضاء من مورد آية الشهادة علىالوصيّة سواء تعدّينا منه إلى مطلق الشهادة أولا قال اللّه
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 30 من الشهادات، ح 1، ص 274.
(2) الوسائل، ج 18، ب 41 من الشهادات، ح 1، ص 288.
(3) الوسائل، ج 18، ب 23 من الشهادات، ح 1، ص 253.
(4) الوسائل، ج 18، ب 3 من كيفيّة الحكم، ح 2، ص 170، تحت الخط.
', 98), (14, 99, 'book', '
- تعالى ـ: ﴿يا أيّها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدل منكم...﴾(1).
وقد يتمسّك أيضاً بأية شهادة العدلين في الطلاق(2).
هذا والظاهر أنّ اشتراط العدالة في الشاهد ليس مسألة خلافيّة، إلّا أنّه لوكان دليلنا على ذلك عبارة عن مجرّد الإجماع فهذا لايوجب التعدّي إلى المقام بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة. نعم بناءً على الأولوية القطعية، أو ما قلناه من أنّ جوّاً تشريعيّاً من هذا القبيل لايتمّ فيه الإطلاق لدليل القضاء، يتمّ التعدّي. وعلى أىّ حال فبعد ما
', '(1) المائدة، الآية 106 و تتمة الآية مايلي: ﴿أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض، فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة، فيقسمان باللّه إن ارتبتم لا نشتري به ثمناً ولوكان ذاقربى، ولانكتم شهادة اللّه إنّا إذن لمن الآثمين﴾.
وقد يقال: إنّ قوله: «أو آخران من غيركم» دليل على حمل العدالة في الآية على مجرّد الوثاقة، لأن فاسق المسلمين الثقة خير من غير المسلم العادل في دينه.
ولكن لايبعد أن يكون الظاهر من الآية بقرينة قوله: «إن أنتم ضربتم في الأرض» الاكتفاء بغير المسلمين عند العجز عن تحصيل شهود مسلمين باعتبارهم في أرض الغربة مثلا؛ كما يدلّ على ذلك بعض الروايات: من قبيل ما عن هشام بن الحكم بسند تامّ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في قول اللّه ـ عزّ وجلّ ـ: «أو آخران من غيركم» «إذا كان الرجل في أرض غربة ولايوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم في الوصيّة». الوسائل ج 18، ب 4 من الشهادات، ح 3، ص 287.
وما عن سماعة بسند تامّ قال: «سألت أباعبداللّه (عليه السلام) عن شهادة أهل الملّة، قال: فقال: لا تجوز إلّا على أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصيّة، لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد». الوسائل ج 18، ب 4 من الشهادات، ح 4، ص 287.
(2) وهي قوله تعالى في سورة الطلاق، الآية 2 -: فاذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف، و أشهدوا ذوي عدل منكم، وأقيموا الشهادة للّه ... .
', 99), (14, 100, 'book', '
عرفت من وجود دليل لفظي على اشتراط العدالة في الشهادة فالتعدّي إلى المقام حتى بالدلالة الالتزاميّة العرفيّة في محلّه.
الوجه السابع ـ مادلّ على إعطاء نوع ولاية على الأيتام لخصوص العدل: كما ورد عن اسماعيل بن سعد الأشعري في سؤاله عن الرضا (عليه السلام) قال: «... وعن الرجل يموت بغير وصيّة، وله ولد صغار و كبار أيحلّ شراء شيء من خدمه و متاعه من غير أن يتولّى القاضي بيع ذلك؟ فإن تولاّه قاضقد تراضوا به ولم يستعمله الخليفة أيطيب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع وقام عدل في ذلك»(1). وسند الحديث تامّ.
وقد يدلّ على ذلك أيضاً ما ورد عن محمّد بن اسماعيل بن بزيع ـ بسند تام ـ قال: «مات رجل من أصحابنا ولم يوصِ، فرفع أمره إلى قاضي الكوفة، فصيّر عبدالحميد القيّم بماله، وكان الرجل خلّف ورثة صغاراً و متاعاً وجواري، فباع عبدالحميد المتاع، فلمّا أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهنّ؛ إذ لم يكن الميّت صيّر إليه وصيّته، وكان قيامه فيها بأمر القاضي لأنهنّ فروج. قال: فذكرت ذلك لأبي جعفر (عليه السلام) وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا، ولايوصي إلى أحد، ويخلّف جواري، فيقيم القاضي رجلا منّا فيبيعهن، أو قال: يقوم بذلك رجل منّا فيضعف قلبه لأنّهن فروج، فما ترى في ذلك؟ قال: فقال: إذا كان القيّم به مثلك، أو مثل عبدالحميد فلابأس»(2)، بناء على أنّ قوله: «مثلك أو مثل عبدالحميد» يعني مثلهما في العدالة. فإذا كانت العدالة شرطاً في من أُعطيت له ولاية على الأيتام فما ظنّك بالقاضي؟ وذلك بأحد التقريبات الثلاثة المتقدّمة من الأولوية القطعيّة، أو الملازمة
', '(1) الوسائل، ج 12، ب 16 من عقد البيع و شروطه، ح 1، ص 270.
(2) نفس المصدر ح 2.
', 100), (14, 101, 'book', '
العرفيّة، أو عدم تماميّة الإطلاق في جوّ تشريعىّ من هذا القبيل.
ولايعارض هذين الحديثين ما عن سماعة بسند تامّ قال: «سألته عن رجل مات، وله بنون وبنات صغار و كبار من غير وصية، وله خدم ومماليك وعقد كيف يصنعون الورثة بقسمة ذلك الميراث؟ قال: إن قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كلّه فلابأس»(1) بدعوى دلالة هذه الرواية على كفاية الوثاقة.
فإنّ هذه الرواية إن دلّت فإنّما تدلّ على كفاية الوثاقة في مجرّد التقسيم دون التصرفات، كالبيع الوارد في الروايتين السابقتين، ولو وردت في مورد التصرّفات لقيّدناها بالروايتين السابقتين الدالّتين على شرط العدالة.
ولا يعارضهما أيضاً ما عن علىّ بن رئاب قال: «سألت أباالحسن موسى (عليه السلام) عن رجل بيني و بينه قرابة مات، و ترك أولاداً صغاراً، وترك مماليك له غلماناً وجواري، ولم يوصِ، فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتّخذها أُمّ ولد؟ وماترى في بيعهم؟ فقال: إن كان لهم وليّ يقوم بأمرهم باع عليهم ونظرلهم كان مأجوراً فيهم. قلت: فما ترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتّخذها أُمّ ولد؟ قال لابأس بذلك إذا باع عليهم القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم، وليس لهم أن يرجعوا عمّا صنع القيّم لهم الناظر فيما يصلحهم»(2).
وجه المعارضة: دعوى أنّ هذه الرواية دلّت على كفاية وجود قيّم لهم ناظر في مصالحهم من دون اشتراط العدالة.
والجواب: أوّلا ـ أنّ من المحتمل أن يكون المقصود بالولىّ والقيّم في هذه
', '(1) الوسائل، ج 17، ب 4 من موجبات الإرث، الحديث 1، ص 420، و ج 13، ب 88 من أحكام الوصايا، ح 2، ص 474.
(2) الوسائل، ج 13، ب 88 من أحكام الوصايا، ح 1، ص 474.
', 101), (14, 102, 'book', '
الرواية الولىّ والقيّم الشرعيّين لابمعناهما اللغوي ـ أي من يلي أمرهم و يقيم قضاياهم ـ أمّا من هو هذا القيّم أو الوليّ وماهي شرائطه؟ فلا نظر لهذه الرواية الى ذلك.
وثانياً ـ لو سلّم الإطلاق في هذه الرواية فما سبق يصلح لتقييدها.
وثالثاً ـ أنّ هذه الرواية مرويّة بعدّة أسانيد كلّها ضعيفة:
1 - الشيخ الصدوق بسنده إلى الحسن بن محبوب عن عليّ بن رئاب، وفي طريق الصدوق إلى الحسن بن محبوب محمّد بن موسى بن المتوكّل، ولادليل على توثيقه.
2 - الكليني عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن عليّ بن رئاب. وهذا السند ضعيف بسهل.
3 - سند الشيخ إلى سهل بن زياد عن ابن محبوب عن علىّ بن رئاب. وهذا أيضاً ضعيف بسهل بن زياد.
هذا تمام الكلام في أصل شرط العدالة في القاضي.
 $
تحديد معنى العدالة:
وأمّا الكلام في معنى العدالة، فالتردّد في ذلك يكون من أحد أنحاء ثلاثة:
1 - هل يكفي في العدالة عدم صدور المعصية من دون ملكة نفسانيّة، أولا؟.
2 - هل أنّ المعاصي الصغيرة تخلّ بالعدالة أولا؟.
3 - هل أنّ هناك شرطاً آخر غير ترك الذنوب أو ملكة تركها، باسم ترك ماينافي المروءة، أولا؟.
 $
$
', '', 102), (14, 103, 'book', 'اشتراط الملكة وعدمه:
أمّا اشتراط الملكة وعدمه في العدالة فقد يقال: إنّ مفهوم العدالة ـ وهي لغةً بمعنى الاستقامة، و المقصود به في المقام طبعاً العدالة في الدين، وذلك بقرينة ورودها في لسان مشرّع الدين و بلحاظ أحكام الدين ـ يعطي معنى الملكة؛ فإنّ العدالة وصف حسب الفرض لإنسان مّا من إمام جماعة، أو شاهد، أو قاض ونحو ذلك، واستقامة نفس الإنسان ليست بمجرّد عدم صدور معصية منه ولو من باب أنّ الفرص لم تسنح له، أو أنّه لم تمضِ على بلوغه سنّ التكليف أو على توبته مدّة تورّطه في المعصية، و إنّما استقامتها تكون بتطبّعها بترك المعاصي ووجود الرادع النفسي عن المعاصي و الزلاّت. هذا في كلّ ما ثبت فيه شرط العدالة بعنوانها. أمّا مثل عنوان (من تثق بدينه وأمانته) الذي مضى في بعض روايات صلاة الجماعة، فأيضاً يدلّ على اشتراط الملكة؛ إذبدونها لايحصل الوثوق. نعم كلّما ورد اشتراط ترك الفسق فحسب لم يدلّ على اشتراط العدالة بمعنى الملكة.
وفي مقابل ذلك قد يستدلّ على كفاية عدم المعصية - من دون شرط الملكة أو التطبّع النفسي - بالروايات الواردة في قبول شهادة من يقام عليه الحدّ بعد توبته(1)، وفيه رواية واحدة تامّة السند، وهي ما عن عبداللّه بن سنان قال: «سألت أباعبداللّه (عليه السلام) عن المحدود إذا تاب أتقبل شهادته؟ فقال: إذا تاب ـ وتوبته أن يرجع ممّا قال، ويكذّب نفسه عند الإمام وعند المسلمين، فإذا فعل ـ فإنّ على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك»(2) ونحن نعلم أنّ مجرّد التوبة لايستلزم رجوع الملكة، وإنّما التوبة تجعل الذنب كأنّه لم يتحقّق، فيصبح حاله حال من هو
', '(1) راجع الوسائل، ج 18، ب 36 و 37 من ابواب الشهادات، ص 282 الى 284.
(2) الوسائل، ج 18، ب 37 من أبواب الشهادات، ح 1، ص 283.
', 103), (14, 104, 'book', '
قريب العهد بالبلوغ الذي لم يصدر منه معصية لاعلى أساس الملكة، بل على أساس الصدفة.
وقديقال: إنّ هذه الروايات إنّما تعارض ما دلّ على اشتراط العدالة في الشاهد، لاأنّها تفسّر العدالة بمجرّد عدم الذنب.
وقد يجاب على ذلك: بأنّ أُنس ذهن المتشرعة باشتراط العدالة في الشاهد يعطي لهذه الروايات ظهوراً في تفسير العدالة بمجرّد عدم الذنب.
وقد يقال برأي وسط بين اشتراط الملكة وكفاية عدم صدور الذنب وهو: أنّ مجرّد عدم صدور الذنب المجتمع مع عدم أىّ رادع نفسي عن الذنب - كما قد يحصل لإنسان قريب العهد ببلوغه سنّ التكليف - لايكون عدالةً، والمحدود التائب ليس حاله هكذا، فإنّ توبته تعني تحقّق الرادع النفساني فيه، فالعدالة عبارة عن ترك المعاصي عن رادع نفساني، أمّا وصول الرادع النفساني إلى مستوى الملكة بحيث لا ينكسر عادةً إلّا في حالات نادرة جداً يتوفّر فيها مستوى خاصّ من المغريات، فليس شرطاً في تحقّق العدالة، وذلك بدليل هذه الروايات التي اقتصرت على مجرّد التوبة. والصحيح أنّ هذه الروايات ليست بصدد إثبات العدالة الواقعيّة للمحدود الذي تاب، بدليل أنّها لم تفترض العلم بخلوّه عن باقي الذنوب رغم أنّه عادةً لايعلم عن محدود تاب كونه خالياً عن باقي الذنوب، وإنّما هي بصدد بيان قبول شهادته المبتني في ظاهر الشرع على حسن الظاهر الذي سيأتي أنّه أمارة على العدالة، والمفروض أنّ توبته تعيد إليه حسن ظاهره الذي انكسر بفعل ما أوجب عليه الحدّ.
على أنّ الرواية الوحيدة التامّة سنداً من تلك الروايات هي هذه الرواية التي نقلناها والتي تشتمل على أنّ توبته تكون بتكذيب نفسه عند الإمام وعند المسلمين، ولايبعد أن يقال: إنّ الاستعداد لتكذيب النفس عند الإمام و عند المسلمين لايحصل من دون حصول الملكة.
$
', '', 104), (14, 105, 'book', 'وعلى أىّ حال فقد يقول القائل: إننّا لسنابحاجة في مقام نفي شرط الملكة إلى مثل هذه الرواية، بل نقول من أوّل الأمر: إنّ المفهوم عرفاً من العدالة الاستقامة، والاستقامة ليست بمعنى مجرّد عدم الذنب ـ ولو من باب أنّه لم تسنح الفرصة للذنب - بل هو ترك الذنب مع الرادع النفساني، لكن لايفهم من ذلك ضرورة وصول الرادع إلى مستوى ما يسمّى بالملكة، وهي الرادع القوّي الذي يقف أمام المغريات الاعتيادية في الحالات الاعتيادية. إلّا أنّ في صدق العدالة و الاستقامة وكذا الثقة من دون وجود ملكة من هذا القبيل عرفاً، نظراً.
اشتراط ترك الصغيرة وعدمه:
وأمّا إخلال المعصية الصغيرة بالعدالة وعدمه، فمقتضى ما هو المفهوم من كلمة العدالة بمعنى الاستقامة في الدين، ومثل التعبير بالوثوق بالدين في قوله: «صلّ خلف من تثق بدينه وأمانته» هو كونه تاركاً للصغائر أيضاً. فارتكاب الصغيرة وان كان معفوّاً عنه عند اجتناب الكبائر لكنّه - على أىّ حال ـ خلاف الاستقامة في الدين و انحراف عنه؛ لأنّه محرّم حسب الفرض.
إلّا أنّه قد يستدلّ على عدم إخلال المعصية الصغيرة بالعدالة بمارواه الصدوق بسنده عن عبداللّه بن أبي يعفور، قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): بمَ تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟، فقال أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان، و يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عليها النار ...»(1)؛ حيث إنّ التقييد بالكبائر يدلّ على عدم إضرار الصغيرة.
لايقال: إنّ الرواية جعلت ترك الكبائر طريقاً لمعرفة العدالة وهذا لا يدل على عدم إضرار الصغيرة بالعدالة إذ لعل مقصوده (عليه السلام): إنّ ترك الكبيرة أمارة على
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 41 من شهادات، ح 1، ص 288.
', 105), (14, 106, 'book', '
العدالة، فحتى لو كان واقعاً محكوماً بالفسق لارتكاب الصغيرة يكون ظاهراً محكوماً بالعدالة لأن العدالة تعرف ـ كما ورد في هذا الحديث ـ بترك الكبائر.
فإنّه يقال: إنّ اطلاق الحديث لفرض العلم بارتكابه للصغيرة دليل على عدم إضرار الصغيرة بالعدالة أي أنّ المقصود بالعدالة في لسان الادلة مستوى من الاستقامة قد يجتمع مع ارتكاب الصغيرة.
وقد يمكن التمسك بالآية الكريمة على عدم إخلال الصغيرة بالعدالة وهي قوله تعالى:
﴿إن تجتنبوا كبائر ما تُنْهَوْنَ عنه نكفّرْ عنكم سيّئاتكم و ندخلْكم مُدْخلا كريماً﴾(1).
ووجه الاستدلال بهذه الآية المباركة هو: أن يقال: إنّ بيان تكفير السيئآت عند اجتناب الكبائر و إدخاله مدخلا كريماً يدلّ بدلالة التزاميّة عرفيّة على أنّ ترك الكبائر يجعل باقي الذنوب كأن لم يكن و بحكم العدم في كلّ الأحكام.
إلّا أنّه لو تمّ ذلك فهذا لايعني دلالة الآية على عدم دخل ترك الصغائر في العدالة، وإنّما يعني عدم إضرار الصغائر بأحكام العدالة وتعارضها حينئذ أدلة اشتراط تلك الاحكام بالعدالة، ولم تكن الآية بصدد بيان هذا اللازم ابتداءً كي تكون حاكمة - بملاك النظر ـ على أدلّة اشتراط العدالة. نعم قد يقال: إنّها تقدّم على تلك الأدلّة باعتبار تقدم القرآن على ما يعارضه من الحديث بمثل(2) العموم من
', '(1) النساء، الآية: 31.
(2) ولو قيل: إنّ هذا الحكم يختصّ بما لو تعارض خبران وأحدهما كان يوافق القرآن، والآخر يخالفه بمثل العموم من وجه، فيرجّح ما وافق الكتاب، ولم يقبل بتقدّم القرآن فيما إذا كان التعارض بينه وبين القرآن بالعموم من وجه؛ قلنا فيما نحن فيه أيضاً: توجد بعض الروايات المصرّحة بنفس مضمون الآية الكريمة، فلها نفس الدلالة الالتزامية، فتقدّم على أدلّة اشتراط العدالة بموافقة الكتاب من قبيل ما عن محمّد بن أبي عمير بسند تامّ قال: «سمعت موسى بن جعفر (عليه السلام) يقول: من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر، قال اللّه تعالى ﴿إن تجتنبوا كبائرما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئآتكم و ندخلكم ومدخلا كريماً﴾ ...».
الوسائل، ج 11، ب 47 من جهاد النفس ح 11، ص 266.
و مرسلة الصدوق: قال الصادق (عليه السلام): «من اجتنب الكبائر يغفراللّه جميع ذنوبه، وذلك قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئآتكم و ندخلكم مدخلا كريماً﴾». الوسائل، ج 11، ب 45 من جهاد النفس ح 4، ص 250.
ورواية محمّد بن فضيل، أو محمّد بن الفضل عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول اللّه ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئآتكم﴾ قال: «من اجتنب الكبائر ـ ما أوعداللّه عليه النار ـ إذا كان مؤمناً كفّر اللّه عنه سيّئآته.
الوسائل، ج 11، ب 45 من جهاد النفس، ح 5، ص 250.
وسند هذا الحديث ضعيف بالراوي المباشر، ومحمّد بن الفضيل قد روى عنه البزنطي و صفوان بن يحيى، إلّا أنّ الشيخ (رحمه الله) قد ضعّفه.
', 106), (14, 107, 'book', '
وجه.
هذا. والدلالة الالتزامية التي ذكرناها لهذه الآية المباركة يمكن ان تذكر لآيتين اُخريين أيضاً وهما:
1 - ﴿فما أوتيتم من شىء فمتاع الحياة الدنيا و ما عنداللّه خيروأبقى للذين آمنوا و على ربّهم يتوكلون، والذين يجتنبون كبائر الاثم و الفواحش و إذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم و أقاموا الصلاة و أمرهم شورى بينهم و ممّا رزقناهم ينفقون﴾(1).
$
', '(1) الشورى، الآية 36 ـ 38
', 107), (14, 108, 'book', '
2 - ﴿وللّه ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى الّذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش إلّا اللّمم إنّ ربك واسع المغفرة، وهو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض و إذ أنتم أجنّة في بطون أُمّهاتكم فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى﴾(1).
هذا ولو لم نقبل دلالة هذه الآيات بالالتزام العرفي على عدم إضرار الصغائر بالعدالة أو بحكم العدالة، فلا أقلّ من أنّها تصنع جوّاً متشرّعيّاً يمنع عن فهم معنى ترك جميع الذنوب من أدلّة شرط العدالة أو مانعيّة الفسق، ويصرف الكلمتين إلى النظر إلى خصوص الكبائر دون الصغائر المجرّدة عن الكبائر، فجوّ متشرّعي يعرف فيه أنّ مرتكب الصغيرة التارك للكبائر يكفّر اللّه سيّئآته ويدخله مدخلا كريماً، وله ما عنداللّه الذي هو خير وأبقى و يجزيه بالحسنى، لايسمح لفهم أكثر من ترك الكبائر من شرطيّة العدالة أو ما نعيّة الفسق.
وعلى اية حال فسواءً تمّت هذه التقريبات أو لم تتم كفتنا رواية عبداللّه بن أبي يعفور الماضية لإثبات عدم إضرار ارتكاب الصغيرة بالعدالة.
معنى الكبيرة و الصغيرة
وهنا لابأس بالبحث عن معنى الكبيرة و الصغيرة. وثمرة البحث تظهر في العدالة بناءً على أنّ الصغيرة لا تخلّ بالعدالة، وقد يقال بظهور الثمرة أيضاً في وجوب التوبة.
ولكنّ الصحيح أنّ وجوب التوبة لم يكن لأجل الفرار من النار كي يفترض أنّ الصغيرة المعفوّعنها فيمن ترك الكبائر لاتحتاج إلى التوبة، بل هو: إمّا وجوب شرعي مستفاد من الأوامر الواردة بالتوبة عن الذنب، وإطلاقها يشمل التوبة عن
', '(1) النجم، الآية 31 ـ 32.
', 108), (14, 109, 'book', '
الكبيرة و الصغيرة، أو وجوب عقلىّ سنخ وجوب الطاعة، فكما أنّ العقل حكم بأنّ مقتضى العبوديّة للمولى امتثال أوامره وترك نواهيه، كذلك حكم بأنّ مقتضى العبوديّة له الندم على معصيته، وهذا أيضاً لايفرّق فيه بين أن يكون الذنب معفوّاً عنه أوْلا. ويحتمل كون أوامر التوبة إرشاداً إلى هذا الحكم العقلىّ.
وعلى أىّ حال فقد أنكر بعضٌ انقسام المعاصي إلى الصغائر و الكبائر، فقال: إنّ المعاصي كلّها كبائر باعتبار المعصيّ ـ جلّ وعلا ـ إلّا أنّ بعضها أكبر من بعض في سلّم الدرجات المتفاوتة، وقال أُستاذنا المرحوم آية اللّه الشاهرودي (رحمه الله): «إنّ المعاصي لا تنقسم إلى صغائر و كبائر، وإنّما تنقسم إلى الذنوب المكفِّرة ـ بالكسر ـ أي التي يكون تركها مكفِّراً لباقي الذنوب، والذنوب المكفَّرة ـ بالفتح ـ أي الذنوب التي تُغفر بترك باقي الذنوب».
أقول: كلّ هذا يرجع إلى نزاع لفظىّ، إلّا أنْ ينكر أحدأصل كون ترك بعض الذنوب مكفِّراً للبعض الآخر، فذلك يكون نزاعاً حقيقياً، وهو خلاف ما يستفاد من الآية المباركة و الروايات وتفسير الآية بمعنى إن تجتنبوا الذنوب الكبيرة الواردة في هذه السورة ـ مثلا ـ نكفّر عنكم ما وقع منكم منها في ما سلف، سنخ قوله ـ تعالى ـ: ﴿قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفرلهم ما قد سلف﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿ولا تنكَحوا ما نكَحَ آباؤُكم من النساءِ، إلّا ما قد سلف﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿وأَن تَجمَعوا بين الاُختين، الّا ما قد سَلَف﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿عفااللّهُ عمّا سلف، ومَنْ عادَ فَينتَقِمُ
', '(1) السورة 8 الأنفال الآية 38.
(2) السورة 4 النساء الآية 22.
(3) السورة 4 النساء الآية 23.
', 109), (14, 110, 'book', '
اللّهُ منه﴾(1). خلاف الظاهر.
وعلى أَيّة حال فالمعاصي وإن كانت متدرّجة في الكبر و الصغر، فليس هناك حدّ معيّن يفترض أنّها إلى هذا الحدّ كبيرة و ما بعده صغيرة، فإنّ الكبر والصغر نسبيّان بالنسبة لكلّ المعاصي، لكن قد عرفنا أنّ قسماً منها لو تركه أحد كفّر عنه القسم الآخر الأصغر من الأوّل، فسُمّي الأوّل بالكبيرة والثاني بالصغيرة، فيقع الكلام فيما هو المقياس لمعرفة الكبيرة والصغيرة، وقد اختلفت الآراء كثيراً بهذا الصدد، وقد نسب رأيان إلى المشهور:
1 ـ أنّ الكبيرة هي كلّ ذنب توعّد اللّه ـ تعالى ـ عليه بالعقاب في الكتاب العزيز.
2 ـ أنها كلّ ذنب توعّد اللّه عليه النار.
والأوّل أعمّ من الثاني من حيث إنّ العقاب قد يتجسّد في غير النار، والثاني أعمّ من الأوّل من حيث عدم التقييد بكون الوعيد في الكتاب. ومن الممكن افتراض اتحاد كلا الرأيين؛ بأن يكون المقصود بالعقاب ما يشتمل على النار، أو يكون المقصود بالنار مطلق العقاب، وذُكرت النار على سبيل المثاليّة، وبأن يكون المقصود من توعّد اللّه عليه النار توعّده في الكتاب.
وقد يجمع بين عموم الأوّل لغير النار، وعموم الثاني لغير الكتاب؛ حيث قيل: إنّها كلّ ذنب توعّد عليه بخصوصه، قال العّلامة الكني في قضائه: «اختاره الشهيدان في القواعد والدروس والروضة، وزاد في الأخير قوله: في كتاب أو سنّة».
وعلى أىّ حال فما يصلح دليلا على أحد الرأيين هو جملة من الروايات من قبيل:
$
', '(1) السورة 5 المائدة الآية 95.
', 110), (14, 111, 'book', '
1 ـ ماورد ـ بسند تامّ ـ عن أبي بصير عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: ﴿ومن يؤتَ الحكمة فقد أُتي خيراً كثيراً﴾. قال: معرفة الإمام واجتناب الكبائر التي أوجب اللّه عليها النار»(1).
2 ـ ما عن الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّو جلّ: ﴿إن تجتَنبوا كبائِرَ ما تُنْهَونَ عنهُ نكفّرْ عنكم سيّئاتِكم ونُدْخلْكُم مُدْخَلا كريماً﴾قال: «الكبائر التي أوجب اللّهُ ـ عزّ و جلّ ـ عليها النار»(2). ولاعيب في السند من غير ناحية أبي جميلة، وهو المفضّل بن صالح، وقد روى الثلاثة الذين لايروون إلّا عن ثقة عنه، ومقتضى ذلك وثاقته، ولاعبرة بتضعيف ابن الغضائري؛ حيث قال عنه: «ضعيف كذّاب يضع الحديث، حدّثنا أحمد بن عبدالواحد، قال: حدّثنا علىّ بن محمّد بن الزبير، قال: حدّثنا علىّ بن الحسن بن فضّال، قال: سمعت معاوية بن حكم يقول: سمعت أبا جميلة يقول: أنا وضعت رسالة معاوية إلى محمد بن أبي بكر»، ولكن المهمّ أنّ النجاشي قال: في ترجمة جابر بن يزيد: «روى عنه جماعة غُمِز فيهم و ضُعِّفوا، منهم عمرو بن شمر و المفضّل بن صالح و منخل بن جميل و يوسُف بن يعقوب» واستفاد السيّد الخوئىّ من هذا التعبير: أنّ ضعف المفضّل بن صالح كان من المتسالم عليه عند الأصحاب. فإن صحّت هذه الاستفادة كان هذا معارضاً لدلالة نقل الثلاثة عنه على توثيقه، كما جعله السيّد الخوئىّ معارضاً لدلالة وروده في أسانيد كامل الزيارات على توثيقه حسب ما يعتقده. إلّا أنّ هذه الاستفادة غير واضحة عندي، وعلى أىّ حال ففي النفس شيء مّما يرويه أبوجميلة.
$
', '(1) الوسائل، ج 11، باب 45 من جهاد النفس ح 1 ص 249، و الآية في سورة 2 البقرة الآية 269.
(2) نفس المصدر ح 2، والآية في سورة 4 النساء الآية 31.
', 111), (14, 112, 'book', '
3 ـ ما عن محمد بن الفضيل (الفضل ـ خ ل ـ) عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿إن تجتنبوا كبائَر ما تُنهَوْنَ عنه نكفّرْ عنكم سيّئاتِكم﴾ قال: «من اجتنب الكبائر ـ ما أوعَدَ اللّهُ عليه النار ـ إذا كان مؤمناً كفّراللّه عنه سيّئاته»(1). ولاإشكال فيه من حيث السند من غير جهة الراوي المباشر، أمّا الراوي المباشر، فإن كان هو محمّد بن الفضيل ـ كما يقال: إنّه ورد كذلك في ثواب الأعمال، وصاحب الوسائل نقل هذا الحديث عن ثواب الأعمال ـ فقد ضعّفه الشيخ، ولكن روى عنه بعض الثلاثة، إن كان هو محمد بن الفضل، فهو مشترك بين من وثّق ومن لم يوثّق. وبالتالي السند لايخلو من ضعف.
4 ـ ما عن عباد بن كثير النوا، قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الكبائر، فقال: كلّ ما أوعداللّه عليه النار»(2). والسند ضعيف على الأقلّ بمجهوليّة عباد بن كثير النوا.
5 ـ ما عن الحسن بن زياد العطّار، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في حديث قال: «قد سمّى اللّه المؤمنين بالعمل الصالح مؤمنين، ولم يسمّ من ركب الكبائر، وما وعداللّه ـ عزّ وجلّ ـ عليه النار مؤمنين في قرآن ولاأثر، ولانسمّيهم بالايمان بعد ذلك الفعل»(3). وفي سنده ودلالته ضعف.
6 ـ ما عن ابن محبوب ـ بسند تامّ ـ قال: «كتب معي بعض أصحابنا إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الكبائر: كم هي؟ وماهي؟ فكتب: الكبائر من اجتنب ما وعد اللّه عليه النار كفّر عن سيّئاته إذا كان مؤمناً، والسبع الموجبات: قتل النفس
', '(1) نفس المصدر ح 5 ص 250 و الآية في سورة 4 النساء الآية 31.
(2) نفس المصدر ح 6، و أيضاً باب 46 من جهاد النفس ح 24 ص 258.
(3) الوسائل، ج 11 ب 45 من جهاد النفس ح 7 ص 251.
', 112), (14, 113, 'book', '
الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرّب بعد الهجرة، وقذف المُحصَنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف»(1).
7 ـ ما عن علىّ بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: «سألته عن الكبائر التي قال اللّه ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿إن تجتَنِبوا كبائَر ما تُنهَوْنَ عنه﴾قال: التي أوجب اللّهُ عليها النار»(2).
8 ـ ماعن أحمد بن عمر الحلبي ـ بسند فيه موسى بن جعفر بن وهب البغدادي، ولم تثبت وثاقته ـ قال: «سألت أباعبداللّه (عليه السلام) عن قول اللّه ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿إن تجتَنبوا كبائرَ ما تُنَهون عنه نُكفِّرْ عنكم سيّئاتِكم﴾ قال: مَنِ اجتَنَبَ ما أوعداللّهُ عليه النار ـ إذا كان مؤمناً ـ كفّر عن سيّئاته وأدخله مُدْخَلا كريماً، والكبائر السبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف»(3).
وقد تحصّل بهذ االعرض وجود بعض روايات تامّة سنداً و دلالةً دالّة على أنّ المقياس هو كون المعصية مّما أوعداللّه عليها النار، فكلّ معصية تكون كذلك، فهي كبيرة، وغيرها صغائر.
ولو ورد في القرآن الوعيد بالعذاب، فالظاهر انصرافه إلى عذاب جهنم وفيه النار، ولايشمل مجرد أهوال يوم القيامة ـ مثلا ـ الّتي ليست منها النار، فالوعيد بالعذاب وعيد بالنار أيضاً.
والظاهر من عنوان (أوعداللّه عليها النار) كون الوعيد في القرآن الكريم،
', '(1) الوسائل ج 11 باب 46 من جهاد النفس ح 1 ص 252.
(2) نفس المصدر ح 21 ص 258.
(3) نفس المصدر ح 32 ص 260.
', 113), (14, 114, 'book', '
والنكتة في ذلك أنّ ظاهر إعطاء مقياس للمخاطبين للكبيرة و الصغيرة هو إرادة إعطاء مقياس مضبوط و مفهوم عند المخاطبين يمكن لهم الرجوع إليه لتشخيص الحال، بينما السنّة ليست محصورة و موجودة بتمامها عند المخاطبين عادةً؛ كي يمكن إرجاعهم إليها كضابط، وهذا بخلاف القرآن الكريم. فهذه هي نكتة الانصراف إلى ما قلناه.
إلّا أنّه قد يُقال: إنّه لوكان المقياس هو الوعيد في القرآن بالنار لانتقض ذلك ببعض المعاصي التي لم يرد في القرآن وعيد بالنار عليها، ولاشكّ فقهيّاً، أو إسلاميّاً في كونها من الكبائر من قبيل اللواط، وشرب الخمر.
وقد يُقال في الجواب: إنّ عنوان ما أوعد اللّه عليه النار الوارد في الروايات إشارة إلى مفهوم عرفىّ راجع إلى تفسير الكبيرة و الصغيرة، ومتعارف بين الموالي والعبيد العرفيّين. توضيحه: أنّ أوامر المولى ونواهيه لها محرّكية ذاتيّة للعبد إذا كان يحبّ مولاه، وهي محّركيّة عاطفيّة، ولها محّركيّة ذاتيّة عقليّة للعبد إذا كان يعترف لمولاه بالمولويّة الحقيقيّة ووجوب الطاعة، أو اجتماعيّة إذا كان يعترف له بالمولويّة الاجتماعية، وهذه المحّركيّات الذاتيّة قد لاتكفي لتحريك العبد، وعندئذ إن كان اهتمام المولى بالقضيّة كبيراً يوعده بالعذاب على تقدير عدم الامتثال، وقد يعذّبه بالفعل عند المخالفة، وإن كان اهتمامه بها ليس كبيراً يغضّ النظر عن العبد حينما يراه مخالفاً ولايعاقبه، إلّا إذا رأى منه إصراراً على ذلك، أو رآه يضم هذه المخالفة الى المخالفات الكبيرة، فقد يعاقبه على الصغيرة أيضاً. والمفهوم عرفاً من العفو عن الصغائر عند اجتناب الكبائر وعدم الإصرار هو هذا المعنى، فلا ينبغي أن نجمد في فهم مقياس ما أوعد اللّه عليه النار على فرض الوعيد الصريح، بل تهويله ـ تعالى ـ في كتابه لمعصية مّا يفهم منه بناءً على هذا الفهم العرفي الذي شرحناه الوعيد بالنار، وعليه فمثل اللواط الذي تكرّر فيه ذكر قصّة لوط (عليه السلام) في القرآن الكريم و تأنيبه
', '', 114), (14, 115, 'book', 'الشديد لقومه على هذا العمل القبيح، ثمّ ذكرنزول العذاب عليهم وإهلاكهم، دليل كاف بهذا النمط من الفهم على الوعيد بالنار، وكون المعصية كبيرة. وضُمّ النهي عن الخمر إلى النهي عن الأوثان ـ وجعلُهما معاً رِجْساً من عمل الشيطان في قوله ـ تعالى ـ: ﴿يا أيّها الذين آمنوا إنّما الخُمر و الميسِرُ و الأنصابُ و الأزلامُ رجسٌ من عَمَلِ الشيطانِ فاجْتَنبوهُ لعلَّكُم تُفلِحون﴾(1) ـ دليلٌ كاف على الوعيد بالعذاب و النار، وكون شربه معصية كبيرة، ولعلّه إلى هذا أشار ما جاء في حديث عبدالعظيم الحسني (رحمه الله) التامّ سنداً عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) عن أبيه موسى (عليه السلام)عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تعداد الكبائر من قوله: «وشرب الخمر لأَنّ اللّه ـ عزَّوجلّ ـ نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان»(2).
وقد يُقال: إنّ نفس حديث عبدالعظيم الحسني يشهد لعدم كون المقياس في فهم الكبائر في قوله ـ تعالى ـ: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ...﴾ خصوص الوعيد بالنار في القرآن الكريم؛ حيث جاء فيه في تعداد الكبائر: (وترك الصلاة متعمّداً، أو شيئاً مما فرض اللّه ـ عزّ وجلّ، لأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: من ترك الصلاة متعمّداً فقد بَرِىءَ من ذمّة اللّه وذمّة رسوله)، فتراه استدلّ على كون ترك الصلاة كبيرة بالسنّة لابالوعيد بالنار في القران. هذا بناءً على دعوى أنّ هذا الحديث وإن كان وارداً بشأن آية أُخرى، ولكن يفترض أنّ معنى الكبائر في الآيتين واحد.
ويمكن الجواب على ذلك على ضوءما شرحناه من الفهم العرفىّ لجعل المقياس هو الوعيد بالنار؛ بأنّه لا فرق في الدلالة على روح المطلب الذي أشرنا اليه ـ من كون الغرض مهمّاً إلى مستوى لا يكتفي المولى بأمره المولوي، بل يوعد العذاب على
', '(1) السورة 5 المائدة الآية 90.
(2) الوسائل، ج 11، باب 46، أبواب جهاد النفس، الحديث 2، ص 253.
', 115), (14, 116, 'book', '
تقدير المخالفة ـ بين أن تدلّ آية قرآنيّة على ذلك أو يدلّ نصّ الرسول (صلى الله عليه وآله)، أو الإمام (عليه السلام) على ذلك، فالاستشهاد بنصّ الرسول (صلى الله عليه وآله) على أنّ تارك الصلاة بريء من ذمّة اللّه ورسوله صحيح، وهذا لا ينافي ما نفهمه من روايات ما أوعداللّه عليه النار الّتي قلنا: إنّ ظاهرها إرادة الوعيد في الكتاب، فنحن نفهم منها أنّه ما من معصية كبيرة إلّا وهي مذكورة في القرآن، ولو كانت مذكورة في السنّة أيضاً. ومن الواضح دلالة القرآن على كون ترك الصلاة كبيرة؛ حيث جعله سبباً من أسباب السلوك في سقر في قوله ـ تعالى ـ: ﴿كلُّ نفس بما كسَبَتْ رهينة إلّا أصحاب اليمين. في جنّات يتساءَلونَ عن المجرمين. ما سلَككُم فى سقر قالوا لم نَكُ من المصلّين ولم نك نطعم المسكين. وكنّا نخوض مع الخائضين. وكنّا نكذّب بيوم الدين. حتى أتانا اليقين. فما تنفعهم شفاعة الشافعين﴾(1).
وقد يورد على جعل المقياس الوعيد بالنار سواء خصّ ذلك بالكتاب أو لم يخصّ بأحد إيرادين:
الأوّل ـ أنّه ما من معصية إلّا وقد ورد عليها الوعيد بالنار في القرآن. قال اللّه ـ تعالى ـ:
﴿ومن يعصِ اللّهَ ـ ورسولَه ويتعدَّ حدودَهُ يدخلْهُ ناراً خالداً فيها وَلَهُ عذاب مُهين﴾(2).
وقال ـ تعالى ـ: ﴿بلى مَنْ كَسَبَ سيّئةً و أَحاطتْ بِهِ خطيئتُهُ فأولئِكَ أصحابُ النارِهُمْ فيها خالدون»(3).
$
', '(1) السورة 74 المدّثّر الآية 38 ـ 48.
(2) السورة 4 النساء الآية 14.
(3) السورة 2 البقرة الآية 81.
', 116), (14, 117, 'book', '
وقال ـ تعالى ـ: ﴿ قال اخرُجْ منها مذؤوماً مدحوراً لَمَنْ تَبِعَكَ منهُمْ لاََملاََنَّ جَهَنَّمَ منكُمْ أَجمَعين ﴾(1).
وقال ـ تعالى ـ: ﴿ قال: فالْحقُّ والْحقَّ أَقولُ لاََملاََنَّ جَهَنَّمَ منكَ وممَّن تَبِعَكَ منهُمْ أَجمعين ﴾(2).
والواقع: أنّ هذا الإشكال لوتمّ لكان إشكالا على أصل تقسيم المعاصي إلى الكبائر، والصغائر، والوعد الجزميّ بالعفو عن الصغائر على تقدير ترك الكبائر، لانّ الوعيد بالنار لايجتمع عرفاً مع الوعد الجزميّ بالعفو غير المعلّق على التوبة.
ومن الواضح أنّ المقصود بهذه الآيات ليس من يرتكب الصغيرة، بل ولا من يرتكب الكبيرة، فليس مجرّد ارتكاب كبيرة موجباً للخلود، أو سبباً لملءِ جهنّم به، وإنّما تنظر هذه الآيات إلى الملحدين والمنافقين والأشقياء والمستهترين بالمعاصي وأمثالهم.
الثاني ـ أنّ هناك روايات عديدة وردت في حصر الكبائر في عدد قليل كسبع، أو خمس، أو تسع، أو عشر؛ بينما لو كانت الكبائر عبارة عمّا أو عداللّه عليه النار، فهي كثيرة وغير منحصرة في عدد قليل، ولعلّ المنصرف من كلمة الكبائر في الروايات هو المعنى المقصود في قوله ـ تعالى ـ: ﴿إن تجتنبوا كبائرَ ما تُنهَوْنَ عنهُ، نُكَفِّرْ عنكمْ سيِّئاتِكم﴾. فليس المقصود من الكبائر في هذه الروايات معنىً آخر غير المعنى المبحوث عنه.
والواقع: أنّ هذا ينبغي أن يكون إشكالا على تلك الروايات، ويفحص عن جوابه، لا أن يكون إشكالا على المقياس الماضي للكبائر وهو الوعيد بالنار، وذلك
', '(1) السورة 7 الأعراف الآية 18.
(2) السورة 38 ص الآية 84 ـ 85.
', 117), (14, 118, 'book', '
لأنّ الوعد الجزميّ بالمغفرة على تقدير ترك قسم من الذنوب، وغير المعلّق على التوبة لايجتمع عرفاً مع الوعيد بالنار؛ إذن فكلّ ما أو عداللّه عليه بالنار ينبغي أن يكون داخلا في المكفِّرات ـ بالكسر ـ (أي مايكون تركه مكفِّراً) لا المكفَّرات ـ بالفتح ـ وإذا شككنا في صحّة هذا المقياس ينبغي أن يكون ذلك على أساس احتمال كون دائرة الكبائر أوسع من دائرة ما أو عد عليه النار، لاعلى أساس احتمال كونها أضيق منها. إذن، فينبغي حمل هذه الروايات على بيان أكبر الكبائر، لا الكبائر بالمعنى الوارد في القرآن الكريم، فإنّ الكبيرة عنوان نسبىّ ومشكّك، فيمكن أن تحصر بمستوىً معيّن وببعض معانيها ودرجاتها في عدد قليل، كما يمكن أن توسّع ببعض الدرجات. وممّا يجلب النظر أنّ الروايات الحاصرة للكبائر في عدد قليل لم ترد غالبيّتها بعنوان تفسير الآية، إلّا بمجرد دعوى الانصراف إلى إرادة المعنى المذكور في الآية. نعم قد يدّعى في بعضها القرينة على النظر إلى الآية الكريمة، وهي غير تامّة السند، بينما الروايات السابقة ـ المفسِّرة للكبيرة بأنّها ما أوعد اللّهُ عليهِ النار ـ جملة منها كانت صريحة في تفسير الآية، وفيها ما هو تامّ السند.
هذا. وبعض روايات الحصر في عدد قليل مشتمل على ما يشهد لهذا الجمع الّذي أشرنا إليه ـ من حمل تلك الروايات على إرادة أكبر الكبائر، لا على إرادة الكبيرة بمعنى الذنوب المكفِّرة ـ والروايات كما يلي:
1 ـ ماورد ـ بسند تامّ ـ عن ابن محبوب، قال: «كتب معي بعض أصحابنا إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الكبائر كم هي؟ وما هي؟ فكتب: الكبائر من اجتنب ما وعد اللّه عليه النار كفّر عنه سيّئاته إذا كان مؤمناً، والسبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرُّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، وأكل
', '', 118), (14, 119, 'book', 'مال اليتيم، والفرار من الزحف»(1). وقد مضى منّا ذكر هذا الحديث في عداد أحاديث تفسير الكبيرة بما أوعد اللّه عليه النار، وهذا الحديث ـ كما ترى ـ فيه دلالة على ما ذكرنا من أنّ السبع هي عدد من المعاصي أكبر من سائر الذنوب، لا أنّ الكبائر المشار إليها في الآية الشريفة محصورة في هذا العدد، فإنّ هذا الحديث ـ كما ترى ـ قد جمع بين ذكر ذاك المقياس في صدر الحديث ـ وهو ما أوعد عليه النار ـ و ذكر العدد السبع من المعاصي.
2 ـ ما عن عبيد بن زرارة ـ بسند تامّ ـ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الكبائر، فقال: هنّ في كتاب عليّ (عليه السلام) سبع: الكفر باللّه، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وأكل الربا بعد البيّنة، وأكل مال اليتيم ظلماً، و الفرار من الزحف، والتعرّب بعد الهجرة. قال: فقلت هذا أكبر المعاصي؟ فقال: نعم، قلت: فأكل ألدرهم من مال اليتيم ظلماً أكبر، أم ترك الصلاة؟ قال: ترك الصلاة. قلت فما عددت ترك الصلاة في الكبائر، قال: أيّ شيء أوّل ما قلت لك؟ قلت: الكفر، قال: فإنّ تارك الصلاة كافر؛ يعني من غير علّة»(2)
3 ـ ما عن محمّد بن مسلم ـ بسند تامّ ـ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمّداً، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، والتعرّب بعد الهجرة، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا بعد البيّنة، وكلّ ما أوجب اللّه عليه النار»(3). وما في هذا الحديث من عدّ عنوان ما أوجب اللّه عليه النار في عداد الكبائر السبع شاهد لما ذكرناه من الجمع.
$
', '(1) الوسائل ج 11 باب 46 من جهاد النفس ح 1 ص 252.
(2) نفس المصدر ح 4 ص 254.
(3) نفس المصدر ح 6 ص 254.
', 119), (14, 120, 'book', '
4 ـ ما عن مسعدة بن صدقة قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: الكبائر: القنوط من رحمة اللّه، واليأس من رَوْحِ اللّه، والأمن من مكر اللّه، وقتل النفس التي حرّم اللّه، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم ظلماً، وأكل الربا بعد البيّنة، والتعرُّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، والفرار بعد الزحف» الحديث(1). والسند غير تامّ.
5 ـ ما عن أبي بصير ـ بسند غير تامّ ـ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: الكبائر سبعة: منها قتل النفس متعمداً، الشرك باللّه العظيم، وقذف المحصنة، وأكل الربا بعد البيّنة، والفرار من الزحف، والتعرُّب بعد الهجرة، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم ظلماً. قال: والتعرّب والشرك واحد»(2). وقوله: «سبعة، منها» دليل عدم الحصر، وشاهد للجمع الذي ذكرناه، إلّا إذا افترضنا أنّ الضمير في (منها) يرجع إلى نفس كلمة سبعة.
6 ـ ما عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: «إجتنبوا السبع الموبقات. قيل: وما هنّ؟ قال: الشرك باللّه، والسِّحر، وقتل النفس التي حرّم اللّه إلّا بالحقّ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»(3). وهو ساقط سنداً. ويلحظ أنّ الرواية لاإشارة فيها إلى الحصر، ولم تعبّر بالكبائر كي توحي إلى أنّها تفسّر الكبائر بمعناها الوارد في الآية المباركة، وإنّما قالت: اجتنبوا السبع الموبقات.
7 ـ ما عن أبي الصامت عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «أكبر الكبائر سبع: الشرك باللّه العظيم، وقتل النفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ، وأكل أموال اليتامى،
', '(1) نفس المصدر ح 13 ص 256.
(2) نفس المصدر ح 16 ص 256.
(3) نفس المصدر ح 34 ص 261.
', 120), (14, 121, 'book', '
وعقوق الوالدين، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، وإنكار ما أنزل اللّه ـ عزّ وجلّ ـ: فأمّا الشرك باللّه العظيم، فقد بلغكم ما أنزل اللّه فينا وما قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فردوه على اللّه وعلى رسوله، وأمّا قتل النفس الحرام، فقد قُتل الحسين (عليه السلام)(فقتل الحسين (عليه السلام) ـ خ ل ـ) و أصحابه، وأمّا أموال اليتامى فقد ظُلمنا فيئَنا وذهبوا به، وأمّا عقوق الوالدين فإنّ اللّه ـ عزّ وجلّ ـ قال في كتابه: ﴿النبيُّ أَولى بالمؤمنينَ من أنفُسِهم وأزواجُهُ أمّهاتُهم﴾(1)، وهو أبٌ لهم، فعقّوه في ذريّته وفي قرابته، وأمّا قذف المحصنات فقد قذفوا فاطمة (عليها السلام) على منابرهم، وأمّا الفرار من الزحف، فقد أعطوا أمير المؤمنين (عليه السلام) البيعة طائعين غير مكرهين، ثمّ فرّواعنه وخذلوه، وأمّا إنكار ما أنزل اللّه ـ عزّ وجلّ ـ فقد أنكروا حقّنا، وجحدوا له، وهذا ممّا لايتخاصم فيه أحد، واللّه يقول: ﴿إنْ تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم ونُدخِلْكم مُدْخَلا كريماً﴾(2). وقد يُقال: إنّ ذيله مشعر بكون الكبائر السبع، هي نفس الكبائر الّتي جاءت الإشارة إليها في الآية الكريمة . ولكن لايخفى أنّه لا يدلّ ذيله على أكثر من أنّ الكبائر السبع هي من جملة الكبائر المشار إليها في الآية الكريمة، أمّا الحصر فلا، على أنّ صدر الحديث قد عبّر بعنوان (أكبر الكبائر) لا بعنوان (الكبائر). وعلى أيّ حال فسند الحديث غير تامّ.
8 ـ مارواه الصدوق بإسناده عن عليّ بن حسّان، عن عبدالرحمان بن كثير، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّ الكبائر سبع، فينا نزلت ومنّا استُحلّت، فأوّلها الشرك باللّه، وقتل النفس الّتي حرّم اللّه، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، وقذف
', '(1) سورة الاحزاب الآية 6.
(2) الوسائل ج 11 ب 46 من جهاد النفس ص: 257 ـ 258 كما أن ذيل الرواية وارد في هامش ص: 257 والآية واردة في سورة النساء الآية 31.
', 121), (14, 122, 'book', '
المحصنة، والفرار من الزحف، وإنكار حقّنا: فأمّا الشرك باللّه العظيم، فقد أنزل اللّه فينا ما أنزل، وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فينا ما قال، فكذّبوا اللّه، وكذّبوا رسوله، فأشركوا باللّه، وأمّا قتل النفس الّتي حرّم اللّه، فقد قتلوا الحسين بن عليّ (عليهما السلام)وأصحابه، وأمّا أكل مال اليتيم، فقد ذهبوا بفيئنا الذي جعله اللّه ـ عزّ وجلّ ـ لنا، فأعطوه غيرنا، وأمّا عقوق الوالدين، فقد أنزل اللّه ـ تبارك وتعالى ـ في كتابه فقال ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أُمّهاتهم﴾، فعقّوا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في ذرّيّته، وعقّوا أُمّهم خديجة في ذرّيّتها، وأمّا قذف المحصنة فقد قذفوا فاطمة (عليها السلام) على منابرهم، وأمّا الفرار من الزحف فقد أعطوا أميرالمؤمنين (عليه السلام)بيعتهم طائعين غير مكرهين، ففرّوا عنه، وخذلوه، وأمّا إنكار حقّنا فهذا ممّا لايتنازعون فيه»(1). ولعلَّ هذا أوضح من سابقه في الدلالة على حصر الكبائر الواردة في الآية الكريمة في السبع، ولكنّه ـ على أيّ حال ـ قابل للتوجيه بالحمل على كون السبع أكبر الكبائر. وعلى أيّ حال فالسند ساقط أوّلا: بعبد الرحمان بن كثير، وثانياً: بعليّ بن حسّان. وعليّ بن حسّان مشترك بين الواسطي الثقة والهاشميّ، والتعبير بعلىّ بن حسّان إنّما هو في الوسائل، أمّا في الفقيه، فقد جاء هكذا: (روى علي بن حسّان الواسطي، عن عمّه عبدالرحمان بن كثير)، ومن هنا قد يتراءى أنّ علىّ بن حسان في المقام هو الثقة، وقال أيضاً الصدوق في مشيخة الفقيه: «وما كان فيه عن علىّ بن حسان، فقد رويته عن محمد بن الحسن (رضي الله عنه) عن محمد بن الحسن الصفار، عن علىّ بن حسان الواسطىّ» وقال أيضاً (رحمه الله) في مشيخة الفقيه: «وما كان فيه عن عبدالرحمان بن كثير الهاشمىّ، فقد رويته عن محمد بن الحسن (رضي الله عنه) عن محمّد
', '(1) الفقيه ج 3 ح 1745 ص 366 و 367، وصدره جاء في الوسائل ج 11 ح 22 من باب 46 من جهاد النفس ص 258.
', 122), (14, 123, 'book', '
ابن الحسن الصفّار، عن علي بن حسان الواسطي، عن عمّه عبدالرحمان بن كثير الهاشمىّ» إلّا أنّ الخطأ الواقع في كلام الصدوق (رحمه الله) أنّه فرض عبدالرحمان بن كثير الهاشمىّ عمّاً لعلىّ بن حسّان الواسطىّ، بينما هو عمّ لعلىّ بن حسّان الهاشمىّ، فلا ندري هل كان خطؤه في فرض هذا عمّاً لذلك، أو كان خطؤه في تخيّل أنّ علىّ بن حسّان الهاشمىّ الذي هو ابن أخي عبدالرحمان يلقّب بالواسطيّ، وأنّ علىّ بن حسّان الواسطىّ ليس إنساناً آخر، فبالتالي نبقى مردّدين في المقام بين كون علىّ بن حسّان هو الواسطيّ أو الهاشمي، وبالتالي لا تثبت وثاقته.
9 ـ ما عن محمد بن أبي عُمير ـ بسند تامّ ـ عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «وجدنا في كتاب علىّ (عليه السلام) الكبائر خمسة: الشرك، وعقوق الوالدين، وأكل الربا بعد البيّنة، والفرار من الزحف، والتعرّب بعد الهجرة»(1)
10 ـ ما عن عبيد بن زرارة ـ بسند غير تامّ ـ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام)أخبرني عن الكبائر، فقال: هنّ خمس، وهنّ مّما أوجب اللّه عليهنّ النار؛ قال اللّه ـ تعالى ـ: ﴿إنّ اللّه لايغفر أن يشرك به﴾(2)، وقال: ﴿إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنّما يأكلون في بطونهم ناراً، و سيُصلَون سعيراً﴾(3)، وقال: ﴿يا أيّها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولّوهم الأدبار﴾(4) إلى آخر الآية، وقال ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا اللّه وذروا ما بقي من الربا﴾(5) إلى
', '(1) الوسائل، ج 11، ب 46 من جهاد النفس ح 27 ص 259.
(2) سورة النساء الآية 48.
(3) سورة النساء الآية 10.
(4) سورة الانفال الآية 15.
(5) سورة البقرة الآية 278.
', 123), (14, 124, 'book', '
آخر الآية، ورمي المحصنات الغافلات المؤمنات، وقتل مؤمن متعمّداً على دينه»(1)ولعلّ قوله: «وهنّ مّما أوجب اللّه عليهنّ النار» يؤيّد حملنا لهذه الروايات على بيان أكبر الكبائر، فإنّ افتراض كون عنوان ما أوجب اللّه عليه النار أوسع من الخمس في الوقت الذي يراد فرض الخمس هي المكفِّرات ـ بالكسر ـ وما عداها مكفَّرات ـ بالفتح ـ غير عرفىّ.
11 ـ ما مضى في عداد أحاديث تعريف الكبيرة بما أوعداللّه عليه النار من حديث أحمد بن عمر الحلبي قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن قول اللّه ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئآتكم﴾ قال: من اجتنب ما أو عد اللّه عليه النار إذا كان مؤمناً كفّر عنه سيّئاته، وأدخله مدخلا كريماً، والكبائر السبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف»(2). وهذا الحديث من الشواهد على الجمع الذي ذكرناه بين الروايات لأنّ صدره مشتمل على تعريف الكبائر بما أوعداللّه عليها النار، وذيله مشتمل على تعداد الكبائر السبع الموجبات. وسند الحديث غير تامّ.
12 ـ المرسل المنقول عن كنز الفوائد، قال: (عليه السلام): «الكبائر تسع، أعظمهنّ الإشراك باللّه ـ عزّ وجلّ، وقتل النفس المؤمنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام، والسحر. فمن لَقِيَ اللّه ـ عزّ وجلّ ـ وهو بريء منهنّ كان معي في جنّة مصاريعها الذهب». ورواه الطبرسيّ في مجمع البيان مرسلا، إلّا أنّه قال: «سبع وترك
', '(1) الوسائل، ج 11، ب 46 من جهاد النفس ح 28.
(2) نفس المصدر ح 32 ص 260.
', 124), (14, 125, 'book', '
الأخيرتين»(1). وقوله: «فمن لَقِيَ اللّه ...» قد يكون قرنية على أنّ الكبائر في هذا الحديث هي الكبائر الواردة في قوله ـ تعالى ـ: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه، نكفّر عنكم سيّئاتكم﴾؛ إذ فرض أنّ اجتناب هذه التسع، أو السبع يستوجب كون تاركها مع المعصوم (عليه السلام) في جنّة مصاريعها الذهب، إلّا أنّ الحديث مرسل لاقيمة له سنداً.
13 ـ ما عن محمّد بن مسلم ـ بسند غير تامّ ـ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قلت له: مالنا نشهد على من خالفنا بالكفر. ومالنا لانشهد لأنفسنا، ولأصحابنا أنّهم في الجنّة؟ فقال: من ضعفكم إن لم يكن فيكم شيء من الكبائر، فاشهدوا أنّكم في الجنّة. قلت: فأيّ شيء الكبائر؟ قال: أكبر الكبائر الشرك باللّه، وعقوق الوالدين، والتعرّب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم ظلماً، والربا بعد البيّنة، وقتل المؤمن. فقلت له: الزنا والسرقة. فقال: ليسا من ذلك»(2). فقوله: «إن لم يكن فيكم شيء من الكبائر فاشهدوا أنّكم في الجنة» يشهد لكون المقصود هي الكبائر الّتي من تركها كُفّرت عنه سيّئاته، لكن حينما يأتي إلى التعداد يقول: «أكبر الكبائر كذا وكذا»، ولايقول: «الكبائر كذا وكذا»، ثمّ يصرّح بأنّ الزنا والسرقة ليسامنها، بينما لا شكّ فقهيّاً في دخولهما في الكبائر بمعنى الذنوب المكفِّرة ـ بالكسر، أو بمعنى ما يخلّ بالعدالة.
وقد ورد حديث تامّ السند ظاهر في عدم كون الزنا والسرقة من الكبائر، وهو ما عن محمّد بن حكيم، قال: «قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام): الكبائر تخرج من الإيمان؟ فقال: نعم وما دون الكبائر قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): لا يزني الزاني وهو
', '(1) نفس المصدر ح 37 ص 263.
(2) نفس المصدر ح 35 ص 261 و 262.
', 125), (14, 126, 'book', '
مؤمن، ولايسرق السارق وهو مؤمن»(1). فهذا ظاهره أنّ الزنا والسرقة ممّا دون الكبائر مع ضرورة كونهما من الكبائر بالمعنى المخلّ بالعدالة، أو بمعنى الذنوب المكفِّرة ـ بالكسر، فهذا بنفسه شاهد على أنّ الكبائر قد تُستعمل بمعنى أكبر الكبائر، بل نفس عدم شمول الروايات ـ الحاصرة للكبائر في عدد قليل ـ لكثير من المعاصي الّتي هي من الكبائر ـ بالمعنى الفقهي ـ بضرورة من الفقه، دليل واضح على حملها على بيان أكبر الكبائر؛ إذن فالروايات المفسّرة للكبائر بما أوعد اللّه عليها النار لامعارض لها.
ونفس الاختلاف في التعداد قد يكون شاهداً على عدم إرادة الحصر بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، أو على كون الحصر حصراً إضافياً، وأنّها ليست بصدد تعريف الكبيرة بمعناها العامّ الواردة في الآية الكريمة.
بقي الكلام في الروايات الّتي عدّدت عدداً كثيراً من المعاصي تحت عنوان الكبائر أي عدداً أكثر من العدد الذي حصرت فيه الكبائر في الروايات السابقة، وهي ثلاث روايات:
1 ـ رواية عبدالعظيم الحسني وهي تامّة سنداً، وواردة في الوسائل ـ ج 11 باب 46 من جهاد النفس ح 2 ص 252
2 ـ رواية الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) وهي واردة في نفس الباب ـ ح 33 ص 260 ـ وهي غير تامّة سنداً.
3 ـ رواية الأعمش عن جعفر بن محمّد (عليه السلام) في حديث شرائع الدين الواردة في نفس الباب ـ ح 36 ص 262 ـ وهي غير تامّة سنداً.
والروايتان الأخيرتان تقبلان الحمل على إرادة ذكر عدد من المعاصي أكبر
', '(1) نفس المصدر ح 18 ص 257.
', 126), (14, 127, 'book', '
من سائر المعاصي، وأن لا تكونا ناظرتين إلى تفسير الآية الكريمة، فإن وجدت في هاتين الرواتين معصية لم يوعد عليها النار، قلنا في مقام الجمع: إنّ هذه كبيرة بالإضافة لما هي أصغر منها، وليست كبيرة بالمعنى المقصود بالآية المباركة؛ كي تعارض الروايات المفسّرة للآية بما أوعد اللّه عليه النار، وإن وجدنا معصية أوعد عليها النار غير مذكورة في هاتين الروايتين قلنا: إنّهما لم تكونا بصدد الحصر الحقيقّي للكبيرة بالمعنى الوارد في الآية الكريمة.
أمّا الرواية الاولى فهي أيضاً غير واردة بصدد تفسير قوله ـ تعالى ـ: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم﴾، وإنّما هي واردة بالنظر إلى آية أُخرى، وهي قوله: ﴿الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش﴾ إلّا إذا جزمنا بوحدة المعنى في الآيتين كما ليس ببعيد، وعلى أيّ حال فلو وجدنا معصية ممّا أوعد عليها النار غير مذكورة في هذا الحديث الشريف، قلنا: إنّ هذا الحديث لاينفي كونها من الكبائر، بل يثبت ذاك، وذلك لما جاء في هذا الحديث الشريف من التعليل لإثبات كون المعاصي المذكورة فيها كبائر بالآيات القرآنية المنذِرة، بل وبالسنّة بالنسبة لترك الصلاة.
يبقى أنّ هذا الحديث الشريف (أعني حديث عبدالعظيم الحسني (رضي الله عنه) فرض ترك أيّ شيء ممّا فرض اللّه ـ عزّ وجلّ ـ كبيرة؛ بينما لم نجد في القرآن الوعيد بالنار على ترك كلّ ما فرض اللّه. ثمّ ماذا نقول في ترك الصوم؟ أفهل يُحتمل فقهياً عدم كونه من الكبائر؟!! طبعاً لا، مع أنّه لايوجد في القرآن الوعيد عليه بالنار، وهذا كلّه قد يشهد لكون المقصود بروايات تعريف الكبيرة بما أو عد اللّه عليه النار، هو الوعيد بالنار في الشريعة لافي خصوص القرآن.
وقد يُقال: إنّ النظر في آية التكفير إلى المحرّمات فقط، دون ترك الواجبات بقرينة قوله ـ تعالى ـ: ﴿... ما تُنْهَوْنَ عنه﴾، فإنّ ترك الواجب ترك للمأمور به،
', '', 127), (14, 128, 'book', 'وليس منهيّاً عنه، إلّا بالمعنى الأُصوليّ القائل: إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده؛ فالمعنى: أنّ اجتناب المحرّمات الكبيرة يوجب تكفير السيّئات، وليس المقصود بالسيّئات ما يشمل ترك الواجبات، وإلّا للزم أن يكون ترك الصلاة الّتي هي عمود الدين مكفَّراً بترك المحرّمات الكبيرة، وهذا غير محتمل، فكأنّ الآية الكريمة تنظر مسبقاً إلى من هو ملتزم بالواجبات فتقول: لو ترك المحرمات الكبيرة كفّرنا عنه صغائر المحرمات.
ويؤيّد هذا الاستظهار أنّ أكثر روايات تعداد الكبائر غير مشتملة على ترك الصلاة، أو ترك أيّ واجب آخر في حين لايحتمل كون ترك الصلاة الّتي هي عمود الدين أصغر من كلّ الكبائر المعدودة في تلك الروايات.
نعم توجد روايتان ذكرتا ذلك:
الأُولى ـ مامضى من رواية عبيد بن زرارة ـ بسند تامّ ـ عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)؛ حيث جاء في ذيلها قوله: «فقلت: هذا أكبر المعاصي؟ قال: نعم قلت: فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلماً أكبر أم ترك الصلاة؟ قال: ترك الصلاة، قلت: فما عددت ترك الصلاة في الكبائر، قال: أيّ شيء أوّل ما قلت لك؟ قلت: الكفر. قال: فإنّ تارك الصلاة كافر؛ يعني من غير علّة»(1). إلّا أنّك عرفت أنّ مثل هذه الرواية لاتحمل على النظر إلى تفسير الكبيرة بالمعنى الوارد في آية التكفير.
الثانية ـ ما أشرنا إليه من رواية عبد العظيم الحسني (رضي الله عنه)؛ حيث جاء فيها ذكر ترك الصلاة متعمداً أو شيء ممّا فرض اللّه ـ عزّ وجلّ ـ وهذه الرواية ليست واردة في تفسير آية التكفير، بل هي واردة في تفسير آية اللّمم، ولم ترد كلمة النهي في آية اللّمم، وإنّما قال: ﴿اللذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ...﴾ بينما وردت
', '(1) الوسائل، ج 11، باب 46 من جهاد النفس، ح 1، ص 252.
', 128), (14, 129, 'book', '
في آية التكفير حيث قال: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تُنْهَوْنَ عنه﴾، فمن المحتمل أنّ فرض فعل الفرائض كان مفروغاً عنه في آية التكفير، بينما في هذه الآية يكون ترك الفريضة داخلا في الإثم. وهذه الرواية تؤيّد ما استظهرناه من آية التكفير من أنّ موضوع الوعد بالتكفير هو من لم يكن عليه شيء من ناحية الواجبات، فإنّ هذه الرواية فرضت ترك الفرائض داخلا في المقصود بالكبائر في آية اللّمم، وهذا يعني أنّ اللّه ـ تعالى ـ إنّما وعد في هذه الآية بالمغفرة لمن أتى بالفرائض، فيتّحد، أو يتقارب مفاد الآيتين.
إلّا أنّ الذي يبعِّد استظهارنا لاختصاص آية التكفير بالنظر إلى المحرّمات، أنّ كلمة (ماتُنْهَوْنَ عنه) وإن كانت ـ لعلّها ـ مُختصَّة بالمحرّمات بحسب حاقّ اللّغة، ولكن حسب مناسبات الحكم والموضوع لافرق في المعصية من حيث كونها صغيرة أو كبيرة، ومن حيث نكتة المكفِّرية ـ بالكسر ـ والمكفَّرية ـ بالفتح ـ بين أن تكون فعلا لحرام، أو تركاً لواجب. وعلى أيّ حال فلابدّ من افتراض احد امور ثلاثة: إمّا افتراض أنّ الآية ناظرة إلى خصوص المحرّمات، أو افتراض أنّ المقصود بوعيد اللّه بالنار الوعيد في الشريعة، لاالوعيد في خصوص القرآن، أو افتراض ان مقياس الوعيد بالنار في القرآن إنما ذكر للمحرمات وأما مافرضه اللّه من الواجبات فهن جميعاً يعتبر تركها كبيرة. ولعل هذا الوجه «الاخير أقوى الوجوه. وأما استبعاد كون تمام الواجبات تركها كبيرة فيمكن الجواب عليه بأنّ المقصود ما ورد في رواية عبد العظيم الحسني من عنوان ما فرضه اللّه ليس هو تمام الواجبات بل الواجبات الواردة في القرآن و يشهد لذلك. ما في صدر الرواية من ان سؤال السائل كان عبارة عن طلب معرفة الكبائر من كتاب اللّه فكأنّ مقصوده ـ عليه الصلاة والسلام ـ: أنّ الواجبات على قسمين: منها مافرضه اللّه وهو وارد في كتابه و يكون تركه كبيرة و منها مافرضه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في سنته بإذن اللّه او بإمضاءه ولا يعتبر
', '', 129), (14, 130, 'book', 'ترك ذلك كبيرة.
بقى الكلام في شيء واحد، وهو أننا وإن قلنا: ان ارتكاب الصغيرة لايضر بالعدالة
ولكننا نقول: أن الإصرار(1) على الصغيرة يجعلها كبيرة لعدة روايات: كما
', '(1) يبدو من بعض الروايات أنّ معنى الإصرار ليس هو التكرار، بل معناه عدم الندم، أو عدم حديث النفس بالتوبة، وإن كانت تلك الروايات غير واردة في الصغيرة، وما شاهدت من ذلك روايتان:
1 ـ ما جاء في رواية محمّد بن أبي عمير عن موسى بن جعفر (عليه السلام) من قوله: «يا أبا محمّد ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أنّه سيعاقب عليها إلّا ندم على ما ارتكب، ومتى ندم كان تائباً مستحقاً للشفاعة، ومتى لم يندم عليها كان مصرّاً، والمصرّ لايغفرله؛ لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب، ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم ...»
2 ـ ما عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون﴾، قال: «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر اللّه ولا يحدّث نفسه بالتوبة، فذلك الإصرار» الوسائل ج 11، ب 48 من جهاد النفس، ح 4، ص 268.
وسند الحديث كما يلي: الكليني، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام). والسند ضعيف بعمرو بن شمر على الأقلّ.
هذا. والظاهر أنّ التفسير الإوّل ـ أي الوارد في الحديث الأوّل ـ لايمكن تسريته إلى باب الصغيرة، لأنّ الإصرار لو كان بمعنى عدم التوبة فالصغيرة بلا إصرار مغفورة بالتوبة سواء اجتنب الكبائر أولا، فما معنى قوله: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تُنْهَوْنَ عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم﴾، فالظاهر أنّ المقصود بالإصرار إمّا هو التكرار الكثير، أو الإصرار النفسي والإصرار النفسي هو الذي أُشير إليه في الحديث الثاني وهو المفهوم عرفا من كلمة الإصرار فالإصرار حالة نفسية بمعنى كون الإنسان مرتكباً للذنب لاكصدفة عابرة على النفس بل بإقبال نفسىّ ثابت.
', 130), (14, 131, 'book', '
ورد عن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا صغيرة مع الإصرار، ولاكبيرة مع الاستغفار»(1). إلّا أنّ سنده ضعيف بعمّار بن مروان القندي الذي روى هذا الحديث عن عبداللّه بن سنان، ولم تثبت وثاقته. و ماورد عن محمّد بن أبي عمير عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في حديث ... . قال النبي (صلى الله عليه وآله): لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار ...(2). وهذا الحديث تامّ سنداً؛ لأنّ الصدوق رواه عن أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن محمّد بن أبي عمير، ومن قبل الهمداني لاإشكال فيهم، وأمّا الهمداني فهو وإن لم يرد في كتب الرجال توثيقه، لكن يكفي في توثيقه ما ذكره الصدوق (رحمه الله) في كتاب (كمال الدين وتمام النعمة) من قوله بعد ذكر حديث: «لم أسمع هذا الحديث إلّا من أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه) بهمدان عند منصرفي من حجّ بيت اللّه الحرام، وكان رجلا ثقة ديّناً فاضلا ـ رحمة اللّه عليه ورضوانه ـ»(3). وما عن الفضل بن شاذان ـ والسند غير تامّ ـ عن الرضا (عليه السلام) في تعداد الكبائر وفيه: (الإصرار على الذنوب)(4). وعن تحف العقول مرسلا (والإصرار على الصغائر من الذنوب)، و الظاهر أنّ هذا هو المقصود حتى مع حذف كلمة (الصغائر)، فإنّ الكبائر هي كبائر بلاحاجة إلى إصرار. وما عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) في حديث المناهي: «أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)قال: لاتحقّروا شيئاً من الشرّ وإن صغر في أعينكم، ولا
', '(1) الوسائل، ج 11، ب 48 من جهاد النفس، ح 3، ص 268.
(2) الوسائل، ج 11، ب 47 من جهاد النفس، ح 11، ص 266.
(3) كمال الدين وتمام النعمة، آخر باب ما روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر في النصّ على القائم، ص 369، بحسب طبعة دار الكتب الإسلامية بطهران.
(4) الوسائل، ج 11، ب 46 من جهاد النفس، ح 33، ص 261.
', 131), (14, 132, 'book', '
تستكثروا شيئاً من الخير وإن كثر في أعينكم، فإنّه لاكبير مع الاستغفار، ولاصغير مع الإصرار»(1)، وسنده غير تامّ. وما عن أبي بصير بسند تامّ، قال: سمعت أباعبداللّه (عليه السلام) يقول: لاواللّه لايقبل اللّه شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه(2). ومقتضى إطلاق الحديث أنّ الإصرار على المعصية الصغيرة أيضاً يمنع قبول الطاعة، وافتراض بقائها صغيرة ـ وكونها معفوّاً عنها عفواً جزميّاً لو لم يقترن بالكبائر ـ لا يجتمع عرفاً مع المانعيّة عن قبول الطاعة. وأدلّة حصر الكبائر في أعيان المعاصي الكبيرة لو تمّت تحمل على ذوات الذنوب دون الإصرار عليها. وقد يقال: إنّ إطلاق هذا الحديث يعارض إطلاق الآية الكريمة: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم﴾ الظاهر في اجتناب أعيان الذنوب الكبيرة لا الإصرار على معصية هي في نفسها صغيرة.
وقد يُجاب بأنّ هذا الحديث يمكن تفسيره بافتراض كون نفس الإصرار على الذنب المقترن بالعمل من المعاصي الكبيرة، فيصبح مصداقاً لــ (كبائر ما تنهون عنه)، وإنّما قيّدنا الإصرار بكونه مقترناً بالعمل كي لا ينافي مادلّ على العفو عن النيّة البحتة.
معنى اللّمم
وفي ختام هذا البحث لا بأس بالإشارة إلى معنى اللّمم، والذي يستفاد من كتاب لسان العرب(3) أنّ المحتملات في اللّمم ثلاثة:
1 ـ أن يكون بمعنى صغار الذنوب وقد نقل في لسان العرب عن أبي إسحاق
', '(1) الوسائل، ج 11، ب 43 من جهاد النفس، ح 8، ص 246.
(2) الوسائل، ج 11، ب 48 من جهاد النفس، ح 1، ص 268.
(3) لسان العرب، ج 12، ص 549 وما بعدها.
', 132), (14, 133, 'book', '
أنّه قال: اللّمم نحو القُبلة والنظرة وما أشبهها. وإلى هذا يرجع ما نقله عن الجوهري أنّه قال في تفسير قول وضّاح اليمن:
إذا قلت يوماً: نوّليني تبسّمتْ *** وقالت: معاذ اللّه من نيل ماحُرمْ
فما نوّلتْ(1) حتى تضرّعْتُ عندَها *** وأنبأْتُها مارخّص اللّه في اللممْ
قال الجوهري في تفسير ذلك: يعني التقبيل.
2 ـ أن يكون بمعنى مقاربة المعصية من غير مواقعة.
3 ـ أن يكون بمعنى أنّك تأتي بشيء في وقت، ولاتقيم عليه، ولا تصرّ.
وكأنّما المقصود أنّك تبتلي صدفة بمعصية ثمّ تتركها وتتوب عنها، وقد تبتلي صدفة بها مرّة أُخرى من دون إصرار، وهذا المعنى الثالث هو المستفاد من الروايات الواردة في معنى اللّمم(2).
اشتراط المروءة وعدمه:
بقي الكلام في اشتراط أو عدم اشتراط وصف آخر في العدالة ـ غير ترك الذنوب أو ملكة تركها ـ يسمى بالمروءة مثلا، فلو كنّا نحن وكلمة العدالة فقد قلنا: إنّ المفهوم منها عرفاً هو الاستقامة في الدين(3) فلو لم تكن مخالفةالمروءة في حدّ المعصية لم تضر بالعدالة باعتبارها غير معارضة للاستقامة في الدين، ولوكانت في حدّ المعصية كما لو ارتكب ما يوجب هتك نفسه إلى حدّ الحرام أضرت بالعدالة، إلّا أنّ هذا ليس شرطاً جديداً.
$
', '(1) نوّل أي أعطى شيئاً يسيراً.
(2) راجع: أُصول الكافي، ج 2، ص 441 و 442.
(3) أي أنّ المفهوم عرفاً منها هو الاستقامة، و حينما تستعمل في مصطلح صاحب الدين كالنبي و الإمام تفهم منها الاستقامة في الدين.
', 133), (14, 134, 'book', '
إلّا أنّه قد يفترض شرط المروءة بمستوى أعلى من مستوى ما يجب شرعا مراعاته شرطاً إضافياً في العدالة تمسّكاً بما ورد عن عبداللّه بن سنان، عن أبي عبداللّه (عليه السلام): (ثلاث من كُنّ فيه أوجبت له أربعاً على الناس: من إذا حدّثهم لم يكذبهم، وإذا وعدهم لم يخلفهم، وإذا خالطهم لم يظلمهم، وجب أن يظهروا في الناس عدالته، وتظهر فيهم مرّوته، وأن تحرُمَ عليهم غيبته، وأن تجب عليهم أُخوّته)(1). وسند الحديث غير تامّ.
وما ورد عن أحمد بن عامر الطائي عن أبيه عن الرضا (عليه السلام)عن آبائه (عليهم السلام)عن علىّ (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو مّمن كملت مرّوته، وظهرت عدالته، ووجبت أُخوّته، وحرمت غيبته»(2). وسنده أيضاً غير تامّ.
وماورد عن سماعة بن مهران عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم كان مّمن حرمت غيبته، وكملت مرّوته، وظهر عدله، ووجبت أُخوّته»(3). وسنده تام.
أمّا وجه الدّلالة فهو أن يقال: إنّ خلف الوعد ليس حراماً بالإجماع أو الضرورة الفقهية، وإن كان خلاف المروءة بمستوى أعلى من مستوى ترك المحرمات، ومع ذلك قد رتّب عليه في هذه الروايات الحكم بالعدالة، وهذا يعني بالمفهوم انتفاء العدالة بخلف الوعد، وهذا هو معنى اشتراط المروءة بمستوى أعلى من ترك المعاصي في العدالة.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 41 من الشهادات، ح 16، ص 293.
(2) الوسائل، ج 18، ب 41 من الشهادات، ح 15، ص 293.
(3) الوسائل، ج 8، ب 152، من أحكام العشرة، ح 2، ص 597، و ج 5، ب 11 من صلاة الجماعة، ح 9، ص 393.
', 134), (14, 135, 'book', '
ويمكن الإيراد على ذلك بعدّة وجوه:
الأوّل ـ أنّه قد رتّب على الشرط في المقام مجموع جزاءات، فيدلّ بالمفهوم على انتفاء المجموع بانتفاء الشرط، ويكفي في انتفاء المجموع انتفاء أحدها، وهو كمال المروءة مثلا، ولايدلّ على انتفاء الجميع التي منها العدالة.
والجواب: ما نقّح في علم الأُصول من أنّ فرض المجموعيّة فيما بين الجزاءات بحاجة إلى مؤونة زائدة فهو خلاف الظاهر، والظاهر أنّ الجميع يعتبر جزاءً، وهذا يعني الانحلال في التعليق. هذا إذا فرض التعليق في طول العطف، أمّا لو استظهر أنّ العطف في طول التعليق فالأمر أوضح وتمام الكلام في ذلك موكول إلى علم الأُصول في بحث مفهوم الشرط.
الثاني ـ أن يقال: إنّ عدم وجوب الوفاء بالوعد أوّل الكلام، ولتكن هذه الأحاديث دليلا على وجوب الوفاء بالوعد سنخ بعض الروايات الأُخرى، كما ورد عن هشام بن سالم بسند تامّ قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: عِدَةُ المؤمن أخاه نذر لا كفّارة له، فمن أخلف فبخلف اللّه بدا، ولمقته تعرّض، وذلك قوله: ﴿يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عنداللّه أن تقولوا ما لا تفعلون﴾»(1).
والواقع أنّه لو لم تفرض ضرورة فقهية عدم وجوب الوفاء بالوعد، فهذا الإشكال تامّ.
الثالث ـ أنّنا أنكرنا في أبحاثنا الأُصوليّة مفهوم الشرط، وعليه فلا مجال للتمسّك بمفهوم الرواية في المقام.
الرابع ـ أنّه ثبت أيضاً في بحث الأُصول أنّ مفهوم الشرط لو تمّ فإنّما يتمّ في
', '(1) الوسائل، ج 8، ب 109 من أحكام العشرة، ح 3، ص 515. والآية الكريمة وردت في سورة 61 الصف: 2 ـ 3.
', 135), (14, 136, 'book', '
الأداة المتمحّضة في الشرطية كـ (إنْ)، أمّا أمثال كلمة (من) و (ما) مّما يعود إليه الضمير من الجزاء، فترجع قضيّته إلى القضيّة المسوقة لبيان الموضوع سنخ (إن رزقت ولداً فاختنه). إذن فلا يوجد فيما نحن فيه مفهوم الشرط.
نعم قد يتمسّك بمفهوم الوصف، ولكن ثبت في علم الأُصول عدم تماميّة مفهوم الوصف.
وقد يجاب على الإشكال الثالث و الرابع بأنّ إنكار مفهوم الشرط و الوصف إنّما كان بمعنى إنكار السلب الكلّي، ولم ننكر الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء في الجملة حذراً من اللغوية. إذن فالرواية تدلّ على أنّ خلف الوعد يوجب ـ ولو أحياناً ـ انتفاء العدالة، و هذا كاف في اثبات المطلوب، ولانحتمل ـ طبعاً ـ فقهياً كون خلف الوعد بلا عذر يوجب أحياناً انتفاء العدالة لا دائماً، فيثبت أنّ خلف الوعد بلا عذر موجب لانتفاء العدالة دائماً.
إلّا أنّنا لورجعنا إلى السلب الجزئي بقدر نفي اللغوية استحكم الإشكال الأوّل في المقام، إذ يكفي في نفي اللغوية انتفاء بعض الجزاءات المتعاطفة.
على أنّ السلب الجزئي لا يثبت المطلوب في المقام، وذلك لأنّ الرواية لم يثبت كونها واردة بشأن واقع العدالة، ويحتمل كونها ناظرة بشأن ظهور العدالة، والأمارة عليها، حيث تقول: «ظهر عدله»، ويشهد لذلك قوله: «كان مّمن ...» مّما قد يشير الى أنّ غيره أيضاً قد تظهر عدالته، ولاإشكال في أنّ ترك خلف الوعدله أمارة على العدالة، وبعض من يخلف الوعد لاتتمّ الأماريّة بقدر الكفاية على عدالته، وهذالايعني دخل عدم الخلف في واقع العدالة.
وقد يستشهد لاشتراط ترك ما ينافي المروءة في العدالة بمرسلة أبي عبد اللّه الأشعري عن بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم، عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) في حديث طويل: (... يا هشام لادين لمن لامُرُوَّةَ له ولامُرُوَّة لمن
', '', 136), (14, 137, 'book', 'لا عقل له ...)(1).
ولكن ـ بغضّ النظر عن سقوط الحديث سنداً ـ من الواضح أنّ المروّة في هذا الحديث قصدبها معنىً يمكن نفي الدين بوجه من الوجوه عمّن يفقدها؛ إذن ليست هذه مروءة بمستوى أرفع من مستوى ترك المعاصي؛ كي يدلّ الحديث على شرط إضافي.
وقد يقال: إنّ المروءة وإن لم تكن دخيلة في شرط العدالة لكنّها شرط مستقل لقبول الشهادة. وهذا أيضاً ليس عليه دليل معتدّبه، ولايدلّ عليه ما عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «ردّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) شهادة السائل الذي يسأل في كفّه. قال أبو جعفر (عليه السلام): لأنّه لايؤمن على الشهادة، وذلك لأنّه إن أُعطي رضي، وإن مُنِع سخط»(2)؛ حيث يقال: إنّ السؤال بالكفّ إنّما هو خلاف المروءة، وقد جعل من هذا الحديث مانعاً عن قبول الشهادة، ولكنّك ترى أنّ الحديث معلّل بعلّة ليست ملازمة لعدم المروءة، وهي عدم الأمن على الشهادة على أنّ رضا الإنسان متى ما أُعطي، وسخطه متى ما منع حرام، فرجع ما في الحديث إلى فرض عدم العدالة.
 $
الكاشف عن العدالة:
وأمّا الكلام فيما هو الكاشف عن العدالة:
فهل يجب الاقتصار في مقام ثبوت العدالة على العلم، أو الاطمئنان، أو البيّنة مثلا ـ كما نسب إلى الشهيد في الدروس في صلاة الجماعة ـ أو يكفي حسن الظاهر
', '(1) أُصول الكافي، المجلد الأوّل، كتاب العقل و الجهل، الحديث 12، ص 19.
(2) الوسائل، ج 18، ب 35 من الشهادات، ح 2، ص 282.
', 137), (14, 138, 'book', '
أمارةً على العدالة ـ كما لعلّه المشهور ـ أو مجرّد عدم الاطلاع على الفسق كاف في حمل المسلم على العدالة، كما نسب إلى ظاهر الشيخ؟.
مقتضى القاعدة هو الأوّل؛ لأنّ العدالة ـ بعد البناء على أخذ الملكة فيها، وعدم كفاية مجرّد عدم الفسق ـ أمر وجودي مسبوق بالعدم، فمالم تثبت بالعلم، أو الاطمئنان، أو بمثل البيّنة، فمقتضى الأصل عدمها، واستصحاب عدم الفسق المستلزم أحياناً للعدالة لا يثبتها لعدم حجّيّة الأصل المثبت.
وأمّا الروايات فهي على طوائف:
الاُولى ـ ما دلّت على مقياسية حسن الظاهر من قبيل:
1 ـ رواية عبداللّه بن أبي يعفور، وهي مفصّلة، ومن جملة ما جاء فيها قوله: «... و الدالّة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما ورآء ذلك من عثراته و عيوبه وتفتيش ما ورآء ذلك، ويجب عليهم تزكيتة و إظهار عدالته في الناس ...»(1). ومن جملة ما جاء فيها ما مضى في بحث إضرار الصغائر بالعدالة و عدمها.
2 ـ ما عن يونس بن عبدالرحمان عن بعض رجاله، عن أبي عبداللّه (عليه السلام)قال: «سألته عن البيّنة إذا أُقيمت على الحقّ أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة؟ فقال: خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات، و المناكح، والذبائح، والشهادات، والأنساب. فإذا كان ظاهر الرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته، ولايسأل عن باطنه»(2). والسند ضعيف بالإرسال.
3 ـ ما عن عبداللّه بن المغيرة بسند تامّ قال: «قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام)
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 41، من الشهادات، ح 1 و 2، ص 288 و 289.
(2) الوسائل، ج 18، ب 41 من الشهادات، ح 3 و4، ص 290.
', 138), (14, 139, 'book', '
رجل طلّق امرأته، وأشهد شاهدين ناصبيّين؟ قال: كلّ من ولد على الفطرة، وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته»(1).
ويمكن النقاش في دلالة هذه الرواية؛ إذ من المحتمل أن يكون المقصود بقوله: «عُرِف بالصلاح» العلم بالصلاح لاحسن الظاهر. وهذا الجواب إمّا ردّ على ما سئل عنه من كفاية شهادة الناصبيّين، أو بيان لكبرى صحيحة بنحو يوهم تقيّة انطباقها على الناصبىّ. وعلى أىّ حال يبعد أن يكون الظاهر عرفاً هو إرادة حسن الظاهر.
4 ـ ما عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لوكان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس ...»(2).
5 ـ ما عن ابن أبي عمير ـ بسند غير تامّ ـ عن إبراهيم بن زياد الكرخي، عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) قال: «من صلّى خمس صلوات في اليوم والليلة في جماعة فَظُنّوا به خيراً، وأَجيزوا شهادته»(3).
6 ـ ما عن سماعة بن مهران ـ وهي رواية تامّة سنداً ـ عن أبي عبداللّه (عليه السلام)قال: «قال: من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم كان مّمن حرمت غيبته، وكملت مروّته، وظهر عدله، ووجبت أُخوّته»(4).
وهذا الحديث يدلّ على كفاية حسن الظاهر بالمستوى المذكور، وعدم الحاجة إلى البيّنة أو اليقين، ولايدلّ على عدم كفاية أقلّ من ذلك من مجرّد عدم العلم
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 41، من الشهادات، ح 5، ص 290.
(2) الوسائل، ج 18، ب 41 من الشهادات، ح 8، ص 291.
(3) الوسائل، ج 18، ب 41، من الشهادات، ح 12، ص 291 و 292.
(4) الوسائل، ج 8، ب 152 من احكام العشرة، ح 2، ص 597، وج 5، ب 11 من صلاة الجماعة، ح 9، ص 393.
', 139), (14, 140, 'book', '
بالفسق، أو مستوى أقلّ مّما ورد فيه من حسن الظاهر، وذلك لأنّنا لم نؤمن بمفهوم الشرط بشكل السلب الكلّي، و السلب الجزئي في المقام يكفي فيه انتفاء بعض الجزاءات المتعاطفة.
7 ـ ما عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «شهادة القابلة جائزة على أنّه استهلّ، أو برزميّتاً إذا سئل عنها فعدّلت»(1). والسند غير تامّ.
8 ـ ما عن عبدالكريم بن أبي يعفور، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «تقبل شهادة المرأة و النسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات معروفات بالستر و العفاف مطيعات للأزواج تاركات للبذا والتبرج إلى الرجال في أنديتهم»(2). والسند غير تامّ.
9 ـ ما رواه الصدوق ـ بإسناده التامّ ـ عن العلا، عن محمد بن مسلم قال: «سألت أباجعفر (عليه السلام) عن الذمّي و العبد يشهدان على شهادة، ثمّ يسلم الذمّي ويعتق العبد، أتجوز شهادتهما على ما كانا أُشهدا عليه؟ ـ قال: نعم. إذا علم منهما بعد ذلك خير جازت شهادتهما»(3).
الثانية ـ ما دلّ على كفاية عدم العلم بالفسق من قبيل:
1 ـ ما رواه في الوسائل عن حريز بسند تامّ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا، فعدّل منهم اثنان ولم يعدلّ الآخران، فقال: «إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أُجيزت شهادتهم جميعاً، وأُقيم
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 24، من الشهادات، ح 38، ص 266.
(2) الوسائل، ج 18، ب 24 من الشهادات، ح 20، ص 294.
(3) الوسائل، ج 18، ب 29، من الشهادات، ح 1، ص 285.
', 140), (14, 141, 'book', '
الحدّ على الذي شهدوا عليه. إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا و علموا، وعلى الوالي أن يجيز شهادتهم، إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق»(1).
2 ـ ما عن علقمة ـ والسند غير تامّ ـ قال: «قال الصادق (عليه السلام) وقد قلت له يا ابن رسول اللّه أخبرني عمّن تقبل شهادته ومن لا تقبل، فقال: يا علقمة كلّ من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته. قال: فقلت له: تقبل شهادة مقترف بالذنوب؟ فقال: يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلّا شهادة الأنبياء و الأوصياء (عليهم السلام)؛ لأنّهم المعصومون دون سائر الخلق، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان، فهو من أهل العدالة و الستر، وشهادته مقبولة، وإن كان في نفسه مذنباً، ومن اغتابه بما فيه فهو خارج من ولاية اللّه داخل في ولاية الشيطان»(2).
3 ـ ما عن علاء بن سيّابة، قال: سألت أباعبداللّه (عليه السلام) عن شهادة من يلعب بالحمام، فقال: لابأس إذا كان لا يعرف بفسق»(3).
وقد رواه الشيخ عنه بسند غير تامّ، ورواه الصدوق عنه بسند تامّ مع تكملة خارجة عمّا هو المقصود.
4 ـ ما عن سلمة بن كهيل، قال: «سمعت علياً (عليه السلام) يقول لشريح: ... واعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض إلّا مجلود في حدّ لم يتب منه، أو معروف بشهادة
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 41 من الشهادات، ح 18، ص 293 و 294.
(2) الوسائل، ج 18، ب 41 من الشهادات، ح 13، ص 292.
(3) الوسائل، ج 18، ب 41 من الشهادات، ح 2، ص 291، و ب 54، من الشهادات، ح 1 و 3، ص 305.
', 141), (14, 142, 'book', '
زور، أو ظنين...»(1). والسند غير تامّ. ومن حيث الدلالة يدلّ على أصالة العدالة بشرط عدم كونه متّهماً وظنيناً.
ولايمكن الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات ببيان أنّ الطائفة الأُولى دلّت على كفاية حسن الظاهر، وبالإطلاق دلّت على عدم كفاية شيء آخر، وهذه الروايات دلّت على كفاية شيء آخر، وهذا تقييد لذاك الإطلاق.
والوجه في بطلان ذلك: أنّه لوكفى مجرّد عدم العلم بالفسق لإثبات العدالة، إذن لَلَغا حسن الظاهر، فهذا إلغاء للطائفة الأُولى ما عدا الرواية السادسة منها التي عرفت أنّها لا تدلّ على عدم كفاية ما هو أقلّ من حسن الظاهر.
و الصحيح في مقام الجمع بين الطائفتين أن يقال: إنّ هذه الروايات لو دلّت على كفاية مجرّد عدم العلم بالفسق: فإنّما دلّت بالإطلاق، فقوله مثلا: «مَنْ لم تَرَهُ بعينك يرتكب ذنباً، أولم يشهد عليه بذلك شاهدان» يشمل بإطلاق من لم يصل الى القاضي شاهدان يشهدان بفسقه، بينما يمكن تقييده بإرادة من يكون في بيئته وظروفه الاعتياديّة بين جيرانه و أصدقائه بنحو لا يوجد شاهدان يشهدان على فسقه، وهذا هو حسن الظاهر.
والواقع أنّ ما هو تامّ سنداً من الروايات ـ التي فرضناها دالّة على جريان أصالة العدالة بمجرّد الشكّ ـ لايدلّ على أكثر من كفاية حسن الظاهر. فرواية حريز قالت: «إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق»، وهذه إنّما تدلّ على كفاية مجرّد عدم العلم بالفسق لو حملت على معنى: (إلّا أن يكونوا معروفين لدى القاضي بالفسق)؛ بينما من المحتمل أن يكون المقصود: (إلّا أن يكونوا معروفين في بيئتهم وبين أصدقائهم
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 1 من آداب القاضي، ح 1، ص 155، و ب 41 من الشهادات ذيل حديث 23، ص 295.
', 142), (14, 143, 'book', '
وجيرانهم بالفسق)، وعدم المعروفيّة بذلك في بيئته عبارة عن حسن الظاهر. وكذلك الكلام في قوله في رواية علاء بن سيّابة: «إذا كان لايعرف بفسق».
نعم لو وجدنا حديثا تاماً سنداً و دلالة يدلّ على كفاية مجرّد عدم العلم بالفسق، فهاتان الروايتان لاتعارضانه، وحديث علقمة يدلّ على ذلك لكنّنا أشرنا إلى ضعفه سنداً.
وعلى أيّة حال فلو تمّ شيء من روايات الطائفة الثانية سنداً ودلالةً على كفاية مجرّد عدم العلم فهو مقيّد بالطائفة الأولى الدالّة على اشتراط حسن الظاهر.
الثالثة ـ ما دلّ على لزوم الاعتماد على الوثوق بالعدالة، كما مضى من رواية علىّ بن راشد: (لاتصلّ إلّا خلف من تثق بدينه) أو (بدينه و أمانته)(1).
ورواية يزيد بن حماد: «أُصلّي خلف من لا أعرف؟ قال: لاتصلّ إلّا خلف من تثق بدينه»(2).
وما مضى في الطائفة الأُولى من رواية عبدالله بن المغيرة(3) بناءً على احتمال مضى ذكره في تفسير قوله: «عرف بالصلاح».
وهذه الطائفة تارةً نسقطها سنداً ودلالةً لما مضى من عدم تماميّة سند الحديثين الأولين، ومن استظهار كون الحديث الثالث مفاده مفادالطائفة الأُولى، ولاأقلّ من الإجمال.
وأُخرى نفترض تماميّتها سنداً و دلالة، ونحاول الجمع بينها وبين الطائفة الأُولى وحينئذ نقول: لوكان العلم أو الوثوق المأخوذ فيها مأخوذاً كموضوع لجواز
', '(1) الوسائل ج 5، ب 10، من صلاة الجماعة، ح 2، ص 389.
(2) الوسائل، ج 5، ب 12 من صلاة الجماعة، ح 1، ص 395.
(3) الوسائل، ج 18، ب 41 من الشهادات، ح 5، ص 290.
', 143), (14, 144, 'book', '
الائتمام فقد يشكل الأمر من ناحية أنّه حتى لوكان هذا العلم موضوعاً طريقيّاً لا موضوعاً صفتيّاً لم يثبت في علم الأُصول قيام الأمارة مقام العلم الموضوعي حتى الموضوعي الطريقي. فالطائفة الأُولى الدالّة على أماريّة حسن الظاهر و حجّيّتها تبتلي بالمعارضة بهذه الطائفة الدالة، على أنّ العلم بالعدالة موضوع لجواز الأئتمام، وحيث إنّه مع موضوعيّة العلم لا يبقى مجال لحجّيّة الأمارة. إلّا أنّ حمل هذه الطائفة على موضوعيّة العلم و الوثوق خلاف الظاهر، والظاهر عرفاً وفق طبيعة كلمة العلم والوثوق هو أخذهما كطريق إلى متعلقهما، وعندئذ تنحلّ المعارضة بوضوح لما ثبت في علم الأُصول من قيام الأمارات ـ وحتى الأُصول ـ مقام العلم الطريقي. ومفاد الطائفة الأولى هو أماريّة حسن الظاهر على العدالة، فحسن الظاهر يقوم مقام الوثوق و العلم بالعدالة بلا أىّ معارضة بين الطائفتين. وهذا سنخ ما تراه من أنّنا لانحسّ بأىّ تعارض بين هذه الروايات و دليل حجّية البيّنة الدالّة على ثبوت العدالة بالبيّنة. نعم لو كان لسان الدليل الذي أُخذ فيه العلم أو الوثوق طريقيّاً مشتملا على خصوصيّة معيّنة تدلّ على رفض حجّية ما دلّت روايات أُخرى على حجّيته، وقع التعارض بينه وبين تلك الروايات، والظاهر ثبوت ذلك فيما بين الطائفة الثانية الدالّة على جريان أصالة العدالة بمجرّد الشكّ في الفسق وقوله في إحدى روايات الطائفة الثالثة: «أُصلّي خلف من لا أعرف؟ قال: لاتصلّ إلّا خلف من تثق بدينه»؛ إذ أنّ هذا الجواب جاء كردٍّ على قول السائل: «أُصلّي خلف من لا أعرف»؛ بينما لوكانت أصالة العدالة ثابتة عند الشكّ فلا مورد لردّ ذلك، بل قد يقال: إنّ ذكر كلمة (الوثوق) أو (المعرفة) في جميع روايات الطائفة الثالثة لايجتمع عرفاً مع افتراض كفاية مجرّد الشكّ في إثبات العدالة بأصالة العدالة، إلّا أنّ هذا كلّه يعني التعارض بين الطائفة الثالثة و الثانية، لا الطائفة الثالثة و الأُولى، وقد حملنا فيما مضى ما تمّ سنداً من الطائفة الثانية على ما لا يتنافى مع الطائفة الأولى، وهذه الطائفة الثالثة أيضاً
', '', 144), (14, 145, 'book', 'ستكون مؤيّدة لنفس ذاك الحمل. فالنتيجة النهائيّة هي أنّ حسن الظّاهر مقياس لمعرفة العدالة.
هذا تمام الكلام في أصل الشرائط الثابتة في القاضي المنصوب بشكل عام من قبل الامام المعصوم (عليه السلام).
 $
القاضي المنصوب من قبل الفقيه
والآن يقع الكلام في أنّه: هل يجوز للفقيه الجامع للشرائط فى زماننا ـ بناءًعلى الايمان بولاية الفقيه ـ أن ينصب شخصاً غير واجد لبعض تلك الشرائط قاضياً، أم لا؟
قد يقال بالتفصيل بين كل شرط يستظهر من دليله اشتراطه من قبل الشريعة الاسلامية كشرط العدالة، وكلّ شرط غاية مادلّ الدليل عليه أنّ الوليّ المعصوم حينما أراد أن ينصب ـ بنحو العموم ـ فئةً للقضاء لاحظ هذا الشرط، وهذا يعني أنّ نصبه العام مقيّد بحدود تواجد هذا الشرط، ولا يدلّ على كونه شرطاً من قبل الشريعة الإسلامية، وذلك من قبيل الاجتهاد الذي استظهرنا اشتراطه من قوله: «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا فليرضوابه حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً».
ففي القسم الأوّل لا يجوز للفقيه نصب من كان فاقداً لذاك الشرط؛ لأنّ هذا خلاف أحكام الشريعة الإسلاميّة، وولاية الفقيه إنّما هي في دائرة الأحكام الإسلاميّة لاخارج حدود دائرتها.وفي القسم الثاني يجوز ذلك؛ إذليس نصبه قاضياً خارجاً عن حدود دائرة الأحكام الإسلاميّة؛ إذ لم يثبت اشتراطه من قبل الشريعة الإسلاميّة في القاضي. وأخذ الإمام المعصوم (عليه السلام) هذا الشرط في دائرة نصبه العامّ لا
', '', 145), (14, 146, 'book', 'يحتمّ على الفقيه أخذه في دائرة نصبه الخاصّ، ومن الطبيعي اتّخاذ احتياطات في النصب العامّ الذي لايختصّ بشخص معيّن ولابزمان أو مكان معيَّنَيْن مّما لا يُهتم به في النصب الخاصّ لشخص خاصّ، ولمقطع زمانىّ و مكانىّ خاصّ لدى ملاحظة الولىّ حالات ذاك الشخص بالخصوص، وظرف ذاك المقطع من الزمان أو المكان.
يبقى أنّنا لو شككنا في مورد مّا أنّ الشرط الفلاني هل هو شرط من قبل الشريعة الإسلاميّة في منصب القضاء، أو شرط أَخذه الإمام المعصوم في نصبه العامّ، فقد يقال: إنّه في هذا الفرض لا يمكن التمسّك بإطلاق دليل ولاية الفقيه لإثبات جواز نصبه لفاقد هذا الشرط للقضاء؛ إذ لوكان واقعاً شرطاً من قبل الشريعة الإسلاميّة فهو غير داخل في دائرة ولاية الفقيه، فالتمسّك بإطلاق دليلها تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، فإنّ دليل الولاية إنّما أثبت للفقيه الولاية فيما هو جائز في ذاته، أو قل: إنّما أثبت للفقيه ماللإمام، ونحن شاكّون في أصل أن يكون للإمام حقّ نصب الفاقد لهذا الشرط قاضياً.
ومن هنا قد يسري الإشكال إلى جميع الشروط الماضية حتى ما كان ظاهر دليله أخذ الإمام (عليه السلام) له كقيد في نصبه كما في الاجتهاد، فإنّ ذاك الدليل لاينفي ـ على أىّ حال ـ احتمال كون هذا شرطاً من قبل الشريعة الإسلاميّة، وإنّما غاية ما دلّ عليه الدليل هو ضيق دائرة نصب الإمام. أمّا سعة دائرة ما يقبل النصب في الشريعة الإسلاميّة فلم يدلّ عليها، فلا محالة يقع الشكّ في ذلك، ومعه يكون التمسّك بإطلاق دليل ولاية الفقيه تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.
وقد يجاب على ذلك: بأنّ دليل ولاية الفقيه دلّ على أنّ ما للمعصوم للفقيه، فلنرَ ما هو الثابت للمعصوم بحكم قوله تعالى: ﴿النبيّ أولى بالمؤمنين من
', '', 146), (14, 147, 'book', 'أنفسهم﴾؟(1).
لا ينبغي الإشكال في أنّ الحرمات التي ترجع إلى احترام النفس ـ أي سلطة الإنسان على نفسه ـ لا تقف مقابل ولاية النبيّ أو الإمام الذي ثبت عند الشيعة أنّه كالنبىّ؛ لأنّ هذا هو معنى أولويّة النبىّ بالمؤمنين من أنفسهم، وكذلك الحرمات التي ترجع إلى احترام المال، وذلك بدلالة الأولويّة. نعم الحرمات الأُخرى من قبيل حرمة شرب الخمر مثلا لاترتفع بولاية المعصوم، فلا يقال: إنّ كلّ حرام سوف لا ترتفع حرمته بالولاية لأنّها ولاية في إطار الحفاظ على واجبات و محرّمات الإسلام، بل الحرمات الراجعة إلى احترام النفس أو المال تكون محكومة لهذه الولاية، فمن حقّ المعصوم أن يتملّك مثلا مال شخص من دون رضاه، وقد ثبت بدليل ولاية الفقيه أنّ ماللإمام المعصوم للفقيه بقيد ملاحظة مصالح وشؤون الأُمّة المولّى عليها. إذن فالحرمات المنتهية إلى سلطة الإنسان على نفسه أو ماله لا تقف مقابل إطلاق ولاية الفقيه. وعدم نفوذ قضاء من لم يكن جامعاً لشرائط القضاء على النفس و المال مرجعه في الحقيقة إلى أنّ هذا القضاء إن لم يكن ـ في الواقع و في علم اللّه ـ قضاءً بحقّ فهو سوف لن يغيّر من الحقّ شيئاً؛ لأنّ تغييره له نفوذ في محلّ سلطة الآخرين. إلّا أنّ مقتضى إطلاق ولاية الإمام وبالتالي ولاية الفقيه أنّ هذا الذي عيّن من قبل الإمام أو الفقيه أيّاً كان ينفذ قضاؤه؛ بمعنى أنّه حتى لوكان في الواقع مخالفاً للحقّ فهو نافذ ومضيّقٌ لسلطة الآخرين على نفوسهم أو أموالهم، خرج بالتخصيص كلّ مورد ثبت شرط من قبل الشريعة الإسلاميّة في نفوذ القضاء، وكان هذا الشخص غير واجد لذاك الشرط، أمّا كلّ مورد كان دليل الشرط فيه مجملا، أو كان ظاهراً في كونه قيداً في نصب الإمام و لم نعرف هل هو شرط في نفس الوقت
', '(1) سورة الأحزاب، الآية 6.
', 147), (14, 148, 'book', '
للقضاء من قبل الشريعة الإسلاميّة أولا، فنرجع فيه إلى إطلاق دليل الولاية.
نعم في بعض موارد القضاء يكون المورد من الحرمات التي لا ـ ترجع إلى سلطة الإنسان على نفسه أو الى احترام المال، من قبيل موارد الدماء و الفروج، ولكنّا نتعدّي إلى هذا القسم بعدم احتمال الفصل فقيهاً، فمن كان أهلا لأن ينصب قاضياً فهو أهل له في كلا القسمين، ومن لايكون أهلا لذلك فليس أهلا له في كلا القسمين وبما أنّ الدليل على عدم نفوذ القضاء في القسم الثاني هو أصالة عدم النفوذ، ودليل النفوذ في القسم الأوّل هو إطلاق دليل الولاية، فبعد فرض عدم الفصل نحكّم إطلاق دليل الولاية على أصالة عدم النفوذ. وبتعبير آخر: إنّ لوازم الإطلاق حجّة، ولوازم الأصل ليست بحجّة، فنتعدّى من القسم الأوّل إلى القسم الثاني دون العكس.
إلّا أنّه يمكن أن يناقش في ذلك بوجهين:
الأوّل ـ أنّ ولاية الفقيه في بعض الأُمور ولاية كاشفة كحكم الفقيه بالهلال، ولا تنفذ على من علم بالخطأ، وفي بعض الأُمور ولاية بمعنى حقّ التصرف في الحكم الواقعي الأوّلي كما لو حكم بوجوب إعطاء مبلغ من المال للدولة، أو بتحديد الأسعار، و ما شابه ذلك، وفي هذا القسم لا يتصوّر الخطأ. وولاية القضاء في الحقيقة هي من القسم الأوّل أي أنّ القضاء بالارتكاز له كاشفيّة، وتكون حجّيّته بمعنى كشفه عن أنّ الحقّ كان مع المحكوم له، ولذا لا يجوز لمن علم الخطأ أن يماشي هذا الحكم في مورد يؤدّي به إلى الحرام، فالمحكوم له مثلا لو علم أنّ الحقّ مع صاحبه، وأنّه كان مُزوّراً يجب عليه تسليم الحقّ إلى ذي الحقّ. نعم لا يجوز للمحكوم عليه ـ رغم علمه بأنّه على حقّ ـ أن يطالب بحقّه، بل يجب عليه التسليم، وذلك بنكتة لزوم كون القضاء فاصلا للخصومة على ما سيأتي ـ إن شاء اللّه ـ في محلّه شرح ذلك، إلّا أنّ هذا التسليم إنّما هو في طول أصل حجّيّة القضاء بماله من كشف لمن لا يعلم بخطئه رغم أنّ
', '', 148), (14, 149, 'book', 'الكشف غير ثابت بالنسبة لهذا الشخص.
وعليه فنقول فيما نحن فيه: إنّه ماذا يقصد بنفوذ قضاء هذا القاضي الذي نصبه الفقيه وهو غير واجد لبعض الشروط المتقدّمة؟
فإن قصد بذلك وجوب التسليم له من قبل المحكوم عليه مثلا ولو علم بأنّه على حقّ، وذلك خصماً للنزاع؛ ورد عليه: أن هذا إنّما يكون في باب القضاء في طول حجّية القضاء وكاشفيته.وإن قصد بذلك إعطاء الكاشفيّة و الحجّيّة بالمعنى الثابت في الأحكام الظاهريّة لقضائه؛ فهذا غير مسألة النفوذ في منطقة سلطة الآخرين على نفوسهم وأموالهم، فإذا احتملنا وجود شرط شرعي لذلك لم يكن نفيه تمسّكاً بإطلاق دليل الولاية، فإنّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية.
وإن قصد بذلك نفوذ حكم هذا الشخص على المحكوم عليه مثلا من دون أن يعطى له ما لطبيعة القضاء النافذ من الكشف؛ قلنا: إنّ هذا إذن أجنبي عن طبيعة باب القضاء، ولم يثبت فيه عدم الفصل كي يتمّ التعدّي من القسم الأوّل إلى القسم الثاني.
الثاني ـ أنّه كما كان دليل نفوذ القضاء في القسم الأوّل دليلا لفظيّاً وهو إطلاق دليل ولاية الفقيه الذي نصب هذا قاضياً، كذلك دليل عدم نفوذ القضاء في القسم الأوّل و الثاني يكون أحياناً دليلا لفظيّاً كما لوقطع المحكوم عليه بأنّ المال المتنازع فيه ملكه، فهو مسلّط عليه بإطلاق دليل «الناس مسلّطون على أموالهم» أو أثبت بإطلاق دليل لفظىّ زوجيّة المرأة التي تدّعي بطلان الزوجيّة، فبعد فرض عدم الفصل يقع التعارض بين الدليلين.
لايقال: إنّ دليل نفوذ القضاء حاكم على الأدلّة الأُخرى؛ لأنّه عنوان ثانوىّ ناظر إلى باقي العناوين.
فإنّه يقال: إنّ النظر ثبت في القسم الأوّل فحسب؛ أمّا التعدّي إلى القسم
', '', 149), (14, 150, 'book', 'الثاني فلم يكن بظهور لفظي ناظر إلى موارد القسم الثاني أيضاً، وإنّما كان بمجرّد اكتشاف الملازمة بعدم الفصل، وهذا لا يحقّق ملاك الحكومة وهو النظر.
ونتيجة كلّ ما مضى حتى الآن: هي أنّه لا يجوز للفقيه أن ينصب شخصاً فاقداً لبعض الشرائط الماضية للقضاء.
ويمكن أن يستثنى من ذلك كلّ مورد يكون المرتكز عقلائياً دخوله في حقّ الولاية، فيتم الإطلاق المقامي لدليل الولاية فيه.
مثاله: أنّ المرتكز عقلائياً بشأن الولي و السلطان أن يكون من حقّه نصب إنسان كفوء للقضاء قاضياً ولو لم يكن فقيهاً مادام عارفاً بموازين القضاء ولو عن تقليد. فنصب القاضي الكفوء بالمواصفات المعقولة التي يرتئيها الولي هو من شؤون الولاية، وهذا يحقّق الإطلاق المقامي لدليل الولاية، فيصبح من حقّ الفقيه نصب إنسان كفوء عارف بمسائل القضاء ـ عن تقليد ـ للقضاء.
وهذا الوجه ـ كما ترى ـ أضيق دائرة بكثير من الوجه الأوّل الذي ناقشناه في فسح المجال أمام الفقيه لنصب فاقد بعض الشرائط الماضية للقضاء.
والأن لنراجع الشرائط الماضية واحداً بعد آخر لنرى أنّ أيّ واحد منها يمكن للفقيه غضّ النظر عنه في نصبه بناءً على الوجه الأوّل لو تمّ، وبناءً على الوجه الثاني، فنقول:
الشرط الأوّل ـ العلم ـ: وبديهي عدم معقوليّة نصب الجاهل للقضاء، ولكن كون علمه عن اجتهاد وإن كان قد أُخذ في مصب النصب العامّ الوارد عن المعصوم (عليه السلام) لكن يمكن التغاضي عنه في نصب الفقيه لشخص مّا للقضاء بناءً على كلا الوجهين: أمّا على الوجه الأوّل فلأنّه لا دليل على كون الاجتهاد شرطاً فقهيّاً للقضاء، وأمّا على الوجه الثاني فلما مضى من أنّ المرتكز عقلائيّاً أنّ من شؤون الوالي أن ينصب الكفوء قاضياً ولو لم يكن فقيهاً.
$
', '', 150), (14, 151, 'book', 'الشرط الثاني ـ البلوغ ـ: فإن استفدنا هذا الشرط بالتعدّي من دليل محجوريّة الصغير؛ إذن كان هذا شرطاً فقهيّاً لايمكن التغاضي عنه بشيء من الوجهين. وإن استفدناه بعدم الإطلاق في دليل القضاء، أو بأخذ قيد الرجولة في قوله: «انظروا إلى رجل منكم» تمّ فيه الوجه الأوّل؛ إذ لم يبقَ دليل على كون البلوغ شرطاً فقهيّاً ولايتّم فيه الوجه الثاني لعدم قيام ارتكاز عقلائي على صحّة نصب غير البالغ قاضياً.
الشرط الثالث، والرابع، والخامس ـ العقل، والرشد، والإسلام ـ: ومن الواضح عدم إمكان التغاضي عنها.
الشرط السادس ـ الذكورة ـ: فإن كان دليلنا عليه عدم الإطلاق، أو أخذ قيد الرجولة في قوله: «انظروا إلى رجل منكم» تمّ فيه الوجه الأوّل لكن الوجه الثاني لا يتمّ؛ لأنّ ارتكاز صلاحيّتها للقضاء لو نصبها الولي غير ثابت في جوّ المسلمين وإن ثبت في أجواء الغربيين، فإنّ ثبوته في أجواء الغربيين لايكفي لتماميّة الإطلاق المقامي كما هو واضح. وإن كان دليلنا عليه مثل التعدي من اشتراط الذكورة في إمام الجماعة، أو استفادة عدم صلاحيتها للقضاء من مثل قوله تعالى: ﴿أو من ينشَّأُ في الحلية وهو في الخصام غير مبين﴾(1) إذن يكون هذا شرطاً فقهياً لايتم فيه شيء من الوجهين.
الشرط السابع ـ طهارة المولد ـ: فإن كان الدليل عليه التعدّي من باب صلاة الجماعة والشهادة فهو شرط فقهيّ لا يمكن التغاضي عنه بشيء من الوجهين، وإن كان الدليل عدم الإطلاق تطرّق فيه الوجه الأوّل، ولم يتطرّق فيه الوجه الثاني لعدم ارتكاز يساعد على نصبه في جوّ المسلمين.
$
', '(1) الزخرف، الآية 18.
', 151), (14, 152, 'book', '
الشرط الثامن، والتاسع ـ الإيمان وأن لا يكون مصداقاً لسلطان الجور وأياديه ـ وكلّ منهما من الشروط الفقهيّة التي لايمكن التغاضي عنها بشيء من الوجهين.
الشرط العاشر ـ الحرّيّه ـ: فإن كان الدليل عليه ما مضى من رواية محمد بن مسلم؛ إذن هو شرط فقهيّ لا يتطرّق فيه شيء من الوجهين، وإن كان الدليل عليه عدم الإطلاق فالوجه الأوّل يتأتّى فيه، ولعلّ الوجه الثاني لا يتأتّى فيه.
الشرط الحادي عشر، والثاني عشر ـ الكتابة و البصر ـ: ويتأتّى فيهما كلا الوجهين.
الشرط الثالث عشر ـ الضبط ـ: وهو بمعناه الواضح اشتراط لايمكن رفع اليد عنه، والأكثر من ذلك حاله حال البصر والكتابة.
الشرط الرابع عشر، والخامس عشر ـ عدم الصمم و الخرس ـ: وذلك بقدر ما يرجع إلى الشروط الأُخرى حاله حال تلك الشروط، وبقدر ما يفترض شرطاً مستقلاًّ حاله حال اشتراط البصر.
الشرط السادس عشر ـ العدالة ـ: ولا يتأتّى فيه شيء من الوجهين لأنّه شرط فقهي
ثم لو ناقشنا في الوجه الثاني أيضاً، ولم نقبل الإطلاق المقامي الذي شرحناه أشكل الأمر في مثل زماننا الذي وفّق اللّه العاملين في سبيل الإسلام لإقامة دولة الحقّ في قطعة من الأرض كإيران، وتكون الحاجة ملحة لنصب قضاة كثيرين في الأطراف، ولايوجد فقهاء مستعدّون لتقبّل ذلك بقدر الكفاية، فيضطّر الوليّ الفقيه أن ينصب آخرين غير فقهاء للقضاء في كثير من المناطق، فهل يوجد لذلك تخريج فنّي أوْلا؟.
هنا لا بدّ من الرجوع إلى دليل وجوب القضاء كفاية، وقد مضى لذلك
', '', 152), (14, 153, 'book', 'دليلان: أحدهما عدم رضا الشارع باختلال النظام، واهتمامه بحفظ النظام. والثاني توقّف النهي عن المنكر على ذلك.
والوجه الثاني لايفيدنا هنا شيئاً؛ لأنّ قضاء غير الفقيه لو لم يكن نافذاً فسوف لن يمنع عن تحققّ المنكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبان يتوقّفان على القضاء النافذ، ونفوذ قضاء غير الفقيه أوّل الكلام.
أمّا الوجه الآخر وهو اهتمام الشارع بحفظ النظام، فإنّ فسّر بمعنى وجوب حفظ النظام علينا فأيضاً لايفيدنا في المقام، فإنّ النظام الواجب علينا حفظه إنّما هو النظام الناتج عن القضاء النافذ، ونفوذ قضاء غير الفقيه أوّل الكلام.
لكن هناك تفسير آخر لذلك، وهو علمنا بأنّ الإسلام وضع من القوانين ما يكفي لحفظ النظام، فإذا توقّف حفظ النظام على نفوذ القضاء، فهو بنفسه دليل على نفوذ القضاء، فهذا دليل على أنّ الإسلام يسمح لغير الفقيه بالقضاء عند توقّف حفظ النظام عليه؛ أي يثبت بذلك نفوذ قضائه لعلمنا بأنّ نفوذ قضائه هو الطريق الوحيد لحفظ النظام، وأنّ اهتمام الشارع بحفظ النظام بالغ إلى درجة يوجب السماع بما يتوقّف عليه من نفوذ القضاء. نعم بما أنّ هذا دليل لبيّ لابدّفيه من الاقتصار على القدر المتيقّن، وهو القضاء لغير الفقيه بتعيين من قبل الوليّ الفقيه لابلا تعيين، بل القضاء بلاتعيين قد يولّد بنفسه اختلال النظام، فإنّ نظام كل مجتمع يتوقف على أن تكون أمثال هذه التعيينات بيد الولي المشرف على ذلك المجتمع.
 $
التوكيل في القضاء
بقي الكلام في أنّه هل يمكن حلّ الإشكال عن طريق افتراض أن ينصب الفقيهوكيلا من قبله في القضاء فاقداً لبعض الشرائط الماضية؛ بأن يقال: إنّ وكيل القاضي ليس قاضياً كي يشترط فيه تلك الشرائط أولا؟. وبناءً على تصوير ذلك يجب على
', '', 153), (14, 154, 'book', 'الوكيل اتّباع رأي الموكّل في القضاء عملا بالوكالة، بينما القاضي المنصوب من قبل الفقيه يقضي وفق رأيه أو رأي مقلَّده.
وهذا الوجه لو تمّ لم تصل النوبة إلى الوجه السابق من تجويز جعل غير الفقيه قاضياً لدى الاضطرار؛ إذ لا اضطرار إلى ذلك ما دام يمكن حلّ الإشكال عن طريق التوكيل.
والواقع أنّ التوكيل بمعناه المفهوم عرفاً في أبواب العقود والإيقاعات، والذي لايرجع في روحه إلى نصب القاضي غير مفهوم في المقام. فإنّ التوكيل يتصوّر في القضايا الاعتبارية البحتة التي ينسب العرف فيها المضمون المُنْشأ بالاعتبار إلى الموكلّ حقيقة، فيعتبر مالك العين مثلا بائعاً حقيقةًحينما يصدر إنشاء البيع من الوكيل، وكذا ينسب الطلاق حقيقة إلى الزوج في نظر العرف رغم صدور صيغة الطلاق من قبل وكيل الزوج، وهكذا. أمّا باب القضاء فليس حاله من هذا القبيل ولا يعتبر قضاء الوكيل قضاء للموكّل، وذلك بنكتة توسّط رأي الوكيل في تشخيص الحكم الذي قد لايكون رأياً للموكّل، ولو من باب عدم إطّلاعه على القضيّة، وحال التوكيل في القضاء يشبه حال التوكيل في التصرفات المادّيّة كالأكل مثلا.
نعم قد يمكن التوكيل في إجراء صيغة الحكم فحسب؛ بأن يفترض أنّ القاضي الفقيه هو الذي ينظر في الأمر ويشخّص الحكم، ثمّ يرسل وكيله في إجراء صيغة الحكم، لكن يحكم بما ارتآه القاضي.
$
', '', 154), (14, 155, 'book', ' $
 $
 $
 $
قاضي التحكيم
 $
 $
وأمّا الأمر الثالث ـ وهو أنّه هل من حق المترافعين تحكيم غير الواجد لشرائط المنصوب من قبل المعصوم، أو غير المنصوب من قبله ولا من قبل الفقيه، وهو المسمّى بــ «قاضي التحكيم» أولا؟.
فلنذكر مقدمة لذلك: أنّ قاضي التحكيم يتصور على نحوين:
الأوّل ـ أن يتحاكم المترافعان إلى إنسان واجد للشرائط الفقهيّة للقضاء، إلّا أنّه ليس منصوباً من قبل المعصوم أو الفقيه، ومثاله في زماننا من كان واجداً لشرائط القضاء من قبيل الايمان والعدالة ولم يكن فقيهاً، بناءً على أنّ شرط الفقاهة ليس شرطاً فقهيّاً، وإنّما أخذ قيداً في النّصب العام من قبل الامام المعصوم (عليه السلام) وبذلك يتضح إمكانيّة تصوير قاضي التحكيم بهذا النحو في زماننا.
الثاني ـ أن يتحاكما إلى إنسان غير واجد للشرائط الفقهيّة للقضاء بدعوى أنّها شرائط للقاضي المنصوب لالقاضي التحكيم.
ولايخفى أنّ قاضي التحكيم وإن لم يكن منصوباً للقضاء في المرتبة السابقة على التحكيم لكن لامعنى لنفوذ قضائه ما لم يثبت إمضاء من قبل الشريعة لتحكيمه الصادر من المتحاكمين، فإنّ الولاية للّه ولا ينفذ حكم أحد على أحد من دون تنفيذ من قبل الشريعة.
$
', '', 155), (14, 156, 'book', ' $
أدلّة النفوذ
وعلى أيّ حال فالذي يمكن أن يجعل دليلا على نفوذ قضاء قاضيالتحكيم أُمور:
الروايات:
الأول ـ الروايات من قبيل:
1 ـ مارواه الكشّي في رجاله عن العياشي، عن أحمد بن منصور، عن أحمد بن الفضل الكناسي قال: «قال لي أبوعبداللّه (عليه السلام): أىّ شيء بلغني عنكم؟ قلت ما هو؟ قال: بلغني أنّكم أقعدتم قاضياً بالكناسة. قال: قلت: نعم ـ جعلت فداك ـ رجل يقال له عروة القتات، وهو رجل له حظ من العقل، نجتمع عنده، فنتكلّم ونتساءل، ثمّ يردّ ذلك إليكم. قال: لابأس»(1). فقد يقال: إنّ هذا دليل على نفوذ قضاء قاضي التحكيم، فانّ عروة القتات نصبه نفس الناس قاضياً وليس وليّ الأمر. إلّا أنّ الحديث قابل للمناقشة سنداً و دلالة.
أمّا من حيث السند فنقول: إنّ أحمد بن منصور إن كان هو الخزاعي كما شوهد نقل العياشي عنه، فافتراض عدم سقوط الواسطة بعيد، إلّا أن يفترض معمّراً؛ لأنّ أحمد بن منصور الخزاعي من أصحاب الرضا (عليه السلام) والعياشي ينقل عن أصحاب عليّ بن الحسن بن فضّال الذي هو من أصحاب الهادي والعسكري (عليهما السلام). وإن كان شخصاً آخر غيره فأيضاً يبعد افتراض عدم سقوط الواسطة بينه وبين العياشي، أو بينه وبين من ينقل عن الصادق (عليه السلام). وعلى أيّ حال فلا دليل على وثاقة أحمد بن
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 31، ص 107.
', 156), (14, 157, 'book', '
منصور، ولا على وثاقة أحمد بن الفضل الكناسي، ولعلّه أحمد بن الفضل الخزاعي بقرينة رواية أحمد بن منصور عنه.
وأمّا من حيث الدلالة فلئن كان صدر الحديث ظاهراً في إرادة القضاء بالمعنى المقصود لنا فذيله وهو قوله: «نجتمع عنده، فنتكلّم ونتساءل، ثمّ يردّ ذلك إليكم» ظاهر في البحث العلمي والفقهي، وبعد هذا لا أقلّ من الإجمال.
ولو فرضناه ظاهراً ـ رغم هذا ـ في إرادة القضاء فلا دليل على أنّ عروة القتات لم يكن داخلا في المنصوب بالنصب العامّ في مقبولة عمر بن حنظلة، أللهم إلّا أن يتمسّك بالإطلاق بملاك ترك الاستفصال، إلّا أنّ هذا الإطلاق غير تامّ في المقام، لأنّ الظاهر اجتماع الشرائط الواردة في مقبولة عمر بن حنظلة في عروة القتات، فقد كان شيعيّاً كما هو ظاهر من نصبهم له، ومن قوله: «ثمّ يردّ ذلك إليكم»، وعارفاً بالأخبار والروايات كما يظهر من قوله: «ثمّ يردّ ذلك إليكم»، وكان واجداً لحسن الظاهر الكاشف عن العدالة؛ إذ يستبعد تجمّعهم بهذا الشكل حول ظاهر الفسق.
ولو ثبت أنّ هذا الحديث ورد قبل ورود مقبولة عمر بن حنظلة وقبل أيّ نصب عامّ من قبل الإمام للقضاء، فغاية ما يدلّ عليه هذا الحديث هو نفوذ قضاء قاضي التحكيم بالمعنى الأوّل ـ أعني الواجد للشرائط غير المنصوب ـ دون المعنى الثاني ـ أعني غير الواجد للشرائط ـ لما عرفت من أنّ الإطلاق بملاك ترك الاستفصال غير تامّ في المقام.
2 ـ ما عن أبي بصير بسند تامّ عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال في رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حقّ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه، فأبى إلّا أن يرافعه إلى هؤلاء: «كان بمنزلة الذين قال اللّه ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿ألم تر إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى
', '', 157), (14, 158, 'book', 'الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ...﴾»(1).
وجه الاستدلال هو التمسّك بالإطلاق؛ إذ لم يقيّد الرجل الذي دعا أحد الأخوين صاحبه إلى الترافع إليه بقيد سوى قيد التشيّع، فمقتضى الإطلاق صحّة التحاكم عند الرجل الشيعىّ ولو لم يكن منصوباً، بل ولو لم يكن واجداً لسائر الشرائط.
إلّا أنّ الظاهر عدم تماميّة الإطلاق؛ إذ هو بصدد الردع عن التحاكم إلى حكّام الطاغوت، لابصدد بيان من يجوز التحاكم إليه من الشيعة كي يتمّ الإطلاق: ومن هنا يتبيّن أنّه لو فرض ثبوت ورود هذا الحديث قبل مقبولة عمر بن حنظلة وقبل أىّ نصب عامّ من قبل الإمام، فإنّما يدلّ على نفوذ قضاء قاضي التحكيم بالمعنى الأوّل دون الثاني.
3 ـ ما عن الحلبي بسند تام قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): ربّما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشيء فيتراضيان برجل منّا؟ فقال: ليس هو ذاك، إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط»(2)؛ بناءً على أنّ النظر في هذا الحديث إلى حرمة التحاكم لدى من هو غير منصوب، أو عدم نفوذ حكمه، فيفصّل الإمام (عليه السلام) بين من يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط فيحرم أو لاينفذ، وبين من تراضى به المترافعان وكان شيعيّاً فيحلّ وينفذ.
إلّا أنّ هذا التفسير غير واضح؛ إذ الظاهر: أنّ قوله: «ليس هو ذاك» إمّا هو إشارة إلى ما هو المعروف من حرمة الترافع لدى الطاغوت، أو لدى حاكم الجور، فيفسّر الإمام (عليه السلام) ذاك المعروف بالترافع لدى من يحكم الناس بالسيف و السوط
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 1 من صفات القاضي، ح 2، ص 3.
(2) الوسائل، ج 18، ب 1 من صفات القاضي، ح 8، ص 5.
', 158), (14, 159, 'book', '
من الأُمراء الظالمين، ويقول: إنّ هذه الحرمة غير ثابتة في الترافع لدى رجل منّا، وليس بصدد بيان مدى جواز ونفوذ قضاء هذا الرجل، كي يتمّ الإطلاق، أو هو إشارة إلى كلام مسبق بين الإمام و السائل محذوف، ولانعرفه ما هو، فلا يتمّ الإطلاق أيضاً. ولو فرض ثبوت ورود هذا النصّ قبل النصب العامّ ودلالته على نفوذ قضاء قاضي التحكيم، فلا يدل إلّا على نفوذ قضاء القاضي بالمعنى الأوّل دون الثاني؛ لما عرفته من عدم تماميّة الإطلاق.
4 ـ ما مضى من رواية أبي خديجة(1) بناءً على حمل السيّد الخوئي لها على قاضي التحكيم، إلّا أنّه مضى إبطال ذلك.
5 ـ ما ورد من حديث نبوي رأيته في كتاب القضاء للمولى علىّ الكني(رحمه الله)(2)، وهو قوله (صلى الله عليه وآله): «من حكم بين اثنين تراضيابه، فلم يعدل، فعليه لعنة اللّه». وأورد المولى الكني (رحمه الله) على الاستدلال بذلك بضعف السند، وبأنّه وارد مورد حكم آخر، وهو عدم جواز الحكم بغير العدل، وليس بصدد بيان جواز القضاء لكلّ من رضيابه كي يتمّ الإطلاق، وبأنّه معارض بما دلّ على إذن الإمام في القاضي، والثاني مقدّم بالأخصّيّة. ولو فرض أنّ النسبة عموم من وجه كفانا أنّه بعد التعارض و التساقط لا يصلح دليلا على المقصود.
أقول: إشكاله الأخير جزء مّما سيأتي ـ إن شاء اللّه ـ من البحث عن أدلّة عدم نفوذ قضاء قاضي التحكيم غير المنصوب.
6 ـ ما عن موسى بن أكيل عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حقّ فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما، فحكما، فاختلفا
', '(1) الوسائل، 18، ب 1 من صفات القاضي، ح 5، ص 4.
(2) ص 24.
', 159), (14, 160, 'book', '
فيما حكما؟ قال: وكيف يختلفان؟ قال: حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان. فقال: ينظر إلى أعدلهما و أفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه»(1).
والسند ضعيف بذبيان بن حكيم الذي لم تثبت وثاقته، والدلالة ضعيفة بعدم الإطلاق لفرض عدم اجتماع الشرائط فيهما، كما يظهر من قوله: «ينظر إلى أعدلهما وأفقههما(2) في دين اللّه»، على أنّ الرواية واردة في حكم تعارض الحكمين لا في أصل نفوذ الحكم كي يتمّ فيه الإطلاق. ولو فرض وروده قبل النصب العامّ فإنّما يدلّ على نفوذ قضاء قاضي التحكيم بالمعنى الأوّل.
ومنه يظهر الكلام أيضاً في رواية داود بن الحصين عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما عن القول أيّهما يمضي الحكم؟ قال: «ينظر إلى أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه، ولايلتفت إلى الآخر»(3). وسند الحديث تامّ.
أمّا ذيل مقبولة عمر بن حنظلة الوارد فيما كان كلّ منهما اختار رجلا من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ فقال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما و أصدقهما في الحديث
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 45، ص 88.
(2) قد يقال: إنّ الفقاهة لايقصدبها المعنى المصطلح اليوم في مقابل التقليد، فمن يتقن الأحكام عن طريق التقليد فهو أيضاً فقيه في الأحكام لغةً.
(3) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 20، ص 80.
', 160), (14, 161, 'book', '
وأورعهما ...»(1) فالأمر فيه أوضح، فإنّ هذا ذيل للصدر الدالّ على النصب العامّ، ومفروض السائل، أنّ المتنازعين رضيا بشخصين داخلين في ذاك النصب العامّ.
 $
أدلّة الوفاء بالشرط:
الثاني ـ أن يتمسّك بأدلّة الوفاء بالشرط و العقد، بأن يقال: إن المترافعينقد تشارطا وتعاقدا على قبول حكم هذا الحاكم بنحو شرط الفعل، أو على نفوذه بنحو شرط النتيجة بناءً على مشروعيّة شرط النتيجة، فيجب عليهما العمل بقضائه، أو ينفذ قضاؤه بدليل وجوب الوفاء بالشرط و نفوذه. ويمكن الإيراد على ذلك بوجوه:
1 ـ عدم نفوذ الشرط الابتدائي بناءً على رأي المشهور، ولكنّ المرجّح عندنا نفوذه على تفصيل موكول إلى محلّة.
2 ـ رجوع التحاكم دائماً إلى المشارطة غير واضح، ولكن قد يقال: لا نفهم معنى التحاكم و الرضا به حكماً إلّا التباني والتشارط على قبول حكمه.
3 ـ أنّ هذا الوجه روحه روح نفوذ الشرط لا روح نفوذ القضاء بما هو قضاء، فينحصر مفعوله في دائرة المباحات، ولايؤثّر في إثبات الزوجيّة ونفيها، وإثبات الولد ونفيه، وفي الدماء، وماشابه ذلك ممّا لا مجال لإثباته بالشرط، بل لابدّ فيه من الرجوع إلى أدلّة الأحكام الشرعيّة في ذاتها.
 $
$
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 1، ص 75.
', 161), (14, 162, 'book', '
 $
آيات قرآنية:
الثالث ـ التمسّك بآيات من قبيل: ﴿إذا حكمتم بين الناس أن تحكموابالعدل﴾(1). و﴿من لم يحكم بما أنزل اللّه فأُلئك هم الكافرون﴾، أو ﴿... الظالمون﴾، أو ﴿... الفاسقون﴾(2). مّما قد يستفاد منها أصل جواز الحكم من قبل الناس من دون أن يؤخذ في ذلك أىّ شرط من شرائط القاضي المنصوب ولا شرط النصب، فقد يقال: إنّ هذه الآيات راجعة إلى قاضي التحكيم، كما استدلّ السيد الخوئي بها على عدم اشتراط الاجتهاد في قاضي التحكيم حيث قال في تكملة المنهاج:
«وأمّا قاضي التحكيم فالصحيح أنّه لايعتبر فيه الاجتهاد خلافاً للمشهور، وذلك لإطلاق عدّة من الآيات منها قوله ـ تعالى ـ: ﴿إنّ اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ...﴾»(3).
أقول: إنّ هذه الآيات إنّما هي بصدد بيان أنّ الإنسان حينما يحكم يجب ان يكون حكمه حكماً بالعدل و بما أنزل الله. أمّا متى يحكم ولمن يجوز الحكم؟ فهذه مسألة أُخرى لم تكن الآيات بصددها؛ كي تثبت بإطلاقها عدم شرط الاجتهاد، أو عدم شرط النصب، أو عدم أىّ شرط آخر.
 $
$
', '(1) سورة النساء، الآية 58.
(2) المائدة، الآيات، 44، 45، 47.
(3) المجلد الاول ص 9.
', 162), (14, 163, 'book', '
 $
السيرة العقلائية:
ألرابع ـ بناء العقلاء و سيرتهم بدعوى قيام ذلك على تنفيذ حكم قاضيالتحكيم رغم عدم نصبه مادام المترافعان قد تراضيابه، ولم يرد ردع عن ذلك وهو دليل الإمضاء.
أقول: هذا الوجه أيضاً لو تمّ فإنّما يثبت نفوذ حكم قاضي التحكيم بالمعنى الأوّل؛ إذ من كان فاقداً لشرط من الشروط الفقهيّة للقضاء فنفس دليل ذاك الشرط ـ حينما لايكون الدليل منحصراً في عدم الدليل على النفوذ و أصالة عدم النفوذ ـ دليل على الردع عن هذا البناء العقلائي لو ثبت.
والواقع أنّ هذا البناء غير ثابت من قبل العقلاء بأكثر من روح الوفاء بالشرط، فحاله حال الوجه الثاني.
 $
الإجماع:
الخامس ـ الإجماع ـ قال المولى الكني (رحمه الله): «نعم، في المفتاح حكاية الإجماععليه من الخلاف و المجمع، مع أنّ في الأخير لم يدّعه صريحاً بل قال: كان دليل نفاذ من يرضى الخصمان به بشرط اتّصافه بالشرط المذكور هو الإجماع أيضاً، وإلّا فما أعرف له دليلا. وفي المسالك و الكفاية: أنّهم لم يذكروا فيه خلافاً، وفي الرياض: لم ينقلوا فيه خلافاً أصلا، ويؤيّده: دعوى الإجماع ممن(1) عرفت على أنّه يشترط في قاضي التحكيم جميع ما يشترط في القاضي المنصوب ـ ولو عموماً ـ عداالإذن، فإن
', '(1) إشارة إلى كلام سابق له في كتاب القضاء.
', 163), (14, 164, 'book', '
تمّ إجماع أو شهرة قويّة موجبة لقوّة إطلاقات القضاء وموهنة لما دلّ على اشتراط الإذن ـ كما هو الظاهر وبه ينجبر ضعف سند النبوي(1) بل ودلالته ـ وإلّا فالوجه العدم»(2)
هذا هو النصّ الذي أردنا نقله عن كتاب المولى الكني (رحمه الله)، ثمّ يذكر عدم وجود ثمرة لهذا البحث في زماننا؛ لأنّ كلّ من هو واجد للصفات فهو منصوب، ومن ليس واجداً لها لاأثر للتحاكم لديه. أقول: بعدما عرفت من الوجوه التي يمكن أن تكون مدركاً للإجماع لاقيمة للإجماع، وقد حقّقنا في محلّه أنّ الشهرة و الإجماع الفتوائيّين لا يجبران السند و الدلالة أمّا عدم الثمرة في زماننا فمبنىّ على كون جميع الشروط حتى الاجتهاد شروطاً فقهية، وقد عرفت الكلام في ذلك.
هذا، وقد ظهر أيضاً أنّ هذا الإجماع لو تمّ فإنّما يدلّ على نفوذ حكم قاضي التحكيم بالمعنى الأوّل فقط دون الثاني، لأنّ الإجماع لم يقم على أكثر من نفوذ حكم قاضي التحكيم الواجد لجميع الشرائط عدا الإذن.
هذا تمام الكلام في أدلّة نفوذ حكم قاضي التحكيم.
 $
أدلّة عدم النفوذ
وبالإمكان أن يستدلّ على عدم نفوذ حكم قاضي التحكيم في قبال ما مضىمن الاستدلال على نفوذه بوجهين:
الأوّل: الآيات القرآنية وهي:
$
', '(1) إشارة إلى النبوي الذي مضى من قوله (صلى الله عليه وآله): «من حكم بين اثنين تراضيابه، فلم يعدل، فعليه لعنة اللّه».
(2) كتاب القضاء، ص 24.
', 164), (14, 165, 'book', '
1 ـ قوله تعالى: ﴿ياأيّها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوالرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى اللّه والرسول ...﴾(1).
2 ـ وقوله تعالى: ﴿فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شَجَرَ بينَهم ثُمَّ لا يجدون في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً﴾(2).
وتقريب الاستدلال بذلك هو أن يقال: إن المقصود بالردّ إلى اللّه و الرسول وتحكيم الرسول هو الردّ و التحكيم ولو بالواسطة بأن يردّ إلى من يمثل الرسول ويحكّم من نصب من قبل الرسول. والمفهوم من الأمر بالردّ إلى من يمثّل الرسول، أو تحكيم من نصب من قبل الرسول هو كونه ممثّلا له، ومنصوباً من قبله في المرتبة السابقة على الردّ والتحكيم، وهذا يعني أنّ القاضي يجب أن يكون منصوباً في المرتبة السابقة على الردّ إليه وتحكيمه، وهذا معناه عدم نفوذ حكم قاضي التحكيم.
وهذا الدليل ـ لو تمّ ما ذكر من التقريب ـ يقدّم على ما مضى من دليل السيرة و بناء العقلاء لو تمّ في نفسه لأنّ هذا ردع عنه، وعلى أدلّة وجوب الوفاء بالشرط والعقد لو تمّ الاستدلال بها لأنّ الشرط يصبح بسبب هذا الوجه شرطاً مخالفاً للكتاب، وعلى إطلاقات الروايات والآيات التي مضى الاستدلال بها على قاضي التحكيم لو تمّت وذلك بالتقييد.
الثاني: ماورد عن سليمان بن خالد عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيّ أو وصىّ بني»(3). وللصدوق (رحمه الله) سند تامّ لهذا الحديث إلى سليمان بن خالد. أمّا سليمان
', '(1) سورة النساء، الآية 59.
(2) سورة النساء، الآية 65.
(3) الوسائل، ج 18، ب 3 من صفات القاضي، ح 3، ص 7.
', 165), (14, 166, 'book', '
نفسه فيمكن إثبات وثاقته بما عن النجاشي بشأنه من قوله: «كان قارئاً فقيهاً وجهاً»، فإنّ كونه وجهاً يلازم حسن الظاهر، وهو أمارة على العدالة. ونقل الكشّي أيضاً عن حمدويه عن أيوب بن نوح توثيقه وهو واقع في أسانيد كامل الزيارات، فإن لم نعتمد على كتاب الكشّي ولا على وقوعه في أسانيد كامل الزيارات كفاناما عرفته عن النجاشي.
وأمّا دلالة الحديث فبيانها: أنّه يحصر الحكم بالنبىّ وبمن كان وصيّاً له، وهذا يعني أنّ الحاكم يجب أن يكون نبيّاً أو وصيّاً أو منصوباً من قبل أحدهما ولهجة كون القضاء للنبيّ والوصىّ لاتناسب افتراض إمضاء الحكم في طول تراضي المترافعين بدعوى أنّه أصبح منصوباً في طول التحكيم، فهذه الرواية أيضاً تردّ بناء العقلاء ونفوذ الشرط، وتقيّد المطلقات.
هذا. ولكن قد يقال بانصراف الحكومة إلى منصب الحكومة، لا إلى مجرّد الحكم ولو بتراضي المترافعَين، فتصبح هذه الرواية دليلا على أنّ القاضي المنصوب يجب أن يكون منصوباً من قبل النبىّ أو الوصىّ، وتصبح أجنبيّة عمّا نحن فيه، وتصبح حالها حال ما روي عن إسحاق بن عمّار بسند غير تامّ، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح: ياشريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّا نبىّ أو وصيّ نبىّ أو شقىّ»(1).
هذا كلّه في الكلام عن شخصيّة القاضي
$
', '(1) نفس المصدر ص 2.
', 166), (14, 167, 'book', '
 $
 $
 $
 $
الخاتمة
في حق تعيين القاضي
 $
وفي ختام البحث عن شخصيّة القاضي لا بأس بالحديث عمّن بيده تعيين القاضي، هل هو المدعي، أو المنكر، أو كلاهما؟
ذكر السيّد الخوئي في مباني تكملة المنهاج ما لفظه: «هل يكون تعيين القاضي بيد المدّعي، أو بيده و المدّعى عليه معاً؟ فيه تفصيل: فإن كان القاضي قاضي التحكيم فالتعيين بيدهما معاً، وإن كان قاضياً منصوباً فالتعيين بيد المدّعي»(1).
وذكر فى الهامش في مقام الاستدلال على ذلك مالفظه:
«أمّا الأوّل فلما عرفت من أنّ حكمه غير نافذ إلّا بعد اختيار المتخاصمين إيّاه وتراضيهما به ـ وأمّا الثاني فهو المشهور بين الأصحاب، بل ادُّعيَ عليه الإجماع، ويدلّ عليه: أنّ المّدعي هو الملزَم بإثبات دعواه بأىّ طريق شاء وأراد، وليس للمدّعى عليه أىّ حقّ في تعيين الطريق له، أو منعه عن إثبات دعواه بطريق خاصّ كما تشير إلى ذلك عدّة من الآيات، فالنتيجة أنّ تعيين القاضي بيد المدّعي سواءٌ أَرَضيَ به المدّعى عليه أم لا»(2).
$
', '(1) تكملة المنهاج، ج 1، ص 9.
(2) تكملة المنهاج، ج 1، ص 9 و 10.
', 167), (14, 168, 'book', '
وتعرّض في المتن لفرض التداعي قائلا:
«وأمّا إذا تداعيا فالمرجع في تعيين القاضي عند الاختلاف هو القرعة»(1).
وقال: في الهامش بصدد الاستدلال على ذلك مالفظه:
«وذلك حيث إنّ كلاّ منهما مدّع فلكلّ منهما الحقّ في تعيين الطريق لإثبات مدّعاه، وليس للآخر منعه عنه، فلو عيّن أحدهما حاكماً، والآخر حاكماً آخر، ولايمكن الجمع بينهما، فالمرجع في تعيين الحاكم هو القرعة»(2).
أقول: بالنسبة لقاضي التحكيم ـ لو آمنّابه ـ يكون التعيين بيدهما معاً، إذ أنّ نفوذ الحكم خلاف الأصل، وأدلّة نفوذ حكم قاضي التحكيم لو تمّت لاتشمل فرض ما إذا كان التحكيم من قبل أحدهما من دون رضا الآخر، فالإجماع و السيرة لو ثبتا كان من الواضح اختصاصهما بفرض التحكيم من كلا الطرفين. ودليل الوفاء بالشرط ـ أيضاً ـ من الواضح اختصاصه بذلك؛ إذ لولا رضاهما معاً لم يكن تشارط في المقام، و الروايات أكثرها تختصّ بفرض رضاهما معاً، وقصّة عروة القتّات تقول: «نجتمع عنده فنتكلّم ونتسائل»، ولو فهم من ذلك القضاء فظاهره تراضي الكلّ، أو ـ على الأقلّ ـ لاإطلاق له لغير هذا الفرض. ورواية أبي بصير «في رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حقّ، فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه و بينه، فأبى إلّا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال اللّه عزّ وجلّ...) واردة بشأن رفض هذا الخصم تحكيم صاحبه شخصاً من الشيعة، وإصراره على تحكيم حاكم الجور، فلنفترض أنّنا فهمنا من ذلك قضاء قاضي التحكيم، لكن لا نظر لها إلى فرض ما إذا رفض هذا الخصم خصوص الشخص الذي عيّنه الخصم الآخر، وطالب
', '(1) نفس المصدر ص 10.
(2) نفس المصدر.
', 168), (14, 169, 'book', '
بشخص آخر من الشيعة. وأمّا الآيات كقوله: ﴿إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾ ـ لو تمّ فيها إطلاق لقضاء التحكيم ـ فهي منصرفة بمناسبات الحكم والموضوع عن فرض كون القاضي غير منصوب وغير محكّم من قبل الطرفين بأن كان محكّماً من طرف واحد، سنخ انصرافها من شخص غير منصوب و غير محكّم من قبل أي واحد من الطرفين أفهل يقال: إنّ الآية تدلّ بإطلاقها مثلا على جواز ممارسة كلّ أحد للقضاء مادام يحكم بالعدل سواء كان منصوباً من قبل ولىّ الأمر أو لا، وسواء رضي به أحد أولا؟!!
وأمّا بالنسبة للقاضي المنصوب فيمكن توجيه الاستدلال على كون اختيار القاضي بيد المدّعي بأخذ نكتتين بعين الاعتبار:
الأُولى ـ أن يقصد بالمدّعي من إذا ترَكَ النزّاع تُرك، لاخصوص من عليه البيّنة، فمثلا لوطالب خصمه بدين له والخصم يدّعي الوفاء، فالبيّنة على الخصم المدعي للوفاء لكن الذي يشكو إلى القاضي لمطالبة الحقّ إنّما هو المنكر للوفاء.
الثانية ـ أن يقال: إنّ المفهوم عرفاً من النصب للقضاء ليس مجرّد إعطائه منصب فصل النزاع لوترافعا عنده، بل إعطاؤه ذلك إضافةً إلى حقّ جلب الخصم والتحقيق بشأن النزاع لو شكاه أحد ثمّ فصل النزاع.
وعندئذ يتمّ القول بأن المدّعي بمعنى من سيرفع المخاصمة من حقّه أن يختار لرفع المخاصمة أىّ قاض شرعىّ أراد، ولايحقّ لصاحبه منعه عن ذلك، بل تجب عليه الاستجابه للتحقيق، ثمّ الخضوع للحكم؛ لأنّ من حقّ القاضي جرّه إلى ذلك.
وأمّا الاستشهاد بالآيات على المدّعى فأمر غير مفهوم. وإن كان المقصود بذلك الإشارة إلى مثل آية ﴿إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾بدعوى أنّ إطلاق ذلك بعد ضرورة تخصيصه بفرض رفع النّزاع من قبل الشاكي
', '', 169), (14, 170, 'book', 'إليه يشمل فرض ما إذا لم يكن القاضي مرْضيّاً من قبل الطرف الآخر قلنا: لازم ذلك ـ على مبناه القائل بأنّ هذه الآيات دليل على قضاء التحكيم ـ دلالة الآيات على أنّه في قاضي التحكيم أيضاً لا يشترط رضا الطرفين، وهذا ما لا يلتزم به. وعلى أىّ حال فقد عرفت عدم تماميّة إطلاق من هذا القبيل في هذه الآيات.
يبقى الكلام فيما فرضه من مسألة التداعي بعد أن نُؤَوّل التداعي أيضاً بمعنى ماإذا احتاج كلّ منهما، إلى الشكوى ورفع النزاع، حتى ولو كان أحدهما مدّعياً و الآخر منكراً، كما لو فرضنا أنّ أحداً ادّعى على الآخر الدين وأنكره الآخر، ولكنّ المدّعي قد ضيّق على المنكر بتكرير المطالبة، وتكثير مخاصمته ليل نهار، فرأى المنكر أنّ علاج المشكل هو رفع الشكوى إلى حاكم يخصم النزاع فيستريح من مضايقات المدّعي، كما أنّ المدّعي أيضاً رأى أنّ طريق إنقاذه لحقّة عبارة عن رفع الشكوى إلى الحاكم، فاختلفا في اختيار القاضي ولا يمكن الجمع بينهما، فما هو طريق تعيين القاضي؟ وهنا يقول السيد الخوئي (رحمه الله): إنّ طريق تعيين القاضي هو القرعة التي جعلت لكلّ أمر مشكل.
وقد يورد على هذا الكلام بإيرادين:
الإيراد الأوّل ـ أن يقال: إنّ مقتضى الروايات الماضية: مقبولة عمر بن حنظلة(1)، ورواية داود بن الحصين(2)، ورواية موسى بن أكيل(3)، هو الرجوع عند تعارض الحكمين إلى الترجيح بالأعدليّة والأفقهيّة لاالقرعة.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، حديث 1، ص 75.
(2) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، الحديث 20، ص 80.
(3) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، حديث 45، ص 88.
', 170), (14, 171, 'book', '
والجواب: أنّ هذه الروايات إنّما وردت بشأنّ ترجيح أحد الحكمين على الآخر بعد صدورهما، ونحن الآن نتكلّم فيما قبل الحكم لتشخيص من له حقّ الحكم، لا فيما بعد صدور الحكمين برضاكلا الخصمين بهما كما هو مورد الروايات.
الإيراد الثاني ـ وهو تطوير للإيراد الأوّل بهدف التخلّص من الجواب الذي مضى ـ أن يقال: لو اختلف الخصمان في رفع النّزاع إلى القاضي، فرفع هذا النزاع إلى قاض، ورفع الآخر النزاع إلى قاض آخر، فتارةً نفترض أنّ أحد القاضيين يتقبّل النزاع، ويجلب الخصم الآخر، ويحقّق الموضوع، ويحكم، دون أن يقوم القاضي الآخر بعمل مماثل لذلك، وعندئذ لا ينبغي الكلام في نفوذ حكم ذاك الحاكم لما مضى من أنّ المفهوم عرفاً من النصب للقضاء ليس مجرّد فصل النزاع عند ترافعهما معاً إليه، بل يشمل ذلك فرض ما إذا رفع الشاكي الشكوى إليه، فمن حقّه أن يجلب الخصم الآخر، ويحقّق، ويقضي، والرادّ عليه كالرادّ على اللّه.
وأُخرى نفترض أنّ كلا القاضيين قد قاما بهذه العملية، واختلفا في الحكم، وحينئذ إمّا أن نقول: إنّ المورد دخل تحت مفاد الروايات الماضية الواردة في تعارض الحكمين، ونلتزم بالترجيح لا بالقرعة، وخصوصيّة مورد الروايات من تراضي الخصمين بهما ملغيّة عرفاً، فالمهمّ هو شرعيّة قضاء كلّ منهما في نفسه. أو نقول: إنّ أيّاً منهما كان متقدّما في إصدار الحكم ينفذ حكمه، ويعتبر حكم الآخر نقضاً لحكم الحاكم، ولايلتفت إليه، فإن صدر الحكمان في وقت واحد رجعنا إلى الترجيح الوارد في الروايات لاإلى القرعة.
أقول: تارةً نفترض أنّ القاضي هو وليّ الأمر أيضاً كالفقيه في زماننا، فهو بإمكانه ـ بحكم ولاية الفقيه ـ أن يجلب الخصم الآخر، ويفصل الخصومة إذا رأى المصلحة في ذلك، ولايبقى مجال بعد ذلك لحكم حاكم آخر، وأُخرى نفترض أنّه ليس وليّاً للأمر كالفقيه بناءً على إنكار ولاية الفقيه، وكغير الفقيه المنصوب قاضياً من قبل
', '', 171), (14, 172, 'book', 'الفقيه بناءً على ولاية الفقيه، وهنا يجب أن نرجع إلى ما يفهم عرفاً من دليل النصب، فالمفهوم عرفاً من دليل النصب أمران:
الأوّل ـ أنّ الخصمين إذا ترافعالديه كان له حقّ التحقيق وفصل النزاع.
والثاني ـ أنّ الشاكي منهما الذي يشكو من ظلم يقع عليه لو رفع الأمر إليه كان له حقّ جلب المتّهم و التحقيق، وبالتالي فصل النزاع.
أمّا لو كان كلاهما شاكيين، وشكى كلّ منهما إلى غيرالذي شكى إليه الآخر، ولم يرضياباشتراكهما معاً في فصل الخصومة كي يدخل الأمر تحت الصورة المفروضة في مورد الروايات الماضية، فشمول إطلاق دليل النصب لكلّ منهما بأن يعطيه حقّ المبادرة في القضاء لعلّه غير عرفىّ ولانشك فقيهاً فى ثبوت مقتضي نفوذ القضاء في كلّ منهما لولا المعارض، فلا يبقى عدا تعيين أحدهما بالقرعة بناءً على شمول قاعدة القرعة لموارد عدم وجود تعيّن واقعىّ.
وقد يقال: لئن لم يشمل إطلاق دليل القضاء كلاّ منهما في المقام إذن هما ليسا منصوبين للقضاء في خصوص المقام، فما معنى تعيين أحدهما بالقرعة؟!
وقد يجاب على ذلك: بأنّ معنى حجية القرعة في ذلك بناء على شمول قاعدة القرعة لموارد عدم وجود تعيّن واقعيّ كما هو الحال في قصّة يونس (عليه السلام) هو أنّه مادام مقتضي القضاء في كلّ منهما تامّاً، فالقرعة ترفع المانع عمّن وقعت باسمه بتعيين السقوط في الآخر.
هذا. ولكن مقتضى أدلّة القرعة ـ وهذا ما سوف نبحثه بالتفصيل عند البحث حول الطريق الخامس من طرق الاثبات في القضاء ـ أن ما ذكره السيد الخوئي في المتداعيين اللذين اختار كل واحد منهما قاضياً غيرما اختاره الآخر من لزوم الرجوع إلى القرعة لايخلو من اشكال لوجهين:
الأوّل ـ أنّ حجّيّة القرعة إنّما هي حجيّة قضائيّة، وتقع القرعة من قبل
', '', 172), (14, 173, 'book', 'القاضي؛ إذن لاتشمل أصل تعيين القاضي، ولادليل على الحجية الذاتية ـ أى بقطع النظر عن القضاء ـ للقرعة.
ولكن لولا الإشكال الثاني لتمّ عندئذ لدينا دليل على الحجية الذاتية في المقام؛ لأنّ عموم الموضوع في قوله: «كلّ مجهول ففيه القرعة»(1) قد شمل مورد الكلام في حين أنّه فى هذا المورد لاتتصوّر حجيّة قضائيّة، فتثبت الحجّيّة الذاتيّة في خصوص هذا المورد.
الثاني ـ أنّ حجّيّة القرعة إنّما هي لكلّ أمر مجهول لدينا متعيّن في الواقع؛ بينما في هذا المورد لاتعيّن في الواقع.
ولايبعد القول بأنّ أيّاً منهما بادر بالقضاء فقضاؤه نافذ بإطلاق دليل النصب، ولايبقى مجال لحكم الآخر، ولو تعاصرا في الحكم دخل في مورد الروايات التي وردت في تعارض الحكمين، وحكمت بالترجيح لابالقرعة.
أمّا لولم نقبل بهذا البيان، إذن فلو أرادا حقّاً حلّ المشكل عن طريق القضاء، فعليهما أن يتوافقا على قاض واحد، ولو عن طريق القرعة التي هي مشروعة بالتراضي والتشارط في المباحات ولو مع عدم تعيّن في الواقع ـ على ما سوف يأتي إن شاء اللّه فى محلّه، بل التراضي بالقرعة يحلّ المشكل قهراً بلا حاجة إلى دليل لو بقي الرضا مستمرّاً بعد القرعة، وكذلك لو أراد أحدهما حلّ المشكل فعليه أن يرضى بقاضي الآخر. أمّا لو بقيامتشاكسين في تعيين القاضي، فهذا حاله حال أن يتركا رفع المخاصمة إلى القاضي رأساً، والعيب فيهما وليس في قوانين القضاء.
هذا تمام الكلام في البحث عن شخصية القاضي. مع ما ألحقناه به من الحديث عمّن بيده تعيين القاضي.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 13 من كيفية الحكم ح 11 ص 189.
', 173), (14, 174, 'book', '
 $
$
', '', 174), (14, 175, 'book', '$
', '', 175), (14, 176, 'book', ' $
$
', '', 176), (14, 177, 'book', ' $
 $
$
', '', 177), (14, 178, 'book', ' $
$
', '', 178), (14, 179, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
نصوص من الفقه الوضعي:
 $
تعارف القول في الفقه الوضعي الحديث بأنّ طرق الإثبات ستة: أوّلها وأهمّها الكتابة، والثاني الشهادة أو البيّنة، والثالث القرائن، والرابع الإقرار، والخامس اليمين، والسادس المعاينة.
قال عبدالرزاق أحمد السنهوري:
«والكتابة من أقوى طرق الإثبات، ولها قوّة مطلقة يجوز أن تكون طريقاً لإثبات الوقائع القانونيّة والتصرفات القانونيّة دون تمييز، كما سنرى. ولم تكن لها هذه القوّة قديماً، بل كان المقام الأوّل للشهادة في وقت لم تكن فيه الكتابة منتشرة، بل كانت الغلبة للأُ ميّة فكان الاعتماد على الرواية دون القلم، هكذا كان الأمر في الفقه الإسلامي وفي سائر الشرايع، ثمّ أخذت الكتابة تنتشر، وساعد على ذلك اختراع الطباعة، فعلت الكتابة على الشهادة وصارلها المقام الأوّل. ومن مزايا الكتابة أنّه يمكن إعدادها مقدّماً للإثبات منذنشوء الحقّ دون التربّص إلى وقت المخاصمة ... ومن مزايا الكتابة أيضاً أنّها لا يتطرّق إليها من عوامل الضعف ما يتطرّق إلى الشهادة، فالشهود يجوز عليهم الكذب، وتعوزهم الدقّة على كلّ حال، وتتعرّض ذاكرتهم للنسيان على أنّ الكتابة إذا خلت ممّا يلحق الشهادة من كذب، أو اضطراب، أو نسيان لا تخلو هي أيضاً من احتمال التزوير. وقدرسم قانون المرافعات
', '', 179), (14, 180, 'book', 'اجراءات معيّنة للطعن في الكتابة بالإنكار، أو بالتزوير. (م 253 ـ 291 مرافعات).
أمّا الشهادة أو البيّنة فقد كانت من أقوى الأدلّة في الماضي كما قدّمنا، ثم نزلت للأسباب التي بيّناها إلى مكان أدنى، فهي طريق لإثبات ذوقوّة محدودة؛ إذ لايجوز إثبات التصرّفات القانونيّة بها إلّا في حالات استثنائيّة، ولا تثبت بها إلّا الوقائع القانونيّة؛ لأنّها أعمال ماديّة، فجاز إثباتها بالبيّنة لموقع الضرورة، وقد حاطها المشرّع بضمانات عدّة، فرسم اجراءات دقيقة لسماع الشهود (م 189 ـ 224 مرافعات)، وفرض عقوبة على شهادة الزور، وترك للقاضي التقدير الأعلى في الأخذبها إذا أقنعته، أو في طرحها إذا هو لم يقتنع ...»(1).
وذكر في فصل البيّنة والقرائن ما حاصله:
أنّ البيّنة والقرائن لهما القوّة المطلقة في الوقائع القانونيّة الماديّة، وفي التصرّفات القانونيّة التجاريّة إلّا ما استثني. ولهما القوّة المحدودة في ميدان التصرّفات القانونيّة المدنيّة، فلا يجوز أن تثبت بهما التصرّفات المدنيّة التي تزيد قيمتها على عشرة جنيهات، أو تكون غير محدّدة القيمة، بل وتلك التي لا تزيد قيمتها على هذا المقدار إذا كانت مكتوبة ويراد إثبات ما يخالف الكتابة أو يجاوزها. ومحدوديّة قوّتهما في ميدان التصرّفات القانونيّة المدنيّة أيضاً لها استثناءاتها، و السبب في الفرق بين التصرّفات القانونيّة المدنيّة من ناحية والوقائع المادية أو التصرّفات التجارية هو أنّ التصرف القانوني إرادة تتّجه إلى إحداث أثر قانوني لها مظهر خارجي هو التعبير، والقانون اقتضى أن لايكون إثبات هذا التعبير كقاعدة عامّة إلّا عن طريق الكتابة، وذلك لاعتبار سببين:
1 ـ لأنّ التعبير عن إرادة تتجه لإحداث أثر قانوني أمر دقيق قد يُغَمُّ على
', '(1) الوسيط، ج 2، الفقرة رقم 58، ص 90 و 91.
', 180), (14, 181, 'book', '
الشهود فلايدركون معناه، ولا يؤدون الشهادة فيه بالدقة الواجبة.
2 ـ والتصرف القانوني فوق ذلك هو الذي تستطاع تهيئة الدليل الكتابي عليه وقت وقوعه، ومن ثم كان اشتراط الكتابة لإثباته أمراً ميسوراً.
أمّا الواقعة الماديّة فلا يقوم في شأنها أيّ من الاعتبارين المتقدّمين، وقد عمد المشرّع إلى الخطير من هذه الوقائع كالميلاد والموت فأوجب تسجيله بالكتابة على نحو خاصّ.
أمّا السبب في إباحة الإثبات بالبيّنة و بالقرائن في المسائل التجارية أيّاً كانت قيمة التصرف القانوني فهو مايقتضيه التعامل التجاري من السرعة، وما يستلزمه من البساطة وما يستغرقه من وقت قصير في تنفيذه...(1).
وقد يبدو من عبارة السنهوري الماضية في أوّل البحث أنّ الإسلام أعطى المقام الأوّل في الإثبات إلى البيّنة لأجل غلبة الاُمّيّة وقتئذ، وهذا مايكرّس شبهة أعداء الإسلام القائلين بأنّ الإسلام كان ديناً منسجماً مع زمانه وقد انتهى وقت تنفيذ نُظمه وقوانينه لتبدل الزمان والأوضاع.
ولكنّه ذكر بعد ذلك ما يدلّ على أنّه يرى أنّ النقص لم يكن في الإسلام، وإنّما كان النقص في عصر التقليد في الفقه الإسلامي ـ على حدّ تعبيره ـ، ولا بأس بذكر نصّ عبارته بهذا الصدد. قال في تعليق له في الهامش على الفقرة رقم 189، في الجزء 2: «فالفقه الإسلامي لايعتدّ بالكتابة اعتداده بالشهادة، فالشهادة عنده هي البيّنة التي لها المقام الأوّل في الإثبات، أمّا الكتابة فيحذر منها كلّ الحذر؛ لأنّ الخطوط ـ كما يقول الفقهاء ـ قابلة للمشابهة والمحاكاة، والواقع من الأمر أن الكتابة لم تكن في العصور الأُولى التي ترعرع فيها الفقه الإسلامي منتشرة بين
', '(1) راجع: الوسيط ج 2، الفقرة رقم 181 و 182 و 185 و 188.
', 181), (14, 182, 'book', '
الناس، ولم يكن فنّ الخط قد تقدم تقدمه في العصور التي تلت، فكان من الصعب الاعتماد على الكتابه في الإثبات... وقد أتى القرآن الكريم في آية المداينة بأرقى مبادىء الإثبات في العصر الحديث، قال اللّه تعالى: ﴿يا أيّها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّىً فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب كما علّمه اللّه، فليكتب، وليملل الذي عليه الحقّ، وليتّق اللّه ربّه ولا يبخسْ منه شيئاً﴾(1). فالأولويّة في الإثبات إذن للكتابه، ولكن لمّا كانت حضارة العصر تقصر دون ذلك، وتقف عن مجاراة هذا التقدّم لم يستطع الفقهاء إلّا أن يسايروا حضارة عصرهم، فإذا بالفقه الإسلامي يرتفع بالشهادة إلى مقام تنزل عنه الكتابة نزولا بيّناً. ومن العجيب أن عصر التقليد في الفقه الإسلامي لم يدرك العوامل التي كانت وراء تقدّم الشهادة على الكتابة، فظلّ يردّد ما قاله الفقهاء الأوّلون في تقديم الشهادة، وذلك بالرغم من أنّهم كانوا يستطيعون أن يقلبوا الوضع، فيقدّموا الكتابة يؤازرهم في ذلك انتشار الكتابة وتُظاهرهم آيات القرآن الكريم».
إنتهى ما أردنا نقله من الوسيط.
وكتب أحمد نشأت في كتابه يقول:
«قد اتّبعت معظم الشرائع قاعدة في الإثبات الكتابة، وأمر بذلك القرآن الكريم: ﴿يا أيّها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّىً فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولايأب كاتب أن يكتب كما علّمه اللّه، فلْيكتب، ولُْيملِلِ الذي عليه الحقّ، ولْيتّقِ اللّه ربّه، ولا يبخسْ منه شيئاً. فإن كان الذي عليه الحقّ سفيهاً. أو ضعيفاً، أولا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليّه بالعدل، واستشهدوا شهيدين من
', '(1) سورة البقرة: 282.
', 182), (14, 183, 'book', '
رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرَأَتان ممّن ترضَوْن من الشهداء أن تضلّ إحداهما، فتذكّر إحداهما الأُخرى، ولايأْبَ الشهداءُ إذا ما دُعُوا، ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله، ذلكم أقسط عند اللّه، وأقوم للشهادة، وأدنى ألاّ ترتابوا، إلّا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألاّ تكتبوها...﴾»(1).
ولا يخفى أنّ هذه الآية الشريفة ليست دليلا على أنّ الكتابة إحدى وسائل الإثبات في باب القضاء، إذ جعلت الآية المباركة الكتابة كوسيلة لتقويم الشهود من ناحية، ودفع الارتياب من نفس أطراف المعاملة من ناحية أُخرى؛ حيث قال: ﴿ذلك أقسط عنداللّه وأقوم للشهادة وأدنى ألاّ ترتابوا﴾. أمّا إذا وقع الارتياب وحصل النزاع، فهل من حقّ القاضي أن يقضي بمجرّد الكتابة؟ فهذا ما لم تدلّ عليه الآية الكريمة.
هذا، وطرق الإثبات في الفقه الإسلامي عبارة عن:
1 ـ العلم.
2 ـ البيّنة.
3 ـ اليمين.
4 ـ الإقرار.
5 ـ القرعة.
أمّا قاعدة العدل و الإنصاف فقد تخصم بها الدعوى، لكنّها ليست من طرق الإثبات، فهي طبعاً لاتعني أنّ كلا الطرفين على حقّ، وإنّما تعني التنصيف عند عدم
', '(1) رسالة الإثبات، ج 1، الفقرة رقم 56، ص 105 الطبعة السابعة. والآية هي الآية 282، من سورة البقرة.
', 183), (14, 184, 'book', '
معرفة المالك الحقيقي كي يحصل المالك الواقعي على نصف ماله على كلّ تقدير، ولايحرم أىّ واحد منها حرماناً كاملا ما دام يحتمل كونه هو المالك.
أمّا الكتابة فليست ـ بما هي ـ طريقاً للإثبات في الفقه الإسلامي.
 $
الطعن على الإسلام:
ومن هنا يأتي الطعن على الإسلام بأنّه لاينسجم مع وضع اليوم، إذ منالواضح أنّ رفض الكتابة اليوم ـ وهي أقوى بكثير من جهة كشفها الحقيقي من البيّنة ـ أمر غير عقلائي فالإسلام دين لظروف مضت ولزمان انصرم.
والجواب: أنّ الكتابة قد تورث العلم، وقد لاتورث العلم، فإن أورثت العلم فقد دخلت في الطريق الأوّل من طرق الإثبات في الفقه الإسلامي كما ذهب إليه مشهور أصحابنا ـ قدّس اللّه أسرارهم ـ، وكان طريق الإثبات في الحقيقة هو العلم من أىّ سبب نشأ لاالكتابة.
أمّا إذا لم تورث العلم فهي غالباً أضعف من المدرك الذي أوجب للبيّنة العلم، والقاضي و إن كان تعامله ليس مباشرةً مع مدرك علم البيّنة، وإنّما تعامله معه بواسطة علم البيّنة، بينما الكّتابة هي المدرك المباشر لحصول الظنّ عند القاضي، فقد يفضِّل الاتكاء على هذا المدرك المباشر على الاتكاء على ذاك المدرك غير المباشر، ولكن المشرّع ليس هو القاضي، وإنّما هو شخص ثالث نسبته إلى القاضي والبيّنة على حدّ سواء، ومن حقّه أن يفضل المدرك الذي أوجب العلم للبيّنة على المدرك الذي أوجب الظن للقاضي.
وبعد هذا نشرع في البحث عن الطرق التي اعتمد عليها فقهنا الإسلامي للإثبات في القضاء.
$
', '', 184), (14, 185, 'book', ' $
 $
$
', '', 185), (14, 186, 'book', ' $
$
', '', 186), (14, 187, 'book', ' $
$
', '', 187), (14, 188, 'book', ' $
$
', '', 188), (14, 189, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
 $
الطريق الأول: علم القاضي.
 $
مع الفقه الوضعي
وقبل الشروع في البحث عن ذلك من وجهة نظر فقهنا الإسلامي نشير إلىوجهة نظر الفقه الوضعي الحديث في مسألة علم القاضي، والمتبنّى عادةً في ذاك الفقه هو عدم حجيّة علم القاضي.
وذكر عبدالرزاق السنهوري: أنّ هذا ناتج عن مبدأ حقّ الخصم في الإثبات لا عن مبدأ حياد القاضي(1).
ولتوضيح المقصود نتكلّم باختصار عن كلّ من المبْدَأَيْن من وجهة نظرهم:
قال السنهوري في الوسيط ما ملخّصه:
إنّ الحقيقة القضائيّة قد تبتعد عن الحقيقة الواقعيّة، بل قد تتعارض معها، لأنها لاتثبت إلّا عن طريق قضائي رسمه القانون، وقد يكون القاضي من أشدّ الموقنين
', '(1) راجع الوسيط الفقرة رقم 27 ص 33 ـ 34.
', 189), (14, 190, 'book', '
بالحقيقة الواقعيّة ومخالفتها للحقيقة القضائيّة.
والقانون في تمسّكه بالحقيقة القضائية دون الواقعية يوازن بين اعتبارين: اعتبار العدالة في ذاتها، ويدفعه إلى تلمّس الحقيقة الواقعيّة بكلّ السبل ومن جميع الوجوه حتى تتّفق معها الحقيقة القضائية، واعتبار استقرار التعامل، ويدفعه إلى تقييد القاضي في الأدلّة التي يأخذبها، فيحدّد له طرق الإثبات وقيمة كلّ طريق منها كي يأمن من جوره، ويحدّمن تحكّمه، ولايختلف القضاة في ما يقبلونه من دليل، وفي تقدير قيم الأدلّة في الأقضية المتماثلة.
ويمكن في الموازنة بين الاعتبارين أن نتصوّر قيام مذاهب ثلاثة في الإثبات:
1 ـ المذهب الحرّ أو المطلق: وهو الذي يميل إلى استقرار العدالة ولو بالتضحية باستقرار التعامل.
2 ـ والمذهب القانوني أو المقيّد: وهو الذي يقيّد قوانين الإثبات أشدّ التقييد حتى يستقرّ التعامل.
3 ـ والمذهب المختلط وهو مذهب بين بين يوازن ما بين الاعتبارين، فيعتّد بكلّ منها، ولايضحّي بأحدهما لحساب الآخر، وهذا هو خير المذاهب، فهو يجمع بين ثبات التعامل بما احتوى عليه من قيود وبين اقتراب الحقيقة الواقعيّة من الحقيقة القضائيّة بما أفسح فيه للقاضي من حرّيّة التقدير وأشدّ ما يكون إطلاقاً في المسائل الجنائيّة، ففيها يكون الإثبات حرّا بتلمّس القاضي وسائل الإقناع فيه من أىّ دليل يقدّم إليه شهادة كانت، أو قرينة، أو كتابة، أو أي دليل آخر، ثمّ يتقيّد الإثبات بعض التقيّد في المسائل التجارية.
ويتّصل بما تقدّم مبدأ حياد القاضي، فالقاضي في المذهب الحرّ لايكون محايداً، بل موقفه إيجابي ينشط القاضي فيه إلى توجيه الخصوم و استكمال ما نقص في الأدلة واستيضاح ما أبهم منها، بينما في المذهب القانوني سلبي محض لايعدو
', '', 190), (14, 191, 'book', 'القاضي فيه أن يتلقّى أدلّة الإثبات كما يقدّمها الخصوم دون أىّ تدخّل من جانبه، ثمّ بقدّر هذه الأدلة طبقاً للقيم التي حدّدها القانون، فإذا رأى الدليل ناقصاً أو مبهماً فليس له أن يطلب إكماله أو توضيحه، بل يقدّره كما هو وفي المذهب المختلط ينبغي أن يكون موقفاً وسطاً بين الإيجابية و السلبية أقرب إلى الايجابيّة منه إلى السلبيّة  $ $ $ $ $ $والقوانين الاتينيّة والقانون المصري معها قد اتّخذت الموقوف المختلط في الإثبات، وهي مع ذلك لاتوسّع على القاضي في حرّيّة توجيهه للدعوى واستخلاص الحقائق من أدلّتها القانونيّة إلّا إلى مدىً محدود ...(1).
وهذا المعنى من الحياد كما ترى لا يترتّب عليه عدم حجيّة علم القاضي.
وأمّا مبدأ حقّ الخصم في الإثبات:
فقد ذكروا أنّ على الخصم أن يثبت ما يدّعية أمام القضاء بالطرق التي بيّنها القانون، وهذا ليس واجباً عليه فحسب، بل هو أيضاً حقّ له، وكلّ دليل يتقدّم به الخصم لإثبات دعواه يكون للخصم الآخر الحقّ في نقضه وإثبات ما يدّعيه الخصم، وكل دليل يقدَّم في الدعوى يجب أن يعرض على الخصوم جميعاً لمناقشته، ويدلي كلّ برأيه فيه ويفنّده أو يؤيّده، والدليل الذي لايعرض على الخصوم لايجوز الأخذ به.
ويترتّب على حقّ الخصوم في مناقشة الأدلّة التي تقدّم في الدعوى أنّه لايجوز للقاضي أن يقضي بعلمه، ذلك أنّ علم القاضي هنا يكون دليلا في القضية، ولما كان للخصوم حقّ مناقشة هذا الدليل اقتضى الأمر أن ينزل القاضي منزلة الخصوم فيكون خصماً وحكماً وهذا لايجوز(2).
وهم يعتقدون أنّ عدم حجيّة علم القاضي إذا كان مبتنياً على هذا الوجه
', '(1) راجع الوسيط ج 2 الفقرة رقم 20 ـ 24.
(2) راجع الوسيط ج 2 الفقرة رقم 27 ـ 29.
', 191), (14, 192, 'book', '
الذي بيّنوه فهذا يتطلّب منهم إبعاد أمرين عن مسألة علم القاضي الذي لا حجيّة فيه، وهذا بالفعل ما صنعوه.
الأوّل ـ علم القاضي الذي لا يختصّ به، بل يعتبر من العلوم المعروفة بين الناس؛ قال في الوسيط في الهامش تعليقاً على ما ذكره في المتن من عدم جواز قضاء القاضي بعلمه:
«ولكن هذا لايمنع من أن يستعين القاضي في قضائه بماهو معروف بين الناس، ولايكون علمه خاصاً به مقصوراً عليه، وذلك كالمعلومات التاريخيّة والعلميّة والفنيّة الثابتة ...»(1).
فالمقصور بعلم القاضي الذي لايجوز القضاء به إنّما هو علمه الشخصي، أمّا العلم الذي يحصل عادةً لمتعارف الناس فهو ليس علماً شخصياً، والعلم الذي يحصل لأهل الخبرة في المسائل الفنيّة يجب فيه الرجوع إلى أهل الخبرة. قال في رسالة الإثبات.
«لايجوز القضاء في المسائل الفنيّة بعلم القاضي، بل يجب الرجوع إلى أهل الخبرة»(2)
والثاني ـ علم القاضي الذي يحصل على أساس المعلومات التي يحصلها وهو في مجلس القضاء. قال أحمد نشأت في رسالة الإثبات:
«وللقاضي أن يعتمد في حكمه على المعلومات التي يحصلها وهو في مجلس القضاء أثناء نظر الدعوى، وما يحصله على هذا الوجه لايعتبر من المعلومات
', '(1) الوسيط ج 2 ص 33 تحت الخط في أحد هوامش الفقرة رقم 27.
(2) رسالة الإثبات لأحمد نشأت ج 1 الفقرة رقم 2 ص 2.
', 192), (14, 193, 'book', '
الشخصيّة التي لايجوز للقاضي أن يستند إليها في قضائه»(1). وقد جاء ذكر هذين الاستثناءَين بشكل واضح ومشروح في كتاب رسالة الإثبات لأحمد نشأت(2)، فراجع.
وجاء في قانون المرافعات المدنيّة الجديد العراقي رقم 83: «لايجوز للحاكم الحكم بعلمه الشخصي المتحصل خارج المحكمة»(3).
وجاء في شرح الأُستاذ القانوني منير القاضي للمادة (83) من قانون المرافعات المدنيّة الجديد العراقي مانصّه ـ حسب النقل الذي ورد في كتاب القضاء الشرعي ـ
«فإنّ الأدلّة التي يحصل بها الإثبات تحقّق للقاضي علماً مكتسباً بالحادثة المكلّف بالحكم فيها، فيكون الحاكم بعد قيام الدليل لديه كأنّه شاهد الواقعة ووقف على ظاهرها وباطنها، فلايسعه إلّا الحكم بما علم من هذا الطريق؛ إذ أنّ خلاف ذلك مجهول لديه فكيف يحكم بمجهول. ويستلزم هذا التعامل أنّ للحاكم أن يحكم بعلمه الشخصي أي غير المكتسب من طريق الدليل الذي قام لديه، بل حصل له من طريق مشاهدته ووقوفه عليه شخصيّاً؛ لأنّ هذا أقوى من العلم الذي حصل له من طريق الشهادة مثلا. وإلى هذا الرأي ذهب كثير من فقهاء الشريعة المتقّدمين، ولكن لما خربت الذمم، وضعف الوازع الديني، وفسد الضميرفي كثير من الناس، وطغى حبّ المادّة على النفوس، وأُشربت القلوب حبّ المال من أىّ طريق جاء أصبح علم القاضي الشخصي مكتنفاً بالظنون و الريب حتى قال الفقيه الشافعي: لولاقضاة
', '(1) نفس المصدر ونفس الفقرة ص 19.
(2) ج 1 الفقرة 2 ص 18 و 19 الطبعة السابعة.
(3) راجع دليل القضاء الشرعي تأليف محمّد صادق بحر العلوم ج 2 الفقرة رقم 7 ص 34.
', 193), (14, 194, 'book', '
السوء لقلت أنّ للحاكم أن يحكم بعلمه. ولهذا قرّر المتأخرون من الفقهاء بالإجماع عدم جواز حكم الحاكم بعلمه»(1)
أقول: يقصد صاحب هذا الكلام بالفقهاء فقهاء العامّة.
أمّا فقهاء الشيعة الذين يشترطون العدالة في القاضي فالمشهور بينهم قديماً وحديثاً هو جواز قضاء القاضي بعلمه كما تقدم.
وبهذا يتمّ التقريب بين الحقيقة القضائية و الحقيقة الواقعية بأفضل وجه حيث يكون علم القاضي في فرض عدالته كاشفاً أميناً عن الواقع في غالب الأحيان، وينضمّ إلى ذلك في التقريب بين الحقيقة القضائية و الحقيقة الواقعية ما ثبت في فقهنا الشيعي من شرط العدالة في القاضي و في الشاهد؛ ذاك الشرط الذي لايمكن للفقه الوضعي المنبثق من العقل البشري الالتزام به؛ إذ أن الانسان المبتعد عن تعاليم السماء ينغمس عادةً في الظلم و الجور إلى حدّ لايفهم لشرط العدالة معنىً، وهكذا يتيهون في أُسلوب الجمع بين الحقيقة القضائية و الحقيقة الواقعية، ويضعون الحجيّة لقرائن غير مفيدة للعلم، معطين زمام أمر تقييمها ومدى القبول بها بيد قاض لا يشترط فيه العدالة، ولايعرفون معنىً لحجيّة علم القاضي. أمّا ما مضى عن الوسيط من عدم نفوذ علم القاضي ـ بعد القول بأنّ للخصوم حقّ مناقشة كلّ دليل ـ إذ لو نفذلزم اتّحاد القاضي و الخصم فهذا غريب، فإنّ الخصم بالمعنى الذي ارتكز عقلائياً عدم جواز اتّحاده مع القاضي إنّما هو الخصم بمعنى من يكون طرفاً في النزاع ـ أي الذي يحكم له أو عليه ـ لاكلّ من يناقش الخصوم ما يقدّمه من دليل. وجاء في رسالة الإثبات لأحمد نشأت قوله: «لايصحّ للقاضي أن يقضي بعلمه الشخصي ... القاضي ليس إلّا بشراً كسائر الناس غير معصوم من الخطأ و النسيان، ولا منزَّهاً
', '(1) راجع دليل القضاء الشرعي تأليف محمّد صادق بحر العلوم ج 2 الفقرة رقم 7 ص 34 و35.
', 194), (14, 195, 'book', '
عن الغرض. والقاضي الذي يشهد في دعوى لاشكّ يكون متأثّراً بشهادته، فلايصحّ مطلقاً أن يجلس للفصل فيها، وهذا الأمر بديهىّ تقضي به طبيعة الأشياء، فليس هو في حاجة إلى نصّ في القانون»(1). أقول: إنّ القاضي عادةً يتأثّر بالدليل الذي يقضي به على كلّ حال، وهم يقولون بأنّ للقاضي حرّيّة تقدير قيمة البيّنة والقرائن، فيقضي بها عندما يقتنع بها، ويردّها عندما لايقتنع بها، أفليس هذا عبارة عن التأثّر بالبيّنة و القرائن؟ فَلِمَ لايُقبل تأثّرة بالدليل الذي أوجبه له علمه الشخصي خارج المحكمة؟! هناك فرق واحد وهو أن احتمال الخيانة من قبل القاضي لدى دعواه العلم الشخصي وارد بمستوىً لايرد في تقييمه للبيّنة و القرائن أمام الخصوم مع مناقشتهم لها، ولكن هذا علاجه عندنا يكون بشرط العدالة.
 $
مع الفقه الإسلامي
وعلى أيّة حال فلنبحث مسألة حجّيّة علم القاضي من زاوية فقهنا الإسلامي
وقد بحثوا تارةً حجّيّة علم الإمام المعصوم وجواز قضائه به، وأُخرى حجّيّة علم القاضي غير الإمام المعصوم.
وقد استظهر أو ادّعي في كلتا المسألتين الإجماع على جواز القضاء بالعلم.
والذي ظهر منه الفرق بين المسألتين ـ ولو في خصوص باب الحدود التي هي من حقوق اللّه لاخصم النزاع ـ هو صاحب النهاية حيث نُقل عن حدود النهاية: أنّه (إذا شاهد الإمام من يزني أو يشرب الخمر كان عليه أن يقيم الحدّ، و لاينتظر مع مشاهدته قيام البيّنة والإقرار، وليس ذلك لغيره، بل هو مخصوص به.
$
', '(1) رسالة الإثبات ج 1 الفقرة 379 مكرّر (ط) الطبعة السابعة
', 195), (14, 196, 'book', '
وغيره ـ وإن شاهد ـ يحتاج إلى أن يقوم بيّنة أو إقرار من الفاعل).
وينقل عن ابن الجنيد أنّه لايفرّق بين الإمام و غير الإمام في عدم جواز القضاء بالعلم تارةً على الإطلاق كما نقله المرتضى عنه، وأُخرى في حقوق الناس، مع الاعتراف بنفوذ العلم في حقوق اللّه من دون فرق أيضاً بين الإمام و غير الإمام. واستظهر في المسالك نقلا ثالثاً عن ابن الجنيد: وهو تخصيص التفصيل بين حقوق الناس وحدود اللّه بغير الإمام مع الاعتراف بحجيّة علم الإمام في القضاء مطلقاً.
وعن ابن حمزة تبنّي تفصيل معاكس لتفصيل ابن الجنيد، وهو أنّ الحاكم يحكم بعلمه في حقوق الناس دون حقوق اللّه تعالى لابتنائها على المسامحة و الرخصة و الستر، ويحتمل إطلاق كلام ابن حمزة لعلم الإمام.
وعلى أىّ حال فقد استدلّ على جواز حكم الإمام وفق علمه بوجوه سيأتي أكثرها ـ إن شاء اللّه ـ عند البحث عن حكم القاضي ـ غير الإمام ـ بعلمه، وممّا يختصّ بمسألة حكم الإمام بعلمه ما جاء في الجواهر من وجوب تصديق الإمام في كلّ ما يقوله و كفر مكذّبه.
وعن بعض حمل ما قد يستظهر منه عدم حكم المعصوم بعلمه كقوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان»(1) على أنّ هذا لاينافي جواز حكم المعصوم بعلمه، فإنّ عدم حكمه به خارجاً لا يعني عدم الجواز. وكأنّ صاحب هذا الكلام حمل الجواز على الجواز على التكليفي أو الحجّية التخييرية، بينما الظاهر أنّ مصبّ كلام الأصحاب هو نفوذ العلم وحجيّته بحيث لاتصل النوبة معه إلى بيّنة أو يمين، وهو المستفاد من أكثر استدلالاتهم، كاستدلالهم بقوله تعالى: ﴿يا داودُ إنّا جعلناك
', '(1) الوسائل ج 18 ب 2 من كيفيّة الحكم ح 1 ص 199.
', 196), (14, 197, 'book', '
خليفةً في الأرض فاحكمْ بين الناسِ بالحقّ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وإن حكمتَ فاحكُمْ بينهُمْ بالقسط﴾(2).
وكيفما كان فالبحث عن مدى نفوذ علم المعصوم ووجوب حكمه به، أو مجرّد الجواز، أو عدم جواز ذلك بحث فارغ لا أثر له؛ إذ المعصوم حينما يكون حاكماً هو أعرف بوظيفته، وحينما يكون الحاكم غير معصوم لا يفيده هذا البحث إلّا بافتراض ذلك مقدّمه لجواز حكم الفقيه بعلمه بناءً على أنّ كلّ ما للإمام للفقيه.
ثم إنّه ينبغي أن يستبعد من بحث حجّية علم القاضي علمه الحسّي بمثل البيّنة، و الإقرار، واليمين، وتزكية الشهود و جرحهم، والجامع هو علمه الحسّي بما يستعين به في القضاء؛ إذ من ضرورة الفقه أنّه لو أنكر أحد الخصمين اليمين، أو الإقرار، أو قيام البيّنة بعد وقوع ذلك لايطالَب القاضي في حكمه ببيّنة على البيّنة، أو الحصول على إقرار أو يمين، ولو احتاجت تزكية الشهود إلى شهود لزم التسلسل. فمحلّ البحث إمّا هو القضاء بالعلم لاعلمه بما يقضي به، أو أنّه ينبغي أن لايشمل ـ على الأقّل ـ العلم الحسّي بوسائل الإثبات في القضاء.
واستقرب المولى علىّ الكني رضوان اللّه عليه استبعاد العلم الحاصل بمثل الإلهام و الوحي و المكاشفات عن محل البحث، وأن يكون من المسلّم عدم نفوذه في القضاء قبل قيام القائم (عليه السلام)، وذكر (رحمه الله) ما حاصله: أنّ الأقوى المنع عن القضاء بعلم من هذا القبيل لظهور كلماتهم في حجّيّة العلم في القضاء في العلم المشترك بين المعصومين
', '(1) السورة 38 ص الآية 26.
(2) السورة 5 المائدة الآية 42.
', 197), (14, 198, 'book', '
و غيرهم، خصوصاً على القول بكون علمهم حضورياً أو إرادياً مع وقوع الإرادة الموجبة له، فإنّ قضاءهم (عليهم السلام) بالبيّنة و الأيمان كثير جداً، واحتمال مطابقتها جميعاً للواقع بعيد، كما يدفعه أيضاً قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له قطعة من النار»(1). هذا مضافاً إلى أخبار كثيرة في أنّ القضاء بمثل هذا العلم إنّما هو للقائم (عليه السلام) كرواية عبيدة بن الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث ـ قال: «إذا قام قائم آل محمّد ـ ص ـ حكم بحكم داود (عليه السلام) لا يسأل بيّنة»(2)...(3).
أقول: المفهوم عرفاً من هذا الحديث التامّ سنداً هو أنّ الحكم قبل الإمام القائم عجّل اللّه فرجه الشريف إنّما هو بالبيّنة لا بالعلوم الغيبيّة من سنخ المكاشفة والإلهام، وذلك إمّا من باب أنّ مَن قبل القائم (عليه السلام) لا يحصل له علم من هذا القبيل في مورد القضاء، أو من باب أنّه ليس له أن يحكم بذلك. وعلى أيّة حال فهذا البحث أيضاً ـ عادةً ـ خارج عن محل الابتلاء.
وقد تركّز بهذا العرض موضوع بحثنا في علم القاضي غير المعصوم بالحكم عن الطرق الاعتيادية دون الكشف و الإلهام.
والآن نشرع في ذكر عمدة الأدلّة التي يمكن الاستدلال بها على أحد الطرفين:
 $
 $
$
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 2 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 169.
(2) الوسائل، ج 18، ب 1 من كيفيّة الحكم، ح 4، ص 168.
(3) راجع كتاب القضاء للمولى علي الكني، ص 255 ـ 256.
', 198), (14, 199, 'book', '
أدلّة الحجّيّة:
أمّا أدلّة حجّيّة علم القاضي فيمكن الاستدلال عليها بعدّة أُمور ـ بعد وضوحأنّ حجّيّة علم القاضي أو نفيها بحاجة إلى دليل؛ إذ العلم هنا نسبته إلى عدم جواز القضاء به ـ لوقيل بذلك ـ نسبة الموضوع إلى الحكم، وليس علماً طريقيّاً كي تكون حجّيته واضحة و ذاتية لاتقبل النفي مثلا ـ:
الدليل الأوّل ـ دعوى الإجماع: كما استدلّ به في الجواهر.
و من الواضح عدم حجيّة الإجماع في المقام بعد صلاحيّة الوجوه الأُخرى للمدركيّة.
الدليل الثاني ـ ما جاء في الجواهر أيضاً من كون العلم أقوى من البيّنة المعلوم إرادة الكشف منها:
والظاهر أنّ المقصود هو التمسّك بالأولوية. ولعلّه يتمّ الاستدلال بالنسبة لغير موارد حجيّة البيّنة ـ كما لو قيل بذلك بشأن المنكر ـ بعدم احتمال الفصل فقهيّاً، أو يقال بأولوية العلم من اليمين أيضاً.
وفيه: أنّه لم يثبت كون نكتة القضاء وفق اليمين نكتة الكشف محضاً؛ كي يقال بأولوية العلم لكونه أقوى كشفاً.
والمنقول عن السيّد الگلبايگاني ـ حفظه اللّه ـ في تقرير بحثه الذي كتبه السيد عليّ الميلاني بيان المطلب بصياغة أُخرى تختلف شيئاًمّا عن صياغة صاحب الجواهر: وهي أنّه لئن ثبت في علم الأُصول قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الكاشفيّة ـ دون الصفتية ـ فقيام القطع مقام الأمارة ـ وهي الظن المأخوذ على وجه الكاشفية ـ بطريق أولى؛ إذن فقطع القاضي يقوم مقام البيّنة.
والحاصل أنّ البيّنة لئن كانت تقوم مقام العلم فقيام العلم الذي هو أقوى من
', '', 199), (14, 200, 'book', 'البيّنة مقامها أولى.
إلّا أنّ هذا التقريب غير مقبول لدينا مبنىً؛ لما حقّقناه في علم الأُصول من عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الكاشفيّة؛ إلّا بمعنىً يرجع إلى القضيّة بشرط المحمول بأن يقصد بأخذ القطع موضوعاً على وجه الكاشفيّة أخذ مطلق الكاشف الأعم من التكويني و التعبّدي موضوعاً.
وعلى أىّ حال فسواء أُخذ بهذا التقريب، أو بالتقريب الذي نقلناه عن صاحب الجواهر (رحمه الله) من التمسّك ابتداءً بدعوى أولويّة العلم من البيّنة لكونه أقوى منها ـ يرد عليه: أنّ أقوائيّة علم القاضي من البيّنة قد تؤثّر في استظهار حجّيّة لوكان المشرِّع هو القاضي نفسه، فيقال: إنّ علمه أقوى لديه من البيّنة، فإذا جعلَ البيّنةَ حجّة فعلمه بطريق أولى، ولكن المشرّع هو شخص ثالث نسبة إلى القاضي و البيّنة على حدّ سواء و علم البيّنة اقوى كشفاً(1) لديه من علم القاضي غير المعصوم؛ لأنّ علم عدلين أبعد عن الخطأ من علم عدل واحدِ.
ورأيت في كتاب (فدك) لأُستاذنا الشهيد رضوان اللّه عليه الذي ألّفه في عنفوان شبابه الالتفات إلى ما يرجع بروحه إلى هذه النكتة؛ حيث أورد على الاستدلال لحجيّة علم القاضي بأقوائية العلم من البيّنة بقوله:
«واُلاحظ أنّ في هذا الدليل ضعْفاً ماديّاً؛ لأنّ المقارنة لم تقم فيه بين البيّنة و علم الحاكم بالإضافة إلى صلب الواقع، وإنّما لوحظ مدى تأثير كلّ منهما في نفس الحاكم، وكانت النتيجة حينئذ أنّ العلم أقوى من البيّنة؛ لأنّ اليقين أشدّ من الظن، وكان حقّ المقارنة أن يلاحظ الأقرب منها إلى الحقيقة المطلوب مبدئياً الأخذ بها في
', '(1) وبتعبير أدقّ ما يفهمه القاضي من شهادة عدلين أقوى عند المشرع من علم القاضي رغم وجود احتمال ضئيل لخطأ فهم القاضي لما هو مقصود البيّنة، بينما لايحتمل خطأ فهمه لعلمه.
', 200), (14, 201, 'book', '
كلّ مخاصمة ولا يَفْضُلُ علم الحاكم في هذا الطور من المقايسة على البيّنة؛ لأنّ الحاكم قد يخطأ كما أن البينة قد تخطأ، فهما في شرع الواقع سواء كلاهما مظنّة للزلل والاشتباه»(1).
أقول: إذا كان علم القاضي بالقضيّة علماً حسيّاً لايبعد دعوى تعدّي العرف من نفوذ البيّنة إلى نفوذ علم القاضي؛ لأنّ علم القاضي الحسّي أقرب إلى الحقيقة والواقع ـ أو قل: أقوى في نظر المشرّع ـ من علم القاضي بالبيّنة، فلاإشكال في أنّ القاضي حينما يقضي بالبيّنة يقضي بعلمه بثبوت البيّنة، ولولا علمه بها لما رتّب أثراً عليها كما هو واضح، وعلمه بالبيّنة القائمة على الواقع أبعد من الواقع من علم القاضي الحسّي بالواقع مباشرةً ـ بعد فرض ابعاد إحتمال خيانة القاضي ـ؛ لأنّ خطأ الأوّل له منفذان: أحدهما خطأ علمه بالبيّنة، والثاني خطأ علم البيّنة بالواقع، وخطأ الثاني له منفذ واحد وهو خطأ القاضي في علمه بالواقع.
فهذا الوجه قد يدلّ على نفوذ علم القاضي الحسّي لامطلق علم القاضي.
والتحقيق أنّ هذه الدلالة أيضاً لاتخلو من مناقشة؛ لعدم وضوح كون هذه الأولوية بمستوىً نجزم بنفوذ علم القاضي الحسّي، أو نستظهر ذلك من دليل نفوذ البيّنة، خصوصاً و أنّ من المحتمل كون احتمال خيانة القاضي ـ ولونادراً ـ داخلا في حساب المشرّع.
الدليل الثالث ـ ما جاء في الجواهر في سياق إثباته لحجّيّة علم الإمام في القضاء من الاستدلال بالآيات الدالّة على وجوب الحكم بالعدل: كقوله تعالى: ﴿يا داودُ إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق﴾(2).
$
', '(1) فدك في التاريخ ص 161.
(2) ص، الآية 26.
', 201), (14, 202, 'book', '
وقوله تعالى: ﴿و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾(1).
وقوله تعالى: ﴿وإذا حكمت فاحكم بينهم بالقسط﴾(2).
هذه هي الآيات التي استشهد بها في الجواهر، ويمكن إضافة آيات أُخرى إليها، كالآية التي جاء ذكرها بهذا الصدد في كتاب (فدك) لأُستاذنا الشهيد ـ أعلى اللّه مقامه ـ من قوله تعالى: ﴿وممّن خلقنا أُمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون﴾(3) أي يحكمون، وكقوله تعالى: ﴿ومن قوم موسى أُمّة يهدون بالحقّ وبه بعدلون﴾(4). و كما جاء ذكره بهذا الصدد في كتاب المولى الكني (رحمه الله) من قوله تعالى: ﴿إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين الناس بما أراك اللّه﴾(5) واستشهد (رحمه الله) أيضاً بالآيات الثلاث: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأُولئك هم الكافرون(6)... فأُلئك هم الظالمون(7)... فأُولئك هم الفاسقون﴾(8).
ومن قبيل هذه الآيات الروايات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل اللّه(9)، ومرفوعة البرقي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «القضاة أربعة: ثلاثة في النار وواحد في الجنة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو لايعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم
', '(1) النساء، الآية 58.
(2) المائدة، الآية 42.
(3) الأعراف الآية 181.
(4) الأعراف الآية 159.
(5) النساء الآية 105.
(6) و(7) و(8) المائده الآيات 44، و45 و47 .
(9) راجع الوسائل، ج 18، ب 5 من صفات القاضي.
', 202), (14, 203, 'book', '
فهو في الجنّة» ورواه في الخصال عن محمّد بن موسى بن المتوكل، عن السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبداللّه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير رفعه إلى أبي عبداللّه (عليه السلام)قال: «القضاة أربعة ...» الحديث(1).
وتقريب الاستدلال بهذه الآيات و الروايات هو أنّ موضوع جواز القضاء حسب ما يفهم من هذه الآيات و الروايات هو العدل و الحق و القسط وما أنزل اللّه و ما شابه ذلك من العناوين، فالعلم بذلك يكون علماً بموضوع الحكم، ومؤدّياً إلى العلم بالحكم ـ أي العلم بجواز القضاء ـ فكم فرق بين أن نفترض أنّ موضوع جواز القضاء هو البيّنات و الأيمان، فيقال: «لم تثبت حجّيةٌ للعلم؛ لأنّ قيام العلم مقام البيّنات و القضاء ـ يعني كونه موضوعاً لجواز القضاء و العلم الموضوعي ـ لا حجّية ذاتية فيه، بل لابدّ من ثبوت موضوعيّته بدليل»، وأن نفترض أنّ موضوع جواز القضاء هو نفس الحقّ والواقع، وعندئذ فالعلم به علم بموضوع جواز القضاء، وهذا علم طريقي بالنسبة لموضوع جواز القضاء، ويؤدّي إلى العلم بجواز القضاء، و لا يمكن الردع عن حجّيته.
لايقال: إنّ دليل وجوب القضاء بالحقّ إنّما دلّ على أنّ متعلّق القضاء هو الحقّ؛ أمّا أنّ الحقّ هو تمام الموضوع للقضاء فلم يدلّ عليه، فمن المحتمل أن يكون الحقّ جزء الموضوع للقضاء، والحجّة عليه هي الجزء الآخر له؛ أَيْ أنّ من قضى بالحقّ بلاحجّة عاص و ليس متجرياً، ولعلّ هذا هو المرتكز عقلائيّاً، فإذا فرضت الحجّة جزء للموضوع جاء احتمال أن يكون جزء الموضوع عبارة عن خصوص البيّنة و اليمين دون علم القاضي.
فإنّه يقال: إنّ القاضي لو علم بالحقّ وكانت البيّنة أو اليمين تشير إلى شيء
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 4 من صفات القاضي، ح 6 و 7.
', 203), (14, 204, 'book', '
آخر يعلم أنّه ليس بحقّ فلا يخلو الأمر من أحد فروض ثلاثة: أن تكون وظيفة القاضي القضاء بعلمه، أوالقضاء بالبيّنة أو اليمين على خلاف علمه، أو أن لا يقضي أصلا. والاحتمال الثالث غير موجود فقهيّاً، والثاني خلاف وجوب القضاء بالحقّ، فيتعيّن الأوّل، وهو القضاء وفق علمه. وبهذا يثبت أنّه إذا كانت الحجّة جزء للموضوع فليس جزء الموضوع خصوص البيّنات و الأيمان، بل يكفي أيضاً علم القاضي.
ويمكن الاعتراض على هذا التقريب بوجهين رئيسيّين:
الوجه الأول ـ ما جاءت الإشارة إليه في كلمات المحقّق العراقي (رحمه الله) من أنّه قد يكون المراد بمثل الحقّ و العدل هو الحقّ و العدل وفق مقاييس القضاء لاالحق والعدل وفق الواقع، وكون علم القاضي من مقاييس القضاء أوّل الكلام(1).
يبقى أنّ هذا الاحتمال هل هو بحسب ذاته احتمال يقابل احتمال كون الحقّ والعدل بلحاظ الواقع، أو أنّ هذا الاحتمال ـ لولا شاهد يشهد له ـ خلاف الظاهر، ولكن والشاهد عليه موجود؟ يحتمل من عبارة المحقّق العراقي (رحمه الله) أن لايرى هذا الاحتمال بحدّ ذاته قابلا لمقابلة الاحتمال الآخر إلّا بلحاظ وجود شاهد عليه، وقد جعل (رحمه الله) الشاهد على ذلك رواية «رجل قضى بالحقّ وهو لايعلم...» بتقريب أنّه لوكان موضوع القضاء هو الحقّ الواقعي لا الحقّ وفق مقاييس القضاء؛ إذن فقضاء من قضى بالحقّ وهو لايعلم صحيح وضعاً و تكليفاً، ولاعقاب عليه إلّا بملاك التجرّي، فيجب أن نحْمل هذا الحديث على عقاب التجرّي، أو على كون المقصود بالعلم الاجتهاد، فالحديث هو من أحاديث شرط الاجتهاد في القضاء، وكلّ هذا خلاف الظاهر. وحمل الحقّ و العدل في الأدلّة الأُولى على الحقّ و العدل وفق
', '(1) كتاب القضاء، ص 22.
', 204), (14, 205, 'book', '
مقاييس القضاء إنْ لم يكن أولى فلا أقلّ من تساوي الاحتمالات، فيسقط الاستدلال.
وأورد عليه أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في كتاب (فدك)(1) بأنّ حديث «رجل قضى بالحقّ وهو لايعلم» لايقتضي عدم موضوعيّة الواقع للحكم، غاية ما هناك أنّه يقيّد الأدلّة الأُولى بالعلم، فيصبح الواقع جزء موضوع، والعلم به جزءً آخر للموضوع، ولابأس بذلك.
أقول: هذا مضافاً إلى ضعف سند الحديث.
وعلى أىّ حال فبالامكان أن يُغضّ النظر عن الشاهد الذي ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله)، ويقال ابتداءً: إنّنا نحتمل كون المقصود بالحقّ و العدل في المقام هو الحقّ والعدل وفق مقاييس القضاء لاوفق الواقع، فما لم يثبت ظهور الأدلّة في إرادة الحقّ والعدل وفق الواقع لايتمّ الاستدلال بهذه الأدلّة، وقد أشار إلى ذلك أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في كتابه المذكور، وأجاب عنه(2):
أولا: بأنّ المتبادر من كلمة الحقّ والعدل ـ وخاصّة كلمة (الحقّ) ـ هو الحقّ والعدل بحسب الواقع لا الحق والعدل بحسب مقاييس القضاء.
وثانياً: بأنّ حمل الأمر في قوله تعالى: «أن تحكموا بالعدل» على الأمر بالحكم بما هو عدل بمقاييس القضاء، يعني حمله على الأمر الإرشادي؛ إذ هذا يعني الأمر بالعمل بمقاييس القضاء وقوانينه فى حين أنّ نفس وضعها قانوناً للقضاء يعني لزوم تطبيقها، فالأمر بالتزام القانون أمر إرشادي نظير الأمر بالطاعة، فظهور الأمر في المولويّة يقتضي حمل العدل على العدل بحسب الواقع.
$
', '(1) ص 164 تحت الخط.
(2) راجع كتاب فدك ص 163 و 164.
', 205), (14, 206, 'book', '
أقول: لو آمنّا بأنّ كلمة (العدل) بحدّ ذاتها مجملة مردّدة بين المعنيين دخل اتصالها بالأمر في اتّصال ما يصلح للقرينيّة على إرشاديّة الأمر، وهذا يوجب الإجمال، على أنّ إرشاداً من هذا القبيل ـ أي من قبيل الأمر بالطاعة و التخويف بالنار و نحو ذلك ـ داخل أيضاً في شؤون المولى سبحانه كمولويّته، فلا نقبل ظهور الأمر في المولويّة في قبال الإرشاديّة بهذا المعنى. وببالي ـ على ما أتذكر ـ أنه تغمّده اللّه برحمته ـ نبّه على هذه النكتة في بعض أبحاثه الأُصوليّة التي أدلى بها بعد كتابه (فدك) بسنين كثيرة.
وعلى أىّ حال فالجواب الأوّل ـ وهو دعوى تبادر إرادة الحقّ و العدل بحسب الواقع ـ صحيح. وبتعبير آخريفهم من كلمة ( الحقّ و العدل) ما هو حقّ وعدل في ذاته لا الحقّ و العدل النسبيّان أىّ بالنسبة لمقاييس القضاء.
فإن قلت: إنّ هناك قرينة ارتكازيّة كالمتّصلة تدلّ على أنّ المراد هو الحقّ والعدل بلحاظ خصوص مقاييس القضاء وهي وضوح أنّ القضاء ليس دائماً بالحقّ الواقعي، بل في كثير من الأحيان يكون وفق البيّنات و الأيمان و غيرهما من مقاييس القضاء ممّا لا يُثبت إلّا الحقّ بمقاييس القضاء لاالحقّ في ذاته.
قلت: إنّ الآيات و الروايات بحدّ أنفسها تدلّ على القضاء بالحق الواقعي كما عرفت، وليس وضوح حجّيّة مقاييس القضاء بمعنى وضوح حجّيتها لإثبات أنّ الحكم الواقعي بشأن القاضي هو القضاء وفقها، بل من المحتمل أن تكون حجّيتها حجّية ظاهريّة تحكم الواقع حكومة ظاهرية سنخ حكومة دليل الأمارات والأُصول على الواقع، والحكومة الظاهريّة لاتمتدّ إلى فرض العلم بالخلاف.
ولو استظهر من دليل مقاييس القضاء أنّها أحكام واقعيّة بشأن قضاء القاضي لايجوز له تخطّيها حتى مع العلم بالخلاف، فهذا يعني الحصول على دليل منفصل على عدم حجّيّة علم القاضي، و المفروض بنا أن نبحثه بعد ذلك ضمن أدلّة عدم حجّية
', '', 206), (14, 207, 'book', 'علم القاضي، وليس قرينةً ارتكازيّة كالمتّصلة تُبطِل دلالة هذا الدليل على حجّية علم القاضي.
إنّ قلت: إنّ كلمة (الحقّ) مثلا في الأمر بالقضاء بالحقّ إن حملت على معنى المفعول به دلّت على وجوب القضاء بالحقّ الواقعي لما افترضناه من ظهور الحقّ في الحقّ في ذاته لا الحقّ وفق مقاييس القضاء، ولكن من المحتمل حملها على معنى المفعول المطلق من قبيل قولنا: (مشى زيد بسرعة) أىّ (مشى مشياً سريعاً)، وهذا يعني الأمر بالقضاء قضاءً حقّاً، ومن الواضح أنّ القضاء الحقّ في ذاته يعني القضاء وفق المقاييس القضائيّة.
قلت: حمل ذلك على مفاد المفعول المطلق و استعمال جملة (مشى زيد بسرعة) بهذا المعنى لاأعرف مدى صحّته في اللغة العربية.
نعم لاشكّ في صحّة هذا التعبير: (مشى زيد بسرعة) بمعنى الظرفية و الحال أي في سرعة أو مُسرِعاً، كقوله تعالى: ﴿أدخلوها بسلام آمنين﴾(1) أيّ في سلام أو سالمين
نعم ورد في الحديث: (لَسيرةُ علىّ (عليه السلام) في أهل البصرة كانت خَيراً لشيعته ممّا طلعت عليه الشمس؛ أنّه علم أنّ للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته. قلت: فأخبرني عن القائم (عليه السلام) يسير بسيرته؟ قال: لا، إنّ عليّاً سار فيهم بالمنّ لما علم من دولتهم، وإنّ القائم يسير فيهم بخلاف تلك السيرة لأنّه لا دولة لهم)(2). وفي حديث آخر: (إنّ القائم إذا قام بأيّ سيرة يسير في الناس؟ ...)(3) ونحوهما غيرهما.(4)
', '(1) الحجر الآية 46.
(2) و(3) الوسائل، ج 11، ب 25 من جهاد العدو، ح 1 و2، ص 57.
(4) راجع نفس المصدر، ص 57 ـ 59 .
', 207), (14, 208, 'book', '
ولكن الظاهر أنّ المقصود بالسيرة العمل الذي سار عليه علىّ (عليه السلام) لا السيرة بالمعنى المصدري، وإن شئت فعبّر عن ذلك بـ(اسم المصدر) فالفعل قد تعدّى إليه بالباء وليس مفعولا مطلقاً. وعلى أىّ حال فلاشكّ أنّ حمل كلمة (بالحقّ) و (بالعدل) ونحو ذلك فيما نحن فيه على معنى المفعول المطلق لوكان صحيحاً فهو عند إمكانيّة الحمل على المفعول به خلاف الظاهر جداً.
ثمّ إنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) بعد إبدائه لاحتمال كون المراد بمثل (الحقّ) و (العدل) هو الحقّ و العدل وفق المقاييس الواقعية لا في ذاته أبرز قرينة في خصوص رواية: (رجل قضى بالحقّ وهو يعلم) على أنّ المقصود بذلك هو الحقّ في ذاته لا الحقّ وفق مقاييس القضاء، وذلك بقرينة الفقرة الأُخرى وهي (رجل قضى بالحقّ وهو لايعلم)؛ إذ المقصود بالحقّ في هذه الفقرة هو الحقّ في ذاته لا الحقّ وفق مقاييس القضاء، فإنّ من قضى بالحقّ وهو لا يعلم لم يقض وفق مقاييس القضاء؛ لأنّ من جملة مقاييس القضاء كما تدلّ عليه هذه الرواية هو أن لا يقضي بلاعلم، فبقرينة هذه الفقرة نعرف: أنّ المقصود بالحقّ في الفقرة الأُخرى أيضاً ـ وهي قوله: «رجل قضى بالحقّ وهو يعلم» ـ هو الحقّ في ذاته، وقد حكم بأنّه في الجنّة، و إطلاقه يشمل من قضى بالحقّ في ذاته بعمله لاببيّنة أو يمين.
أقول: لا إشكال في أنّ المقصود بالحقّ في قوله: «قضى بالحقّ وهو لايعلم» ليس الحقّ وفق مقاييس القضاء بما فيها نفس المقياس المعطى في هذا الحديث، وإلّا لما كان قاضياً بالحقّ لأنّه خالف المقياس المعطى في هذا الحديث، لكن يبقى الأمر دائراً بين أن يكون المقصود هو الحقّ في ذاته أو الحقّ وفق المقاييس العامّة للقضاء ـ غير المقياس المعطى بهذا الحديث كمقاييس البيّنة و الأيمان بأن يكون المقصود: مَنْ قضى وفق المقاييس العامة ـ من البيّنة و الأيمان ونحوهما بالشكل الثابت في باب القضاء ـ ولكنّه لم يكن يعلم بذلك، فهو في النار.
$
', '', 208), (14, 209, 'book', 'وعلى أىّ حال فقد أشرنا إلى أنّ الحديث ضعيف السند.
الوجه الثاني ـ ما ذكره أيضاً المحقّق العراقي (رحمه الله) وهذا الإشكال يرجع إلى علم القاضي غير المعصوم ـ: وهو أنّه بعد تماميّة دلالة تلك الآيات و الروايات، أو خصوص رواية (قضى بالحقّ وهو يعلم) على كون الواقع موضوعاً للقضاء، فهذا وإن كان لازمه حجّية علم القاضي لنفسه لإثبات جواز القضاء بما علم بحقّانيته، ولكن هذا المقدار لايُثبت ما هو الظاهر من كلمات مَنْ جَعَل العلم ميزاناً في قبال البيّنة و اليمين؛ من أنّ العلم ـ كالبيّنة و اليمين ـ يوجب فصل الخصومة بحيث لاتُقبل إقامة الدعوى و البيّنة مرّةً أُخرى على خلاف ما قضى به القاضي.
توضيح ذلك: أنّ البيّنة حجّة تُثبت المدّعى لدى الشكّ لكلّ أحد، و حجّيّتها تعبّديّة لا وجدانيّة خاصّة بشخص دون آخر، فلو حكم القاضي وفقها فقد قامت الحجة و انتهت الخصومة، وليس لشخص آخريشكّ في مطابقة حكم القاضي الأوّل للواقع أن ينظر مرّةً أُخرى في الدعوى، يطالب ببيّنة أو يمين. أمّا العلم فحجيّته خاصّة بالعالم، أمّا الشخص الآخر الذي يشكّ في مطابقة علم القاضي للواقع فقد شكّ في موضوع القضاء الذي قضى به ذاك الحاكم وهو الواقع، ولاحجّة له تثبت الواقع تعبّداً؛ إذن من حقّه أن ينظر مرّةً أُخرى في دعوى من يدّعي عدم مطابقة حكم الحاكم الأوّل للواقع وعدم تماميّة موضوع جواز القضاء وهو الواقع، ويسمع البيّنات والأيمان، فصحّ القول بأنّ العلم ليس ميزاناً للقضاء كالبيّنة واليمين، فالبيّنة واليمين يخصمان النزاع وينهيانه بخلاف العلم.
صحيحٌ أنّه مع الشكّ في مطابقة علم القاضي للواقع وبالتالي في صحّة قضائه تجري أصالة الصحّة، كما أنّه مع الشكّ ـ في كون القاضي قد قضى حقّاً وفق نظام البيّنات والأيمان أو لا ـ تجري أصاله الصحّة، لكن أصالة الصحّة لا تمنع عن سماع دعوى من يخالف الأصل والنظر لمعرفة أنّ لديه دليلا على خلاف الأصل أولا.
$
', '', 209), (14, 210, 'book', 'نعم لوادّعي الإجماع على الملازمة بين جواز القضاء وبين نفوذه وضعاً في حقّ غيرة، وقد فرض في المقام جواز القضاء بالعلم لحجّيته للقاضي، ثبت نفوذه وعدم بقاء مجال لسماع الدعوى من قبل قاض آخر، إلّا أنّ عهدة إثبات هذا الإجماع على مدّعيه.
فتحصّل أنّ تلك الآيات والروايات إن أثبتت جواز القضاء بالعلم فلا تثبت إنهاء النزاع بحيث لا يحقّ لقاض آخر النظر في الدعوى، كما هو الحال في البيّنات والأيمان.
وعليه فلا يبقى في البين عدا دعوى الإجماعات المتكرّرة في الكلمات، أو دعوى تنقيح المناط في ميزانيّة البيّنة واليمين بالنسبة للعلم مطلقاً، والعهدة في إثبات الجهتين على مدّعيهما(1).
أقول: إنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو كان دليلنا على نفوذ القضاء ـ وعدم جواز نقضه من قبل قاض آخر شاكٍّ في صحّة القضاء الأول ـ هو حجيّة البيّنة عليه، ولكن كما لا يجوز للقاضي الآخر نقض حكم القاضي الأول والنظر في الدعوى مرةً ثانية لدى شكّه في صحّة حكم القاضي الأوّل. كذلك لاينبغي الإشكال في أنّه لايجوز للمحكوم عليه مخالفة حكم القاضي بمثل سرقة مال المحكوم له قِصاصاً حتى مع قطعه بخطأ القاضي، وهذا لايمكن تفسيره بحجيّة البيّنة؛ إذ البيّنة لاتكون حجّة مع القطع بالخلاف، فلابد من وجه آخر يدلّ على نفوذ الحكم وحجّيّته حتى في هذا الفرض، ولعلّ ذاك الوجه يدلّ أيضاً على نفوذه بالنسبة للقاضي الثاني لدى الشكّ بحيث لايجوز له تجديد النظر ونقض الحكم ـ على تحقيق وتفصيل في مسألة مدى نفوذ حكم القاضي يبحث عنه في محله ـ. والواقع أنّ هنا دليلين آخرين على نفوذ
', '(1) راجع كتاب القضاء للمحقق العراقي (رحمه الله) ص 23 و 24.
', 210), (14, 211, 'book', '
القضاء وعدم جواز نقضه:
أحدهما ـ الارتكاز المتشرّعي، وكذلك العقلائي الممضى بعدم الردع الدالّ على أنّ القضاء جعل لفصل الخصومة وإنهائها، وهذا يدلّ على عدم جواز نقض الحكم من قبل المحكوم عليه القاطع بالخلاف، ومن قبل القاضي الثاني الشاكّ في صحّة القضاء إذا كان الحكم وفق مقاييس القضاء من دون فرق بين أن يكون ذاك المقياس عبارة عن البيّنة أو اليمين، أو يكون عبارة عن علم القاضي.
وثانيهما ـ قوله في مقبولة عمر بن حنظلة: «إذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخف بحكم اللّه، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه»(1) فمن الواضح جدّاً أنّ هذا الخطاب لاأقلّ من أنّه يريد تحريم نقض الحكم على الخصمين حتى المدّعي منها للقطع بخطأ الحكم أو احتماله، وهذا لايمكن أن يكون إلّا بأن يكون المراد في خصوص هذا الحديث من كلمة: (حكمنا) هو الحكم وفق مقاييس القضاء لا الحكم في الواقع، وإلّا فلا يمكن إسكات الخصم بذلك؛ إذهو يدّعي القطع بانتفاء الموضوع أو احتماله؛ إذن فهدا الحديث يحرّم بإطلاقه على القاضي الثاني نقض قضاء قاض يحكم وفق مقاييس القضاء من دون فرق بين البيّنة و اليمين، أو العلم الثابت مقاسيّته بغير هذا الحديث ممّا مضت الإشارة إليه من الروايات والآيات.
الدليل الرابع ـ ما جاء في الجواهر أيضاً من أنّه لو لم نقل بجواز القضاء وفق العلم لزم فسق الحاكم، أو إيقاف الحكم، وهما معاً باطلان، وذلك لأنّه إذا طلّق زوجته ثلاثاً مثلا بحضرته ثمّ جحد كان القول قوله مع يمينه، فان حكم بغير علمه وهو استحلافه وتسليمها إليه لزم فسقه، وإلّا لزم إيقاف الحكم.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 1، ص 99.
', 211), (14, 212, 'book', '
أقول: تارةً يفرض الفسق في أصل الحكم، وأُخرى يفرض الفسق في تنفيذه، فإن فرض الفسق في أصل الحكم كان هذا مصادرة على المطلوب، إذ لو كان العلم غير داخل في مقاييس الحكم وكان يجب الحكم وفق البينات والأيمان فلا فسق في ذلك.
وقد يقال: إنّ المقصود بهذا الوجه هو دعوى أنّ من المرتكز فقهيّاً ومتشرعيّاً ـ بحيث لا يمكن التشكيك فيه ـ كون الحكم بالزوجية في هذا الفرض مع القطع بالزنا فسقاً، كما أنّ من المرتكز: أنّ إيقاف الحكم غير صحيح، فينحصر الأمر في الحكم على وفق العلم. وهذا الكلام يعني في روحه دعوى قيام الارتكاز الفقهي والمتشرعي على نفوذ علم القاضي فيما إذا كان حكمه بغير علمه يؤدّي إلى الحكم بالحرام على المحكوم عليه، ثمّ يجعل هذا دليلا على نفوذ علم القاضي مطلقاً بالإجماع المركّب.
ولكن قلنا في ما سبق: إنّ الإجماع في هذه المسألة لاقيمة له لاحتمل مدركيّته ـ على أقلّ تقدير ـ.
إذن فيجب استبدال الإجماع المركّب في المقام بدعوى ارتكاز فقهي ومتشرعي آخر وهو ارتكاز عدم الفصل في نفوذ علم القاضي بين مورد ومورد.
وهذا يعني في واقعه دعوى الارتكاز المتشرّعي والفقهي ابتداءً على نفوذ علم القاضي، فليس هذا الوجه على أفضل تقدير إلّا إلفاتاً للنظر إلى هذا الارتكاز لا دليلا في ذاته على المطلوب.
وإن فرض الفسق في التنفيذ فنظير هذا الإشكال وارد بالنسبة للمحكوم عليه حتى إذا حكم الحاكم بعلمه، أو حكم بالبيّنات والأيمان عند عدم علمه لو نفّذه المحكوم عليه على نفسه، كما لو حكم الحاكم بعلمه أو بالبيّنة على امرأة بأنّها زوجة فلان وهي تعلم بالخطأ، فلو نَفَّذَتِ الحكم بالتمكين من ذاك الرجل فقد وقعت
', '', 212), (14, 213, 'book', 'ـ حسب علمها ـ في الزنا، وهذه مسألة يجب أن نبحثها في المستقبل ـ إن شاء اللّه ـ تحت عنوان: (مدى نفوذ قضاء الحكم) كي نرى أنّ حكم الحاكم بالنسبة لمن ينفذ عليه حتى مع علمه بالخلاف هل ينفذ حتى مع علمه بحرمة مايقع فيه بالعنوان الأوّلي؛ أي أنّ قضاء الحاكم يرفع الحرمة واقعاً أولا؟ فإن قلنا بالأوّل ارتفع الإشكال في المقام أيضاً؛ إذ إجبار القاضي للزوجة على التسليم للمطلِّق ليس إجباراً لها على الفسق كي يكون فسقاً. وإن قلنا بالثاني أشكل في المقام التفصيل بين حقّ القضاء وحق التنفيذ ـ بأن يكون للقاضي حقّ القضاء، ولايكون له حقّ التنفيذ ـ فإنّ هذا بعيد عن الفهم المتشرّعي.
وهذا يرجع في روحه إلى التمسّك بالدلالة الالتزامية ـ الثابتة في العرف المتشرّعي لدليل حرمة الإجبار على الحرام ـ على جواز القضاء بالعلم، وبعد هذا نحتاج إلى التعدّي إلى غير موارد استلزام الإجبار على الحرام بالإجماع المركّب، أو ارتكاز عدم الفصل.
الدليل الخامس ـ ماجاء في الجواهر أيضاً من أنّ عدم القضاء بالعلم يؤدّي الى عدم وجوب إنكار المنكر، وعدم وجوب إظهار الحقّ مع إمكانه.
أقول: مجرّد الإنكار باللسان وإظهار الحقّ باللسان يمكن للقاضي أن يصنعه بنصح الخصم الذي يدّعي الباطل بالاعتراف والتنازل للحقّ والإقرار به. أمّا الإنكار باليد وإجبار المبطل على رفع اليد عن باطله، فإن قلنا بقيام دليل لفظي على وجوب ذلك دلّ ذاك الدليل بالالتزام على نفوذ علم القاضي في القضاء، أمّا إذا كان الدليل على ذلك هو الارتكاز المنضم الى ارتكاز عدم معقوليّة قضاء القاضي بشيء وتنفيذه لشيء آخر، فهذا الدليل يصبح منـبّهاً للارتكاز لا دليلا في ذاته على المطلوب.
الدليل السادس ـ ما جاء في الجواهر أيضاً من أنّ أدلة الحدود توجب على
', '', 213), (14, 214, 'book', 'الحاكم إجراء الحدّ على المرتكب الواقعي لما فيه الحدّ؛ لأنّ تلك الأدلّة منصبّة على عنوان فاعل الفعل كالسارق والزاني، فمتى ما علم الحاكم بتحقّق العنوان فقد علم بضرورة إجراء الحدّ ولو لم تَقُمْ بيّنة؛ إذن فللحاكم أن يعمل بعلمه في باب الحدود، ثم نتعدّى إلى غير باب الحدود بالأولويّة.
أقول: الحدّ الراجع إلى حقّ اللّه تعالى كما في حدّ الزنا لايمكن التعدّي منه إلى حقوق الناس؛ إذ من المحتمل كون علم القاضي حجّة فيه وغير حجّة في حقوق الناس، كما يحتمل العكس أيضاً. أمّا بناءً على كون حدّ السرقة أو حدّ القذف مثلا من حقوق الناس فيمكن التعدّي من ذلك إلى غير باب الحدود.
الدليل السابع ـ أن يقال: إنّ الأدلّة التي جعلت البيّنات والأيمان ونحوهما مقياساً للقضاء مقتضى إطلاقها كون واقع تلك الأُمور مقاييس تامّة؛ أي أنّ القاضي سيقضي وفق علمه بها ولو أنكرها أحد الخصمين، ولا يحتمل العرف الفرق بين علم القاضي بالبـيّنة أو اليمين أو علمه بالواقع رأساً، فاذا كان علمه بمثل البيّنة أو اليمين حجّة، ولا يطالَب بالإثبات، كذلك علمه بالواقع يكون حجّة بالدلالة الالتزامية العرفية لدليل حجّية علمه بالبيّنة واليمين.
إلّا أنّ هذه الدلالة الالتزامية العرفية التي يمكن دعواها في المقام ليست بذاك المستوى من الوضوح؛ إذ لابدّ ـ في نهاية الأمر ـ من رجوع إلى علم القاضي ولو في خصوص الكشف عن تحقّق مقاييس القضاء كي تستقرّ الأُمور، فلعلّه اقتصرت الشريعة في مقام الاستناد إلى علم القاضي على أقلّ مقدار ممكن في نظرها، وهو الاستناد إلى علم القاضي بتحقّق المقاييس والتي تقّل نسبة وقوع الخلاف فيه بالقياس إلى نفس الواقع الذي كان المفروض عادةً الخلاف بين الخصمين بلحاظه، فلعلّه لم تُعطِ للقاضي صلاحيّة الاستناد إلى علمه في الدائرة الواسعة، وأعطتها في الدائرة الضيقة كي تنتظم الأُمور وتستقرّ.
$
', '', 214), (14, 215, 'book', 'الدليل الثامن ـ مارواه الكليني عن علىّ بن محمد، عن محمد بن أحمد المحمودي، عن أبيه، عن يونس، عن الحسين بن خالد، عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: «سمعته يقول: الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ، ولايحتاج بيّنة مع نظره؛ لأنّه أمين اللّه في خلقه. وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزجره وينهاه ويمضي ويدعه. قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأنّ الحقّ إذا كان للّه فالواجب على الإمام إقامته، وإذا كان للناس فهو للناس»(1)
والكلام يقع في هذا الحديث تارةً في السند، وأُخرى في الدلالة:
أمّا السند ـ فعلىّ بن محمّد من مشايخ الكليني (رحمه الله) وقد روى عنه روايات كثيرة جدّاً من دون ذكر لقب له أوجدّ.
واسم علىّ بن محمّد قد ورد في الكافي راوياً عنه الكليني مباشرةً بعدّة أشكال:
أوّلها ـ ما ذكرناه من اسم علىّ بن محمّد من دون ذكر لقب أوجدّ، وهذا هو الغالب في الكافي، و الراوي عنه الكليني كثيراً.
والثاني ـ علىّ بن محمد بن بندار، وقد روى عنه الكليني (رحمه الله) في الكافي كثيراً، إلّا أنّها لا تصل في الكثرة إلى رواياته عن عليّ بن محمد بقول مطلق.
والثالث ـ علىّ بن محمّد بن عبداللّه، وقد روى الكليني (رحمه الله) عنه كثيراً أيضاً في الكافي، إلّا أنّ رواياته عن علىّ بن محمد بن بندار أكثر و يقرب من ضعف رواياته عن علىّ بن محمد بن عبداللّه.
والرابع ـ علىّ بن محمد بن عبداللّه القمّي، و قد روى عنه الكليني (رحمه الله) روايتين في الكافي، في باب الإجمال في الطلب من كتاب المعيشة(2).
$
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 32 من مقدّمات الحدود، ح 3، ص 344.
(2) الكافي، الجزء 5، كتاب المعيشة، باب الاجمال في الطلب، الحديث 7 و 8 ص 81.
', 215), (14, 216, 'book', '
وقد ذكر الشيخ الحرّ العاملي رضوان اللّه عليه في خاتمة الوسائل ما نصّه:
«واعلم أنّه قال في كتاب العتق من الكافي في جملة من النسخ هكذا:
عدّة من أصحابنا(1): علي بن ابراهيم، ومحمد بن جعفر، ومحمد بن يحيى، وعلىّ بن محمد بن عبداللّه القمّي، وأحمد بن عبداللّه، وعلىّ بن الحسن(2) جميعاً عن أحمد بن محمد بن خالد»(3). ونقل الاردبيلي (رحمه الله) نحو ذلك عن الكافي (باب المملوك بين الشركاء يعتق أحدهم نصيبه)(4).
ولكن لم أرَ هذا التعبير في النسخة الموجودة عندي من الكافي وهي طبعة الآخوندي، وإنّما الموجود في هذه النسخة قوله في الحديث الخامس من ذاك الباب: عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد ... .
وقد ورد أيضاً عن الكليني (رحمه الله) تعبير خامس وهو التعبير بعلىّ بن محمّد بن اُذينة، وهذا غير وارد في الكافي صريحاً؛ إلّا أنّ العلاّمة (رحمه الله) ذكر في الخلاصة نقلا عن الكليني (رحمه الله) وكأنـّه أخذه من فهرست معروف في زمانه أو نحو ذلك ـ أنـّه قال: وكلّ ما ذكرته في كتابي المشار إليه: عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد البرقي فهم: علىّ بن إبراهيم و علىّ بن محمّد بن عبد اللّه بن اُذينة وأحمد بن عبد اللّه ابن أبيه(5) وعلىّ بن الحسن(6).
$
', '(1) في الوسائل الطبعة الجديدة: (عن علىّ بن إبراهيم) وكلمة (عن) زائدة وخطأ من الناسخ.
(2) وورد في بعض النسخ علىّ بن الحسين.
(3) الوسائل، ج 20، ص 34.
(4) جامع الرواة، ج 2، ص 466.
(5) ورد في بعض النسخ: ابن اميّة
(6) ورد في بعض النسخ: عليّ بن الحسين.
', 216), (14, 217, 'book', '
وهذا النقل من قبل العلاّمة (رحمه الله) عن الكليني يؤيّد كون المقصود بعلىّ بن محمد ابن عبد اللّه القمّي هو علىّ بن محمد بن عبد اللّه بن اُذينة.
كما ورد أيضاً التعبير بعلىّ بن محمّد بن علان في عدّة الشيخ الكليني الذي ينقل بواسطتهم عن سهل بن زياد، والظاهر أنّه علىّ بن محمد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني الذي وثّقه النجاشي.
وعلى أىّ حال فالكلام يقع في أنّه هل هناك طريق لتوثيق علىّ بن محمد الذي أكثر الكليني الحديث عنه في الكافي أولا؟
الذي شاهدناه في كتب الرجال ممّا يمكن إرجاعه إلى هذا الصدد هو ما جاء في رجال النجاشي في ترجمة علىّ بن أبي القاسم حيث قال: «علىّ بن أبي القاسم عبد اللّه بن عمران البرقي المعروف أبوه بماجيلويه، يكنّى أبا الحسن، ثقة فاضل أديب، رأى أحمد بن محمّد البرقي، تأدّب عليه، وهو ابن بنته»(1).
أقول: الظاهر ـ كما ذكر السيد الخوئي في رجاله ـ أنّ المقصود بعلىّ بن أبي القاسم هو علىّ بن محمد بن أبي(2) القاسم نسب إلى جدّه ـ إن لم يحمل على الخطأ في النسخة ـ، و الدليل على ذلك كلام النجاشي نفسه في ترجمته لمحمد بن أبي القاسم عبيداللّه بن عمران الجنابي حيث قال: محمد بن أبي القاسم عبيد اللّه بن عمران الجنابي البرقي أبو عبد اللّه الملقّب ماجيلويه، وأبو القاسم يلقب بندار سيّد من أصحابنا القميّين، ثقة عالم فقيه عارف بالأدب و الشعر و الغريب، وهو صهر أحمد بن أبي عبداللّه البرقي على ابنته وابنه علىّ بن محمد منها، وكان أخذ عنه العلم
', '(1) رجال النجاشي، طبعة الداوري، ص 184.
(2) قد يؤيّد هذا الفهم فهم العلامة (رحمه الله) في الخلاصة، حيث جاء فيه (علىّ بن محمد بن أبي القاسم عبد اللّه بن عمران البرقي المعروف أبوه ما جيلويه أبو الحسن ثقة فاضل فقيه أديب).
', 217), (14, 218, 'book', '
والأدب(1).
أقول: الظاهر أنّ عبيداللّه هو عبداللّه، فإمّا أنّ هذا محمول على اختلاف النسخ، أو تعدّد الاسم ونحو ذلك، ويؤيّد هذا كلام النجاشي نفسُه في عمران البرقي الجنابي حيث قال: عمران البرقي الجنابي (أو الجبابي أو الجبائي) أبو محمد جدّ محمد ابن أبي القاسم عبد اللّه بن عمران ...(2).
هذا ويظهر من مجموع هذه النصوص: أنّ هناك شخصاً واحداً هو علىّ بن محمّد بن بندار وهو علىّ بن محمد بن عبداللّه؛ إذ عرفت أنّ النجاشي لقّب جدّ علىّ ابن محمّد وهو عبد اللّه والمكنّى بأبي القاسم ببندار، فإذا افترضنا أنّ علىّ بن محمد الذي ينقل عنه الكليني كثيراً وروى عنه الحديث الذي نحن بصدده هنا هو نفسه علىّ بن محمّد بن بندار الذي روى عنه كثيراً أيضاً وهو علىّ بن محمد بن عبداللّه الذي روى عنه كثيراً أيضاً، فقد ثبتت بذلك وثاقته لما مضى من تصريح النجاشي بوثاقة علىّ بن أبي القاسم عبداللّه بن عمران البرقي المقصود به علىّ بن محمد بن عبداللّه بن عمران البرقي، والذي هو متّحد مع علىّ بن محمد بن بندار، وبهذا تثبت وثاقة المعنون بكلّ هذه العناوين الثلاثة الواردة في الكافي، و هذا ما استظهره السيد الخوئي في رجاله؛ حيث استظهر وحدة أسماء الثلاثة المروي عنهم في الكافي من قبل الكليني مباشرة. نعم استظهر مغايرة العنوان الرابع ـ وهو علىّ بن محمد بن عبداللّه القمّيّ ـ الوارد في روايتين في الكافي للعناوين السابقة.
وشاهده على المغايرة أنّه روى في الكافي في باب الإجمال في الطلب من كتاب المعيشة قبل الروايتين مباشرة رواية علىّ بن محمد عن سهل، ثمّ ذكر رواية علىّ بن
', '(1) رجال النجاشي، طبعة الداوري، ص 250.
(2) نفس المصدر، ص 207.
', 218), (14, 219, 'book', '
محمد بن عبداللّه القمّىّ عن أحمد بن أبي عبداللّه، ثمّ ذكر الرواية الثانية عنه (والضمير راجع إلى أحمد بن أبي عبداللّه يعني أنّ الراوي هو علىّ بن محمد بن عبداللّه القمّيّ، عن أحمد بن أبي عبداللّه) عن ابن فضّال، ثمّ ذكر مباشرة رواية أُخرى عن علىّ بن محمّد، عن ابن جمهور يقول السيد الخوئي: «والظاهر من هذه العبارة أنّ علىّ بن محمد بن عبداللّه القمّيّ مغاير لمن ذكر قبله وبعده، واللّه العالم»(1)
أقول: الرواية عن علىّ بن محمد بعد الروايتين ليست قرينة على التعدّد؛ لأنّ الرواية الثانية من الروايتين ابتدأت بكلمة (عنه)، والضمير راجع إلى أحمد بن أبي عبداللّه، فهو (رحمه الله) مضطرّ بعد ذلك إذا أراد الحديث عن علىّ بن محمد إلى تكرار الاسم، وإذا كرّر الاسم جاز حذف الجدّ و اللقب اعتماداً على ما سبق.
وعلى أىّ حال فالقرينة التي نحن أشرنا إليها أقوى، فإنّها تشير إلى أنّ المقصود بعلىّ بن محمد بن عبداللّه القمّيّ هو علىّ بن محمد بن عبداللّه بن أُذينة، وهذا يعني أنّه غير علىّ بن محمد بن عبداللّه بن عمران
أمّا ما استظهره السيد الخوئي من وحدة العناوين الثلاثة في عبارة الكافي فلا يبعد صحّة استظهار الوحدة بين على بن محمد وعلىّ بن محمد بن بندار حتى لوكان علىّ بن محمد بن عبداللّه شخصاً آخر، وذلك لأنّ كثرة نقل الكليني عن علىّ بن محمد ابن بندار تكون قرينة على انصراف علىّ بن محمد في لسانه في الكافي إليه كما قاله السيد الخوئي (رحمه الله)، ونقلُهُ عن علىّ بن محمد بن عبد اللّه وإن كان كثيراً أيضاً، ولكن نقله عن علىّ بن محمد بن بندار أكثر منه إلى حدّ الضعف تقريباً، وبهذا تثبت وثاقة علىّ بن محمد الوارد في حديثنا.
أمّا وحدة علىّ بن محمد بن عبداللّه وعلىّ بن محمد بن بندار بدعوى
', '(1) معجم رجال الحديث، ج 12، ص 166.
', 219), (14, 220, 'book', '
الانصراف أيضاً لكثرة نقله عن علىّ بن محمّد بن بندار فغير واضحة. صحيح أنّ شخصاً واحداً كان مسمّىً بعبداللّه و ببندار، لكن احتمال أن يكون علىّ بن محمد ـ الذي هو ابن لعبداللّه المسمّى ببندار ـ معروفاً بعلىّ بن محمد بن بندار، ويكون علىّ ابن محمد بن عبد اللّه القمّيّ (أو قُل: علىّ بن محمد بن عبد اللّه بن أُذينة) هو المعروف بعلىّ بن محمّد بن عبداللّه وارد لارافع له.
والحاصل أنّ عنوان (علىّ بن محمّد) مطلق، بمعنى تجريده عن ذكر قيوده الواقعية (لابمعنى المطلق الحَكَمي)، و مطلق من هذا القبيل منصرف إلى من يكثر ذكره في كلام المُطلِق، ولكن (علىّ بن محمد بن عبداللّه) و (علىّ بن محمد بن بندار) قيّد كلّ منهما بقيد غير قيد الآخر أي نسب أحدهما إلى عبداللّه، ونسب الآخر إلى بندار، واحتمال كون الدافع إلى ذلك التمييز بينهما ـ رغم أنّ بنداراً مسمّىً بعبداللّه ـ موجود؛ بأن يكون أحدهما مشهوراً بهذا الاسم و الآخر بذاك الاسم.
وقد تحصّل من كل ما ذكرناه أنّه متى ما روى الكليني عن علىّ بن محمد بن بندار فهو عبارة عن علىّ بن محمد بن عبداللّه الذي مضى عن النجاشي توثيقه، ومتى ما روى عن علىّ بن محمد بن عبداللّه، أو علىّ بن محمّد بن عبداللّه القمّىّ فلا دليل على التوثيق، ومتى ما روى عن علىّ بن محمد فلا يبعد انصرافه إلى علىّ بن محمد بن بندار الثقة.
هذا تمام الكلام في علىّ بن محمد الوارد في أوّل سند حديثنا.
وقد ورد بعده محمد بن أحمد المحمودي عن أبيه، ولادليل على وثاقة محمد بن أحمد المحمودي عدا توقيع العسكري (عليه السلام) بنقل الكشي عن بعض الثقات، وقد جاء فيه: (واقرأه على المحمودي فما أحمدناله لطاعته) كما لادليل على حُسن حال أبيه عدا ما نقله الكشي عن ابن مسعود عن المحمودي أنّ أباجعفر (عليه السلام) كتب إليه بعد وفاة أبيه: (قد مضى أبوك رضي اللّه عنه و عنك وهو عندنا على حالة محمودة، ولن تبعد من
', '', 220), (14, 221, 'book', 'تلك الحالة).
وأمّا يونس فلا إشكال في جلالته.
وأمّا الراوي المباشر وهو الحسين بن خالد فسواء كان المقصود به الحسين بن خالد الصيرفي، وهو المعروف بالحسين بن خالد، أوكان المقصود به الحسين بن أبي العلاء بقرينة روايته عن الصادق (عليه السلام) فهو ثقة؛ إذ روى عن الثاني الأزدي والبجلي، وروى عن الأوّل كلّ الثلاثة.
وعلى أىّ حال فقد اتّضح بهذا العرض أنّ سند الحديث لايخلو من إشكال لعدم ثبوت دليل واضح على وثاقة أبي المحمودي.
وأمّا الدلالة ـ فقد يقال: إنّ الرواية إنّما دلّت على نفوذ علم الحاكم في حقوق اللّه؛ لأنّ الحقّ إذا كان للّه فالواجب على الإمام إقامته ـ على حدّ تعبير الرواية ـ أمّا حقوق الناس فليست مورداً لما في هذه الرواية من الحكم بنفوذ العلم، بل قد تدلّ على التفصيل بينهما.
ولكن قد يقال: إنّ الظاهر من التفصيل الوارد في الرواية بين حقوق اللّه وحقوق الناس و تعليله بكون الإمام أميناً للّه، أنّ الفرق بينهما إنّما هو أنّ الأول لله فيجريه الحاكم بلاحاجة إلى مطالبة أحد إيّاه، وأمّا الثاني فبما أنّه للناس فإجراؤه إنّما يكون عند مطالبة ذي الحق به، و الظاهر من ذلك أنّها من حيث نفوذ العلم سيّان.
هذا، ولكن الواقع أنّ هناك احتمالا آخر في الحديث: وهو أن يقصد به أنّ الإمام أمين اللّه في خلقه، فاللّه يعتمد على علمه في حقوقه من دون بيّنة و من دون مطالبة أحد بإجراء الحقّ أمّا حقوق الناس فهي للناس ولم يكن هو أميناً للناس، فلابدّ من السير فيها وفق القوانين المعتبرة في حقوق الناس من رفع النزاع أو مطالبة الحقّ، ولعلّ منها البيّنة و عدم الاكتراث بعلم القاضي. فالحديث دالّ على نفوذ العلم في حقوق اللّه، ومجمل بالنسبة لحقوق الناس.
$
', '', 221), (14, 222, 'book', 'هذا، ورغم الإجمال قد يصلح دليلا لما قد ينسب إلى البعض من القول بالتفصيل بنفوذ العلم في حقوق اللّه دون حقوق الناس، وذلك بناءً على إثبات كون القاعدة الأوليّة عدم نفوذ العلم في باب القضاء خرج منه العلم في حقوق اللّه بهذا الحديث. وقد يتعدّى منه إلى حقوق الناس بالأولويّة بدعوى أنّ حقوق اللّه مبنيّة على المسامحة والعفو، بخلاف حقوق الناس، وهذه الدعوى في ذاتها قد تكون دليلا للتفصيل العكسّي الذي قد ينسب إلى البعض.
والواقع أنّ كلا التفصيلين لا أساس صحيح لهما، فهذا الأخير لا يعدو أن يكون استحساناً، والحديث قد عرفت عدم تماميّته سنداً.
وقد يقال: إنّ هذه الرواية إنّما دلّت على نفوذ علم الإمام؛ إذ تقول: «الواجب على الإمام ...»، ولم تدلّ على نفوذ علم القاضي مطلقاً، ولذا ذكرها صاحب الجواهر (رحمه الله) في عداد أدلّة نفوذ علم الإمام في القضاء لا في عداد أدلّة نفوذ علم القاضي على الإطلاق، وهذا الكلام مبنّي على حمل كلمة (الإمام) على الإمام المعصوم دون مطلق ولىّ الأمر الشرعىّ للمجتع.
وإن تمّ هذا الحمل فبالإمكان التخلّص عن هذا الإشكال بالتعدّي إلى الفقيه، أمّا تمسّكاً بعموم التعليل بأنّه أمين اللّه في خلقه بناءً على صدق هذا العنوان على الفقيه بعد فرض الإيمان بولاية الفقيه، وأمّا تمسّكاً ـ ابتداءً ـ بأدلّة ولاية الفقيه بدعوى أنّها جعلت ماللإمام للفقيه ومنها الحكم بالعلم، بل ولعلّه يمكن التعدّي إلى غير الفقيه ممّن أعطاه الفقيه هذا المنصب ببيان: أنّه إذا كان للإمام حقّ إعطاء هذا المنصب بما فيه من الحكم بالعلم لغيره، فللفقيه أيضاً حقّ إعطائه لغيره، لأنّ ماللإمام للفقيه.
هذا، ولكن الظاهر أنّ الوجه الثاني للتعدىّ غير تامّ في المقام؛ لأنّ دليل ولاية الفقيه لم يرد بعنوان «ما للإمام للفقيه» حتى يتمسّك بإطلاقه، ويقال: إنّه كان
', '', 222), (14, 223, 'book', 'للإمام أن يقضي بعلمه فكذلك للفقيه، وإنّما الدليل أثبت أنّ ما للإمام بعنوان الولاية فهو للفقيه، وكون العلم مقياساً للقضاء وعدمه حكم شرعي فقهي ليس راجعاً إلى مسألة الولاية بحيث لورأى ولىّ الأمر مثلا المصلحة في القضاء بالعلم قضى به، ولو رأى عدم المصلحة في ذلك لم يقضِ به، ولاأقلّ من احتمال ذلك، فإذا ثبت في علم الإمام كونه مقياساً للقضاء لم يبرّر مبدأولاية الفقيه التعدّي من ذلك إلى الفقيه فضلا عن غير الفقيه المنصوب من قبل الفقيه. يبقى الوجه الأول وهو إن تمّ يختصّ بالفقيه، ولايتعدّى منه إلى غير الفقيه المنصوب من قبل الفقيه.
وتبقى نقطة واحدة في هذه الرواية، وهي أنّ هذه الرواية دلّت على أنّ حدّ السرقة من حقوق الناس؛ ولذا ليس للقاضي إجراؤه قبل مطالبة ذي الحقّ بذلك. فقد يقال: إنّ هذه نقطة ضعف في الرواية، فالمفهوم لدنيا فقيهاً و المستفاد من الآية الشريفة أنّه من حقوق اللّه، قال اللّه تعالى: ﴿والسارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من اللّه و اللّه عزيز حكيم﴾(1). وكذلك المستفاد من روايات قطع يد السارق بمجرّد الإقرار على خلاف فيما بينها في كفاية الإقرار مرّة واحدة، أو اشتراط الإقرار مرتين(2)؛ إلّا أنّ بالإمكان الإجابة عن هذا بأنّ كون حدّ من الحدود من حقوق اللّه أو من حقوق الناس أمر قابل للتشكيك، فتارةً يكون حدّ من الحدود من حقوق اللّه محضاً كما في حدّ الزنا، وأُخرى يكون من حقوق الناس بمعنى أنّه مالم يطالب به صاحبه لا يُجرى، كما ورد ذلك في بعض الروايات بالنسبه
', '(1) السورة 5 المائدة، الآية 38.
(2) لاحظ الروايات في الوسائل، ج 18، ب 3 من حدّ السرقة، والرواية الأُولى من ب 32، من مقدّمات الحدود.
', 223), (14, 224, 'book', '
لحد القذف(1). وحدّ السرقة ليس من هذا القبيل، فبالإمكان اجراؤه بمجرّد الإقرار مرّةً أو مرتين على ما تقتضيه روايات الإقرار بالسرقة، وثالثة يكون أمراً بين أمرين، فهو من حقوق اللّه بمعنى أنّ مجرّد الإقرار به يكفي في جواز إجراء الحدّ عليه من قبل الحاكم كما هو المستفاد من روايات الإقرار بالسرقة، ولكنّه من حقوق الناس بمعنى أنّ من حقّ صاحبه أن يعفو عنه قبل أن يصل الأمر إلى الإمام؛ وإن كان لايحقّ له العفو بعد وصوله إليه، والسرقة من هذا القبيل على ما دلّ عليه حديث الحلبي التامّ سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن الرجل يأخذ اللصّ يرفعه، أو يتركه؟ فقال: إنّ صفوان بن أُميّة كان مضطجعاً في المسجد الحرام فوضع رداءه وخرج يهريق الماء فوجد رداءه قد سرق حين رجع إليه فقال: من ذهب بردائي؟ فذهب يطلبه فأخذ صاحبه فرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إقطعوا يده، فقال الرجل: تقطع يده من أجل ردائي يا رسول اللّه؟ فقال: نعم. قال: فأنا أهبه له، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): فهلاّ كان هذا قبل أن ترفعه إلىّ. قلت: فالإمام بمنزلته إذا رفع إليه؟ قال: نعم. قال: وسألته عن العفو قبل أن ينتهي إلى الإمام، فقال: حسن»(2)، وورد بسند تامّ عن الحسين بن أبي العلا عن أبي عبداللّه (عليه السلام) نحوه و إن كانت القصّة الواردة في هذا الحديث فيها نقطة ضعف، وهي أنّ من يسرق من الأماكن العامّة ومن غير حرز لا تقطع يده، بينما جاء في هذه القصة الحكم بقطع يد السارق عباءة صفوان بن أُميّة التي كانت في المسجد الحرام، ولعلّ هناك خطأ من الراوي، ويكون
', '(1) رأيت في ذلك حديثين: أحدهما الرواية الأُولى من ب 32 من مقدّمات الحدود من ج 18 من الوسائل ص 344، والثاني الرواية الواردة في ب 6 من حدّ القذف من ذاك المجلّد ص 440.
(2) الوسائل، ج 18، ب 17 من مقدّمات الحدود، ص 329.
', 224), (14, 225, 'book', '
الأصح ما جاء في ذكر هذه القصّة في مرسلة الصدوق(1) من افتراض أنّ صفوان كان نائماً فلعلّه كان نائماً على عباءته وعدّ هذا كالحرز.
وعلى أىّ حال فهناك رواية أُخرى تامّة سنداً تدلّ على أن المسروق منه له حقّ العفو عن السارق قبل رفعه إلى الإمام لا بعد رفعه، وهو ما عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: «من أخذ سارقاً، فعفا عنه فذلك له، فإذا رفع إلى الإمام قطعه، فإن قال الذي سرق له: أنا أَهبُه لم يدعْه الإمام حتى يقطعه إذا رفعه إليه، وإنّما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام، وذلك قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿والحافظون لحدود اللّه﴾(2) فإذا انتهى الحدّ إلى الإمام فليس لأحد أن يتركه»(3).
الدليل التاسع ـ ما ورد بسند تامّ عن عبدالرحمن بن الحجّاج قال: «دخل الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل على أبي جعفر (عليه السلام) فسألاه عن شاهد و يمين، فقال: قضى به رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وقضى به علىّ (عليه السلام) عندكم بالكوفة، فقالا: هذا خلاف القرآن، فقال: وأين وجدتموه خلاف القرآن، قالا: إنّ اللّه يقول: وأشهدوا ذوي عدل منكم﴾(4)، فقال: قول اللّه: ﴿وأشهدوا ذوي عدل منكم﴾ هو لاتقبلوا شهادة واحد و يميناً؟! ثمّ قال: إنّ علياً (عليه السلام) كان قاعداً في مسجد الكوفه، فمرّبه عبد اللّه بن قفل التميمي ومعه درع طلحة، فقال علىّ (عليه السلام): هذه درع طلحة أُخذت غلولا يوم البصرة. فقال له عبداللّه بن قفل: اجعل بيني و بينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين، فجعل بينه و بينه شريحاً، فقال علىّ (عليه السلام): هذه درع طلحة أُخذت غلولا يوم
', '(1) الوسائل ج 18، ب 18 من حدّ السرقة، ح 4، ص 509.
(2) السورة 9 التوبة، الآية 112.
(3) الوسائل، ج 18، ب 17 من مقدّمات الحدود، ح 3، ص 330.
(4) السورة 65 الطلاق، الآية 2.
', 225), (14, 226, 'book', '
البصرة، فقال له شريح: هات على ما تقول بيّنة، فأتاه بالحسن فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولا يوم البصرة، فقال شريح: هذا شاهد واحد ولاأقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر، فدعا قنبر فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولا يوم البصرة، فقال شريح: هذا مملوك ولاأقضي بشهادة مملوك. قال: فغضب علىّ (عليه السلام)، وقال: خذها فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات. قال: فتحوّل شريح وقال: لاأقضي بين اثنين حتى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرّات، فقال له: ويلك ـ أو ويحك ـ إنّي لمّا أخبرتك أنّها درع طلحة أُخذت غلولا يوم البصرة فقلت: هات على ما تقول بيّنة، وقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): حيث ما وجد غلول أُخذ بغير بيّنة. فقلت: رجل لم يسمع هذا الحديث فهذه واحدة، ثم أتيتك بالحسن فشهد، فقلت: هذا واحد ولاأقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر، وقد قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)بشهادة واحد و يمين فهذه ثنتان، ثمّ أتيتك بقنبر، فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولا يوم البصرة، فقلت: هذا مملوك، ومابأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا. ثمّ قال: ويلك ـ أو ويحك ـ إنّ إمام المسلمين يؤمَنُ من أُمورهم على ما هو أعظم من هذا»(1). ورواه الصدوق باسناده التام عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام)، واقتصر على قصّة علىّ (عليه السلام) مع شريح وزاد في آخرها: ثمّ قال أبوجعفر (عليه السلام): إنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك ـ رمع ـ(2).
ولو شكّك في السند الأول باستبعاد لقاء عبدالرحمن بن الحجاج لأبي جعفر الباقر (عليه السلام) فنقله لهذه القصّة قد لاتجري فيه أصالة الحسّ، فهذا التشكيك لايأتي في
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 14 من كيفيّة الحكم، ح 6، ص 194.
(2) الفقيه، ج 3، بحسب الطبعة الجديدة للآخوندي، ب 46 من أبواب القضايا والأحكام، ح 4، ص 63 و64.
', 226), (14, 227, 'book', '
السند الثاني؛ لأنّ محمد بن قيس قد لقي أبا جعفر (عليه السلام)، وروَى عنه.
قوله: «أُخذت غلولا يوم البصرة...» الغلول بمعنى الخيانة، و الظاهر أنّ المقصود هو أنّ درع طلحة في يوم البصرة كانت من الغنائم فأخذها أحدهم قبل قسمة الغنائم خيانةً وغلولا، وقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): حيث ما وجد غلول أُخذ بغير بيّنة، فكأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أمر ـ اهتماماً بمنع الغلول في الحرب ـ بقبول قول أمير الحرب، أو بقبول قول أي واحد من المحاربين في كون ماعثر عليه غلولا، وأسقط حجّيّة اليد في مقابل قول أمير الحرب أوفي مقابل قول أىّ واحد منهم، وبما أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان في حرب البصرة إمام الحرب فلا معنى لمطالبته بالبيّنة. وهذا الحديث دليل على جواز اغتنام ما حواه العسكر في حرب البغاة.
قوله: «خذها... » جاء في رواية الصدوق التي أشرنا إليها: (خذوا الدرع...) وكأنّ المقصود بذلك أمر أصحابه (عليه السلام) بأخذ الدرع رغم قضاء شريح؛ لأنّ شريحاً قضى بالجور.
قوله: «ويلك ـ أو ويحك ـ إنّ إمام المسلمين يؤمَن من أُمورهم على ما هو أعظم من هذا» هذا المقطع هو محلّ الشاهد، ووجه الاستشهاد: إمّا هو القول بأنّ هذه العبارة إشارة الى إشكال آخر على شريح: وهو أنّه كان المفروض بشريح أن يحصل له العلم بصحّة كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) و أن يحكم بعلمه. وإمّا هو التمسّك ابتداء بعموم هذه القاعدة، وهي قاعدة أنّ إمام المسلمين يؤمَن من أُمورهم على ما هو أعظم من هذا بدعوى أنّ نفوذ قضاء الإمام بعلمه مصداق لائتمان الإمام على أُمور المسلمين. وعلى الوجه الأول يدلّ الحديث على نفوذ علم القاضي إطلاقاً، وعلى الوجه الثاني يدلّ على نفوذ علم الإمام، بل على الوجه الأول ـ أي على تقدير التمسّك بإيراد الإمام (عليه السلام) إشكالا رابعاً على شريح أيضاً ـ يحتمل أن يكون إشكاله عليه: أنّه لِمَ لم يقضِ وفق علم الإمام؟ فالمتيقّن من هذا الحديث هو حجّية علم
', '', 227), (14, 228, 'book', 'الإمام في القضاء، ولايثبت جواز قضاء الفقيه بعلمه إلّا أن يتعدّى إلى الفقيه: إما بدعوى أن المقصود من إمام المسلمين هو ولىّ الأمر لاخصوص الإمام المعصوم، أوبدعوى التمسّك ابتداءً بدليل ولاية الفقيه وأنّ ماللإمام للفقيه. وقد عرفت في الوجه السابق النقاش في ذلك حيث قلنا، إنّ مقياسية العلم ليست من الأحكام الولائية حتى تنتقل إلى الفقيه بقانون ولاية الفقيه، بل هي من الأحكام الفقهية، ولا أقّل من احتمال ذلك، ولا دليل لنا على قاعدة مطلقة تقول: إنّ ماللإمام للفقيه.
لايقال: إنّ قضاء القاضي بأىّ لون من الألوان هو نوع ولاية للقاضي، فقضاء الإمام بعلمه هو حكم ولائي فينتقل إلى الفقيه بحكم ولاية الفقيه.
فإنّه يقال: إنّ انتقال هذه الولاية إلى الفقيه يعني أنّ الفقيه يقضي بعلم الإمام لوشهد لديه الإمام بشيء؛ أي أنّ علم الإمام هو أحد مقاييس القضاء حتى في قضاء الفقيه، ولايختص بقضاء الإمام نفسِه، أمّا أنّ مطلق علم القاضي هو أحد مقاييس القضاء، أو أنّ خصوص علم الإمام هو أحد المقاييس، فهذا حكم فقهي شرعي، وليس حكماً ولائياً كي يتمسّك بدليل ولاية الفقيه لإثبات كون المقياس هو مطلق علم القاضي.
هذا. وصاحب الجواهر (رحمه الله) استدلّ بهذا الحديث على نفوذ علم الإمام المعصوم فحسب، لاعلى نفوذ مطلق علم القاضي، فكأنّه ينظر إلى الوجه الثاني من وجهي الاستشهاد اللذين أشرنا إليهما.
الدليل العاشر ـ الروايتان الواردتان(1) بشأن قصّة النبي (صلى الله عليه وآله) في شرائه للناقة من الأعرابي، حيث وقع الخلاف بينه وبين الأعرابي في الرواية الأولى حول
', '(1) راجع الوسائل، ج 18، ب 18 من كيفيّة الحكم، الحديث 1 و 2، ص 200 و 201، والفقيه ج 3، ب 46، الحديث 1 و 2، ص 60 إلى 62.
', 228), (14, 229, 'book', '
أداء الثمن، وفي الرواية الثانية حول أصل بيع الناقة، وكان حُكْم أمير المؤمنين (عليه السلام)فيهما أن قَتَل الاعرابي. والرواية الأُولى تامّة سنداً، والثانية غير تامّة سنداً.
أمّا وجه الاستدلال فبالإمكان أن يقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد حكم في مورد الحديث بعلمه أو بعلم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وهذا دليل على نفوذ علم المعصوم في القضاء، فإن تمّ التعدّي إلى الفقيه بواسطة مبدأ ولاية الفقيه تعدّينا إليه، وإلّا ـ كما ناقشنا في ذلك في الوجه السابق ـ لم يدلّ هذا الوجه على أكثر من نفوذ علم المعصوم، وهو غير المقصود.
وعلى أىّ حال فيرد عليه لو اقتصرنا على التمسّك بعمل الإمام (عليه السلام): أَنّ بالإمكان حمل عمل أمير المؤمنين (عليه السلام) على تنفيذ القتل بشأن من كذّب الرسول (صلى الله عليه وآله)، لا على القضاء بمعنى خصم النزاع، وإن كان قد ارتفع به النزاع تكويناً.
وبتعبير آخر: لعلّ هذا الحكم لم يكن قضاء بمعنى خصم النزاع في حقوق الناس، بل كان إجراءً لحدّ هو من حقوق اللّه، وقد مضت ـ في الدليل السادس ـ الإشارة إلى أنّ التعدّي من حقوق اللّه إلى حقوق الناس غير صحيح، كما أنّ أمر أمير المؤمنين (عليه السلام) للأعرابي في إحدى الروايتين بتسليم الناقة إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)يمكن حمله على إرشاده إلى وظيفته الشرعيّة.
نعم بالإمكان أن يجعل الدليل على نفوذ علم المعصوم في القضاء أصل قاعدة وجوب تصديق الإمام فيما يقول وكفر مكذّبه مثلا، كما استدلّ به في الجواهر جاعلا هذا الحديث شاهداً على تلك القاعدة بقوله: «ولذا قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) خصم البني (صلى الله عليه وآله) لمّا تخاصما إليه في الناقة وثمنها».
وهذا أيضاً يرد عليه: أنّ هذا إنّما يدلّ على أنّنا لو شاهدنا المعصوم قضى بعلمه وجب علينا التسليم. أمّا أنّه هل يجوز له أن يقضي بعلمه فيقضي بالفعل بعلمه أو لايجوز له، فلا يقضي إلّا بالبينات و الأيمان، فلا توجد أىّ ملازمة بين وجوب
', '', 229), (14, 230, 'book', 'تصديقه وكفر مكذّبه وبين جواز أنْ يقضي هو بعلمه.
هذا. والصحيح دلالة هذا الحديث على القضاء بعلم المعصوم؛ لأنّ فيه تخطئة القضاء وفق صالح الاعرابي وتصويب قضاء علىّ (عليه السلام): إمّا صريحاً كما في الحديث الأوّل التام سنداً حيث جاء في ذيله أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال للقرشي الذي أراد الحكم لصالح الاعرابي: «هذا حكم اللّه، لا ما حكمت به»، أو تلويحاً كما في الحديث الثاني الذي قال فيه النبىّ (صلى الله عليه وآله) للاعرابي بعد أن أراد ثلاثة أشخاص الحكم لصالح الاعرابي: «إجلس حتى يأتي اللّه بمن يقضي بيني وبين الأعرابي بالحقّ» فأقبل علىّ بن أبي طالب (عليه السلام) ...
هذا، وقد يقال: إنّ الحديث دلّ على نفوذ علم غير المعصوم أيضاً لأنّ من خطّأه النبىّ (صلى الله عليه وآله) في قضائه لم يكن معصوماً، فكأنّه يقول له: كان المفروض بك أن يحصل لك العلم بما قلت وتقضي وفقه.
ولكن الواقع أنّ الحديث إنّما دلّ على أنّه مع علم المعصوم ودعواه يجب القضاء وفقه، وهذا لايدلّ على نفوذ علم القاضي من أىّ طريق حصل.
الدليل الحادي عشر ـ ما أُشير إليه في بعض كلمات الأصحاب من قصّة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) مع الأعرابي في شرائه لفرس منه ثمّ إنكار الأعرابي لذلك، وشهادة خزيمة لصالح النبىّ (صلى الله عليه وآله) اعتماداً على تصديق رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وتسميته من قبل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لذلك بذي الشهادتين(1). وذلك بدعوى الملازمة العرفية بين صحّة الشهادة اعتماداً على علم المعصوم المستلزمة لجواز اجتماع شاهدين أو أكثر على المدّعى اعتماداً على علم المعصوم ممّا يؤدّي في روحه إلى فصل الخصومة بعلم
', '1 ـ راجع الوسائل، ج 18، ب 18 من كيفيّة الحكم، ح 3، ص 201، والكافي ج 7، ص 400  $ $ $و 401، باب النوادر، ح 1.
', 230), (14, 231, 'book', '
المعصوم، وصحّة القضاء ابتداءً بالاعتماد على علم المعصوم، فيثبت نفوذ علم المعصوم في القضاء، ثمّ يتعدّى إلى الفقيه بدليل ولاية الفقيه، ولكن قد عرفت ما في التعدّي. على أن الحديث غير ثابت؛ لأنّ له سنداً غير تامّ و سنداً تاماً إلى معاوية بن وهب، لكن لم نعرف سند معاوية بن وهب إلى القصّة.
الدليل الثاني عشر ـ ما عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «أُتِيَ عمر بأمرأة قد تزوّجها شيخ، فلمّا أن واقعها مات على بطنها، فجاءت بولد، فادّعى بنوه أنّها فجرت، وتشاهدوا عليها، فأمر بها أن ترجم، فمرّ بها على علىّ (عليه السلام)فقالت: يا ابن عمّ الرسول (صلى الله عليه وآله) إنّ لي حجّة قال: هاتي حجّتك فدفعت إليه كتاباً، فقرأه، فقال: هذه المرأة تعلمكم بيوم تزوّجها ويوم واقعها، وكيف كان جِماعُهُ لها رُدّوا المرأة، فلما كان من الغد دعا بصبيان أتراب، ودعا بالصبىّ معهم، فقال لهم: العبوا حتى إذا ألهاهم اللعب قال لهم: اجلسوا، حتى إذا تمكّنوا صاح بهم فقام الصبيان، وقام الغلام، فاتّكى على راحتيه، فدعابه علىّ (عليه السلام) وورّثه من أبيه، وجلد إخوته المفترين حدّاً حدّاً، فقال عمر: كيف صنعت؟، فقال: عرفت ضعف الشيخ في تكاة الغلام على راحتيه». وعن الأصبغ بن نباته قال: «أُتِيَ عمر بامرأة» ثمّ ذكر نحوه(1). وكلا السندين غير تامّ.
أمّا أنّ ابن الشيخ الضعيف سيكون ضعيفاً فهذا بحاجة إلى فحص علمّي، فإن ثبت خطؤه سقط هذا الحديث عن الاعتبار حتى لوكان تاماً سنداً، وأمّا لو فرضت صحّة ذلك علميّاً فهذا الحديث ـ بغضّ النظر عن ضعف سنده ـ قد يقال أيضاً بأنّ مفاده غريب؛ إذمعنى صحّة هذه القضيّة علميّاً ليس هو عدم تطرّق احتمال ثبوت الزنا؛ إذ قد يكون ضعف الطفل مستنداً إلى علّة أُخرى فيه مباشرةً، أو بالوارثة من
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 21 من كيفيّة الحكم، ح 3، ص 207 و 208.
', 231), (14, 232, 'book', '
أبيه غير هذا الشيخ من شيخ آخر، أو شاب مبتلىً بالضعف، أوما شاكل ذلك. وعلى أىّ حال فبالنسبه لدلالة الحديث قد يقال: إنّه يدلّ على نفوذ علم القاضي الحاصل عن طريق شاهده الناس أيضاً لا العلم الخاص بالقاضي، واحتمال اختصاص ذلك بعلم الإمام غير وارد، فإنّ احتمال الخصوصية لعلم الإمام في مورد هذه الرواية غير وارد عرفاً؛ إذ الإمام (عليه السلام) اعتمد في علمه هذا على طريقة عامّة شاهدَها الآخرون، ولم يكن طريقاً خاصّاً يحتمل فيه الخطأ أو الكذب بالنسبة لغير المعصوم، ولايحتمل ذلك بالنسبة للمعصوم.
وقد يقال: إنّ الشيء الخاصّ بالإمام (عليه السلام) هنا هو علمه بتلك القضيّة العلميّة التي كانت مخفيّة على الناس وهو أنّ ولد الشيخ الضعيف يصبح ضعيفاً.
ولكن مع هذا قد يقال: إنّ هذا يدلّ على نفوذ علم القاضي مطلقاً لا خصوص الإمام؛ لأنّ الظاهر من القصّة ـ وبيان وجه الحكم من قبله (عليه السلام) لأُناس لم يكونوا يرونه وقتئذ إماماً ـ أنّ القضية تستبطن تعليم الناس ضمناً طريقه الحكم. أو يقال: إنّه بعد أن تؤخذ القاعدة ـ قاعدة تبعية الطفل لأبيه الكبير السن الضعيف في الضعف ـ مفروغاً عنها من الإمام (عليه السلام) تكون مشاهدة وضع الصبي حينما قام موجبة لعلم حسّي عامّ أي يستطيع كلّ أحد أن يعلمه، وفي مثله لا تحتمل عرفاً خصوصية لعلم المعصوم، فالحديث يدلّ على نفوذ علم القاضي مطلقاً إذا كان حسياً أو قريباً من الحسّ و كان عامّاً، وهذا في واقعه في قوّة عدم الدلالة على نفوذ علم القاضي، فإنّ نفوذ العلم الذي يستطيع أن يعلمه كلّ أحد لا ينبغي أن يكون مورداً للشكّ في الارتكاز العرفي؛ إذ ما أسهل تحويله إلى عشرات الشهود؛ لأنّ المفروض أنّه مّما يستطيع أن يعلمه كلّ أحد.
وعلى أىّ حال فضعف سند الحديث قد أسقطه عن الحجّيّة على كلّ تقدير.
الدليل الثالث عشر ـ ما ورد بسند تامّ عن سليمان بن خالد عن أبي عبد
', '', 232), (14, 233, 'book', 'اللّه (عليه السلام) قال: «في كتاب علىّ (عليه السلام) أنّ نبياً من الأنبياء شكى إلى ربّه، فقال: ياربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟، قال: فأوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1)؛ إذ يمكن الاستدلال بهذا الحديث على نفوذ علم القاضي الناشىء من الحس كما سنشير إليه بعد صفحات.
الدليل الرابع عشر ـ ما ورد من قضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) بكون الابن للمرأة التي كان لبنها أثقل من لبن الأُخرى والبنت للأُخرى، و الحديث وارد ضمن متن لطيف لم نعرف سنده في ذكر قصّة وقعت في زمان عمر بن الخطاب، ووارد بسند تامّ ضمن متن آخر في قصّة وقعت على عهد علىّ (عليه السلام)، و الأوّل مذكور في سفينة البحار(2) والثاني مذكور في الوسائل(3).
ولو ساعد العلم و التجربة على ذلك كي لا يسقط الحديث بالقطع بكذبه كان العلم في مورد الحديث (بعد الفراغ عن قاعدة أثقليّة لبن الولد بأخذها من الإمام المعصوم (عليه السلام)) علماً حسيّاً عامّاً يستطيع كلّ أحد أن يعرفه بالتجربة غير خاصّ بالقاضي، وفي مثل هذا الفرض لا يرد عرفاً احتمال اختصاص الحكم بعلم الإمام، إذن فالحديث يدلّ على نفوذ علم القاضي حينما يكون حسّياً و عامّاً، ولايدلّ على أكثر من ذلك. وقد مضى في وجه سابق أنّ هذا في قوّة عدم الدلالة على نفوذ علم القاضي، وإن شئت قلت: إنّ كلّ دليل دلّ على نفوذ علم المعصوم من قبيل ما مضى من قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) للأعرابي أو غيره من الروايات نحن نجعله دليلا على نفوذ علم كلّ قاض إذا كان علماً حسياً أو قريباً من الحسّ وكان عامّاً ـ أي بإمكان
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 1 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 167.
(2) سفينة البحار، ج 2، مادة (قضى) ص 435.
(3) الوسائل، ج 18، ب 21 من كيفيّة الحكم، ح 6، ص 210.
', 233), (14, 234, 'book', '
كثير من الناس أن يعلمه ـ، وذلك لعدم احتمال الفرق عرفاً بين علم المعصوم و غيره إلّا من إحدى ناحيتين: الأُولى كون علم المعصوم لعصمته كالعلم الحسّي أو القريب من الحس، والثانية كون علم المعصوم حينما يخبر به عامّاً أي بإمكان كلّ أحد أن يعلمه عن طريق اعتماده على علم المعصوم لعدم احتمال الخطأ في علم المعصوم، فإذا علم القاضي غير المعصوم أيضاً بعلم حسّي عامّ لم يكن يحتمل العرف الفرق في الحجيّة بينه وبين علم المعصوم في القضاء، فإن قلنا: إنّ هذا العلم حجيّة ارتكازية، وينبغي خروجه عن محلّ البحث؛ إذن فأدلّة نفوذ علم المعصوم لاتفيدنا شيئاً، وإلّا فأدلّة نفوذ علم المعصوم تفيدنا بقدر إثبات حجيّة علم القاضي الحسّي العامّ لاأكثر من ذلك، ولا نستطيع أن نتعدّى إلى علم القاضي الفقيه غير الحسّي أو غير العام بمبدأ ولاية الفقيه حتى لو فسّرناها بمعنى (كلّ ما للإمام للفقيه)؛ إذ لم يثبت أنّ للإمام أن يحكم بغير العلم الحسّي العامّ. نعم الإمام كلّ علمه هو علم حسّي عام بنكتة عصمته عن الخطأ.
الدليل الخامس عشر ـ ماورد في كتاب بصائر الدرجات للصفّار (رحمه الله) قال: «حدّثنا أحمد بن محمّد، عن عمر بن عبدالعزيز، عن بكار بن كرام، عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: أنّ جويرية بن عمر العبدي خاصمه رجل في فرس أُنثى فادّعيا جميعاً الفرس، فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): لواحد منكما البيّنة؟، فقالا: لا، فقال لجويرية: أعطه الفرس، فقال له: يا أميرالمؤمنين بلابيّنة، فقال له: واللّه لأنا أعلم بك منك بنفسك، أتنسى صنيعك بالجاهلية الجهلاء فأخبره بذلك»(1). و الحديث غير تامّ سنداً ودلالة.
أمّا من حيث السند فلو اعتمدنا على بصائر الدرجات كفى في ضعف السند
', '(1) بصائر الدرجات، ج 5، ب 11، ح 11، ص 267.
', 234), (14, 235, 'book', '
وجود عمر بن عبدالعزيز الذي لادليل على وثاقته غير وروده في أسانيد تفسير علىّ بن إبراهيم. وأمّا بكار بن كرام فلوكان هو مصحّف بكار بن كردم فبكار بن كردم قد روى عنه محمّد بن أبي عمير الذي لا يروي إلّا عن ثقة.
وأمّا من حيث الدلالة فبناءً على كون هذا قضاءً لا أمراً إرشادياً له بالعمل بالواقع فقد علّل هذا القضاء بكونه أعلم منه بنفسه، وهذا هو علم المعصوم، ولم يعلم كون المقصود التعليل بمجرّد العلم.
وعلى أىّ حال فقد تحصّلت بكلّ ما ذكرناه تماميّة بعض الأدلّة غير الإجماع على نفوذ علم القاضي خلافاً لما في الجواهر من دعوى أنّه لاتتحصّل من غير الإجماع دلالة على نفوذ علم القاضي، وأنّ أقصى ما يمكن تحصيله من غير الإجماع عدم جواز الحكم بخلاف العلم.
هذا تمام الكلام في أدلّة حجيّة علم القاضي.
 $
أدلّة عدم الحجيّة:
وأمّا أدلّة عدم حجيّة علم القاضي فعمدتها مايلي:
الأوّل ـ من الواضح تاريخياً أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان يكتفي في ترتيب آثار الإسلام من الطهارة ومصونيّة الدم والمال بالظاهر ولم يكن يحكم وفق علمه المستمدّ من الغيب الذي يعلمه اللّه تعالى، وكذلك في باب المرافعات لم يتّفق أن يقضي وفق علمه الإلهىّ، بل كان يقضي وفق البيّنات والأيمان.
ولا يخفى أنّ ترتيب آثار الإسلام على ظاهر الحال لاعلاقة له بباب القضاء في حقوق الناس، واحتمال الفرق موجود، فلو كان هذا وحده لما أمكن إثبات عدم نفوذ العلم في حقوق الناس والمرافعات بذلك.
$
', '', 235), (14, 236, 'book', 'على أنّ من المحتمل أن يكون موضوع آثار الإسلام في هذه الدنيا عبارة عن إظهار الإسلام ولو كان في علم اللّه كاذباً.
نعم هاتان المناقشتان لاتجريان فيما هو المسلّم به من أنّه (صلى الله عليه وآله) لم يكن يعتمد في خصمه للمرافعات على علمه الإلهىّ، بل كان يطلب البيّنة واليمين.
ولكن هناك مناقشتان اُخْرَيان جاريتان في ذلك أيضاً:
إحداهما ـ ما قد يقول القائل (كما جاء في كلام المحقّق الآشتياني (رحمه الله) في المقام) من منع علم المعصوم بجميع جزئيات أفعال المكلفين وأقوالهم، غاية الأمر أنّهم قادرون على العلم بها وإن شاؤوا علموا. وتنقيح ذلك راجع إلى بحث كيفيّة علم المعصوم.
والثانية ـ أنّ عدم قضاء المعصوم بعلمه الغيبي لايستلزم عدم نفوذ علمه الناشيء من الأسباب الاعتياديّة، واحتمال الفرق موجود، ومحل البحث كما مضى في صدر المبحث هو الثاني دون الأوّل.
الثاني ـ ما جاء عن طريق أهل السنّة من حديث ورد في السنن الكبرى للبيهقي (1)، وفيه ـ ضمن ذكر قصّة الملاعنة الراجعة لامرأة ـ: «قال ابن شداد بن الهاد لابن عباس: أهي المرأة التي قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): لو كنت راجماً أحداً بغير بيّنة لرجمتها. فقال ابن عباس: لا، تلك المرأة(2) أعلنت السوء في الإسلام».
فهذا يعني أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لايرجم بغير بيّنة، وظاهر الحال أنّه (صلى الله عليه وآله) كان متيقّناً ببغيها، وإلّا فما معنى أنّه لو كان راجماً من غير بيّنة لرجمها؟!
ويمكن النقاش في هذا الحديث ـ إضافةً إلى سقوطه سنداً، وعدم كفايته لو تم
', '(1) ج 7، ص 407.
(2) وورد في بعض النسخ: (تلك امرأة).
', 236), (14, 237, 'book', '
سنداً للتعدّي من حقوق اللّه إلى مرافعات الناس لاحتمال الفرق ـ بأنّ مناسبات الحكم والموضوع العرفيّة توحي باحتمال كون «لو الامتناعيّة» الواردة على الرجم بغير بيّنة ناظرة إلى الرجم بالعلم الناشيء عن غير الحس أو ما يقرب من الحسّ ـ وأعني بما يقرب من الحسّ ما يشترك فيه عامّة الناس لواطلعوا على المدرك ـ فلا تدلّ الرواية على عدم نفوذ العلم على الإطلاق؛ أي حتى الناشىء من الحسّ أو ما يقرب منه، وليس هذا حصراً كاملا بتمام معنى الكلمة؛ ألا ترى أنّه لايُفهم منه عرفاً عدم نفوذ الإقرار مثلا.
الثالث ـ روايات حصر القضاء بالبيّنات والأيمان، وعمدتها مايلي:
1 ـ ماورد بسند تامّ عن سليمان بن خالد ـ وقد روى عنه الأزدي والبجلي ـ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «في كتاب عليّ (عليه السلام) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكى إلى ربّه فقال: ياربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟، قال: فأوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1). وبمضمونه غيره(2) ممّا هو غير تامّ سنداً، وهذا يدلّ بالإطلاق على حصر مقياس القضاء بالبيّنة واليمين.
وهذا لو تمّ فإنّما يتمّ دليلا على عدم نفوذ العلم غير الناشيء من الحس أو مايقرب منه، وذلك لما جاء فيه من كلمة: (لم أرَ ولم أشهد) على أنّه قد يقال: إنّ من المحتمل عرفاً كون هذه الكلمة ذكراً لمصداق من مصاديق العلم، فلا تدلّ الرواية على عدم نفوذ العلم أصلا، وإنّما تدلّ على حصر مقياس القضاء بالبيّنة واليمين في فرض عدم العلم، فهذه الرواية غير دالّة على عدم نفوذ العلم، بل هي دالّة على نفوذ
', '(1) الوسائل ج 18، ب 1 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 167.
(2) راجع نفس الباب.
', 237), (14, 238, 'book', '
العلم في الجملة لظهورها في الفراغ عن صحّة القضاء بما رأى وشهد، وهذا يعنى نفوذ العلم ولو خصوص الحسّي منه حتى في غير النبىّ بناءً على تعدّي العرف في العلم المحسوس بالحس المتعارف من النبىّ إلى غيره.
2 ـ ما جاء عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) بسند غير تام: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية من أئمّة الهدى»(1). وقد يناقش في الدلالة بإبداء احتمال كون علم القاضي ـ خصوصاً لو كان عن حس أو مايقرب منه ـ داخلا في قوله: «شهادة عادلة».
3 ـ ما جاء بسند تامّ عن هشام بن الحكم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(2).
فيقال: إنّ حصر القضاء بالبيّنة والأيمان دليل على عدم جواز القضاء بالعلم، وحمله على الحصر الإضافي أي بالإضافة إلى الأدلّة غير العلميّة، أو بالإضافة إلى القضاء بالواقع اعتماداً على العلم الإلهي الذي جاء في بعض الروايات أنّه سيقضي به القائم عجّل اللّه فرجه (3) بلا سؤال بيّنة ويمين خلاف الإطلاق.
والصحيح أنّ هذا الحديث لودلّ على عدم نفوذ علم القاضي فإنّما يدلّ على عدم نفوذ علمه الحدسي لا الحسّي، وذلك لأنّ وضوح أنّ البيّنة واليمين إنّما ينفعان القاضي بواسطة علمه الحسّي بهما ـ على أشدّ تقدير ـ لايُبقي للكلام ظهوراً في إلغاء العلم الحسّي للقاضي، فإنّ كون علم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) الحسّي نافذاً عند تعلقه بالبيّنة
', '(1) نفس المصدر، ح 6، ص 168.
(2) الوسائل ج 18، ب 2 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 169.
(3) الوسائل ج 18، ب 1 من كيفيّة الحكم، ح 4 و 5، ص 168.
', 238), (14, 239, 'book', '
واليمين، وغير نافذ عند تعلّقه بالواقع ـ بينما الثاني أقرب إلى الواقع من الأوّل ـ مستبعد إلى حدّ لاينعقد للحديث ظهور في ذلك، بل لو قلنا: إنّ ارتكاز حجيّة البيّنة في تشخيص حقوق الآدميّين يشمل حتى البيّنة التي عُلمت بالعلم الحدسي، وهذا يكوّن إطلاقاً مقاميّاً لقوله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» لإثبات حجيّة البيّنة التي عُلمت بالحدس سقط الحديث حتى عن الدلالة على عدم نفوذ علم القاضي الحدسي.
ثمّ إنّ دلالة الحديث على عدم نفوذ علم القاضي مطلقاً أو في خصوص العلم الحدسي لو تمّت فهي معارضة بدلالة أدلّة القضاء بالحقّ التي دلّت على نفوذ علم القاضي.
الرابع ـ ماورد بسند تامّ عن داود بن فرقد قال: «سمعت أباعبداللّه (عليه السلام)يقول: إنّ أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قالوا لسعد بن عبادة: أرأيت لو وجدت على بطن امرأتك رجلا ماكنت صانعاً به؟، قال: كنت أضربه بالسيف، قال: فخرج رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فقال: ماذا ياسعد؟، فقال سعد: قالوا: لو وجدت على بطن امرأتك رجلا ماكنت صانعاً به؟ فقلت: أضربه بالسيف، فقال: ياسعد فكيف بالأربعة الشهود؟ فقال: يا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بعد رأي عيني وعلم اللّه أن قد فعل؟ قال: إي واللّه بعد رأي عينك وعلم اللّه أن قد فعل. إنّ اللّه جعل لكلّ شيء حدّاً، وجعل لمن تعدّى ذلك الحدّ حدّاً»(1).
وجه الاستدلال هو أنّه وإن كان مورد الحديث هو علم الزوج، وليس علم القاضي، لكن الحديث قد جعل الأربعة شهود حدّاً لثبوت الزنا، ومقتضى إطلاقه أنّه حدّ لذلك حتى في مقابل علم القاضي، وهذا الكلام يمكن أن يقال به بلحاظ كلّ
', '(1) الوسائل ج 18، ب 2 من مقدّمات الحدود، ح 1، ص 310.
', 239), (14, 240, 'book', '
الروايات التي جعلت الأربعة شهود حدّاً لثبوت الزنا من قبيل ما عن الحلبي بسند تامّ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «حدّ الرجم أن يشهد أربع أنّهم رأوه يدخل ويخرج»(1) ونحوه غيره من الروايات(2). ولكن لئن قال قائل في مثل هذه الرواية من الإطلاقات: إنّها منصرفة عن فرض العلم، فدعوى هذا الانصراف لاتتأتّى في رواية داود بن فرقد؛ لأنّه جعل الحدّ هو الأربعة شهود في مقابل العلم، وهذا يوجب استحكام الإطلاق وعدم ثبوت الانصراف. نعم مورد الحديث هو علم الزوج لاعلم القاضي، ولكن المورد لايخصّص الوارد.
والجواب: أنّ إجراء الحدّ هو شأن القاضي يجريه بعد ثبوت الأربعة شهود، وليس شأن الزوج، وغاية ما هنا أن يكون الزوج واحداً من الشهود، ولم يذكر في الحديث كون الأربعة شهود حدّاً في مقابل علم القاضي، بل الإطلاق أيضاً غير وارد في هذا الحديث؛ إذ لم يذكر مثلا: (أنّ حد ثبوت الزنا هو الأربعة شهود)، وإنّما ذكر: (أنّ اللّه جعل لكلّ شيء حدّاً)، ولعلّ علم القاضي هو أحد الحدود.
وأمّا التمسّك بإطلاقات مثل ما مضى من حديث الحلبي فقد يقول القائل بشأنه: إنّ مقتضى المناسبات العرفيّة هو احتمال أن يكون المقصود هو أنّ حدّ ثبوت الزنا ـ إن لم يكن متيقناً ـ هو الأربعة شهود، أمّا إذا كان القاضي يعلم به فلا دلالة لهذه الإطلاقات على عدم نفوذ العلم.
وقد يقال في مقابل ذلك: إنّ الأمر على العكس، فلهذا الحديث وأمثاله إطلاق قوىّ ناف لنفوذ علم القاضي؛ لأنّ المتعارف في شهادة ثلاثة من العدول ـ إن كانت عدالتهم ثابتة باليقين لابمجرّد ظاهر الحال ـ هو حصول العلم بالصدق،
', '(1) الوسائل ج 18، ب 12 من حدّ الزنا، ح 1، ص 371.
(2) المذكورة في نفس المصدر والباب.
', 240), (14, 241, 'book', '
فافتراض كون الحدّ هو أربعة شهود له ظهور إطلاقىّ قوىّ في عدم نفوذ علم القاضي. إلّا أنّ هذا لو تمّ فاحتمال الخصوصيّة في باب الزنا وارد، ولايمكن التعدىّ إلى سائر الحدود فضلا عن باب المرافعات الذي هو محلّ بحثنا.
الخامس ـ أنّ أصل التركيز على البيّنة في باب القضاء في الشريعة الإسلامية ـ رغم أنّ خبر العدل الواحد ولو لم يضمّ إلى خبر عدل آخر ولا إلى يمين كثيراً ما يورث العلم ولو بضمّ بعض القرائن، وكثيراً ما يحصل للقاضي العلم بمقتضى القرائن أو خبر الثقة من دون خبر العدل الواحد أيضاً ـ يفهم منه عدم نفوذ علم القاضي.
وهذا الوجه إن دلّ فإنّما يدلّ على عدم نفوذ علم القاضي غير المستند إلى الحسّ ولاما يقرب من الحس؛ لأنّه هو الذي يكثر حصوله مع عدم البيّنة لا العلم المستند إلى الحسّ أو مايقرب منه.
وهذا الوجه بهذا المقدار قاصر عن إثبات عدم حجّية العلم غير الحسّي أيضاً فضلا عن العلم الحسّي، فإنّ خبر الواحد كما يورث كثيراً العلم كذلك يتفق كثيراً عدم إفادته للعلم، وهذا كاف في التركيز على البيّنة في الشريعة الإسلامية من دون أن يكون ذلك دالّاً على عدم حجّية العلم غير الحسي. نعم لو كان حصول العلم بخبر الواحد أمراً غالبياً وعدمه نادراً أمكن أن يقال: إنّ التزكيز على البيّنة يدلّ على عدم حجّية العلم غير الحسّي.
إلّا أنّه بالإمكان تطوير هذا الوجه بأن يقال: إنّه لم يرد إلينا خبر واحد ـ ولو مرسل ـ يصرّح بنفوذ علم القاضي؛ بينما هنا أبواب كثيرة ورد في بعضها من الأخبار ماشاء اللّه بشأن البيّنة وشروطها وأحكامها، والمفروض بمقاييس القضاء أن يرد ذكرٌلها في الروايات ولونادراً كما ورد ذكر البيّنة واليمين، ولم يرد ولو في حديث واحد ذكر لمقياسية علم القاضي غير الحسّي، فعلم القاضي الحسّي لو كان حجّة كان من المعقول أن لايرد نصّ خاصّ متصد لبيان حجيّته؛ لأنّ حجيّته ارتكازية عند
', '', 241), (14, 242, 'book', 'العقلاء، أمّا العلم الحدسي فلا ارتكاز لحجيّته؛ إذ من المعقول عند العرف والعقلاء افتراض عدم السماح للقاضي بالقضاء به لأنّه يكثر فيه الخطأ. أفليس ورود الأخبار الكثيرة حول البيّنة وشروطها واليمين وعدم ورود نصّ واحد على نفوذ العلم الحدسي دليلا قاطعاً على أنّ المقياس في نظر الشريعة عندما لايوجد علم حسّيّ هو البيّنة واليمين دون العلم الحدسي؟!. وبهذا الوجه يقيّد إطلاق مثل أدلّة القضاء بالحقّ والعدل المقتضي لنفوذ علم القاضي مطلقاً. فالنتيجة هي التفصيل بين العلم المستند إلى الحسّ أو ما يقرب من الحسّ والعلم غير المستند إلى الحسّ، فالأوّل نافذ، والثاني غير نافذ.
لايقال: إنّ حجيّة العلم الطريقي في إثبات متعلّقه عقليّة ومرتكزة عند العقلاء أيضاً ولو كان حدسياً، فإذا دلّ الدليل على وجوب القضاء بالحقّ والعدل كان علم القاضي ولو حدساً حجّة لإثبات كون القضاء الفلاني قضاءً بالحقّ والعدل، وكان هذا علماً طريقياً، فحجيّته واضحة ومرتكزة كحجيّة العلم الحدسي، ولعلّه لهذا لم يرد نصّ خاصّ به.
فإنّه يقال: إنّ دليل وجوب القضاء بالحقّ والعدل وإن كان مقتضى إطلاقه القضاء بذلك ولو عن طريق العلم الحدسي، ولكن هذا لايعني أنّ تمام الموضوع للقضاء هو ذات الحقّ من دون أن يكون قيامُ الحجّة عليه جزءً للموضوع، بل المرتكز عند العقلاء خلاف ذلك؛ أي أنّ من قضى بالحقّ بلاحجّة يعتبر آثماً لا لمجرّد التجرّي، بل لعدم تماميّة موضوع جواز القضاء، فصحيح أن العلم بالحقّ أو أي حجّة أُخرى عليه طريق لإثبات أحد جزئي موضوع القضاء، لكنّه في نفس الوقت دخيل في موضوع القضاء في ارتكاز العقلاء، وعندئذ نقول: إنّ العلم إن كان حسّياً فهو كاف في جواز القضاء بالارتكاز، فعدم ورود نصّ متصدٍّ لبيان حجيّته أمر طبيعي. أمّا إذا كان حدسيّاً فعدم كفايته في القضاء أمر معقول ومحتمل عقلائيّاً لكثرة الخطأ
', '', 242), (14, 243, 'book', 'فيه، ولو كان كافياً في القضاء لكان المترقب ذكره في أحاديث مقاييس القضاء كما ذكرت البيّنة و اليمين.
 $
التفصيل بين العلم الحسي و الحدسي:
فالنتيجة إذن هي التفصيل بين العلم الحسّي والعلم الحدسي، فالعلم الحسّيللقاضي حجّة أوّلا: بالارتكاز غير المردوع عنه، وثانياً: بإطلاقات الأمر بالقضاء بالحقّ و العدل، وثالثاً: بما مضى من حديث سليمان بن خالد: (كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟) الدالّ على جواز القضاء بما رأى و شهد؛ بينما العلم الحدسي للقاضي غير حجّة بالبيان الذي عرفت.
ويمكن الاستدلال على هذا التفصيل بوجهين آخرين:
الأوّل ـ ما مضى من حديث سليمان بن خالد عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «في كتاب علىّ (عليه السلام) أنّ نبيّاً من الأنبياء شكى إلى ربّه فقال: ياربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟، قال: فاوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي و أضفهم إلى اسمي فحلّفهم (تحلفهم) به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1). بناءً على أنّ قوله: «فيما لم أرَ ولم أشهد» إشارة الى مطلق العلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ، أو أنّ العرف يتعدى من فرض الرؤية إلى مطلق العلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ، و حينئذ فالحديث دلّ على حصر القضاء باليمين و البيّنة في غير مورد العلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ والقصّة وإن وقعت في زمن الأنبياء السالفين، لكنَّ الظاهر من نقلها في هذا الحديث إمضاء ما فيها من حكم، والظاهر من البيّنة الواردة في آخر الحديث ـ حسب ما هو
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 1 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 167.
', 243), (14, 244, 'book', '
متعارف في باب القضاء ـ هو شهادة عدلين لامطلق ما أفاد العلم.
وقد يقال في مقابل هذا البيان: إنّه كما يمكن تقييد إطلاقات الحكم بالحق والعدل بهذا الحديث كذلك يمكن العكس؛ بأن يقال: إنّ هذا الحديث حصر بإطلاقه مقياس القضاء في غير موارد العلم الحسّي باليمين و البيّنة، ونحن نقيّد هذا الإطلاق بعطف العلم غير الحسي على اليمين و البيّنة لدلالة أدلّة الحكم بالحقّ و العدل على حجّيته، وليس تقييد تلك الأدلّة أولى من تقييد هذا الحديث.
هذا، ولكن قد يقال: إنّ المفهوم من قوله: «كيف أقضي فيمالم أرَ ولم أشهد» أنّه كان المركوز في ذهن هذا النبي أنّ القضاء أوّلا و بالذات ينبغي أن يكون بالعلم الحسّي، فتحيّر في كيفيّة القضاء في غير مورد وجود العلم الحسّي، فاستفسر، فجاء الجواب بالقضاء باليمين و البيّنة. وهذا مع ما نعلمه من كثرة حصول العلم غير الحسّي للقاضي يعتبر كالمتصدّي بالخصوص لعدم حجّيّة العلم غير الحسّي، فتعيّن تقييد إطلاقات الحكم بالحق و العدل.
ولكنّ الإنصاف أنّ هذا الوجه غير تامّ؛ فإنَّ قوله: «كيف أقضي في ما لم أرَ ولم أشهد؟»كما يحتمل فيه كونه ذكراً للرؤية و الشهادة بما هي فرد للعلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ، كذلك يُحتمل فيه كونه ذكراً لها بما هي فرد للعلم، فصحيح أنَّ المتيقن من ذلك هو العلم الحسّي، فلو أُريد الاستدلال بهذا الحديث على حجّيّة علم القاضي لم يدلّ على أكثر من حجيّة العلم الحسّي أو مايقرب من الحسّ، ولكن ليست فيه دلالة على عدم حجّيّة العلم الحدسّي.
الثاني ـ الروايات الدالّة على أنّ الشهادة يجب أن تكون عن حسّ أو ما يقرب منه بدعوى التعدّي من الشهادة إلى القضاء لعدم احتمال الفرق، أو أهونيّة الشهادة من القضاء عرفاً، كالحديث الوارد تارةً عن علىّ بن غياث، وأُخرى عن علىّ بن غراب عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا تشهدنّ بشهادة حتى تعرفها كما
', '', 244), (14, 245, 'book', 'تعرف كفّك»(1). وماعن المحقّق في الشرائع عن النبي (صلى الله عليه وآله) وقد سئل عن الشهادة ـ قال: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد، أودع»(2). فإذا تعدينا من باب الشهادة إلى باب القضاء قيّدنا بذلك إطلاقات القضاء بالحقّ و العدل، إلّا أنّ هذه الروايات غير تامّة سنداً، ولو تمّت قلنا: إنّ احتمال الفرق عقلا بين باب الشهادة وباب القضاء وارد، فلا يمكن التعدّي إلى باب القضاء عقلا، كما أنّ احتمال الفرق عرفّي فلا يمكن التعدّي من تلك الروايات ـ لو تمّت سنداً ـ إلى باب القضاء بدعوى إلغاء العرف الخصوصيّة ووجه الفرق المحتمل عقلا و عرفاً بين البابين هو أنّ الشاهد ليس أمره دائراً بين أن يشهد بالحقّ أو بالباطل، فلو كان علمه غير حسّي فليسكت ولايشهد، ولكن ماذا يصنع القاضي فيما يكون علمه غير حسّي، وقد قام الدليل القضائي من اليمين أو البيّنة على خلاف علمه؟ فأمره دائر بين قضائه بعلمه وقضائه بما يعلم بخطئه. أمّا احتمال أن يحرم عليه القضاء، ويجب عليه السكوت فهو غير وارد لا في الفقه الإسلاميّ ولافي المرتكزات العرفيّة العقلائيّة.
 $
علم القاضي مع شاهد واحد:
يبقى الكلام في أنّ علم القاضي الذي يمكنه أن يشهد به لو لم نقل بنفوذه فيالقضاء بأن يقضي به بلا حاجة إلى البيّنة، فهل نقول بنفوذه كشاهد بأن يصحّ له القضاء بمجرّد أن ينضمّ إليه شاهد آخر، أوْلا؟
لا موضوع لهذا البحث بناءً على مسلك الفقه الوضعىّ القائل بعدم اشتراط
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 8 من الشهادات، ح 3 ص 235، و ب 20 منها، ح 1، ص 250.
(2) نفس المصدر، ب 20، ص 251.
', 245), (14, 246, 'book', '
تعدد الشاهد في البيّنة.
أمّا لو فُرض شرط التعدّد افتراضاً فالمفهوم من الفقه الوضعىّ هو عدم نفوذه كجزء من البيّنة حينما نحتاج إليها، فإنّ نكتة عدم نفوذ علم القاضي عندهم هي أنّ للخصم أن يناقش الدليل، فإذا كان الدليل هو علم القاضي أصبح القاضي خصماً، أو أنّ القاضي إذا كان شاهداً في نفس الوقت فقد تأثّر بشهادته، فلا يصلح للقضاء وفصل الخصومة كما مضى ذلك في أوّل بحث قضاء القاضي بعلمه. وهذه الوجوه ـ كما ترى ـتأتي أيضاً في ما إذا فرض القاضي أحد الشاهدين في البيّنة.
وعلى أىّ حال فمن وجهة نظر فقهنا الإسلاميّ بالإمكان أن يقال: إنّ أدلّة حجّيّة الشهادة في باب القضاء منصرفة عن شهادة نفس القاضي، فهي تبيّن حجّيّة شهادة من يشهد لدى القاضي لاشهادة نفس القاضي، فالذهن لا ينتقل من الشهادة أو البيّنة إلى شهادة الإنسان لدى نفسه.
وفي مقابل ذلك قد يقال: إنّ وضوح عدم الفرق عقلائيّاً بين شهادة القاضي وشهادة أىّ عدل آخر، وعدم تصوّر أىّ ضعف في شهادة العدل حينما يصبح قاضياً يجعل العرف يفهم من دليل نفوذ البيّنة في باب القضاء الإطلاق، وكيف يحتمل العرف الفرق مثلا بين أن يقضي هذا القاضي وفق شهادته وشهادة عدل آخر إلى جانبه، أو أن يذهب هو بصحبة ذاك العدل إلى قاض آخر كي يحكم هو بشهادتهما؟!
فإن تمّ هذا الكلام ثبتت حجّيّة البيّنة التي يكون القاضي جزءاً منها، وإن لم يتمّ هذا الكلام، فقد يقال: إنّه لادليل على حجّيّة البيّنة حتى مع غضّ النظر عمّا أشرنا اليه من إمكانيّة دعوى الانصراف؛ إذ لا إطلاق حَكَمىّ في أدلّة نفوذ البيّنة في باب القضاء لشهادة القاضي، فمثلا قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان» إنّما هو بصدد بيان حصر مدرك قضائه بالبيّنات و الأيمان، أمّا ما هي شروط البيّنات؟ وهل تكفي شهادة نفس القاضي عن أحد فردي البيّنة؟ فليس الحديث بصدد بيان
', '', 246), (14, 247, 'book', 'ذلك. وما مضى من حديث سليمان بن خالد الدالّ على القضاء بالبيّنات و الأيمان قد فرض فيه عدم رؤية القاضي للواقعة؛ حيث قال النبيّ: «يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟» فكيف يمكن افتراض تماميّة الإطلاق الحَكَمي فيه لشهادة نفس القاضي؟! وما ورد من أحاديث كون البيّنة على المدّعي و اليمين على المنكر(1) إنّما هي بصدد بيان من عليه البيّنة لا بصدد بيان شرائط البيّنة، وأنّه هل يجوز أن يكون القاضي جزء من البيّنة أوْلا؟ وما ورد من قبول شهادة المحدود بعد التوبة(2)، أو قبول شهادة المسلم على الكافر(3)، أو نحو ذلك أيضاً ـ كما ترى ـ ليس بصدد البيان من هذه الناحية، فإذا لم يتمّ إطلاق حَكَمي في أدلّة الحجّيّة القضائية للبيّنة وصلت النوبة إلى اليمين.
وقد يُقال: إنّما تصل النوبة إلى اليمين لو قلنا بانصراف البيّنات في قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان» إلى بيّنة لا يكون القاضي جزءاً منها: أمّا لو لم نقل بالانصراف ولم يتمّ الإطلاق أيضاً فقد بقينا حائرين لا ندري ماذا نصنع؟ إذ لا يوجد دليل على حجّيّة البيّنة لعدم الإطلاق حسب الفرض، ولا دليل على حجّيّة اليمين؛ لأنّ اليمين إنّما تصل النوبة إليه بعد عدم البيّنة الحجّة، ونحن نحتمل في المقام كون البيّنة حجّة، فإنّه وإن لم يدلّ الدليل على حجّيّتها لكنّه لم يدلّ أيضاً على عدم حجّيّتها.
والجواب على ذلك: أنّ المفهوم عرفاً ممّا دلّ على كون اليمين هو المرجع بعد فقد البيّنة الحجّة كونه حجّة بعد فقد البيّنة الّتي تتوفّر فيها الحجّيّة القضائيّة الفعليّة، والمفروض في المقام أنه لم تصبح حجّيّة البيّنة فعلية لأنّها لم تصلنا.
$
', '(1) راجع الوسائل، ج 18، ب 3 من كيفيّة الحكم.
(2) و(3) راجع الوسائل، ج 18، ب 36 و 37 و 38 من الشهادات.
', 247), (14, 248, 'book', '
وفي الختام لا بأس بأن نشير إلى أنّ الكتابه و القرائن اللتين جعلها الفقه الوضعي من طرق الإثبات في باب القضاء، ووقع البحث المفصّل حولها عندهم، تكون كلمتنا الإسلاميّة بشأنهما أنّهما متى ما أوجبتا العلم الذي يُعَدُّ من الحسّ أو ما يقرب من الحسّ دخلتا في القضاء بالعلم و إلّا فلا عبرة بهما.
$
', '', 248), (14, 249, 'book', ' $
$
', '', 249), (14, 250, 'book', ' $
$
', '', 250), (14, 251, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
 $
الطريق الثاني - البيّنة. قد اتّفقت كلمة الشريعة الإسلاميّة والفقهاء الوضعيين على أنّ القاعدة الأوليّة في باب القضاء هي مطالبة المدّعي بالبيّنة، ومطالبة المنكر باليمين، ففي الحديث بسند تامّ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه»(1).
وقال أحمد نشأت في كتابه رسالة الإثبات المكتوب وفق القضاء الوضعيّ:
«وممّا تقدم يمكن وضع القاعدة الآتية: المكلّف بالإثبات هو من يدّعي خلاف الثابت أصلا أو عرفاً، أو خلاف الظاهر، أو خلاف قرينة قانونيّة غير قاطعة، أو خلاف قرينة قضائيّة....
والقاعدة الرومانيّة: أنّ المدّعي هو المكلف بالإثبات، وأنّ المنكر لايلزم بإثبات....
والقاعدة الإنجليزيّة: أنّ من يدّعي حقّاً أو يدفعه، أي يدّعي التخلّص منه عليه الإثبات.
41 - أمّا القاعدة الفرنسيّة، فكما جاء في المادّة 1315 من القانون المدنيّ
', '1 ـ الوسائل، ج 18 باب 3 من كيفيّة الحكم ح 1.
', 251), (14, 252, 'book', '
الفرنسيّ (الّتي تقابل عندنا المادّة 289 من القانون المدنيّ القائم، وهي: «على الدائن إثبات الالتزام، وعلى المدين إثبات التخلّص منه» وبمعناها المادّة 214 / 278 من القانون المدني السابق) هي: من يطالب بتنفيذ تعهّد وجب عليه إثباته، ومن ادّعى التخلّص وجب عليه إثبات الدفع الذي انقضى به ذلك التعهّد...»(1)
وعلى أيّ حال، فالكلام في البيّنة يقع ضمن عدّة أبحاث:
1 - معنى المدّعي الذي عليه البيّنة في مقابل المنكر.
2 - شرائط البيّنة.
3 - هل يوجد مورد للاستثناء من القاعدة المعروفَة، أي قاعدة «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»؟ وما هو ذلك المورد؟
4 - هل تقبل البيّنة من المنكر؟
5 - تعارض البيّنات.
 $
$
', '1 ـ رسالة الإثبات ج 1 الفقرة 39 إلى 41 ص 70 و 71.
', 252), (14, 253, 'book', '
 $
 $
$
', '', 253), (14, 254, 'book', ' $
$
', '', 254), (14, 255, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
 $
البحث الأوّل - معنى المدّعي والمنكر:
 $
تعريف المدعي:
وقد ذكرت كلمات كثيرة في تعريف المدّعي من قبيل:
1 - ما ذكره المحققّ في الشرائِع من أنّه: «هوالذي يُترك لو ترك الخصومة». قال في الجواهر: «وقيل: إنّه المشهور» أي هذا التفسير هو المشهور(1).
ويعطي نفس المعنى ما قد يقال: من أنّ المدّعي هو الذي يخلّى وسكوته(2).
2 - إنّ المدّعي هو الذي يكون قوله خلاف الظاهر، ونُسب ذلك إلى مشهور العامّة(3).
3 - إنّ المدعي هو الذي يكون قوله خلاف الأصل(4).
$
', '(1) راجع الجواهر ج 40 ص 371.
(2) راجع الجواهر ج 40 ص 375.
(3) راجع الجواهر ج 40 ص 375.
(4) راجع نفس المصدر والجزء ص 372.
', 255), (14, 256, 'book', '
وقد ذكر في القواعد هذه التعاريف الثلاثة بقوله: «المدّعي هو الذي يُترك لو ترك الخصومة، أو الذي يدّعي خلاف الظاهر، أو خلاف الأصل»(1).
4 - وقد يمزج بين التعريف الثاني والثالث فيقال: إنّ المدّعي هو الذي يدّعي خلاف الأصل أو أمراً خفيّاً(2).
ولعلّ المراد بهما شيء واحد؛ بأنّ يقصد بالأصل الظاهر.
والذي ينبغي أن يكون مقصوداً بالأصل - بناءً على جعله في مقابل الظاهر؛ كي يتحقق التغاير بين التعريفين الثاني والثالث - هو ما يكون ثابتاً شرعاً بغضّ النظر عن المرافعة والقضاء؛ سواء كان ثابتاً بظهور حجّة، أو بأصل شرعيّ، أو بأيّة قاعدة شرعيّة. والحاصل أنّ المقصود بالأصل ينبغي أن يكون هو الحجّة.
5 - واختار المحقّق الآشتياني (رحمه الله): أنّ المرجع هو العرف، فكلّ من أطلق عليه العرف المدّعي يحكم عليه بما هي وظيفته شرعاً سواء وافق قوله الأصل والظاهر، أو خالفهما، أو وافق أحدهما وخالف الآخر(3).
6 - واختار السيّد الخوئي: أنّ المقياس في المدّعي هو من يرى العرف بشأنه أنّ عليه مؤونة الإثبات(4).
واختار صاحب الجواهر (رحمه الله) أنّ الأَولى هو الإرجاع في تمييز المدّعي من المنكر إلى العرف، وذكر: أنّ اختلافاتهم في التعاريف ليست اختلافات حقيقيّة في معنى المدّعي وإن رتّب بعضهم الأحكام عليها عند اختلاف مقتضاها. فهو (رحمه الله) يرى
', '(1) قواعد الأحكام ص 208.
(2) الجواهر ج 40 ص 372.
(3) كتاب القضاء للآشتياني طبع طهران ص 336.
(4) مباني تكملة المنهاج ج 1 ص 42.
', 256), (14, 257, 'book', '
أنّ افتراض ثمرات علميّة تترتب على هذه التعاريف - كما عن بعضهم - غير صحيح، وأنّ هذه التعاريف هي تعاريف ببعض الخواصّ اللازمة، أو الغالبة لإرادة التمييز في الجملة(1).
7 - وورد في بعض عبائره (رحمه الله): «أنّ «المرادبه - يعني المدّعي - الذي قام به إنشاء الخصومة في حقّ له، أو خروج من حقّ عليه سواء وافق الظاهر و الأصل بذلك أو خالفهما، وسواء تُرِك مع سكوته أو لم يُترَكْ، فإنّ المدّعي عرفاً لا يختلف باختلاف ذلك»(2).
أقول: لاينبغي الإشكال في أنّ المرجع هو العرف بعد عدم ورود حقيقة شرعيّة أو متشرّعيّة لكلمتي المدّعي والمنكر، ولكنّ الكلام في أنّه هل يكون أحد التعاريف المتقدّمة مطابقاً لفهم العرف أوْ لا؟ وهل هناك ضابط فنّي لتحديد ما يقوله العرف في المقام أوْلا؟.
كما أنّ ما ذكره السيّد الخوئي من أنّ المدّعي هو الذي يرى العرف أنّ عليه مؤونة الإثبات أيضاً لا كلام لنا فيه؛ لأنّ قاعدة «أَنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» هي شرعيّة وعرفيّة في نفس الوقت، فطبيعيّ أن يكون من عليه الإثبات عند الشرع هو من عليه الإثبات عند العرف وإن وقع بينهما خلاف أحياناً في ذلك بسبب الاختلاف في تشخيص المصداق، وإنّما الكلام في أنّه هل هناك ضابط فنّي لتحديد المدّعي، ولتحديد من عليه الإثبات أوْلا؟
والواقع: أنّ المدّعي بمعناه اللّغويّ صادق على المنكر أيضاً، فإنّه يدّعي الإنكار، ودعوى النفي كدعوى الإثبات تكون دعوى لغةً لامحالة، والمفهوم عرفاً
', '(1) الجواهر ج 40 ص 371 و ص 374 - 375.
(2) الجواهر ج 40 ص 376.
', 257), (14, 258, 'book', '
من كلمة المدّعي في مقابل المنكر هو من يدّعي شيئاً جديداً على المنكر، وإلّا فكلاهما مدّع كما قلنا، ومعنى كونه يدّعي شيئاً جديداً عليه هو أنّه يلزمه بأمر على خلاف ما هو ثابت لولا القضاء، فالمنكر سمّي منكراً لأنّه يدفع عن نفسه الشيء الجديد الذي هو على خلاف الطبع الأوّليّ الثابت، والمدّعي سمّي مدّعياً لأنّه يلزمه بدعوى جديدة، وهذا يعني أنّ الصحيح من التعاريف السابقة هو تعريف المدّعي بأنّه هو الذي يكون قوله خلاف الأصل أو الحجّة، أو تعريفه بأنّه الذي لو تَرك تُرك على تفسير سيأتي من المحقق العراقي (رحمه الله).
أمّا تعريفه بأنّه الذي يكون قوله خلاف الظاهر فبالإمكان تأييده بأنّ معنى المدّعي يجب أن نأخذه من العرف كما أسلفنا، والعرف يرجع إلى ما هو الظاهر لديه، فمن يدّعي خلافه يراه مدّعياً.
ولكنّ الواقع أنّ الظاهر الذي ليس حجّة لدى العرف لايبني عليه العرف، ولايفترض من يخالفه مدّعياً لشيء جديد، والظاهر الذي يكون حجّة لديه يفترض من يخالفه مدّعياً، لا لأنّ كلامه خلاف الظاهر، بل لأنّ كلامه خلاف الحجّة، والحجّة عند الشرع إن تطابقت مع الحجّة عند العرف اتّحد المدّعي لدى الشرع ولدى العرف، وإن اختلفت معها اختلف المدّعي لدى الشرع عن العرف، لا بمعنى الاختلاف في تفسير معنى المدّعي، بل بمعنى الاختلاف في التطبيق. فإن أراد من يفسّر المدّعي بمن خالف قوله الظاهر هذا المعنى فقد رجع ذلك إلى التفسير المختار.
وأمّا تعريف المدّعي بأنّه الذي لو تَرك تُرك، أو الذي يُخلّى وسكوته، فإن فُسِّر بمعنى من بيده - عملا - رفع النزاع الى الحاكم، ولو جلس في بيته لا نتهى النزاع، فهذا واضح البطلان؛ إذلا أتصوّر أحداً يقبل أن يقال: إنّ من يدّعي أداء الدين منكر ومن ينكره هو المدعي؛ إذ لو سكت هذا المنكر - اى من ينكر أداء الدين - وجلس في بيته لانتهى النزاع عملا.
$
', '', 258), (14, 259, 'book', 'وإن فُسّر بما فسر به المحقّق العراقي (رحمه الله): من أنّ المدّعي هو الذي لو ترك إِلزام الآخر بخلاف الحجّة الفعليّة، وأبقى الوضع على طبعه الأَوّلي لتُرك، وانتهت الخصومة(1)، فهذا صحيح وراجع إلى التعريف الثالث من كون المدّعي من يخالف الأصل.
أمّا ما جاء في بعض عبائر الجواهر من (أنّ المراد به الذي قام به إنشاء الخصومة في حقّ له، أو خروج من حقّ عليه)، فكان بالإمكان إرجاعه إلى التعريف الأوّل، أو التعريف الثالث لولا تكميل العبارة بقوله: «سواء وافق الظاهر والأصل بذلك أو خالفهما، وسواء ترك مع سكوته أو لم يترك - ... -». أمّا بعد إضافة هذه التكملة فالعبارة مشوّشة.
هذا، ومن الغريب ما جاء في الجواهر كمناقشة لتعريف المدّعي بأنّه من خالف قوله الأصل - لو لم يحمل على مجرد الإشارة إلى معنى عرفيّ -: من أنّه قديناقش في هذا التعريف بأَنّ فيه إجمالا؛ لأنّه إن كان المراد مخالفة مقتضى كلِّ أَصل بالنسبة إلى تلك الدعوى فلاريب في بطلانه ضرورة أَعمّيّة المدّعي من المخالفة للأصل، فإنّ كثيراً من أفراده موافقة لأصل العدم وغيره، ولكنّها مخالفة لأصل الصحّة ونحوه، وإن أُريد مخالفة أصل في الجملة فلا تمييز فيه عن المنكر الذي قد يخالف أصلا من الأُصول(2).
وفيه: أنّ المقياس هو الأصل الذي يكون حجّة في المقام لولا النزاع، وهو حتماً بعض هذه الأُصول المتضاربة لاكلّها.
وعلى أيّ حال، فخلاصة الكلام هي: أنّ عمدة التعاريف هي التعاريف
', '(1) كتاب القضاء ص 104 - 105.
(2) الجواهر ج 40 ص 373.
', 259), (14, 260, 'book', '
الثلاثة الأُولى، والمختار منها هو الثالث إن فُسّر الأصل بمعنى الحجّة، أو الأوّل بالتفسير الذي استفدناه من كلام المحقّق العراقي (رحمه الله) و الذي يرجع به إلى التفسير الثالث.
بقيت هنا اُمور:
 $
العبرة بالمصبّ أو بالنتائج؟
الأمر الأوّل - هل العبرة في تشخيص المدّعي والمنكر بمصبّ الدعوى، أوالنتائج التي يُلزم بها أحد الطرفين؟
ذكر صاحب الجواهر (رحمه الله) في مسألة الاختلاف في مقدار الأُجرة في إيجار العين(1): أنّ المشهور هو: أنّ القول قول المستأجر بيمينه إلى أن قال: «قد يقال: إنّ المتّجه التحالف إذا فرض كون مصبّ الدعوى منهما في تشخيص العقد الذي سبَّب الشغل - يعني هل هو العقد على الخمسة، أو العقد على العشرة مثلا - ... نعم، لو كانت الدعوى بينهما في طلب الزائد وإنكاره وإن صرّحا بكون ذلك من ثمن الإجارة، كان الموجر حينئذ المدّعي والمستأجر المنكر، بخلاف الأوّل الذي لايشخّص الأَصل أحدهما؛ إذ كلّ منهما أَمر وجودي والأصل عدمه، والفرض أنّه شخص واحد لاشخصان».
أقول: إنّ هذه العبارة صريحة في فرض أنّ العبرة في تشخيص المدّعي والمنكر بمصبّ الدعوى، كما أنّ ما عن المشهور من كون القول قول المستأجر بيمينه يعني أنّ العبرة بالنتيجة.
$
', '(1) الجواهر ج 40 ص 456 - 458.
', 260), (14, 261, 'book', '
ولا يخفى أنّ هذا البحث لامجال له بناءً على أنّ الضابط في تشخيص المدّعي والمنكر هو مخالفة الظاهر وموافقته، فإنّ مصبّ الدعوى والنتيجة متلازمان في الظهور وعدمه، فإنّ النتيجة هي ثمرة ذاك المصبّ، والمصبّ هو مُنتِجُ تلك النتيجة، ومايكون ظاهراً في أحدهما فهو ظاهر في ملازمه لامحالة.
كما لامجال أيضاً لهذا البحث بناءً على أنّ الضابط في تشخيص المدّعي والمنكر هو أن يكون الذي إذا تَرك تُرك مدّعياً والآخر منكراً - ما لم يرجع الى مسألة مخالفة الأصل وموافقته بالتوجيه الذي مضى من المحقق العراقي (رحمه الله)؛ إذ من الواضح أنّ من يترك إلزام الآخر بالنتيجة وهي الخمسة الزائدة في المثال الماضي هو الذي لو تَرك الخصومة تُرك، ومصبّ الدعوى لايلعب دوراً مغايراً لذلك.
وإنّما الذي يمكن أن يتصور بدواً - من التعريفات الثلاثة المهمّة للمدّعي - مورداً لفتح بحث من هذا القبيل - وهو البحث عن أنّ المقياس هل هو مصبّ الدعوى أو النتيجة - هو التعريف المختار، وهو أنّ المدّعي من خالف قوله الأصل، والمنكر من وافق قوله الأصل، أو أنّ المدّعي من إذا تَركَ تُرك بالتفسير الماضي عن المحقّق العراقي (رحمه الله)، فيقُال مثلا في مسألة الاختلاف في مقدار الأُجرة - إذا جَعَلا مصبّ النزاع نفس الإيجارين -: إنّه بناءً على كون المقياس هو مصبّ الدعوى فكلّ منهما مدّع لعقد على خلاف الأصل ومنكر لعقد آخر، وبناءً على كون المقياس النتيجة فالموجر مدّع والمستأجر منكر؛ لأنّ الموجر يدّعي مبلغاً إضافياً ينكره المستأجر.
وذكر المحقّق العرافي (رحمه الله): أنّ الصحيح هو أنّ المقياس قيام الحجّة على نفي الجهة الملزمة المترتبة على الدعوى، لا الحجّة على محطّ الدعوى محضاً؛ لأنّ المدّعي هو الذي لو ترك مخالفة الإلزام الثابت بالأصل والحجّة لتُرك، وهذا إنّما يصدق على من يطالب بالإلزام بالنتيجة التي يكون مقتضى الأصل والحجّة خلافها. أمّا مجرد
', '', 261), (14, 262, 'book', 'كون دعواه للإيجار على الخمسة مثلا خلاف أَصالة عدم هذا الإيجار، فلا يجعله بحيث لو ترك مخالفة ما عليه - عملا بمقتضى القواعد الأوّلية لولا النزاع - لتُرك(1).
أقول: هذا البيان إنّما جاء بعد فرض إرجاع التعريف بمن اذا تَرك تُرِك إلى التعريف بمخالفة الأصل، مع الاحتفاظ بعنصر أنّ تركه يوجب الترك، أمّا لو قلنا بمجرّد أنّ المدّعي من خالف قوله الأصل فلم يظهر لحدّ الآن أنّ المقياس هو مصبّ الدعوى أو النتيجة.
وذكر أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)(2) فيما لو اختلفا في نقل أحدهما للكتاب مثلا إلى الآخر، هل كان بالبيع أو بهبة لازمة؟ والذي يترتب على ذلك أنّه على الأوّل له المطالبة بالثمن، ومع عدم تسليمه فله خيار الفسخ، وعلى الثاني ليس له هذا ولا ذاك - أنّ في بحث القضاء كلاماً حول أنّ تشخيص المدّعي والمنكر هل يكون بنفس مصبّ الدعوى، أو بالإلزامات التي يدّعيها أحد هما على الآخر؟ والمختار هو الثاني، ولو فرضنا الأوّل وهو كون تشخيص المدّعي والمنكر بلحاظ مصبّ الدعوى، فقد يتوهّم أنّ المورد مورد التحالف. ولكنّ التحقيق أنّ من يدّعي البيع هو المدّعي، وأنّ الحلف يكون لمن يدّعي الهبة؛ لأنّ تحالفهما فرع أن تكون هناك خصومتان: خصومة حول البيع، وخصومة حول الهبة، وليس الأمر كذلك، فإنّه وإن كان هناك تكاذبان ولكن ليس كلّ تكاذب تطبّق عليه قوانين الخصومة؛ مثلا لو تكاذب شخصان في نزول المطر وعدمه من دون أن يكون ذلك مثمراً لثمر إلزاميّ
', '(1) كتاب القضاء للمحقق العراقي ص 105.
(2) مأخوذ من تقريري لأُصوله (رحمه الله) لآخر بحث القطع في الفرع الرابع من فروع فرضيّة ترخيص الشارع لمخالفة القطع. (راجع مباحث الاصول الجزء الاول من القسم الثاني ص 248 ـ ص 253).
', 262), (14, 263, 'book', '
لأحدهما على الآخر، فهل هذا يعتبر خصومة ترفع إلى الحاكم؟! طبعاً لا. والهبة في ما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ لايترتب على الهبة شيء عدا ملكيّة الكتاب الّتي هي مترتبة على البيع أيضاً، فكلاهما معترفان بها، فدعوى الهبة لم توجب خصومة بينهما، وإنّما الّتي أو جبت الخصومة هي دعوى البيع الّتي يترتب عليها إلزام المشتري بالثمن وثبوت الخيار على تقدير عدم تسليم الثمن ...».
أقول: هذا البيان في غاية المتانة؛ إلّا أنّه لم يكن ينبغي الاعتراف بالإثنينيّة بين فرض كون المقياس لتشخيص المدعي والمنكر هو النتيجة الالزامية أو هو مصبّ الدعوى واختيار الاوّل وجعل هذا البيان دليلا على انه حتى على الثاني يكون مدّعي البيع فى المقام هو المدّعي ومدّعي الهبة هو المنكر، بل كان ينبغي ان يجعل هذا البيان دليلا على ان البحث عن كون المقياس في تشخيص المدّعي هو مصبّ الدعوى أو النتيجة الإلزامية لا مورد له حتى على مبنى كون المدّعي هو من يخالف قوله الاصل أو أنّه من اذا تَرك تُرِك بتفسير يشابه التفسير بمخالفة الاصل. وذلك لوضوح أنه اذا أخرجنا من الحساب الدعوى التى لاتؤثّر على النتيجة، فالأصل في الدعوى الأخرى التى تؤثّر على النتيجة مع الاصل فى النتيجة إمّا يتوافقان، أو يتقدّم أحدهما على الآخر بالحكومة فيكون أصلا للمصبّ والنتيجة معاً.
هذا، واستدلّ المحقّق العراقيّ (رحمه الله)(1) أيضاً على كون المقياس هو الأصل في النتائج والإلزامات لا في مصب الدعوى بالحديث الوارد في الاختلاف حول دعوى الوديعة أو الرهن، وهو ما ورد بسند تامّ عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال في رجل رهن عند صاحبه رهناً، فقال الذي عنده الرهن: ارتهنته عندي بكذا وكذا، وقال الآخر: إنّما هو عندك وديعة، فقال: «البيّنة على
', '(1) كتاب القضاء ص 105 - 106.
', 263), (14, 264, 'book', '
الذي عنده الرهن أنّه بكذا وكذا، فإن لم يكن له بيّنة فعلى الذي له الرهن اليمين»(1)؛ إذ لوكان المقياس هو الأصل في مصبّ الدعوى، لكان المورد مورداً للتداعي؛ لأنّ كلّا ً من الوديعة والرهن أمر وجوديّ محكوم بأصالة العدم.
إلّا أنّه يوجد في مقابل هذا الحديث ما دلّ على أنّ البيّنة على مدّعي الوديعة واليمين على مدّعي الرهن، فقد يُقال: إنّ هذا يدلّ على أنّ المقياس في تشخيص المدّعي هو المصبّ لا النتيجة، فإنّ الرهن والوديعة مصبّان للدعوى، فيفترض أنّ يده على هذه العين دليل على صدق دعواه للرهن، ولو كان المقياس هو النتيجة لجرت أصالة عدم الدين.
وحتى لو لم يدّل على أنّ المقياس هو المصبّ، بل دلّ على أنّ المقياس هو النتيجة كما هو الحال في الحديث الأوّل، فبعد تعارض الحديثين في أنّ المدّعي هل هو من يدّعي الرهن أو هو من يدّعي الوديعة وتساقطهما، لايبقى لنا دليل روائي على كون المقياس هو النتيجة.
إلّا أنّ الصحيح عدم وجود تعارض بين الحديثين كما يظهر بالتدقيق في متن الحديث الأوّل، وقد مضى، وفي متن الحديث الثاني وهو ما ورد بسند تامّ عن عباد ابن صهيب، قال: «سألت أباعبداللّه (عليه السلام) عن متاع في يد رجلين، أحدهما يقول: استودعتكه، والآخر يقول: هو رهن. قال: فقال: القول قول الذي يقول هو انّه رهن، إلّا أن يأتي الذي ادّعى أنّه أودعه بشهود»(2).
فبالتدقيق في الحديثين يظهر أنّ موضوع الحديث الأوّل هو الاختلاف في الرهن والدَّين؛ إذ يقول: «فقال الذي عنده الرهن: ارتهنته عندي بكذا وكذا»،
', '1 ـ الوسائل ج 13 باب 16 من أحكام الرهن ح 1 ص 136.
(2) نفس المصدر ح 3 ص 137.
', 264), (14, 265, 'book', '
ويقول: «البيّنة على الذي عنده الرهن أنّه بكذا وكذا»، وهذا ظاهره أنّ من يدّعي الوديعة ينكر الدَّين المفروض كون هذا رهناً له، وفي هذا الفرض يكون الأصل مع مدّعي الوديعة؛ لأنّ الدَّين خلاف الأصل، ويده على العين ليست عرفاً أمارة على صدقه في دعوى الرهن في مقابل مالك العين الذي اقتضى الأصل براءة ذمّته عن الدَّين، أي أنّ أمارّية هذه اليد على الدَّين غير عرفيّة، وأماريّتها على الرهنيّة حتى مع نفي الدين بالأصل أيضاً غير عقلائيّة.
أمّا في الحديث الثاني فلم يأتِ أيّ ذكر عن الدَّين، وإنّما فُرض فيه الاختلاف في الرهن والوديعة، وهذا ينسجم حتى مع افتراض كون الدَّين متّفقاً عليه في ما بينهما، وإنّما الخلاف في الرهن على ذاك الدين وعدمه، فإذا فرض النزاع في عنوان الرهن والوديعة فحسب ولم يفرض أيّ نزاع آخر، قيل: إنّ الأصل مع مدّعي الرهن؛ لأنّه ذواليد وأمين فيُقبل كلامه. ولو سلّم إطلاق الحديث لفرض امتداد النزاع إلى الدَّين قيّد بالحديث الأوّل.
ويشهد لهذا الجمع ماورد من حديث يُفصِّل بين ما إذا كان النزاع في زيادة الدَّين فالأصل مع منكر الزيادة، وما إذا كان النزاع في الرهن مع تسليم الدَّين فالأصل مع مدّعي الرهن، وهو ماورد بسند تامّ عن الحسن بن محمد بن سماعة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا اختلفا في الرهن: فقال أحدهما: رهنتُه بألف، وقال الآخر: بمائة درهم، فقال: يسأل صاحب الألف البيّنة، فإن لم يكن بيّنة حلف صاحب المائة، فإن كان الرهن أقلّ ممّا رهن به أو أكثر واختلفا، فقال أحدهما: هو رهن، وقال الآخر: هو وديعة، قال: على صاحب الوديعة البيّنة، فإن لم يكن بيّنة
', '', 265), (14, 266, 'book', 'حلف صاحب الرهن»(1).
فقوله: «إن كان الرهن أقلّ ممّا رهن به أو أكثر» ظاهر في أنّ أصل الدَّين مفروغ عنه.
هذا، وصدر الحديث الدالّ على أنّ مدّعي الزيادة هو الذي عليه البيّنة، ومنكر الزيادة هو الذي يحلف مطابق لروايات أُخرى أيضاً(2)، ما عدا رواية واحدة دلّت على أنّ للمرتهن حقّ حبس العين إلى أن يُعطى ما يدّعيه، وهي ما عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن عليّ (عليه السلام) في رهن اختلف فيه الراهن والمرتهن، فقال الراهن: هو بكذا وكذا، وقال المرتهن: هو بأكثر. قال عليّ (عليه السلام): «يصدّق المرتهن حتى يحيط بالثمن؛ لأنّه أمين»(3). وسند الحديث غير تامّ.
هذا، والجمع الذي ذكرناه بين الحديث الأوّل الدالّ على أنّ مدّعي الرهن هو المدّعي والحديث الثاني الدالّ على العكس خير من جمع الشيخ الطوسي (رحمه الله) من حمل الحديث الأوّل على البيّنة في مقدار ما على الرهن(4)، فإنّ هذا خلاف الظاهر جداً؛ إذ لم يفرض في الحديث أيّ اختلاف في مقدار ما على الرهن.
وعلى أيّ حال، فبعد ما وضّحناه من أنّه لا فرق بين أصل المصبّ وأصل النتيجة لسقوط الدعوى الّتي لا تؤثّر على النتيجة عن الحساب، لايبقى مورد للاستدلال بالحديث الأوّل على أنّ المقياس هو النتيجة دون المصبّ.
$
', '(1) الوسائل ج 13 صدر الحديث في باب 17 من أحكام الرهن ح 2، وذيله في باب 16 من أحكام الرهن ح 2.
(2) راجع الوسائل ج 13 باب 17 من أحكام الرهن.
(3) نفس المصدر ح 4 ص 138.
(4) التهذيب ج 2 ص 165.
', 266), (14, 267, 'book', '
 $
تعيين المنكر بخبر الثقة:
الأمر الثاني - هل ينقلب المدّعي منكراً بسبب إخبار ثقة واحد بصحّةمدّعاه ـ بناءً على تفسير المدّعي بمن خالف قوله الأصل - اولا؟ قد يخطر بالبال انقلابه منكراً بذلك؛ باعتبار أن خبر الثّقة حجّة وأصل يرجع اليه في ذاته وبقطع النظر عن باب القضاء، فمن طابق قوله مفاد خبر الثقة، فقد أصبح قوله مطابقاً للحجّة والأصل، وهذا هو المنكر.
وقد يؤيّد ذلك بالروايات الواردة في قبول قول المدّعي بشاهد واحد ويمينه(1) فهذا يعني أن الشاهد الواحد جعله منكراً، فيكتفى عندئذ بيمينه.
والواقع أنّنى لاأظنّ أحداً يلتزم بهذه النتيجة أعني انقلاب المدّعي منكراً بواسطة قيام خبر الثقة على وفق مدّعاه. والروايات الواردة في قبول قول المدّعي بشاهد واحد ويمينه أجنبيّة عن المقصود ... .
فإنّ المقصود منها قيام اليمين مقام الشاهد الآخر لا انقلابه منكراً، ولذا لا يطالَب صاحبُه بالبيّنة بعد إقامته شاهداً واحداً، وأيضاً لاتكفي منه اليمين لو كان شاهده فاسقاً ثقة حتى على القول بأنّ حجيّة خبر الواحد غير مشروطة بالعدالة وتكفي فيها الوثاقة.
وأمّا شبهة انقلاب المدّعي منكراً بقيام خبر الثقة وفق مدّعاه فهي متوقفة على الإيمان بحجّيّة خبر الثقة في الموضوعات مطلقاً لا في خصوص الموضوعات الّتي يتوقّف عليها إثبات الحكم الكلّي، كوثاقة المخبر أو خبر المخبر. أمّا لو أنكرنا حجّيّة
', '(1) راجع الوسائل ج 18 باب 14 و 15 من كيفية الحكم ص 193 - 198.
', 267), (14, 268, 'book', '
خبر الثقة في الموضوعات إمّا مطلقاً، أو في غير ما يتوقف عليه إثبات الحكم الكلّي، فلا موضوع لهذه الشبهة.
 $
خبر الثقة في الموضوعات:
وتوضيح الكلام في ذلك: أنّه قد يقال بعدم حجّيّة خبر الثقة في الموضوعاتمطلقاً؛ لعدم شمول مفاد السنّة القطعيّة الدالّة على حجيّة خبر الثقة لها؛ لأنّها واردة في باب الأحكام، وعدم ثبوت السيرة أيضاً، وهما عمدة أدلة حجّيّة خبر الثقة. وبهذا تنهار حجّيّة جميع ما بأيدينا من الأخبار غير القطعيّة؛ لأنّها تتوقّف على إثبات إخبار المخبر؛ إذ هي واصلة إلينا بالوسائط، وأحياناً تتوقّف على إثبات وثاقة المخبر بخبر ثقة واحد.
ولأستاذنا الشهيد (رحمه الله) بيان ذكره في ذيل آية النبأ في بحث مشكلة الأخبار مع الواسطة لإرجاع الأخبار مع الواسطة الى الخبر بلاواسطة وقد ذكر ذلك لحل المشكلة الثبوتية في الأخبار مع الواسطة فلو قبل ذلك في حل المشكلة الإثباتيّة أيضاً أي في تمامية الإطلاق عرفاً لمثل ماأدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي بدعوى أنّ هذا أيضاً اداء عن الامام بلاواسطة انحلّت لنا مشكلة الإخبار بالإخبار لكن بقيت مشكلة إثبات الوثاقة بخبر الواحد.
وأيضاً قد يحلّ الإشكال بدعوى أن سيرة المتشرعة كانت قائمة بالعمل بالأخبار حتى التى كانت مع الوسائط، وأنّ قوله في التوقيع الشريف الذي هو شبه قطعي كما أشرنا إليه في كتاب أساس الحكومة الإسلامية: (أمّا الحوادث الواقعة
', '', 268), (14, 269, 'book', 'فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا)(1) إن لم يشمل الرجوع فيه الرجوع إلى الرواة لأَخذ الروايات، فلا أقلّ من دلالته على أنّ الروايات الّتي وصلت إلى من نرجع إليه تكون حجّة له، وإلّا فكيف نرجع إليه؟! وتلك الروايات غالبها روايات مع الوسائط، خاصّةً وأنّ التوقيع الشريف باعتبار صدوره من الإمام الغائب (عليه السلام)ناظر إلى الزمان الطويل إلى ظهوره (عليه السلام) على ألأقلّ، فهي تدلّ على أنّ وجود الواسطة لا يضرّ بحجّيّة الرواية، وهذا يعني ثبوت خبر المخبر الذي هو موضوع لاستنباط الحكم بخبر الواحد.
نعم، هذا لايدلّ على ثبوت وثاقة المخبر بخبر الواحد بناء على دعوى احتمال اختصاص الحجّيّة بالروايات التي ثبتت وثاقة رواتها بالقطع أو بالبيّنة؛ لأنّ التوقيع لم يكن ابتداءً بصدد بيان مدى حجّيّة الروايات كي نتمسك فيه بالإطلاق ومقدمات الحكمة مع دعوى احتمال الفرق عرفا بين الإخبار بالإخبار والإخبار عن الوثاقة بحجّيّة الاول دون الثاني؛ ولو بالنكتة التي بيّنها استاذنا الشهيد لإرجاع الإخبار بالإخبار الى الإخبار بلاواسطة. فحتى الآن بقيت مشكلة إخبار الثقة الواحد بالوثاقة بلاحلّ.
وعلاج ذلك يكون باحد وجوه:
الاول - دعوى ان سيرة المتشرعة المعاصرة كما قامت على حجية خبر الواحد ولو مع الواسطة، كذلك قامت على اثبات وثاقة المخبر بخبر الواحد؛ لأنه من البعيد جدّاً ان الأخبار مع الواسطة التي كانت وقتئذ كانت وثاقة رواتها محرزة للكل خاصّة في زمن الأئمّة المتأخرين، والابتداء بتلك الأخبار كان شائعاً، فإن لم تكن السيرة على العمل بها ولم تكن حجة لكثر السؤال عنها والإجابة بالنفي من
', '(1) الوسائل ج 18 باب 11 من صفات القاضي ح 9 ص 101.
', 269), (14, 270, 'book', '
قبل الامام، ولكان يصلنا ذلك.
الثاني - أن يقال: إنّنا نثبت بالتوقيع الشريف حجّيّة كلّ خبر مع الواسطة الذي تكون كلّ وسائطه ثابتة الوثاقة باليقين أو البيّنة، ومنها ما رواه الكشّي في كتابه عن محمد بن قولويه عن سعد بن عبداللّه عن أحمد بن محمد بن عيسى عن عبداللّه بن محمد الحجّال عن يونس بن يعقوب - وهؤلاء كلّهم مسلّموا الوثاقة عند الأصحاب - قال: «كنّا عند أبي عبداللّه (عليه السلام) فقال: أمالكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟! ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري»؟!(1)وهذا الحديث يفهم منه جواز الاستراحة والفزع إلى مايعطيه الحارث من أخبار معالم الدين، والتي يكون كثير منها بواسطة من يشهد هو بوثاقته.
الثالث - أن يقال: إنّ العرف لا يحتمل الفرق بين نقل كلام الإمام الذي هو نقل للحكم الشرعي عن الإمام ونقل الموضوع الذي يترتب عليه استنباط الحكم الشرعيّ الكلّيّ للإمام، فكلّ حديث دلّ على حجّيّة خبر الثقة في الأوّل دلّ عليها في الثاني، خاصّة وأنّ نقل الحكم الشرعي من الإمام يرجع غالباً بالدقّة إلى نقل الموضوع؛ إذ هو ينقل غالباً ظهور كلام الامام الذي هو موضوع لكبرى حجية الظهور.
الرابع - أن يقال بالرجوع في توثيق الرواة الى أضراب الشيخ الطوسي والنجاشي لكونهم من أهل الخبرة، ولا أقصد بذلك التقليد لهم و الأخذ بحدسيّاتهم في الوثاقة، فإنّ الوثاقة من الامور القريبة من الحسّ، ولايقبل فيها الحدس، ولكن أقصد بذلك الرجوع إليهم من سنخ الرجوع إلى حسيّات اللغويّين الذي يدخل في كبرى الرجوع إلى أهل الخبرة بالبيان الذي بيّنه اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في مبحث
', '(1) الوسائل ج 18 باب 11 من صفات القاضي ح 24 ص 105.
', 270), (14, 271, 'book', '
حجيّة قول اللغوي.
هذا، وقد يتعدّى من الإخبار عن وثاقة الراوي إلى الإخبار عن اجتهاد الشخص، كما عن السيّد الحكيم (قدس سره) في المستمسك من الاستدلال على حجّيّة إخبار الثقة عن مثل اجتهاد الشخص، أو وثاقة الراوي: بأنّ المراد من عموم ما دلّ على حجّيّة الخبر عن الأحكام الكلّيّة ما يؤدّي إلى الحكم الكلّيّ سواءً كان بمد لوله المطابقي أم الالتزامي(1).
وأُستاذنا الشهيد (رحمه الله) قد نقل ذلك في كتابه، وأورد عليه(2): بأنّ دليل حجّيّة الخبر في الشبهة الحكميّة لم يدلّ على حجّيّة الخبر عن الحكم الكلّي بهذا العنوان ليبذل الجهد في إرجاع بعض الأخبار في الموضوعات إلى الخبر عن الحكم الكلّي بالالتزام، وإنّما دلّ الدليل - المتحصّل من السنّة المتواترة إجمالا - على مضمون مثل قوله: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان، وما قالالك فعنّي يقولان، فاسمع لهما واطع، فإنّهما الثقتان المأمونان»، فموضوع الحجّيّة هو الخبر الذي يعتبر أداءً عن الإمام، وهذا ينطبق على خبر زرارة دون خبر العادل عن الاجتهاد.
أقول: والإخبار عن الوثاقة رغم أنه ليس أداءً عن الامام قد اَمّنا بحجيته، لكن الوجوه التي عرفتها لذلك لاتثبت حجية الاخبار عن الاجتهاد، ولايعتبر ذلك بالنسبة للعامّيّ من كلام أهل الخبرة؛ لأن تشخيص الاجتهاد كثيراً مّايتمّ للعامّيّ بالقطع واليقين عن طريق الشهرة ونحوها، فليس هو ممايتوقف فهمه في العادة على التعبّد برأى اهل الخبرة.
وعلى أيّ حال: فحجّيّة إخبار الثقة عن الموضوع الذي يترتب عليه ثبوت
', '(1) مستمسك العروة الوثقى ج 1 ص 38 - 39.
(2) بحوث في شرح العروة الوثقى ج 2 ص 84 - 85.
', 271), (14, 272, 'book', '
الحكم الكلّي إن تمت مطلقاً .
أو في الجملة لاتبرّر انقلاب المدّعي منكراً في ما نحن فيه بسبب قيام خبر الثقة وفق مدّعاه، وإنّما الذي قد يوجب ورود شبهة انقلاب المدّعي منكراً فيما نحن فيه بفرض إخبار ثقة وفق ما يدّعيه المدّعي هو دعوى حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات مطلقاً، كما ذهب اليه أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في البحوث، ودليله على ذلك أمران:
أحدهما - دعوى السيرة العقلائيّة على العمل بخبر الثقة في الموضوعات، وعدم اختصاص السيرة بخصوص باب الأحكام.
وثانيهما - مثل قوله: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان» فهذا التعبير يُفهم تعليل حجّيّة أدائه عن الإمام (عليه السلام) بالوثاقة، والتعليل إشارة إلى كبرى كلّيّة قد تتردّد سعة وضيقاً بين عدة كبريات، فالمفروض الاقتصار على أضيق كبرى تشمل المورد ما لم تكن هناك كبرى معهودة عرفاً، ومن المركوز مناسبتها للصغرى المصرّح بها، وإلّا فهذا الارتكاز بنفسه قرينة على ملء الفراغ بتقدير تلك الكبرى المعهودة، ولو كانت أوسع من مقدار الحاجة إلى اقتناص النتيجة الواردة في مورد النصّ. ومقامنا من هذا القبيل، فإنّ الحاجة إلى اقتناص النتيجة بحسب المورد يكفي فيها تقدير حجّيّة خبر الثقة في الأحكام كبرى في القياس، ولكن حيث إنّ كبرى حجّيّة الثقة بنحو أوسع مركوزة، فينصرف ملء الفراغ إليها حفظاً لمناسبات الصغرى والكبرى المركوزة في الذهن العرفي، ومعه يتمّ الاستدلال على المطلوب(1).
أقول: لايتوهّم أنّ هذا رجوع إلى الاستدلال بالسيرة، فإنّ السيرة العقلائيّة
', '(1) بحوث في شرح العروة الوثقى ج 2 ص 90 - 91.
', 272), (14, 273, 'book', '
بحدّ ذاتها غير حجّة، وإنّما الحجّيّة لموافقة الشارع، وموافقته تارةً تكشف بعدم الردع، وهذا هو الوجه الأوّل، وأُخرى تكشف بدلالة لفظيّة وإن كانت نفس السيرة دخيلة في تكوّنها. ويظهر الأثر العمليّ فيما لو احتملنا الردع من دون أن يثبت بدليل خاصّ؛ كي يكون رادعاً عن السيرة وفي نفس الوقت مقيِّداً لعموم التعليل، فإذا احتملنا الردع، ولم يكن هناك ما ينفيه ولا ما يثبّته، فهذا يضرّ بالدليل الأوّل وهو التمسّك بالسيرة، ولكن لايضرّ بالدليل الثاني وهو التمسّك بعموم التعليل. هذا، ولايمكن دعوى اختصاص السيرة بالشبهات الحكمّية فيما بين العقلاء، أي في تفهيم وتفهّم أغراضهم فيما بينهم، وعدم جريانها بالنسبة للشبهات الموضوعيّة، وهي محل الكلام فعلا، وذلك لأنّ التفصيل بين الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة بالحجّيّة في إحداهما دون الأُخرى لايكون إلّا أمراً تعبّديّاً بحتاً، وهذا بعيد عن مذاق العقلاء.
وعلى أيّ حال فقد يدّعى ورود الردع عن السيرة المدّعاة في المقام لو تمّت في نفسها في موارد الشبهات الموضوعيّة، وذلك إمّا بحديث عام، أو بأحاديث خاصّة في موارد متفرقة يقتنص العرف منها الردع عن كبرى السيرة.
أمّا الحديث العام، فهو عبارة عن حديث مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سمعته يقول: كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أُختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة»(1).
$
', '(1) الوسائل، ج 12 باب 4 من ما يكتسب به ح 4 ص 60.
', 273), (14, 274, 'book', '
وأورد أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)(1)على رادعيّة هذا الحديث بوجهين(2):
أحدهما - أنّ رواية واحدة لاتكفي لإثبات الردع؛ لأنّ مستوى الردع يجب أن يتناسب مع درجة قوّة السيرة وترسّخها، ومثل هذه السيرة على العمل بخبر الثقة لو كان الشارع قاصداً ردعها لأصدر بيانات كثيرة، ولوصلتنا منها نصوص عديدة، كما حدث بالنسبة للقياس، ولما اكتفى بإطلاق خبر من هذا القبيل.
والثاني - أنّ الرواية ضعيفة السند. وأورد أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)(3)على الإشكال بضعف سند الرواية بأنّ احتمال صدقها يوجب على الأقلّ احتمال الردع، وهو كاف لإسقاط السيرة عن الحجّيّة.
وأجاب ـ رضوان اللّه عليه ـ على ذلك(4) بأنّ عدم الردع قبل الإمام الصادق (عليه السلام) في صدر الإسلام محرز؛ لعدم نقل ما يدلّ على الردع، ويكشف ذلك عن الإمضاء حدوثاً، فإذا أوجب خبر مسعدة الشكّ في نسخ ذلك الإمضاء جرى استصحاب الإمضاء.
أقول: إنّ هذا الكلام يمكن أن يورد عليه: بأنّ ما يظهر من هذا الكلام من أنّ عدم وصول الردع عمّا قبل الإمام الصادق (عليه السلام) دليل الإمضاء غير صحيح؛ لأنّه أساساً النصوص الواصلة في الأحكام قبل الإمام الصادق (عليه السلام)قليلة، فلعلّ هذا من جملة الأحكام التي لم تصلنا عمّا قبل الإمام الصادق (عليه السلام).
إلّا أن يفترض أنّ رسوخ السيرة يكون بنحو لوكانت مردوعة لوصل الردع
', '(1) بحوث في شرح العروة الوثقى ج 2 ص 86 - 87.
(2) الوجوده المذكورة في البحوث خمسة، لكن الذي وافق عليه أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) اثنان.
(3) نفس المصدر ص 86.
(4) نفس المصدر ص 86.
', 274), (14, 275, 'book', '
حتى عمّا قبل الإمام الصادق (عليه السلام).
ولعلّ مراده ـ رضوان اللّه عليه ـ وإن كانت العبارة لاتساعد عليه: أنّ هذه السيرة في صدر الإسلام كانت ممضاة، حيث إنّ الإسلام أقرّ أوّلا كلّ ما بيد العقلاء من نظم وقواعد، ولم يغيّر شيئاً عدا إيجاب الاعتراف بالتوحيد والرسالة، فإذا شككنا بعد ذلك في نسخ جاء الاستصحاب.
وهذا أيضاً قابل للمناقشة بأن يقال: إنّ المستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله) في صدر الشريعة «قولوا لاإله إلّا اللّه تفلحوا» وسكوته عن سائر الأُمور ليس بأكثر من عدم الإلزام بحكم إلزاميّ غير الإيمان بالتوحيد والرسالة دون إقرار كلّ النظم العقلائيّة الموجودة.
وأمّا الأحاديث الخاصّة في موارد متفرّقة:
فمنها ـ ما عن عبداللّه بن سليمان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الجِبن قال: «كلّ شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة»(1). وسند الحديث غير تامّ.
ومنها ـ ما عن محمد بن مسلم بسند تامّ عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «سألته عن رجل ترك مملوكاً بين نفر، فشهد أحدهم أنّ الميّت أعتقه، قال: إن كان الشاهد مرضيّاً لم يضمن، وجازت شهادته (في نصيبه ـ خ ل ـ)، ويستسعى العبد فيما كان للورثة»(2).
ونحوه فى المضمون حديث آخر رواه في الوسائل بعد هذا الحديث مباشرةً، لكنّه غير تامّ سنداً، ورواه بسند تامّ في الباب (52) من الشهادات مع حذف
', '(1) الوسائل ج 17 باب 16 من الأطعمة المباحة ح 2 ص 91.
(2) الوسائل ج 16 باب 52 من العتق ح 1 ص 56.
', 275), (14, 276, 'book', '
التصريح بوثاقة الشاهد.
ومنها ـ روايات عدم نفوذ شهادة النساء غير المختصّة بباب المرافعة الواردة تارةً في موارد خاصّة، وأُخرى بشكل مطلق غيرما استثني.
أمّا ما ورد في موارد خاصّة: فمن قبيل ما ورد في الرضاع بسند غير تامّ عن صالح بن عبداللّه الخثعمي، قال: «سألت أباالحسن موسى (عليه السلام) عن أُمّ ولد لي صدوق زعمت أنّها أرضعت جارية لي، أُصدّقها؟ قال: لا»(1).
ونحوه مرسلة عبداللّه بن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في امرأة أرضعت غلاماً وجارية، قال: «يعلم ذلك غيرها؟ قال: لا. قال: فقال: لاتصدّق إن لم يكن غيرها»(2). إلّا أنّ هذا الحديث يختلف عمّا قبله في أنّه لم يصرّح فيه بكونها صدوقاً، ولكن تقييده بفرض عدم الوثاقة مع تعارف الوثاقة أيضاً بعيد.
ونحوه ما عن صالح بن عبداللّه الخثعمي قال: «كتبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) أسأله عن أُمّ ولد لي ذكرت أنّها أرضعت لي جارية، قال: لا تقبل قولها ولاتصدّقها»(3). وهنا أيضاً تقييد الإطلاق المستفاد من ترك الاستفصال بفرض عدم الوثاقة بعيد. وأمّا من حيث السند فصالح بن عبداللّه الخثعمي لم يرد بشأنه توثيق، نعم روى محمد بن أبي عُمير عن صالح بن عبداللّه عن الصادق (عليه السلام) حديثاً، ولكن لا أظنّ أنّ بالإمكان إثبات اتحاده مع صالح بن عبداللّه الخثعمي؛ علماً بأنّ الشيخ ذكر في أصحاب الصادق (عليه السلام) اسمين بعنوان صالح بن عبد اللّه، أحدهما لقّبه بالأحول الكوفي والثاني لقّبه بالخثعمي الكوفي.
$
', '(1) الوسائل ج 14 باب 12 مّما يحرم بالرضاع ح 2.
(2) نفس المصدر ح 3
(3) نفس المصدر ح 4
', 276), (14, 277, 'book', '
وعلى أىّ حال، ففي غير باب الرضاع أيضاً وردت روايات كثيرة(1) تمنع عن نفوذ شهادة النساء في بعض الموارد الخاصّة من قبيل الطلاق و النكاح، وقد دلّ بعضها على أنّ شهادة النساء في النكاح لاتنفذ إلّا مع رجل، وهذا يدلّ إضافة إلى عدم نفوذ شهادة النساء وحدهن على عدم نفوذ شهادة الرجل الواحد، وإلّا لما احتجنا إلى ضمّ امر أتين إليه.
وأمّا ما ورد بشكل مطلق(2)، فمن قبيل ما دلّ على عدم نفوذ شهادة النساء في غير المنفوس والعذرة، أو في غيرما لا يستطيع الرجال النظر إليه.
ومنها ـ ما رواه صاحب الوسائل عن كتاب علىّ بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) في الرجل يسمع الأذان فيصلّي الفجر ولايدري طلع أمْ لا، غير أنّه يظنّ لمكان الأذان أنّه طلع، قال: «لايجزيه حتى يعلم أنّه قد طلع»(3). وتقييده بفرض عدم وثاقة المؤذّن بعيد.
إلّا أنّ هذا الحديث تعارضه أحاديث كثيرة دالّة على التعويل على أذان الثقة، أو مطلق المؤذّن(4) وإن كان أكثرها أو كلّ ما يتمّ دلالةً منها غير تامّة سنداً. وطبعاً لاأقصد أنّ تلك الروايات تدلّ على حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات؛ إذ من المحتمل كون الاعتماد على المؤذن لخصوصيّة فيه باعتباره من أهل الخبرة أو باعتباره مؤتَمَناً، وإنّما المقصود أنّ تلك الروايات تعارض هذه الرواية.
هذا، ومن المحتمل بشأن هذه الرواية كون المقصود إبداء احتمال عدم كون
', '(1) و(2) جمع صاحب الوسائل أكثر هذه الروايات في ج 18 باب 24 من الشهادات فراجع، وسنذكر أكثرها ـ إن شاء اللّه ـ في شرط الذكورة.
(3) الوسائل ج 3 باب 58 من المواقيت ح 4 ص 203 و 204.
(4) راجع الوسائل ج 4 باب 3 من الآذان والإقامة وذيله.
', 277), (14, 278, 'book', '
ذاك الأذان أذان الفجر، وذلك بناءً على مشروعيّة الأذان قبل الفجر كما يدلّ عليه بعض الأخبار(1).
ومنها ـ ما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر بسند تامّ عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في المطلّقة إن قامت البيّنة أنّه طلّقها منذ كذا وكذا، وكانت عدّتها قد انقضت فقد بانت، والمتوفّى عنها زوجها تعتدّ حين يبلغها الخبر لأنّها تريد أن تحدّ له(2)، ونحوه حديثان آخران(3) أحدهما تامّ السند، ولكنّ عيبهما أنّهما يدلاّن في عدة الموت على أنّه مع قيام البيّنة تحسب العدّة من حين الموت لا من حين وصول الخبر، بينما هذا خلاف مذهب الشيعة، إلّا أن يقال: إنّ الحمل على التقيّة بالنسبة لهذا الجانب لا ينافي استفادة عدم حجّيّة خبر الواحد منه.
ومنها ـ ما دلّ على أنّ الهلال لا بدّ في ثبوته بالشهادة من شهادة رجلين عدلين(4).
ومنها ـ ما دلّ على عدم ثبوت الشهادة بخبر الواحد، من قبيل ما عن غياث ابن إبراهيم بسند تامّ عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): (أنّ عليّاً (عليه السلام) كان لا يجيز شهادة رجل على شهادة رجل، إلّا شهادة رجلين على شهادة رجل)(5). وما عن طلحة بن زيد بسند تامّ عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) عن علىّ (عليه السلام): (أنّه كان لا يجيز
', '(1) راجع الوسائل ج 4 باب 8 من الأذان و الإقامة.
(2) الوسائل ج 15 باب 28 من العدد ح 14 ص 449.
(3) الوسائل ج 15 باب 28 من العدد ح 9 و 10 ص 448.
(4) توجد جملة من روايات هذه المسألة في الوسائل ج 7 باب 11 من أحكام شهر رمضان.
(5) الوسائل ج 18 باب 44 من الشهادات ح 4 ص 298.
', 278), (14, 279, 'book', '
شهادة رجل على رجل، إلّا شهادة رجلين على رجل)(1).
ثمّ التمسّك بهذه الروايات لإثبات الردع عن العمل بخبر الثقة في الموضوعات لإثبات عدم إمضاء السيرة، ولتقييد إطلاقات حجّيّة خبر الثقة ـ لو كانت ـ يكون بأحد وجوه ثلاثة:
الوجه الأوّل ـ دعوى استفادة ذلك من كلّ واحدة من هذه الروايات؛ بدعوى أنّها وإن كانت واردة في مورد خاصّ، لكنّ العرف يفهم منها المثاليّة، وينتزع منها قاعدة عامّة، وهي عدم حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات بما هو كذلك. إلّا أنّ دعوى من هذا القبيل ممنوعة، ولو تمّت لاتفيدنا في المقام لتقييد إطلافات حجّيّة خبر الثقة لو كانت كذلك؛ بناءً على أنّه كما وجدت أخبار خاصّة في موارد خاصّة في الموضوعات تدلّ على عدم حجّيّة خبر الثقة، كذلك يوجد ما يدلّ في مورد خاصّ في الموضوعات على حجّيّة خبر الثقة فيه، فلوكان العرف ينتزع من الأوّل قاعدة عامّة لعدم الحجّيّة، كذلك ينتزع من الثاني قاعدة عامّة للحجّيّة، فيتعارضان، وبالتالي لايمكن تقييد إطلاقات الحجّيّة لوكانت بتلك الأخبار. نعم، بالنسبة للردع عن السيرة قد يقال: إنّ التعارض لايمنع عن احتمال الردع، إلّا أنّ يتمسك باستصحاب الإمضاء، أو بدعوى أنّ السيرة راسخة بنحو لايمكن ردعها بهذا المقدار.
وعلى أىّ حال، فقد جمع أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في البحوث(2) روايات كثيرةً قد يستدل بها على حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات، وناقش هو (رحمه الله) في دلالة أكثرها، ولم يقبل عدا دلالة حديثين منها، ونحن هنا نقتصر على ذكر هذين الحديثين، أمّا
', '(1) الوسائل ج 18 باب 44 من الشهادات ح 2 ص 298.
(2) بحوث في شرح العروة الوثقى ج 2 من ص 91 فصاعداً.
', 279), (14, 280, 'book', '
الباقية فمن الواضح بالمراجعة عدم تماميّة دلالتها:
الأوّل ـ ما ورد بسند تامّ عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «في رجل وكلّ آخر على وكالة في أمر من الأُمور، وأشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر، فقال: اشهدوا أنّي قد عزلت فلاناً عن الوكالة، فقال: إن كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكّل فيه قبل العزل، فإنّ الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل، كره الموكّل أم رضي. قلت: فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم (أن يعزل ـ خ ل -) العزل، أو يبلغه أنّه قد عزل عن الوكالة، فالأمر على ما أمضاه؟ قال: نعم. قلت له: فإن بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر، ثمّ ذهب حتى أمضاه، لم يكن ذلك بشيء؟ قال: نعم. إنّ الوكيل إذا وكّل ثمّ قام عن المجلس، فأمره ماض أبداً، والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلّغه أو يشافه (يشافهه - خ ل -) بالعزل عن الوكالة»(1).
ويمكن الإيراد على الاستدلال بهذا الحديث: أنّ غاية مايدلّ عليه هذا الحديث هي أنّ خبر الثقة قام مقام العلم الموضوعي بالعزل في إبطال عمل الوكيل واقعاً عند مصادقة العزل، وكفى في قطع استصحاب بقاء الوكالة، وهذا غير قيامه مقام القطع الطريقي الذي هو معنى حجّيّته.
وأجاب على ذلك أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في البحوث(2) بأنّه يفهم عرفاً من إقامته مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الطريقيّة في الموضوع أنّه حجّة وكاشف شرعاً.
أقول: هذا الاستظهار غير واضح عندي.
$
', '(1) الوسائل ج 13 باب 2 من الوكالة ح 1 ص 286.
(2) ج 2 ص 98.
', 280), (14, 281, 'book', '
الثاني - ماورد بسند تامّ عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن رجل كانت له عندي دنانير، وكان مريضاً، فقال لي: إن حدث بي حدث فأَعطِ فلاناً عشرين ديناراً، وأَعطِ أخي بقية الدنانير، فمات ولم أشهد موته، فأتاني رجل مسلم صادق، فقال لي: إنّه أمرني أن أقول لك: أنظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي، فتصدّق منها بعشرة دنانير أقسّمها في المسلمين، ولم يعلم أخوه أنّ عندي شيئاً. فقال: أرى أن تصدّق منها بعشرة دنانير»(1).
ودلالة هذا الحديث أيضاً قابلة للمناقشة، ذلك لأنّ جهة السؤال في كلام السائل مرددة بين أمرين، فبناءً على أنّ إجمال السؤال في مثل ذلك يسري إلى الجواب - لا أنّ ترك الاستفصال يعطي للجواب إطلاقاً يشمل كلا احتمالي السؤال - يصبح الجواب في المقام مجملا. أمّا الاحتمالان الواردان في السؤال: فأحدهما كونه سؤالا عن حجّيّة خبر الثقة الذي أخبره بوصيّة المُتوفّى، والثاني كونه فارغاً عن أنّ المخبر قد صدق في إخباره، إلّا أنّ الوارث وهو أخوه ـ مثلا - غير مطلع على هذه الوصيّة، فلو إطّلع على قصّة هذا الرجل فسيطالبه بالبيّنة، وهو لايمتلك بيّنة، أو يطالبه بالحلف - مثلا - مادام لايجد بيّنة، وإنّما لم يفعل ذلك لأنّه لا يعلم أصلا بوجود مال من أخيه لدى هذا الرجل، فهل من حقّه أن يعمل بما علمه من الوصيّة من دون إخبار أخيه؟ أو ليس من حقّه ذلك قبل تصفية الحساب مع من لو اطّلع على الأمر كان له رفع القضية إلى الحاكم ومطالبته بالبيّنة أو اليمين؟ فأجاب الإمام (عليه السلام): بأن يتصدَّقَ منها بعشرة دنانير.
وقد تحصّل بذلك أنّه لو استظهر من دليل عدم حجّيّة خبر الواحد في مورد خاصّ من الشبهات الموضوعية عدم حجّيّته في الشبهات الموضوعيّة مطلقاً،
', '(1) الوسائل ج 13 باب 97 من الوصايا ح 1 ص 482.
', 281), (14, 282, 'book', '
لايوجد في قباله مايستظهر منه العكس.
والوجه الثاني - دعوى حصول القطع عند تعدّد الموارد التي ورد فيها عدم حجّيّة خبر الثقة بعدم الخصوصيّة في الموارد، واقتناص قاعدة عامّة تدلّ على أنّ خبر الثقة في الموضوعات بما هو ليس حجّة، ولا ينافيه ورود خبر واحد في موردها دالّ على حجّيّة خبر الثقة فيه، فيُقال: إنّ السيرة القائمة على حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات لو كانت هي بهذا العنوان مردودة يقيناً، وإن كان خبر الثقة في موردمّا من الموضوعات حجّة تعبّداً بدليل خاصّ، فإنّ هذا غير افتراض (أنّ خبر الثقة في الموضوعات حجّة بهذا العنوان، إلّا ما خرج بالدليل).
والواقع أنّ دعوى القطع بإلغاء الخصوصيّة إن تمّت في الموارد الّتي يترقّب تدخلّ الحاكم فيها كالنكاح والطلاق والحدود والهلال ونحو ذلك، لاتتمّ في القضايا الفرديّة البحتة كطهارة شيء ونجاسته وعدة الطلاق ونحو ذلك؛ لأنّ ماورد في القسم الثاني نادر، واحتمال الفرق بين القسمين موجود.
وبالنسبة للأُمور التي يترقّب تدخّل الحاكم فيها لانحتاج إلى دعوى القطع، إلّا بمقدار التعدّي من النساء إلى مطلق عدم اجتماع شرائط البيّنة، وذلك لثبوت المطلقات الدالّة على عدم نفوذ شهادة النساء في غير مثل المنفوس والعذرة، والإطلاق حجّة سواء حصل القطع على طبقه أوْلا.
وإنّما لم نقل بتماميّة الإطلاق بالنسبة للقضايا الفرديّة البحتة كالطهارة والنجاسة، لأنّ حذف متعلّق الشهادة لايدلّ على العموم باكثر ممّا يوحي إليه استثناء مثل المنفوس والعذرة، وهذا لايوحي إلى أكثر من تقدير الأُمور التي يترقّب وقوع النزاع فيها، أو الأُمور الّتي يترقّب تدخّل الحاكم فيها.
الوجه الثالث - أن يقال: إنّ العرف بعد تعدّد الموارد يلغي خصوصيّة المورد ويفهم القاعدة العامّة، وهي أنّ خبر الثقة في الموضوعات بما هو كذلك ليس حجّة،
', '', 282), (14, 283, 'book', 'بينما في الطرف المقابل لم يكن إلّا خبر واحد.
وهذا يرد عليه صغروياً ما أوردناه على الوجه الثاني من أنّه لامبرّر للتعدّي إلى القضايا الفرديّة البحتة - كالطهارة والنجاسة - لوجود احتمال الفرق، وأمّا كبرويّاً فهذا مبنيّ على أنّ حجّيّة الظهور تشمل الظهور المتحصّل من مجموع أدلّة متفرقة عند ملاحظتها جميعاً كخطاب واحد. وقد أفاد أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في البحوث(1) في مقدمة نقل روايات حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات: أنّ هذا متوقّف على حجّيّة الظهور المتحصّل من مجموع روايات متفرقة عند ملاحظتها كخطاب واحد، وقال (رحمه الله): «قد تعرّضنا إلى ذلك في الأُصول».
أقول: قد تعرّض أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في الأُصول لتوجيه فنّيّ للكلام الموروث عن المحقّق النائيني (رحمه الله) وهو أنّ ما يكون قرينة في حال الاتّصال فهو قرينة في حال الانفصال.
وهو: أنّ الكلامين المتنافيين كالعامّ والخاصّ اللذين يفرض التصرف في أحدهما بقرينة الآخر إذا كان أحدهما حين الاتّصال قرينة للتصرّف في الآخر، فعند الانفصال ودوران الأمر بين أن يكون ما هو القرينة حين الاتّصال هو القرينة أيضاً حين الانفصال، أو العكس يكون الأوّل أولى؛ لأنّه لو فرض الخاصّ مثلا في مثال العامّ والخاصّ الذي كان قرينة في فرض الاتّصال قرينة أيضاً في فرض الانفصال، فقد ارتكب المتكلّم مخالفة واحدة للأُصول العقلائيّة، وهي أصالة الاتّصال بين القرينة وذي القرينة، فقد جعل ما يصلح للقرينيّة في ذاته قرينةً، إلّا أنّه فصل القرينة عن ذيها. أمّا لوفرض العكس فقد ارتكب مخالفتين: إحداهما فصل القرينة عن ذيها، والثانية فرض القرينيّة لما هي غير صالحة للقرينيّة في ذاتها وبغض
', '(1) بحوث في شرح العروة الوثقى ج 2 ص 91.
', 283), (14, 284, 'book', '
النظر عن مشكلة الانفصال بدليل أنّه لو وصل بينهما لما حمله العرف على القرينيّة.
وهذا الكلام لو طرح على شكل الحساب الرياضي والبرهان العقلي فهو غير تامّ؛ إذ كون ما هو قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال أوّل الكلام، وإذا لم يكن قرينة عند الانفصال فحمل كلّ منهما على القرينيّة للآخر فيه مخالفة واحدة للأُصول العقلائيّة لاأكثر.
ولعلّه لهذا جاء في تعارض الأدلّة للسيد الهاشمي - حفظه اللّه - تقريراً لبحث أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) توجيه لهذا البيان، وهو أنّ هذا وإن لم يكن بالدقّة من الدوران بين الأقلّ والأكثر في المؤونة والمخالفة، ولكن جعل ما ليس قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال أشدّ مؤونة في نظر العرف من جعل ما هو قرينة عند الاتّصال قرينة عند الانفصال.
أقول: إنّ قاعدة أنّ ما كان قرينة عند الاتّصال فهو قرينة عند الانفصال يمكن تفسيرها بأحد وجهين:
الوجه الأوّل - أن يدّعى أنّ نكتة القرينيّة الموجودة في حال الاتّصال دائماً هي موجودة في حال الانفصال، إلّا أنّها في حال الاتّصال كانت تهدم الظهور، ولكن في حال الانفصال لاتستطيع أن تهدم الظهور، فيتحوّل عملها، أو أنّها في حال الاتّصال كانت تهدم الدرجة الأُولى من الدلالة التصديقية، وفي حال الانفصال لاتقوى إلّا على هدم الدرجة التصديقيّة النهائيّة كما يقول المحقّق النائيني (رحمه الله) في القرينة المنفصلة المقيّدة للإطلاق.
وخلاصة القاعدة الميرزائية على هذا التفسير هي أنّ نكتة القرينيّة منحفظة في كلتا حالتي الاتّصال والانفصال، ولكن بما أنّها في حالة الاتّصال تهدم الظهور فلذا سيكون الإحساس بقرينيّتها واضحة وبارزة عند الاتّصال، بخلاف حالة الانفصال الّتي هي غير قادرة فيها على هدم الظهور، أو على هدم الدلالة التصديقيّة الأُولى،
', '', 284), (14, 285, 'book', 'فلو أُريد تشخيص القرينة من الكلامين المنفصل أحدهما عن الآخر أمكن وصل أحدهما بالآخر؛ لكي يقوى الإحساس بالقرينة، وأظنّ أنّ مقصود المحقّق النائيني (رحمه الله) من قاعدته كان هو هذا الوجه.
وهذه القاعدة بناءً على هذا التفسير مؤتلفة من مقدّميتن:
الأُولى ـ دعوى انحفاظ نكتة القرينيّة في الانفصال.
والثانية ـ دعوى أن نكتة القرينيّة المنحفظة في حال الانفصال لو جعلت هي القرينة على المراد والهادمة للحجّيّة، فهذا أَولى في نظر العرف من جعل الآخر قرينة الّذي هو غير مشتمل على نكتة القرينيّة، والمقدمة الثانية صحيحة بلا شك في مورد تماميّة المقدمة الأُولى وهي بقاء نكتة القرينيّة بعد الانفصال، فإنّ النكتة التي يمكن أن تبقى بعد الانفصال، إمّا هي الأقوائيّة، أو هي الظهور في المفسّريّة، وهي تهدم الظهور الأول عند الاتّصال بنكتة ما فيها من الكشف عن المعنى المتقدّم على الكشف الأوّل، وهذا الكشف إن لم يمكنه هدم الظهور لعدم الاتّصال يهدم الحجّيّة لامحالة.
ولا يخفى أنّ المحقّق النائيني (رحمه الله) لا ينظر في قاعدته هذه إلى مسألة الأقوائيّة، وإنّما الظاهر أنّه ينظر إلى المفسّريّة، فإنّه قصد بالقرينة ما قال عنها: إنّ ظهور القرينة يتقدّم على ذي القرينة ولو كانت أضعف.
وعلى أيّ حال فالمقدّمة الأُولى غير تامّة في المقام، فإنّنا لو سلّمنا وجود إحدى النكتتين دائماً في القرائن - أعني الأقوائيّة والمفسّرية - ولم نقل: إنّ نكتة القرينيّة قد تكون مجرد نفي القرينة لمقتضي الظهور الأوّل، كما هو الحال في القرينة الّتي ترفع الإطلاق برفع عدم البيان - والحقّ أنّ البيان الهادم للإطلاق إنّما هو البيان المتّصل - وقد تكون مجرد تأثير القرينة في إيجاد صورة ثالثة تصوّرية في ذلك، كما قد يدّعى ذلك في العامّ المتّصل بالمخصّص؛ حيث يُقال: إنّه يعطي للذهن تصوراً صورة ثالثة غير صورتي العامّ والخاصّ، وهي صورة (العامّ المقتطع منه الخاصّ)،
', '', 285), (14, 286, 'book', 'والدلالة التصديقيّة تتبع الدلالة التصوريّة الأخيرة، وهذا الوجه ـ كما ترى - ينتفي بالفصل بين القرينة وذي القرينة. أقول: لو سلّمنا وجود نكتة الأقوائية أو المفسّريّة دائماً في القرائن قلنا: إنّ المفسّريّة حينما تكون بمثل (أي) و (أعني) تنحفظ طبعاً في حال الانفصال، أمّا حينما تكون بافتراض نظام لغويّ يقتضي المفسّريّة كما قد يدّعى في العامّ والخاصّ، فهذا النظام كما يمكن فرضه عامّاً يشمل فرض الانفصال كذلك يمكن فرضه خاصّاً بفرض الاتّصال، وقد يختلف الأَمر باختلاف القرائن، فتجب دراسة كلّ قرينة بحدّ ذاتها، ولا يمكن أن نستفيد شيئاً من هذه القاعدة الميرزائيّة، وحتى لو استقصينا كلّ القرائن فوجدنا نكاتها موجودة في حال الانفصال، فنحن لم نستفد شيئاً من هذه القاعدة، وإنّما استفدنا من استقصائنا للقرائن.
الوجه الثاني - أن نسلّم أنّ نكتة القرينيّة في حال الاتّصال قد لا تكون محفوظة في حال الانفصال، ولكن يقال: إنّه رغم عدم انحفاظها في حال الانفصال يرى العرف أنّ افتراض ما كان قرينةً عند الاتّصال للتصرف في الآخر قرينةً عند الانفصال لذلك أولى و أسهل من العكس.
ولكن أظنّ أنّ التأكيد على فرض عدم وجود نكتة القرينيّة في حال الانفصال ينبّه الوجدان العرفي النافي لأولويّة من هذا القبيل؛ إذن فهذه القاعدة لم تفدنا شيئاً على كلّ حال.
نعم يبقى أن يدّعي مدّع بخصوص نصوص الشريعة الإسلامية أنّه ينبغي فرض المنفصلات فيها كالمتّصلات، وذلك لأحد وجهين:
الأوّل: أنّه جرى ديدن الشريعة على فصل المتّصلات، فحاله حال أُستاذ يدرّس أمراً ضمن محاضرات يوميّة، ومن الواضح أنّ المحاضرة الثانية لو كان فيها ما يقتضي القرينيّة على المحاضرة الأُولى عند الاتّصال تبقى على قرينيّتها عند الانفصال، فهذا الانفصال وإن كان انفصالا بحسب عمود الزمان لكنّه لايعتبر
', '', 286), (14, 287, 'book', 'انفصالا في عالم اللّغة، وهو أشبه شيء بما لو تكلّم المتكلّم بالعامّ ثم اُغمي عليه ساعات، وبعد أن أفاق أتى بالخاصّ، أفهل يفترض عندما انقطع كلامه بالإغماء أنّ ظهور كلامه قد استقر؟! طبعاً لا. وهكذا حال هذا المدرّس، وكذلك حال الشريعة الإسلاميّة.
إلّا أن هذا الوجه ان قصد به دعوى عدم انعقاد الظهور ما لم نُحطْ بكلّ المنفصلات المحتمل قرينيّتها، - وقد لانستطيع أن نحيط بذلك لاحتمال تلف كثير من النصوص - فلا أظنّ أحداً يلتزم بهذه النتيجة، ولم يصل ديدن الشريعة على فصل المتّصلات إلى مستوى نقول فيه بعدم استقرار الظهور عند انتهاء الكلام لاحتمال مجىء قرينة منفصلة.
وإن قصد به - بعد الاعتراف بان ديدن الشريعة على فصل المتصلات لم يبلغ مستوى عدم انعقاد الظهور -: أن نفس قيام ديدن الشريعة على فصل المتصلات يجعل الإنسان العرفي متقبّلا مفسّريّة بعض النصوص لبعض رغم الانفصال، فهذا وحده لايكفي لاثبات أن ماكان قرينة لدى الاتصال هو القرينة ايضا لدى الانفصال رغم ان نكتة القرينيّة كانت كامنة فى نفس الاتصال لافي ذات القرينة، بل لابد من ضم ذلك إلى مامضى من ان جعل ما كان قرينة لدى الاتصال قرينة لدى الانفصال اولى من جعل ما لم يكن قرينة لدى الاتصال قرينة لدى الانفصال، فكأن الدليل على قرينية الخاص على العام مثلا صار مؤتلفا من مقدمتين: الاولى: أن كون ديدن الشريعة على الفصل بين المتصلات جعل العرف يتقبل فرض قرينيّة احدهما على الآخر رغم الانفصال. والثانية: ان قرينيّة ومفسّريّة ما كان كذلك في فرض الاتصال أولى من قرينيّة ومفسّريّة الآخر، وهذا رجوع الى ماناقشناه آنفا.
ومن هنا نحن نبني في باب القرائن التي تفقد نكتة قرينيتها لدى الانفصال على ان المقياس فى التقديم والقرينية لدى الانفصال انما هو الاقوائية، فلو فرض صدفة
', '', 287), (14, 288, 'book', 'كون العام اقوى من الخاص مثلاً في مورد، كان هو المقدم على الخاص دون العكس.
الثاني - دعوى الإجماع على التعامل مع العامّ والخاصّ وما شابههما في الشريعة معاملة المتّصلين.
إلّا أنّ دعوى الإجماع التعبّدي في المقام - كما ترى - غير صحيحة، فلعلّ المجمعين الذين فهمنا إجماعهم من خلال عملهم وسيرتهم في الاستنباط كانوا يعتقدون بأقوائيّة ما قدّموه، أو كانوا يعتقدون بالقاعدة الميرزائيّة أو غير ذلك.
وبعد هذا يبقى الكلام في أنّه لو سلّمت القاعدة الميرزائيّة بأحد الوجهين الماضيين، أو سلّم بأحد الوجهين الأخيرين اللّذين أشرنا اليهما بلحاظ نصوص الشريعة، فهل يمكن تطبيق شيء منها على ما نحن فيه أوْلا؟ فنقول:
أمّا الإجماع فليس له معقد خاصّ يتمسّك بإطلاقه، وهو دليل لبّي، والمتيقّن من مورده هو مورد الجمع بين المتعارضين كالعامّ والخاصّ، وروايات عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات المختلفة لاتعارض فيما بينها، فلو تمّ هذا الوجه لاينطبق على المقام.
وأمّا ديدن الشريعة فهو على فصل المتّصلات لا على كون كلّ منفصلاته في الأصل متّصلات، فلو أثّر فإنّما يؤثّر في الأدلّة المتعارضة الّتي لو فرض الوصل بينها كان بعضها قرينة على البعض، لافي الأدلّة الّتي لاتعارض فيما بينها، ومن المحتمل كونها من أساسها منفصلا بعضها عن بعض، وما نحن فيه من هذا القبيل، لما أشرنا إليه من عدم التعارض فيما بين الروايات.
وأمّا القاعدة الميرزائيّة بتفسيرها الثاني - وهو دعوى: أنّه وإن فرض فقد نكتة القرينيّة عند الانفصال، ولكنّ جعل ما كان قرينة عند الاتصال قرينة عند الانفصال أَولى عرفاً من جعل ما لم يكن قرينة عند الاتصال قرينة عند الانفصال - فهذا الوجه مورده - كما ترى - فرض الدوران بين قرينيّة هذا وقرينيّة ذاك، وهذا
', '', 288), (14, 289, 'book', 'فرضه فرض التعارض بين النصّين، بينما أشرنا إلى أنّه لاتعارض في ما بين النصوص في المقام.
وأمّا القاعدة الميرزائيّة بتفسيرها الأَوَّل، - وهي دعوى: أنّ نكتة القرينيّة في حال الاتّصال دائماً تنحفظ في حال الانفصال - فهذه أيضاً لو تمّت لا تنطبق على ما نحن فيه، وذلك لأنّ نكتة القرينيّة الّتي تكسر الظهور المعارض عند الاتّصال من المعقول أن تكسر الحجيّة عند الانفصال رغم انحفاظ الظهور، فيكون الظهور الآخر هو الحجّة، ولكن الّتي تخلق ظهوراً ثالثاً بالاتّصال هل يمكن أن تخلق الحجّيّة عند الانفصال رغم عدم الظهور؟!! كلاّ. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لِمَا عرفت من عدم وجود أيّ معارضة بين الروايات، فلا توجد قرينة تكسر ظهوراً عن الحجّيّة. نعم لو كان بعضها متّصلا بالبعض لخُلق ظهور في إرادة القاعدة العامّة وهي عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات بما هي كذلك، لكن بسبب الانفصال لم يخلق ظهور من هذا القبيل، فما هو المبرّر لافتراض حجّيّة ظهور معلَّق تحقُّقُه على الاتّصال؟!! نعم يبقى أن يدّعي مدّع - بلا حاجة إلى التحليلات الّتي عرضناها للقاعدة الميرزائيّة -: أنّ الظهور التقديري المعلّق على اتّصال النصوص بعضها ببعض حجّة رغم عدم فعليّته بسبب الانفصال، وهذه الدعوى بالإمكان رفضها أو قبولها من دون نظر إلى التحليلات الماضية للقاعدة الميرزائيّة، والصحيح رفض هذه الدعوى.
وعليه فقد اتّضح أنّه لايمكن أن نستظهر في المقام ردعاً للسيرة العقلائية بشكل عامّ ولو آمنّا بقيامها على حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات.
نعم، يبقى احتمال الردع الوارد في كلّ رواية من تلك الروايات، فإن اعتمدنا على هذا الاحتمال لإبطال حجّيّة السيرة فهو، وإلّا - كما لو قلنا بأنّ هذه السيرة قويّة لايكفي في ردعها شيء من هذا القبيل، أو قلنا بأنّ هذه السيرة ممضاة في صدر الإسلام، فيجري استصحاب بقاء الإمضاء - فقد ثبتت حجّيّة خبر الثقة في
', '', 289), (14, 290, 'book', 'الموضوعات، إلّا في الموارد الخاصّة الّتي ورد فيها الردع عنه، ثم لو سلّمنا حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات إمّا بالسيرة، أو بالإطلاق المفهوم بمساعدة السيرة من نصوص حجّيّة خبر الثقة، فلا إشكال في أنّ هذا خاصّ بغير موارد النزاع؛ لأنّ انتفاء السيرة في موارد النزاع واضح جدّاً، فخبر الثقة في موارد النزاع كما ليست له حجّيّة قضائيّة كذلك ليست له حجّيّة ذاتية يجوز للشخص الثالث قبل القضاء أن يعتمد عليها؛ كي تأتي شبهة انقلاب المدّعي منكراً في المقام.
وبعد، فالمختار لنا هو عدم حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات: لافي موارد النزاع، ولا في الموارد الّتي يترقّب فيها النزاع كموارد الطلاق والنكاح، ولو لم يكن نزاع بالفعل، ولافي الموارد التي يُترقَّب تدخُّلُ الحاكم فيها كالهلال والحدود، ولافي الموارد الفرديّة البحتة كالطهارة والنجاسة.
أمّا في موارد النزاع فالمسألة واضحة فقهيّاً، وعدم السيرة العقلائية على الحجّيّة أيضاً في غاية الوضوح.
وأمّا في موارد ترقُّب النزاع وموارد ترقُّب تدخُّل الحاكم ـ كالطلاق والنكاح والهلال والحدود ونحوها ـ فشرط البيّنة فيها، وعدم كفاية خبر الواحد ينبغي أن يُعدّ مسلّماً ولو على ضوء الروايات الماضية في الموارد الخاصّة.
وأمّا في الموارد الفرديّة البحتة كالطهارة والنجاسة، فنحن أساساً لا نؤمن بدلالة السيرة العقلائيّة على حجّيّة خبر الثقة؛ كي يقال بشمولها للموضوعات، ويعتمد عليها ابتداءًبسبب عدم الردع، أو يستعان بها لتتميم بعض الإطلاقات للدلالة على حجّيّة خبر الواحد في موضوعات، ونقول: إنّ السيرة على حجّيّة خبر الواحد إنّما هي متشرّعيّة، والمتيقّن منها باب الأحكام وما يلحق به كوثاقة الراوي للحكم، أمّا الموضوعات بشكل مطلق فلا. نعم لوعلم العبد أنّ المولى أرسل فلا ناً لإيصاله أمراً أو نهياً إليه، وشكّ في أنّه هل كلّ ما نقله إليه من المولى صحيح أو فيه ما
', '', 290), (14, 291, 'book', 'هو صحيح وفيه ما هو خطأ، فقد يكون نفس إرسال المولى إيّاه قرينة على اعتماد المولى على نقله وإعطائه للحجّيّة للكلام ـ سواء ثبتت وثاقته عند العبد أوْلا ـ وهذا غير فرض قيام السيرة على حجّيّة خبر الثقة.
هذا، ونحن في إنكارنا للسيرة لانقيم برهاناً على ذلك، كما أن المدّعين لها لم يقيموا برهاناً عليها؛ لأن فرض السيرة وعدمها ليس من الأمور القابلة للبرهنة عليها.
 $
اجتماع الدعوى والإنكار:
الأمر الثالث ـ ذكر المحقّق العراقي (رحمه الله) في قضائه: أنّ صاحب الجواهر (رحمه الله)وقع في تناقض، حيث اختار في مسألة الخلاف في مقدار الأُجرة أنّ كّلا ممن يدّعي الإيجار بالثمن الزائد أو الناقص مدّع ومنكر، بينما اختار في تداعي من بيدهما العين الملكيّة: أنّ كلاّ منهما مدّع، ولايصدق على أحدهما المنكر؛ لأنّ اليدين متساقطتان، وهذان الرأيان متهافتان؛ لأنّه إن فرض أنّ المقياس هو الحجّية الفعليّة فأصالة عدم الإيجار بالزائد مع أصالة عدم الإيجار بالناقص في المسألة الأُولى أيضاً متساقطتان، فالمفروض أن يكونا في المسألة الأُولى أيضاً مدّعيين فقط، وإن فرض أنّ المقياس هو الحجّيّة الاقتضائيّة و كلّ من أصلي عدم الإيجار في المسألة الأولى حجّة اقتضاءً، أي لولا المعارض فهو بحدّ ذاته حجّة، فكذلك الحال بالنسبة لليدين في المسألة الثانية؛ إذن فكلٌّ مدّع ومنكرٌ أيضاً(1).
أقول: المقياس هو الحجّيّة الفعليّة كما هو مختار المحقّق العراقي (رحمه الله)، والحجّيّة
', '(1) كتاب القضاء للمحقّق العراقي ص 106
', 291), (14, 292, 'book', '
الفعليّة لاتجتمع في أصلين متعارضين؛ إذن لايمكن أن يكون كلّ منهما مدّعياً ومنكراً في وقت واحد، إلّا إذا كانت هناك مرافعتان كي يكون أحدهما مدّعياً بالنسبة لإحدى المرافعتين ومنكراً بالنسبة للمرافعة الأُخرى. وفي المسألة الثانية لاتوجد مرافعتان، فإنّ دعوى كلّ واحد منهما الملكيّة لوقوبلت بمجرد نفي الآخر ملكيّتة لاتشكلّ مرافعة في مفروض الكلام، وإنّما الذي شكّل المرافعة هو أنّ كلا منهما يدّعي الملكية لنفسه، بينما يستحيل اجتماع ملكيتين مستقلّتين على مال واحد، فلا توجد إلّا مرافعة واحدة، واليدان متعارضتان؛ لأنّ مفاد كلّ من اليدين ينفي مفاد اليد الأُخرى بطبيعته، لاستحالة صدقهما معاً، فهما متساقطتان، وتصل النوبة إلى أصالة عدم مالكيّة هذا وأصالة عدم مالكيّة ذاك، وهذان الأصلان لايتعارضان؛ لاحتمال صدقهما معاً بأن لايكون هذا مالكاً ولاذاك مالكاً، فكلّ منهما مدّع لأنّه يدّعي ما هو خلاف الأصل. نعم، قد يتّفق أنّنا نعلم صدفةً بكذب أحد الأصلين إجمالا، لكنّ العلم الذي يتّفق صدفةً فيسقط الأصل في نظر العالم لا يسقط المنكر عن كونه منكراً، وليس كالعلم بكذب إحدى اليدين الذي أسقط اليدين الناشيء من استحالة اجتماع صدقهما ذاتاً، وإلّا لكان علم القاضي أو أىّ إنسان ثالث بكذب المنكر في أىّ دعوى حصل فيها علم من هذا القبيل مُخرجاً للمنكر عن كونه منكراً، لأنّه سقط أصله في نظر هذا العالم، بينما الأمر ليس كذلك، فالمنكر منكر ولو علمنا صدفةً كذبه، كما أنّ المدّعي مدع ولو علمنا صدفةً صدقه.
وأمّا في المسألة الأُولى، فكلّ واحد من الإيجارين يكفي دعواه من قبل أحدهما وإنكاره من قبل الآخر في تشكيل المرافعة، بغضّ النظر عن دعوى الإيجار الآخر. إذن فهناك مرافعتان - هذا بغضّ النظر عمّا مضى سابقاً في مسألة تداعي البيع والهبة اللازمة عن أُستاذنا الشهيد (رحمه الله): من أنّ دعوى الهبة مع اتفاقهما على أصل التمليك لاأثر لها، ولا تشكّل مرافعة، وكذلك نقول في المقام: إنّ دعوى الإيجار
', '', 292), (14, 293, 'book', 'بالأقلّ مع اتفاقهما على جامع الإيجارين لا أثر لها، ولا تشكّل مرافعة. وهذا الإشكال كما ترى غير إشكال المحقّق العراقي (رحمه الله) في المقام و كلّ منهما مدّع بالنسبة لأحد الإيجارين؛ لأنّ الأصل عدمه، ومنكر بالنسبة للإيجار الآخر؛ لأنّه يوافق أَصالة عدمه، والأصلان غير متعارضين لإمكان صدقهما معاً؛ بأن لايكون قد وقع شيء من الإيجارين. نعم، قد نعلم صدفةً بكذب أحدهما إجمالا - أي بوقوع أصل الإيجار - ولكن قد وضّحنا أن العلم الإجمالي صدفةً بالكذب لايخرج المنكر عن كونه منكراً، فإنّه ليس بأشدّ من العلم التفصيليّ بكذب المنكر.
 $
مصبّ النزاع بين المدّعي والمنكر:
الأمر الرابع - أنّ مقياس المدّعي والمنكر وترتّب أحكامهما عليهما مختصّ بماإذا كان النزاع على حقّ أو عين يدّعيه أحدهما على الآخر أو عنده وينكر الآخر، أمّا إذا كانا معاً معترفين بالحقّ أو العين لأحدهما، وإنّما النزاع في مخالفة الآخر لهذا الحقّ أو غصبه لهذه العين، فهذا لا يدخل في باب النزاع الذي يحمل أحكام المدّعي والمنكر، فمعنى المدّعي والمنكر في باب القضاء هو من يدّعي حقّاً أو عيناً على أحد، ومن ينكره عن نفسه، أمّا لو ادّعى مثلا أنّ فلاناً ساكن في بيتي وذاك يعترف أنّ هذا بيته، ولكنّه ينكر كونه ساكناً في بيته، و كانت دعوى الأوّل لا بروح مطالبة الثاني بأُجرة مدّة سكنه في البيت؛ كي يرجع الأَمر إلىدعوى حقّ عليه ينكره، بل بروح إخراجه من الآن فصاعداً من البيت، فهذا ليس بابه باب القضاء المتعارف الذي يحكم فيه بأنّ القضاء يكون بالبينة على المدّعي واليمين على من أنكر، ولو ادّعى مثلا أنّ فلاناً يريد قتلي أو ضربي، والآخر أنكر ذلك، فهذا ليس بابه باب القضاء ليحكم فيه بالبيّنات والأيمان، وإنّما هذا بابه باب دفع الظلم ودفع المنكر
', '', 293), (14, 294, 'book', 'وحفظ الأمن، وما شابه ذلك من التعابير، وهذا ما يقوم به الحاكم بوصفه وليّاً للأمر، أو وكيلا عنه إن كانت وكالته شاملةً لأُمور من هذا القبيل لابوصفه قاضياً، فإنّ معنى القضاء عرفاً لايشمل هذا المورد.
وإن شئت فعبّر عمّا ذكرناه بأحد التعبيرات الآتية - الّتي لعلّها أقرب إلى الفهم، وإن كانت هي غير دقيقة وقابلة للنقوض، والتعبير الدقيق هو ما ذكرناه -:
1 - أن يقال: إنّه متى ما كان النزاع في رفع الظلم فهذا بابه باب القضاء، ويكون مشمولا لقوانين المدّعي والمنكر، ومتى ما كان النزاع في دفع الظلم فهذا بابه باب النهي عن المنكر من دون أيّ ارتباط بباب القضاء.
2 - أن يقال: إنّه متى ما كان النزاع في تدارك حق اُهدِر فهذا بابه باب القضاء، ومتى ما كان النزاع في إهدار حقّ فهذا بابه باب النهي عن المنكر أجنبيّاً عن باب القضاء.
3 - أن يقال: إنّه متى ما كان النزاع راجعاً إلى الماضي فهذا بابه باب القضاء، ومتى ما كان راجعاً إلى المستقبل فهذا بابه باب دفع المفسدة والظلم والنهي عن المنكر بعيداً عن باب القضاء.
وهذه التعبيرات الثلاثة - كما قلنا - غير دقيقة.
وهناك تعبير آخر دقيق وفي نفس الوقت قريب إلى الفهم، وهو أنّ القضاء عرفاً يعني إدانة المدّعي أو المنكر، أو تبرئته، فمتى ما كان الباب باب الوقاية ودفع الظلم من دون اشتماله على الإدانة أو التبرئة، لم تثبت فيه أحكام المدّعي والمنكر.
والأساس الذي يعتمد عليه القاضي في مثل هذا المورد إنّما هو إعمال ولاية الفقيه، وقانون النهي عن المنكر لو كان لدليله إطلاق لمثل ذلك، وقانون تقديم المحتمل الأهمّ عندما كانت أهمّيته إلى مستوى نعلم برضا الشارع بتقديمه على المعلوم غير الأهمّ.
$
', '', 294), (14, 295, 'book', 'فقد يحكم القاضي بوصفه وليّاً، أو وكيلا عن الوليّ - لو كانت وكالته شاملة لمثل المورد - بتجريد من يُخاف منه القتل عن السلاح، خلافاً لقانون تسلّط الناس على أموالهم، رغم أنّه ليس من المقطوع به إرادته لهذه الجريمة، وذلك لأهميّة المحتمل، وقد يحكم بتطويقه حينما حصل له العلم بأنّه يريد الظلم والضرب منعاًله عن المنكر وحفظاً للأمن، وليس هذا مشمولا لما مضى من عدم نفوذ علم القاضي عن حدس.
بل قد يقال في موارد القضاء أيضاً: أنّ من حقّ وليّ الأمر العمل بعلمه الحدسيّ، لافي أخذ الحقّ ممن عليه الحقّ لِذي الحقّ، بل في تعزيره الذي هو راجع إلى حقّ اللّه .
بل قد يقال أيضاً في موارد القضاء: إنّ من حقّ وليّ الأمر إعمال الولاية بأخذ الحقّ بالقهر والغلبة ممّن علم عن حدس أنّ عليه الحقّ، وإعطائه لمن علم أنّ له الحقّ، لا بالحكم كي يخالف عدم نفوذ علم القاضي، بل بالفعل والعمل بلا حكم. والأثر العمليّ للفرق بين هذا وبين الحكم، أنّه لو حكم ثمّ خصم النزاع، لايجوز للمحكوم عليه أن يخاصمه مرةً أُخرى لو أمكنه ذلك ولو قطع بأنّه على حقّ، بينما لو لم يحكم - وإنّما مارس أخذ الحقّ بالقهر والغلبة - جاز لمن يعتقد أنّه قد ظُلم المخاصمة مرّةً أُخرى، أو التقاصّ لو أمكنه ذلك.
إلّا أنّ الصحيح أنّ التفكيك بين الحكم وأخذ الحقّ بالقهر والغلبه بجواز الثاني دون الأوّل، وكذا التفكيك بين التعزير والحكم بجواز الأوّل دون الثاني غير عرفيّ.
$
', '', 295), (14, 296, 'book', ' $
$
', '', 296), (14, 297, 'book', ' $
 $
 $
$
', '', 297), (14, 298, 'book', ' $
 $
$
', '', 298), (14, 299, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
البحث الثاني ـ شرائط البيّنة:
البلوغ
الشرط الأوّل ـ هو البلوغ:
عدم نفوذ شهادة الصبي:
ولا إشكال في عدم نفوذ شهادة الصبيّ غير المميّز، وإنّما الذي ينبغي البحثعنه هو شهادة الصبي المميّز، ويمكن الاستدلال على عدم نفوذها بوجوه:
الوجه الأوّل ـ مناقشة افتراض وجود إطلاق لأدلّة الإشهاد يشمل شهادة الصبيّ من قبيل قوله تعالى: ﴿فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأَشهدوا عليهم، وكفى باللّه حسيباً﴾(1). وكقول الرسول (صلى الله عليه وآله) «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(2). وذلك إمّا بدعوى الانصراف إلى البالغ، كما ناقش صاحب الجواهر في تلك الإطلاقات
', '(1) السورة 4 النساء الآية 6.
(2) الوسائل، ج 18 باب 2 من كيفيّة الحكم ح 1 ص 169.
', 299), (14, 300, 'book', '
بدعوى الانصراف(1)، أو بدعوى أنّ تلك الإطلاقات إنّما هي بصدد ذكر أصل الإشهاد والبيّنة، وليست بصدد بيان الشرائط المعتبرة في نفوذها.
وقد يقال: إنّ مجرد عدم تماميّة الإطلاق إذا كان من باب عدم كونه في مقام البيان لايكفي لإثبات عدم نفوذ شهادة الصبيّ؛ بحيث تصل النوبة إلى يمين المنكر، بل نبقى متحيّرين بين كون الوظيفة هي قبول شهادة الصبى، أو سماع يمين المنكر. وقد يُجاب على ذلك: بأنّ استصحاب عدم جعل الحجّيّة لهذه الشهادة ينقّح موضوع اليمين؛ لأنّ يمين المنكر أُخذ في موضوعه عدم إقامة المدّعي البيّنة الحجّة؛ بناءً على أنّ الموضوع القاطع لليمين هو البيّنة بما هي حجّة، لاذات البيّنة التي تكون حجّة.
الوجه الثاني ـ هو التمسّك بقوله تعالى: ﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان﴾(2). فإنّ كلمة الرجل لاتشمل الصبى.
الوجه الثالث ـ مادلّ على اشتراط العدالة في الشاهد كقوله تعالى: ﴿شهادةُ بينِكم إذا حضَرَ أحدَكُمُ الموتُ حينَ الوصيّةِ اثنانِ ذَوا عدل منكم﴾(3) وقوله تعالى: ﴿وَأَشهدوا ذَويْ عدل منكم﴾(4).
وذلك بدعوى أنّ العدالة لاتتصوّر في الصبيّ؛ إذ العدالة بمعنى الاستقامة في الطريق فيما بين الخطوط المنحرفة، بينما لا انحراف بشأن الصبى، وكلّ التصرّفات مباحة له، فما معنى استقامته في الطريق؟!
ولكن بالإمكان أن يدّعى أنّ المفهوم عرفاً من شرط العدالة هو النظر إلى ما
', '(1) الجواهر ج 41 أوّل ص 10.
(2) السورة 4 البقرة الآية 282.
(3) السورة 5 المائدة الآية 106.
(4) السورة 65 الطلاق الآية 2.
', 300), (14, 301, 'book', '
تعطيه العدالة للإنسان من المناعة، وقد يتّفق أن يكون غير البالغ أشدّ مناعةً من البالغ العادل؛ باعتبار تربية نفسه وتعويده على ترك المحرّمات الّتي يكون الأَولى له التنزّه منها، ومنها الكذب.
الوجه الرابع ـ الروايات من قبيل ماورد بسند تامّ عن محمّد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) «في الصبيّ يشهد على الشهادة؟ قال: إنْ عَقَلَهُ عقله ـ حين يدرك ـ أنّه حقّ جازت شهادته»(1).
وماورد عن السكوني بسند فيه النوفلي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ شهادة الصبيّ إذا أَشهدوهم وهم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها»(2).
وما عن إسماعيل بن أبي زياد (وهو السكوني) بسند تامّ عن جعفر عن أبيه عن عليّ (عليه السلام): «أنّ شهادة الصبيان إذا شهدوا وهم صغار جازت إذا كبروا ولم ينسوها، وكذلك اليهود والنصارى إذا أسلموا جازت شهادتهم، والعبد إذا شهد بشهادة ثمّ أُعتق جازت شهادته إذا لم يردّها الحاكم قبل أن يعتق»، وقال عليّ (عليه السلام): «وإن أُعتق لموضع الشهادة لم تجز شهادته»(3). ولو حمل ذيله الدالّ على عدم قبول شهادة المملوك على التقيّة لم يضرّ بحجّيّة صدره، ولا يوجب سلب الوثوق عنه.
ومـا عـن مـحـمـد بـن مسـلم بسـند تامّ عن أبي جـعـفر (عليه السلام) قال: «قال
', '(1) الوسائل ج 18 باب 21 من الشهادات ح 1 ص 251.
(2) نفس المصدر ح 2 ص 251.
(3) الوسائل ج 18 باب 23 من الشهادات ح 13 ص 257 وجاء صدره أيضاً في باب 21 من الشهادات ح 4 ص 252.
', 301), (14, 302, 'book', '
رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): لم تجز شهادة الصبى، ولا خصم، ولا متّهم، ولا ظنين»(1).
 $
استثناءات في شهادة الصبي:
وقد وردت استثناءات على عدم قبول شهادة الصبيّ:
الأوّل ـ مادلّ على قبول شهادته إذا بلغ عشر سنين: وهو ما ورد عن أبي أيّوب الخزاز بسند تامّ قال: «سألت إسماعيل بن جعفر: متى تجوز شهادة الغلام؟ فقال: إذا بلغ عشر سنين. قلت: ويجوز أمره؟ قال: فقال: إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)دخل بعائشة وهي بنت عشر سنين، وليس يدخل بالجارية حتى تكون امرأة، فإذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره، وجازت شهادته(2).
ولعلّه لأجل هذا الحديث قيل ـ على ما جاء في الشرائع ـ بقبول شهادة الصبيّ إذا بلغ عشراً، ولكن قال صاحب الشرائع (رحمه الله): «إنّ هذا القول متروك»، وقال في الجواهر(3): «بل اعترف غير واحد بعدم معرفة القائل به وإن نسب إلى الشيخ في النهاية، ولكنّه وهم».
وعلى أيّ حال فلاعبرة بهذا الحديث؛ لأنّه حديث عن إسماعيل بن جعفر، وليس حديثاً عن الإمام على أنّ استشهاده بدخول النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعائشة وهي بنت عشر سنين واضح البطلان.
الثاني ـ ما دلّ على قبول شهادة الصبيّ في الأُمور الصغيرة: وهو ما عن عبيد ابن زرارة بسند تامّ قال: «سألت أباعبداللّه (عليه السلام) عن شهادة الصبي والمملوك،
', '(1) الوسائل ج 18 باب 30 من الشهادات ح 6 ص 275.
(2) الوسائل ج 18 باب 22 من الشهادات ح 3 ص 252.
(3) الجواهر ج 41 ص 9.
', 302), (14, 303, 'book', '
فقال: على قدرها يوم أُشهد تجوز في الأمر الدون، ولا تجوز في الأَمر الكثير. قال عبيد: وسألته عن الذي يشهد على الشيء وهو صغير قد رآه في صغره ثمّ قام به بعد ما كبر، قال: فقال: تجعل شهادته خيراً من هؤلاء»(1).
وأورد السيّد الخوئي على الاستدلال بهذا الحديث(2) بأنّه رواية شاذّة مهجورة ومشتملة على ما هو مقطوع البطلان من عدم جواز شهادة المملوك في الكبير، فلا بُعد في ورودها مورد التقيّة على أنّ متنها مجمل، فإنّ الكبر والصغر أمران متضايفان، وليس لهما واقع معلوم، فالشيء الواحد كبير بالإضافة إلى شيء، وصغير بالإضافة إلى شيء آخر.
أقول: أمّا إجمال المتن فقد يقال: إنّ هذا إشارة إلى أمر عرفيّ؛ حيث إنّ العرف قد يعتمد على شهادة الصغير في الأُمور الصغيرة بما لا يعتمد عليه في الأمور الكبيرة، وهذا يختلف باختلاف درجات سنّ هذا الصغير وذكائه وقابليّته للاعتماد عليه، ولعلّ هذا هو المقصود بقوله: «على قدرها يوم أُشهد». نعم يبقى شيء من الإجمال لعدم تعيين الصغر والكبر بالتحديد، لكنّ هذا حاله حال كثير من المفاهيم العرفيّة التي تبقى مجملة في بعض المصاديق. أمّا حمل الحديث على التقيّة بالنسبة للمملوك فلا يضرّ بحجّيّته بالنسبة للصبيّ.
وأمّا قوله: ـ إنّ الرواية شاذّة مهجورة ـ فإن كان إشارةً إلى اشتمالها على عدم قبول شهادة المملوك الذي جعله مقطوع البطلان، فقد عرفت أنّه مع افتراض الحمل
', '(1) التهذيب ج 6 باب 91 البيّنات ح 55 وهو الحديث 650 وفق تسلسل كلّ أحاديث هذا المجلّد ص 252. وقد جاء في الوسائل صدر الحديث فى ج 18 باب 22 من الشهادات ح 5 ص 253، وذيله في نفس المجلد باب 21 من الشهادات ح 3 ص 251.
(2) في تكملة المنهاج ج 1 ص 78.
', 303), (14, 304, 'book', '
على التقيّة لا يشكّل إشكالا في المقام، وإن كان إشارةً إلى أنّ أصل قبول شهادة الصبي في الأُمور الصغيرة مهجور عند الأصحاب، فهو لايقول بكون الإعراض موجباً لانكسار السند، إلّا إذا وصل الأَمر إلى القطع بكذب هذا الحكم، وأنّ شهادة الصبي في الأُمور الصغيرة غير نافذة، وعندئذ نكون في غِنىً أصلا عن البحث عن تعارض الأخبار بهذا الصدد وعلاجه؛ لعلمنا بالحكم.
ولا بأس بأن يقال في المقام: إنّ ما جاء في هذا الحديث بشأن المملوك ـ من جعله كالصبيّ، والتفصيل بشأنه بين الصغير والكبير ـ أمر غير محتمل لاعند الشيعة ولاعند السنّة، ولا يعرف ما هو المقياس في تشخيص الصغير والكبير بالنسبة للمملوك، فإنّ المملوك لايختلف عن الحرّ في التمييز والفهم، والحرّيّة إن كانت شرطاً في قبول الشهادة فهي شرط تعبّدي من دون فرق في ذلك بين الشهادة في الصغير والشهادة في الكبير، وإن لم تكن شرطاً في ذلك، إذن فشهادته مقبولة في الصغير والكبير، فهذه نقطة ضعف في الرواية قد توجب سلب الوثوق عن أصل الحديث، فيسقط عن الاستدلال على نفوذ شهادة الصبيّ في الأُمور الصغيرة.
وقد يقال: إنّ إطلاق الروايات الماضية قاصر عن إثبات عدم نفوذ شهادة الصبيّ في الأُمور الصغيرة؛ لأنّ غاية ما فيها هي نفوذ شهادة الصبيّ إذا شاهد عند الصغر ثمّ كبر وشهد، وهذا يدلّ بالمفهوم على عدم نفوذها إذا شهد قبل البلوغ، ولكنّ هذا المفهوم ـ حتى لو ثبت كونه من سنخ مفهوم الشرط، ونحن لانقول بدلالة الشرط على المفهوم بنحو القضيّة الكلّيّة ـ لايدلّ إلّا على القضيّة الجزئيّة، والمتيقّن منها الشهادة في الأُمور الكبيرة، فيبقى احتمال نفوذ شهادته في الأُمور الصغيرة بلا دافع.
إلّا أنّه تبقى لنا دلالة القرآن الكريم في آية: ﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم﴾ وأدلّة شرط العدالة بناءً على دلالتها على عدم قبول شهادة الصبيّ باعتبار عدم تصوّر العدالة بشأنه، بل تبقى لنا من الروايات أيضاً ما دلّ على عدم
', '', 304), (14, 305, 'book', 'نفوذ شهادة الصبيّ في غير القتل، وسيأتي ذكره ـ إن شاء اللّه ـ في الاستثناء الرابع.
الثالث ـ ما دلّ على قبول شهادة الصبيان فيما بينهم ما لم يتفرّقوا، أو يرجعوا إلى أهلهم: وهو مارواه الصدوق باسناده عن طلحة بن زيد عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن عليّ (عليه السلام) قال: «شهادة الصبيان جائزة بينهم ما لم يتفرّقوا، أو يرجعوا إلى أهلهم»(1). وسند الصدوق إلى طلحة بن زيد تامّ، وطلحة بن زيد قد ذكر عنه الشيخ الطوسي (رحمه الله): أنّه (عامّيّ المذهب، إلّا أنّ كتابه معتمد) وقد روى عنه البجلي وهو أحد الثلاثة الذين لايروون إلّا عن ثقة.
وروى الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «رفع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ستّة غلمان كانوا في الفرات، فغرق واحد منهم، فشهد ثلاثة منهم على اثنين أنّهما غرّقاه، وشهد اثنان على الثلاثة أنّهم غرّقوه، فقضى عليّ (عليه السلام) بالدّية أخماساً: ثلاثة أخماس على الاثنين، وخُمسَيْنِ على الثلاثة». ورواه الشيخ بإسناده عن عليّ بن إبراهيم، ورواه أيضاً بإسناده عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر عن عليّ (عليه السلام) مثله، وروى الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام)نحوه(2). والسند الثاني المنتهي إلى محمّد بن قيس تامّ، وسند الصدوق إلى قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) ينتهي أيضاً إلى محمّد بن قيس، وهو أيضاً تامّ. وأمّا السند الأوّل ففيه النوفلي، ولم ترد شهادة بتوثيقه، ولم يثبت نقل صفوان الذي هو أحد الثلاثة عنه. نعم، جاء في الوافي ـ في الجزء الخامس ص 216 ـ نقلا عن الكافي حديث صفوان عن النوفلي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): ما من قوم اجتموا
', '(1) الوسائل ج 18 باب 22 من الشهادات ح 6 ص 253.
(2) الوسائل ج 19 باب 2 من موجبات الضمان، الحديث الوحيد في باب ص 174.
', 305), (14, 306, 'book', '
في مجلس فلم يذكروا اسم اللّه ـ تعالى ـ، ولم يصلّوا على نبيّهم، إلّا كان ذلك المجلس حسرة و وبالا عليهم»(1). ونقل ـ في نفس الجزء ص 219 ـ عن الكافي أيضاً حديث صفوان عن الحسين بن يزيد عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): الاستغفار وقول لا إله إلّا اللّه خير العبادة، وقال اللّه العزيز الجبّار: ﴿فاعلم أنّه لا إله إلّا اللّه واستغفر لذنبك﴾(2).
إلّا أنّ الموجود في الكافي في النسخة الموجودة عندي وهي الطبعة الجديدة في كلا الموضعين(3) هو حسين بن يزيد، وكأنّ في بعض نسخ الكافي ورد حسين بن يزيد، واجتهد صاحب الوافي في أنّ المقصود به هو النوفلي، بينما النوفلي من أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام)، فحتّى لو صحّت النسخة الّتي جاء فيها حسين بن يزيد لايمكننا أن نستظهر منه النوفلي؛ لأنّ المنقول عنه هو الإمام الصادق (عليه السلام)، وقد ورد نادراً ـ في غير هذين الحديثين ـ نقْلُ حسين بن يزيد عن الإمام الصادق (عليه السلام)، إلّا أنّ احتمال كونه شخصاً آخر غير النوفلي وارد بدرجة معتدّبها؛ لأنّ النوفلي من أصحاب الرضا (عليه السلام)، فكلمة حسين بن يزيد في لسان صفوان وإن كان المفروض بها أن تنصرف إلى النوفلي لأنّه المعروف في تلك الطبقة، لكن حينما يفرض راوياً عن الإمام الصادق (عليه السلام) نحتمل سقوط هذا الانصراف بقرينة الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) وإن كان احتمال أن يكون قد أدرك في أوائل عمره الإمام
', '(1) هذا الحديث موجود في الوسائل ج 4 باب 3 من الذكر ح 2 ص 1180.
(2) هذا الحديث موجود في الوسائل ج 4 باب 26 من الذكر الحديث الوحيد في الباب ص 1201.
(3) الحديث الأوّل ورد في أصول الكافي ح 2 باب ما يجب من ذكر اللّه ـ عزّ وجلّ ـ في كلّ مجلس ص 497 ح 5، والحديث الثاني ورد في نفس الجزء باب الاستغفار ح 6 ص 505.
', 306), (14, 307, 'book', '
الصادق (عليه السلام) وارداً، كما أنّ احتمال كون الحديث مرسلا بأن يكون حسين بن يزيد قد نقل هذا الحديث عن الإمام الصادق بواسطة أيضاً وارد، إلّا أنّه خلاف ظاهر النقل، وقد ورد حديث عن حسين بن يزيد عن الصادق (عليه السلام) بلسان لايحتمل فيه الإرسال، وهو ما في الكافي ـ ج 4 كتاب الحجّ باب النوادر ح 30 ص 546 ـ عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن عليّ بن أسباط عن عليّ بن أبي عبداللّه عن الحسين بن يزيد قال: «سمعت أباعبداللّه (عليه السلام)...». وعلى أيّ حال فنحن نحتمل كون حسين بن يزيد حينما ينقل عن الإمام الصادق إنساناً آخر، غير النوفلي لم يذكر في كتب الرجال، وإن لم نقبل ذلك كفانا اختلاف النسخ في المقام، فنحن نحتمل كون راوي الحديثين الذي روى عنه صفوان هو الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين لا الحسين بن يزيد هذا، وقد روى في الكافي ـ ج 5 كتاب المعيشة باب الغشّ ـ عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «نهى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)عن أن يشاب الّلبن بالماء للبيع» إلّا أنّ المعهود عن إبراهيم بن هاشم هو النقل عن النوفلي مباشرةً، و نفس هذ الحديث بهذا السند رواه الشيخ في التهذيب ـ ج 7 ح 52 ـ بحذف ابن أبي عمير. والمنقول عن نسخة مرآة العقول والوافي حذف ابن أبي عمير،والشيخ الحرّ (رحمه الله) روى الحديث في الوسائل نقلاً عن الكافي مع حذف ابن أبي عميرـ و ذلك في ج 12 باب 86 من ما يكتسب به الحديث 4 ـ و روى الصدوق في الفقيه ـ ج 3 باب بيع اللّبن المشاب بالماء ص 173 ـ هذا الحديث عن إسماعيل بن مسلم، و سنده إلى إسماعيل بن مسلم ليس فيه ابن أبي عمير، بل إبراهيم بن هاشم ينقل فيه مباشرةً عن النوفلي. و على أىّ حال فتكفينا في الحديث ـ مورد البحث ـ تماميّة بعض أسانيده.
وأمّا من حيث الدلالة: فهذا الحديث يلتقي مورده بهذا الاستثناء ـ أعني استثناء شهادة الصبيان فيما بينهم ـ إلّا أنّنا لانعرف مدى عدم تفرّقهم، وعدم
', '', 307), (14, 308, 'book', 'رجوعهم إلى أهلهم، ويلتقي مورده أيضاً بالاستثناء الآتي ـ أعني استثناء الشهادة بالقتل ـ إذن لانعلم هل أنّ نظر الإمام (عليه السلام) في هذا الحديث إلى هذا الاستثناء ـ أعني قبول شهادة الصبيان فيما بينهم ولو مع ترك شرط عدم التفرق والرجوع إلى الأهل ـ أو إلى الاستثناء الآتي، وهو القتل، أو إلى كليهما؟
الرابع ـ ما دلّ على قبول شهادة الصبي في القتل بأخذ أوّل كلامه، كما ورد بسند تامّ عن جميل قال: «قلت لأبي عبداللّه ـ عليه اللّه ـ تجوز شهادة الصبيان؟ فقال: نعم، في القتل يؤخذ بأوّل كلامه ولا يؤخذ بالثاني منه»(1).
وماورد بسند تامّ عن محمّد بن حمران، قال: «سألت أباعبداللّه (عليه السلام) عن شهادة الصبيّ، قال: فقال: لا، إلّا في القتل يؤخذ بأوّل كلامه ولا يؤخذ بالثاني»(2).
وما عن جميل بسند فيه سهل بن زياد قال: «سألت أباعبداللّه (عليه السلام) عن الصبيّ تجوز شهادته في القتل؟ قال: يؤخذ بأوّل كلامه ولا يؤخذ بالثاني»(3). ولعلّه متّحد مع الحديث الأوّل.
وهناك حديث قيّد قبول شهادة الصبيان في القتل بما إذا لم يوجد غيرهم، وهو ما عن محمّد بن سنان عن الرضا (عليه السلام) فيما كتب إليه من العلل: «وعلّة ترك شهادة النساء في الطلاق والهلال لضعفهنّ عن الرؤية ومحاباتهنّ النساء في الطلاق، فلذلك لاتجوز شهادتهن إلّا في موضع ضرورة: مثل شهادة القابلة، وما لا يجوز للرجال أن ينظروا إليه، كضرورة تجويز شهادة أهل الكتاب إذا لم يوجد غيرهم، وفي كتاب اللّه عزّوجلّ: ﴿إثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم﴾كافرين،
', '(1) الوسائل ج 18 باب 22 من الشهادات ح 1 ص 252.
(2) الوسائل ج 18 باب 22 من الشهادات ح 2 ص 252.
(3) نفس المصدر ح 4 ص 253.
', 308), (14, 309, 'book', '
ومثل شهادة الصبيان على القتل إذا لم يوجد غيرهم»(1).
وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً سنداً إلّا أنّه يمكن إثبات نتيجته بمقتضى القاعدة، وذلك بأنْيقال: إنّه إذا شهد الصبيان بالقتل: فإمّا أن يوجد شهود من البالغين وفق شهادتهم، أو يوجد شهود من البالغين على خلاف شهادتهم، أولا يوجد شهود من البالغين. فعلى الثالث تُمضى شهادة الصبيان ـ سواء اشترطنا عدم وجود غيرهم أوْلا ـ فإنّ المفروض عدم وجود غيرهم بالفعل، وعلى الأوّل لاثمرة لنفوذ شهادة الصبيان وعدمه لوجود الشهود من البالغين حسب الفرض، وعلى الثاني بالإمكان القول بأنّ المتبادر إلى ذهن العرف ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ أنّ نفوذ شهادة الصبّي في القتل إنّما هو لأجل أن لايبطل دم امرىء مسلم، لا لأجل أنّ شهادة الصبيّ في مورد القتل خالية عن الضعف الموجود في سائر الموارد في شهادة الصبيان، ومع هذا الفهم يكون دليل نفوذ شهادة الصبىّ منصرفاً عرفاً إلى فرض عدم المعارضة بشهادة الكبار، أو إلى فرض عدم إمكان تحصيل شهادة من قبل الكبار.
ثمّ إنّ صاحب الجواهر (رحمه الله) قوّى اختصاص الحكم بالقتل الذي يقع فيما بين الصبيان أنفسهم، مستشهداً بما مضى من حديث علىّ (عليه السلام) في قصّة الغلمان الستّة بناءً على دلالته على تقييد الحكم بفرض القتل فيما بينهم، وبما مضى من خبر طلحة الدالّ على قبول شهادة الصبيان فيما بينهم، قال (رحمه الله): «وهذا هو المناسب لعدم التهجّم على الدماء بشهادتهم على وجه يقتصّ بها من البالغين» وقال (رحمه الله) في آخر كلامه: «إنّ ما ذكرناه هو الأقوى وإن قلّ المصرّح به، لكن لاوحشة مع الحقّ وإن قلّ القائل
', '(1) الوسائل ج 18 باب 24 من الشهادات ح 50 ص 269.
', 309), (14, 310, 'book', '
به...»(1).
إلّا أنّ هذا الكلام لاوجه له؛ لوضوح أنّ قصّة علىّ (عليه السلام) وإن وردت في مورد كون القتل فيما بينهم، ولكن لادلالة لها على حصر الحكم بما إذا كان القتل فيما بينهم، وخبر طلحة دلّ على عنوان آخر للاستثناء، وهو قبول شهادتهم بالنسبة لما بينهم من دون اختصاص ذلك بالقتل الذي هو محل الكلام، واحتمال أداء قبول الشهادة إلى هدر دم مسلم، يقابلة احتمال أداء ترك قبول شهادته ـ مع عدم وجود شهود بالغين ـ إلى بطلان دم مسلم، فإن قدّم النصّ الاحتياط بالنسبة للجانب الثاني على الاحتياط بالنسبة للجانب الأوّل، فليس لنا إلّا التسليم.
ثمّ إنّ توسيع الحكم لما يشمل الشهادة على الجرح مّما لاوجه له، فإنّ احتمال اختصاص الحكم بالقتل تحسّباً لاحتمالات بطلان دم المسلم ـ لو لم نأخذ بشهادة الصبىّ ـ وارد.
وأغرب منه تخصيص الحكم بالجراح كما جاء في الشرائع، وقد قيّده ببلوغ العشر، وبقاء الاجتماع، وكون الاجتماع على مباح.
والقيد الثالث لادليل عليه، والقيد الثاني ورد في استثناء عنوان آخر، وهو عنوان الشهادة على ما بينهم لاخصوص القتل، والقيد الأوّل ورد كاستثناء مستقلّ، وقد مضى عدم تماميّة دليله. والجراح لادليل على قبول شهادة الصبيان فيها.
بقي الكلام في أنّه هل الحكم يشمل الصبيّة، أو يختصّ بالضبىّ المذكّر؟ قد يقال: إنّ كلمة الصبىّ ككلّ الصيغ المشتقّة للمذكّر تستعمل أيضاً للجامع بين المذكّر والمؤنّث، فحينما يراد التعبير عن الجامع يعبَّر بصيغة المذكّر لابصيغة المؤنّث، كما هو واضح. إذن فالروايات الواردة في هذا الاستثناء أو في الاستثناء الثالث أو الثاني
', '(1) راجع الجواهر ج 41 ص 13 و 14
', 310), (14, 311, 'book', '
تشمل بإطلاقها الصبىّ والصبيّة.
ويمكن الردّ على هذا البيان، وتوضيح اختصاص الحكم بالصبىّ المذكّر بأحد بيانين:
الأوّل ـ أنّ هذه الروايات إنّما هي بصدد الاستثناء من شرط البلوغ، أمّا سائر الشرائط فالمرجع في اشتراطها وعدمه مدى إطلاق أدلّتها لاهذه الروايات، ففي المورد الذي تشترط الذكورة ولاتُقبل فيه شهادة النساء، لاتُقبل فيه أيضاً في مورد الاستثناء شهادة الصبيّات، وإلّا فهل يقال: بقبول شهادة الصبيّات، وعدم قبول شهادة النساء في تلك الموارد؟! أو هل ترفع اليد عن شرط الذكورة، وتقبل شهادة النساء أيضاً في موارد الاستثناء؟!
وهذا البيان يختصّ بخصوص موارد عدم قبول شهادة النساء.
الثاني ـ أنّ صيغة المذكّر من المشتقّات، تستعمل في الجامع وتستعمل في خصوص المذكّر، والقرائن ومناسبات المقام هي التي تعيّن أحد المعنيين، ولاقرينة أو مناسبة تعيّن إرادة الجامع في المقام، فإنّ احتمال الفرق بين الصبىّ والصبيّة وارد لامحالة؛ إذن ففي الصبيّة نرجع إلى إطلاقات اشتراط البلوغ.
وهذا البيان أوسع نتيجة من البيان السابق؛ لأنّه يشمل حتى الموارد التي تقبل فيها شهادة النساء.
العقل
الشرط الثاني ـ هو العقل. فالمجنون لاتقبل شهادته بلاخلاف، فإذالم يكنمُطبَقاً قبلت شهادته في حال الإفاقة عملا بالإطلاقات، ويلحق بالمجنون الأبله الذي لايعتمد عادة على شهادته، وكذلك كثير الخطأ و النسيان، كلّ هذا لأنصراف الأدلّة، أو للقطع بالحكم.
$
', '', 311), (14, 312, 'book', ' $
الإيمان أو الإسلام
الشرط الثالث ـ الإيمان ـ بمعنى كونه شيعيّاً اثني عشريّاً ـ أو الإسلام:
شرط الإسلام:
امّا شرط الإسلام فهو من ضروريات الفقه، فلا تقبل شهادة الكافر بحقّالمسلم ولو كان عدلا في مذهبه وفرض قاصراً في خطئه الاعتقادىّ، ويدلّ عليه قوله ـ تعالى ـ: ﴿شهادةُ بينِكُم إذا حَضَرَ أحدَكُمُ الموت حينَ الوصيّة اثنان ذوا عدل منكم أو آخَران من غيركم...﴾(1). والمقصود بقوله منكم هو المسلمون لاالناس بشكل مطلق؛ بقرينة قوله: ﴿أو آخَران من غيركم﴾.
ودلالة ذيل الآية على قبول شهادة غير المسلم في الوصيّة عند العجز عن تحصيل شهادة المسلم لاتنسحب إلى سائر الموارد.
نعم دلالة ذيل الآية على قبول شهادة الكافر في الوصيّة عند العجز عن تحصيل شهادة المسلم، تجعلنا لانستطيع أن نتعدّى من دلالة صدر الآية على شرط الإسلام في الشهادة على الوصيّة إلى سائر الموارد في فرض العجز عن تحصيل شهادة المسلم. وهذه الملاحظة موجودة - أيضاً - في الاستدلال على شرط الإسلام بالروايات الواردة في تفسير الآية الكريمة، من قبيل ما ورد بسند تامّ عن أحمد بن عمر قال: سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم﴾، قال: «اللذان منكم مسلمان، واللذان من غيركم من أهل الكتاب، فإن لم يجد من
', '(1) السورة 5 المائدة الآية 106.
', 312), (14, 313, 'book', '
أهل الكتاب فمن المجوس؛ لأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: سنُّوا بهم سُنّة أهل الكتاب، وذلك إذا مات الرّجل بأرض غربة، فلم يجد مسلمَينِ يُشهدهما، فرجلان من أهل الكتاب»(1).
وقد يُقال: إنّ شهادة الكتابيّ أو خصوص الذميّ تنفذ في كلّ الموارد عند العجز عن تحصيل شهادة المسلم، لا في خصوص الوصيّة، وذلك لأنّ المطلقات الّتي سنشير إليها لإثبات شرط الإسلام في الشهادة مقيّدة بما ورد بسند تامّ عن عبيد اللّه ابن عليّ الحلبيّ. قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) هل تجوز شهادة أهل الذمة على غير أهل ملّتهم؟ قال: نعم، إن لم يوجد من أهل ملّتهم، جازت شهادة غيرهم، إنّه لايصلح ذهاب حقّ أحد»(2). إلّا أنّ هذا - كما ترى - إنّما ورد في شهادة غير المسلمين في ما بينهم؛ حيث قال: إن لم يوجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم. وهذا - كما ترى - أجنبيّ عن المقام، فإنّه مضافاً إلى ما قد سيظهر من رجوع الضمير في قوله: «من أهل ملّتهم إلى أهل الذمّة» يُقال: إنّ عنوان أهل الملّة يطلق عادةً بشأن غير المسلمين، ولو سُلّم وروده في المقام، قلنا: إنّ هذا الحديث محمول على الوصيّة، وذلك لما ورد بسند تامّ عن سماعة قال: «سألت أباعبداللّه (عليه السلام) عن شهادة أهل الملّة، قال: فقال: لاتجوز إلّا على أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم،
', '(1) الوسائل ج 18 باب 40 من الشهادات ح 2 ص 287.
(2) الوسائل ج 18 باب 40 من الشهادات ح 1 ص 287. وورد أيضاً في الوسائل ج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 3 ص 390 عن الحلبي ومحمد بن مسلم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) كالتالي: قال: «سألته هل تجوز شهادة أهل ملّة من غير أهل ملّتهم؟ قال: نعم، إذا لم يوجد من أهل ملّتهم، جازت شهادة غيرهم؛ إنّه لايصلح ذهاب حق أحد».
', 313), (14, 314, 'book', '
جازت شهادتهم على الوصيّة؛ لأنّه لايصلح ذهاب حقّ أحد»(1). والحديثان وإن كانا مثبتين، لكن يُقيّد الأوّل بالثاني، لعلمنا بوحدة الحكم بعد فرض حمل الحديث الأول على ما نحن فيه. ووحدة الحكم توجب حمل المطلق على المقيّد حتى في الشموليين. والحكم الواحد إمّا أن يكون أُخذ في موضوعه قيد الوصيّة، أو لم يُؤخذ، فيتنافيان فيقيّد المطلق بالمقيّد.
نعم، لو كان قيد الوصيّة مذكوراً في كلام السائل، لاحتملنا كون تطبيق الحكم على مورد الوصيّة من قبل الإمام تطبيقاً للحكم على مصداق من مصاديق الموضوع من دون دخل هذا القيد في الموضوع، لكن تصدّي الإمام (عليه السلام) لذكر هذا القيد يُبعد هذا الاحتمال.
لايُقال: إنّ مقتضى التمسّك بعموم العلّة الواردة في قوله: «لأنّه لايصلح ذهاب حق أحد» أنّ الحكم عامّ لايختصّ بباب الوصيّة.
فإنّه يُقال: إنّ التعليل الموجب للتعدّي هو التعليل بصفة مشتركة بين موضوع الحكم والمتعدّى إليه، لاستظهار العرف أنّ تلك الصفة هي الموضوع وليس المتعدى منه، كما في مثل (لاتأكل الرّمان لأنّه حامض) حيث نتعدّى إلى كلّ حامض، أو (لاتشرب الخمر لأنّه مسكر) حيث نتعدّى إلى كلّ مسكر، لا التعليل بحكمة ليست وصفاً للموضوع، بل كانت نتيجة من نتائج العمل بالحكم، كأن يُقال مثلا: إنّ اللّه أوجب الزكاة لأنّها ترفيهٌ على الفقراء بفضل مال الأغنياء، فيتعدى إلى كلّ عطاء فيه
', '(1) الوسائل ج 18 باب 40 من الشهادات ح 4 ص 287، و ج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 5 ص 391، وورد نظيره أيضاً في نفس الباب ح 1 ص 390 عن ضريس الكناسي، إلّا أنه لادليل على وثاقة ضريس الكناسي، إلّا بناءً على انصرافه إلى ضريس بن عبدالملك الكناسي الذي ورد توثيقه في رجال الكشّي.
', 314), (14, 315, 'book', '
ترفيه على الفقراء بفضل مال الأغنياء، أو يُقال مثلا: (صوموا حتى تصحّوا)، فيثبت بذلك وجوب كلّ ما يؤثّر في صحّة البدن، أو يُقال: ﴿ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى، فللّه. وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل؛ كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم﴾(1)، فيُقال: متى ما تجمّع مال كثير لدى أحد يجب توزيعه وتفتيته؛ كي لا يكون دولة بين الأغنياء، ونحو ذلك، فالتعليل بملاك مّا لايعني أنّ ذاك الملاك أينما وجد سرى الحكم؛ إذ نحتمل أنّ المولى لم يهتمّ بذاك الملاك، إلّا بمقدار الحكم المعلَّل، ولو لمانع في غير مورد الحكم، وإنّما نتعدّى في مورد التعليل بالصفة المشتركة بين موضوع الحكم وشيء آخر، وذلك لاستظهار العرف كونها هي الموضوع، لا ما فيه الصفة. وما نحن فيه من القسم الثاني لا الأوّل، فقوله: (لا يصلح ذهاب حقّ أحد) ملاك للحكم، لاموضوع له، وفرق كبير بين التعليل بوصف من أوصاف ونحو ذلك الموضوع، التعليل بفائدة من فوائد الحكم، والأوّل هو الذي يوجب التعدّي دون الثاني. نعم، قد تقتضي المناسبة والارتكاز عدّ شيء موضوعاً، ولو ذكر بصيغة الملاك، من قبيل (لا تشرب الخمر كي لاتسكر) فإنّ العرف يفهم منه بمناسبات الحكم والموضوع والارتكاز معنى (لا تشرب الخمر لأنّه مسكر).
ثمّ إنّه رغم ما ذكرناه من كون شرط الإسلام في الشاهد من ضروريّات الفقه نحن بحاجة إلى التفتيش عن إطلاق يدلّ على ذلك؛ كي يفيدنا في مورد قد يُشكّ فيه، فإنّ كون أصل القضيّة في الجملة من ضروريات الفقه لاينافي الشكّ في بعض الموارد. فمثلا لو شككنا في نفوذ شهادة غير المسلم في باب القضاء عند العجز عن تحصيل شهادة المسلم، أمكن التمسّك بذاك الإطلاق لو كان.
والظاهر وجود إطلاق من هذا القبيل متمثّل ببعض الروايات، من قبيل
', '(1) سورة الحشر الآية 7.
', 315), (14, 316, 'book', '
مامضى عن سماعة، ومن قبيل ما ورد بسند تامّ عن أبي عبيدة عن أبي عبداللّه (عليه السلام)قال: «تجوز شهادة المسلمين على جميع أهل الملل، و لاتجوز شهادة أهل الذمة (الملل - خ ل -) على المسلمين»(1). وإن كان كثير من الروايات المشتملة على شرط الإسلام لاتشمّل على الإطلاق المطلوب، من قبيل روايات الباب39 من الشهادات من الوسائل ج 18 كقوله في الحديث الثاني منها: «... قلت: فيهودي أُشهد على شهادة ثمّ أسلم، أتجوز شهادته؟ قال نعم»(2). فهذا كما ترى ليس بصدد اشتراط الإسلام في الشهادة؛ كي يتمسّك بإطلاقه، وإنّما هو بصدد بيان قبول شهادة مسلم كان عند تحمل الشهادة يهوديّاً. ونحن ضمناً نفهم من ذلك شرط الإسلام في الشهادة.
ومن قبيل ما عن حريز بسند تامّ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا فعدّل منهم اثنان، ولم يعدّل الآخران، فقال: «إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أُجيزت شهادتهم جميعاً...»(3) فإنّ شرط الإسلام في باب الحدود لايدلّ على عدم نفوذ شهادة غير المسلم في باب القضاء عند العجز عن تحصيل شهود مسلمين؛ لأنّ احتمال الفرق وارد.
وعلى أيّ حال، فتكفينا تماميّة الإطلاق في بعض الروايات كما عرفت.
ولو لا خروج الوصيّة بالدليل، لكنّا نقول بمقتضى إطلاق ما مضى من حديث أبي عبيدة، أنّ شهادة الكافر لاتنفذ بشأن المسلم، ولو مع العجز عن تحصيل شهود مسلمين حتى في الوصية، ولكنّ الوصيّة خرجت بنصّ القرآن الكريم - كما عرفت
', '(1) الوسائل ج 18 باب 38 من الشهادات ح 1 ص 284.
(2) الوسائل ج 18 باب 39 من الشهادات الحديث 2 ص 285.
(3) الوسائل ج 18 باب 41 من الشهادات ح 18 ص 293 و 294.
', 316), (14, 317, 'book', '
- ولو كنّا والآية فقط، لخصّصنا الاستثناء بما إذا لم ينكر بعض الورّاث فرض وجود الوصيّة، بأن يدّعي من لم تتمّ فيه شرائط البيّنة أنّه كان حاضراً مجلس الموت ولم يوص الميّت بشيء، وأنّ البيّنة الكافرة كاذبة، وذلك لعدم إطلاق في الآية يشمل هذا المورد لابلحاظ صدر الآية، ولا بلحاظ ذيلها: أمّا صدرها فإنّما دلّ على الأمر بإشهاد آخرين من غير المسلمين ونحن عرفنا بالالتزام نفوذ شهادتهما كي لايلغو إشهادهما. وهذا - كما ترى - لا إطلاق له؛ إذ يكفي في عدم لغويّة الإشهاد نفوذ الشهادة في الجملة. وامّا ذيلها. فقد دلَّ على نفوذ الشهادة بعد التقييد باليمين إذا كان هناك ارتياب، أمّا اذا كان هناك القطع بالكذب من قبل بعض الورّاث، فهو مسكوت عنه في الآية الكريمة. ولكن لايبعد الإطلاق في بعض الروايات لهذه الحالة من قبيل مامضى من حديث سماعة، ومن قبيل ما ورد - بسند تامّ - عن هشام بن الحكم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿أو آخران من غيركم﴾ فقال: «إذا كان الرجل في أرض غربة ولايوجد فيها مسلم، جازت شهادة من ليس بمسلم في (على - خ ل -) الوصيّة»(1).
وعلى أيّ حال، فلاإشكال في شرط الإسلام في نفوذ شهادة الشاهدبشأن المسلم.
 $
شرط الإيمان:
والآن يجب أن نرى هل يكفي الإسلام، أو لابدّ من شرط الإيمان بان يكونشيعيّاً اثني عشريّاً؟. عمدة الدليل على شرط الإيمان بالمعنى الخاصّ وجوه:
الأوّل: دعوى الإجماع، بل قال في الجواهر: «لعلّه من ضروريّات المذهب
', '(1) الوسائل ج 18 باب 40 من الشهادات ح 3 ص 287.
', 317), (14, 318, 'book', '
في هذا الزمان»(1).
إلّا أنّ الإجماع إن كان، فلا أقلّ من احتمال كون بعض الوجوه التي ذكرت في المقام مدركاً له، فلا عبرة به، أمّا كونه من ضروريّات المذهب في هذا الزمان، فلانفهمه، فإنّ ما تدلّ عليه ضرورة المذهب بحيث لايمكن أن نحتمل خطأه، يجب أن تدلّ عليه ضرورة المذهب من أوّل الزمان القريب من عصر تشريع المذهب لا ضرورة المذهب في هذا الزمان.
الثاني - دعوى الفسق بشأن غير المؤمن، فلا تقبل شهادته؛ للفسق وعدم العدالة.
وهذا الوجه أيضاً قابل للمناقشة، وذلك بافتراض شهود من المسلمين غير الشيعة عدول في مذهبهم، مع افتراض اعتقادهم بصحّة مذهبهم، حتى ولو كانوا مُقصّرين في الأصل في تحصيل هذا الاعتقاد؛ باعتبار تقصيرهم في الفحص مثلا فإنّ هذا التقصير الابتدائي، وإن كان ينجّز عليهم استحقاق العقاب على خطئهم الحالي رغم قطعهم بعدم الخطأ؛ باعتبار أنّ الامتناع بالاختيار لاينافي الاختيار مثلا، لكن هذا لاينافي صدق عنوان العدل عليه فعلا، باعتباره غير متلبّس إلّا بما يقطع بصحّته، ولامعنى للردع عن القطع.
الثالث - ما ورد بسند تامّ عن عبداللّه بن المغيرة، قال: «قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): رجل طلّق امرأته وأشهد شاهدين ناصبييّن، قال: كلّ من ولد على الفطرة، وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته»(2).
وذلك بدعوى أنّه لايحتمل أن يكون المقصود بهذا الحديث تصحيح شهادة
', '(1) الجواهر ج 41 ص 16.
(2) الوسائل ج 18 باب 41 من الشهادات ح 5 ص 290. وح 21 ص 295.
', 318), (14, 319, 'book', '
الناصبيين؛ إذن فالمقصود بقوله: «عرف بالصلاح في نفسه» أن يكون معروفاً بالصلاح لا في عمله فحسب، بل حتى في مذهبه؛ كي يخرج بذلك الناصبيّ. ومن الواضح أنّ غير المؤمن الاثني عشريّ ليس صالحاً في مذهبه.
وهذا أيضاً قابل للنقاش، فإنّ النصب عمل محرّم حتى ولو لم يعتقد الشخص بإمامة أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وليس مجرّد خطأ في الاعتقاد منسجم مع العدالة في العمل، فالحكم بفسقه، أو عدم صلاحه، وعدم قبول شهادته أمر طبيعي، ولايمكن التعدّي منه إلى ما نحن فيه، ولو فرضت معقوليّة عذره عادةً - وهو غير صحيح - إذن فلادليل على أنّ قوله: «عرف بالصلاح في نفسه» احتراز عن كلّ ناصبيّ.
الرابع - ما عن أميرالمؤمنين (عليه السلام) في قوله - تعالى -: ﴿ممّن ترضون من الشهداء﴾(1) قال: «ممّن ترضون دينه، وأمانته، وصلاحه، وعفّته، وتيقّظه فيما يشهدبه...»(2). فيقال: إنّ غير المؤمن بالمعنى الخاصّ لانرضى دينه، فهو خارج وفق هذا التفسير للآية الكريمة عن كبرى من تقبل شهادته.
وفيه: أنّ هذا الحديث رواه صاحب الوسائل عن كتاب تفسير الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وسند صاحب الوسائل إلى هذا الكتاب غير تامّ.
الخامس - التشكيك في وجود إطلاق يدل على حجّيّة شهادة غير المؤمن بالمعنى الخاصّ، ومعه يرجع إلى أصالة عدم الحجّيّة ففي مثل قوله - تعالى -: ﴿ذوا عدل منكم﴾(3)، وقوله - تعالى -: ﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم﴾(4) ممّا
', '(1) السورة 2 البقرة الآية 282.
(2) الوسائل ج 18 باب 41 من الشهادات ح 23 ص 295.
(3) السورة 5 المائدة الآية 106.
(4) السورة 2 البقرة الآية 282.
', 319), (14, 320, 'book', '
صيغ بصياغة الخطاب، يحتمل أن يكون الخطاب إلى المؤمنين، لا إلى عموم المسلمين، وإن كان وقت نزول الآية لم يكن موضوع للخلاف في إمامة أئمّة أهل البيت - عليهم سلام اللّه -، فأنّ هذا يعني أنّ عدم الاعتراف بإمامتهم وقتئذ لم يكن يضرّ بإيمان الشخص، ولايعني التأكّد من شمول الخطاب لكل مسلم وإن لم يكن مؤمناً، ومثل قوله: «تجوز شهادة المسلمين على جميع أهل الملل، ولاتجوز شهادة أهل الذمّة على المسلمين»(1)، ممّا كان بصدد بيان نفوذ شهادة المسلم علىأهل ملّة أُخرى... ليس بصدد بيان شرائط البيّنة من سائر الجهات، كي يتمّ فيه إطلاق، وإنّما هو بصدد بيان الفرق بين المسلم وغير المسلم بنفوذ شهادة المسلم على غيره دون العكس، ومثل قوله: «فيهودي أُشهد على شهادة ثمّ أسلم، أتجوز شهادته؟ قال: نعم»(2). ممّا كان بصدد بيان كفاية الإسلام حين أداء الشهادة، وعدم اشتراط الإسلام حين تحمّلها، أيضاً ليس بصدد بيان شرائط البيّنة من سائر الجهات، كي يتمّ فيه الإطلاق.
وقد يقال: إنّ عدم تماميّة الإطلاق فى المقام لايكفي للبناء على عدم حجّيّة شهادة غير المؤمن بالمعنى الخاصّ، بل نبقى مترّددين بين المتباينين من حجيّة البيّنة وحجّيّة يمين المنكر.
وقد يجاب على ذلك: بأنّ استصحاب عدم حجّيّة شهادة غير المؤمن ينقّح موضوع اليمين؛ بناءً على أنّ موضوعه هو عدم البيّنة الحجّة بما هي حجّة، لاعدم ذات البيّنة التي تكون حجّة.
والصحيح وجود الإطلاق في المقام وذلك:
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 38 من الشهادات ح 1، ص 284.
(2) الوسائل ج 18 باب 39 من الشهادات ح 2 ص 285.
', 320), (14, 321, 'book', '
أوّلا ـ لخلوّ بعض الإطلاقات عن تمام الإشكالات التي أشرنا اليها حتّى في بادىء النظر، كقوله: «... إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور أجيزت شهادتهم جميعاً...»(1).
وثانياً ـ أنّ ما مضى من الإشكال على إطلاق مثل قوله: «تجوز شهادة المسلمين على جميع أهل الملل، ولاتجوز شهادة أهل الذمّة على المسلمين» ـ من أنّها ليست بصدد بيان شرائط البيّنة من سائر الجهات غير نفوذ شهادة المسلمين على باقي الملل دون العكس ـ غير وارد، وذلك لأنّ شهادة السنّيّ مثلا إن لم تنفذ على الشيعىّ، فلا إشكال في نفوذها على السنّيّ؛ إذ ليس بأدْوَن من شهادة اليهودىّ على اليهودىّ مثلا. فلو قلنا بشرط الإيمان فإنّما هو بمعنى أنّ السنّيّ والشيعىّ بمنزلة ملّتين، فمن هذا الباب لاتنفذ شهادة السنّيّ على الشيعىّ، وهذا الحديث من زاوية شهادة بعض أهل الملل على بعض بصدد البيان، فإطلاقه بهذا المقدار تامّ، وتراه قد فرض المسلمين ملّة واحدة لاملّتين، أو عدة ملل، فمقتضى إطلاقه أنّ شهادة المسلم نافذة من أىّ مذهب كان من مذاهب الإسلام لوكان باقي الشرائط ثابتاً فيه.
ولكن بالإمكان الجواب على هذا الوجه بأنّ الحديث إنّما فرض المسلمين ملّة واحدة في مقابل الكفار، أمّا كونهم فيما بينهم ملة واحدة بحيث تنفذ شهادة السنّيّ على الشيعىّ فغير معلوم، فغاية ما يدلّ عليه الحديث نفوذ شهادة السنّيّ على الكافر.
وثالثاً ـ أنّ ما مضى من الإشكال على مثل قوله: «فيهودي أُشهد على شهادة ثم أسلم...» ممّا دلّ على كفاية الإسلام حين أداء الشهادة من أنّه ليس بصدد بيان سائر الشرائط، فلا يدلّ على نفي باقي الشرائط غير صحيح، وذلك لأنّ الإيمان أخصّ من الإسلام، فالمسلم قد يؤمن بولاية أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)،
', '(1) الوسائل ج 18 باب 41 من الشهادات ح 18 ص 293 و 294.
', 321), (14, 322, 'book', '
وقد لايؤمن، ولكن غير المسلم لايمكن أن يؤمن بولاية أئمّة أهل البيت (عليهم السلام). واشتراط العام يدلّ عرفاً على نفي شرطيّة الخاصّ، فصحيح أنّه ليس بصدد بيان تمام الشرائط، لكن بما أنّ شرطيّة الخاصّ كأنّها تُلغي شرطيّة العام، يكون اشتراط العامّ دالّا عرفاً على عدم اشتراط الخاصّ. فظاهر كلام السائل ـ حينما قال: «يهودي أُشهد على شهادة ثم أسلم» ـ أنّ المرتكز في ذهنه أنّ الشرط هو الإسلام لا الإيمان، والامام (عليه السلام) قد أقرّه على ارتكازه. وهذا الوجه أيضاً يصلح جواباً للإشكال على ما مضى من مثل قوله: «تجوز شهادة المسلمين على جميع أهل الملل، ولاتجوز شهادة أهل الذمّة على المسلمين» بناءً على شمول قوله: «جميع أهل الملل» للمسلمين أنفسهم، كما هو الظاهر. أمّا لو فرض اختصاصه بغير المسلمين، فالحديث إنّما يدلّ على عدم اشتراط الإيمان في نفوذ شهادة المسلم على الكافر.
ورابعاً: أنّ الأحاديث الدالّة على كفاية الإسلام حين أداء الشهادة ما ظاهره كونه بصدد بيان سائر الشرائط، كما ورد بسند تامّ عن محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الذمّي و العبد يشهدان على شهادة، ثم يسلم الذمّي ويُعتق العبد، أتجوز شهادتهما على ما كانا أُشهدا عليه؟ قال: نعم، إذا علم منهما بعد ذلك خير جازت شهادتهما»(1). فقوله: «إذا علم منهما بعد ذلك خير» ظاهر في أنّه كان بصدد ذكر الشرائط، ولايفهم من قوله: «علم منهما بعد ذلك خير» شرط أكثر من العدالة في مذهبه، فإنّ العدالة في مذهبه خير وإن لم يكن مؤمناً.
 $
$
', '(1) الوسائل ج 18 باب 39 من الشهادات ح 1 ص 285.
', 322), (14, 323, 'book', '
 $
شهادة السنّي على السنّي
بقي الكلام في ما أشرنا إليه ضمناً من أنّه حتّى لو لم نقبل شهادة السنّيّ علىالشيعىّ لاينبغي الإشكال في قبول شهادة السنّيّ على السنّيّ، إمّا لاختصاص الوجه الموجب لعدم قبول شهادته بما إذا كانت الشهادة على الشيعىّ دون ما إذا كانت الشهادة على السنّىّ، كما إذا كان الوجه في ذلك هو الإجماع، فإنّ القدر المتيقّن منه ذلك، أو للتعدّي من مثل قبول شهادة اليهوديّ على اليهودىّ، لعدم احتمال الفرق عرفاً. نعم لو قلنا: بأنّ عدم نفوذ شهادة السنّىّ يكون من باب الفسق، فقد يُقال: إنّ هذا يعني عدم نفوذ شهادته حتى على السنّيّ؛ لأنّ شهادة الفاسق لاتنفذ حتى على الفاسق.
إلّا أنّ هذ الكلام غير صحيح، فإنّ اليهودىّ أيضاً فاسق بالمعنى الذي يكون السنّيّ فاسقاً، أي أنّه فاسق في العقائد، وقد دلّ الدليل على نفوذ شهادته بشأن اليهودىّ، وبعد عدم احتمال أسوئيّة السنّيّ من مثل اليهودىّ عرفاً، نفهم من مثل ذاك الدليل قاعدة عامّة: وهي أنّ الفسق العقائديّ لايضرّ بنفوذ الشهادة بشأن من كان مثله في ذاك الفسق، أي أنّه يعتنق نفس مذهبه الفاسد.
على أنّه قد يُقال في المقام بأنّ نفوذ شهادة السنّىّ على السنّىّ هو مقتضى إلزامهم بما التزموا.
وروايات الإلزام بما التزموا موجودة في الوسائل، بعضها في المجلد (15) باب (30) من مقدمات الطلاق، وبعضها في المجلد (17) باب (4) من ميراث الإخوة والأجداد، وتلك الروايات وإن كانت جملة منها خاصّة بموردها من البناء على طلاق العامّة الذي هو غير صحيح عندنا، أو البناء على
', '', 323), (14, 324, 'book', 'التعصيب في الإرث، ولكنّ بعضها وارد بلسان مطلق يمكن استفادة القاعدة العامّة منه.
قاعدة (إلزامهم بما التزموا):
ولنقتصر على ذكر الروايات التي يمكن استفادة القاعدة العامّة منها وهي كمايلي:
1 - ما عن عبداللّه بن محرز ـ ولم تثبت وثاقته ـ قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجل ترك ابنته وأُخته لأبيه واُمّه، فقال: المال كلّه لابنته، وليس للأُخت من الأبّ والأُمّ شيء، فقلت: فإنّا قد احتجنا إلى هذا والميّت رجل من هؤلاء الناس واخته مؤمنة عارفة. قال: فخذ لها النصف خذوا منهم كما يأخذون منكم في سُنّتهم وقضاياهم» قال ابن أُذينة: «فذكرت ذلك لزرارة، فقال: إنّ على ما جاء به ابن محرز لنوراً»، ونقل ـ أيضاً ـ بسند غير تامّ عن عبداللّه بن محرز نحوه بزيادة في كلام زرارة هي: (خذهم بحقّك في أحكامهم وسُنّتهم، كما ياخذون منكم فيه)(1)
2 - ما عن أيّوب بن نوح بسند غير تامّ قال: «كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام)أسأله: هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذون منّا في أحكامهم، أم لا؟ فكتب (عليه السلام) يجوز لكم ذلك، إذا كان مذهبكم فيه التقيّة منهم والمداراة»(2).
وهذان الحديثان ـ كما ترى ـ مختصّان بالمورد الذي يكون الشيعىّ مجبوراً على متابعة السنّة حينما يكون الحكم عليه، فأجاز الإمام (عليه السلام) له الاستفادة من حكمهم حينما يكون الحكم له، بل لو ورد مطلق من هذه الناحية، فالحديث الثاني يكون مقيّداً له لولا ضعف السند.
$
', '(1) الوسائل ج 17 باب 4 من ميراث الإخوة والأجداد ح 1 و 2 ص 484.
(2) نفس المصدر ح 3.
', 324), (14, 325, 'book', '
3 - ما ورد عن الحسين بن أحمد المالكيّ عن عبداللّه بن طاووس ـ ولم تثبت وثاقتهما ـ قال: «قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إنّ لي ابن أخ زوّجته ابنتي وهو يشرب الشراب ويكثر ذكر الطلاق، فقال: إن كان من إخوانك فلا شيء عليه، وإن كان من هؤلاء فأبنها منه، فإنّه عنى الفراق. قال: قلت: أليس قد روي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنّه قال: إيّاكم والمطلّقات ثلاثاً في مجلس، فإنهنّ ذوات الأزواج؟ فقال ذلك من إخوانكم لامن هؤلاء، إنّه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم»(1).
4 ـ ما ورد بسند غير تامّ عن جعفر بن محمد الأشعري عن أبيه عن الرضا (عليه السلام) قال: «من كان يدين بدين قوم لزمته أحكامهم»، ورواه في الفقيه مرسلا(2).
5 ـ ما ورد بسند غير تامّ عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «سألته عن الأحكام، قال: تجوز على أهل كلّ ذوي دين ما يستحلّون»(3).
6 ـ ما رواه الشيخ بسنده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن عبداللّه بن جبلّة قال: «حدثني غير واحد من أصحاب علىّ بن أبي حمزة عن عليّ بن أبي حمزة أنّه سأل أبا الحسن (عليه السلام) عن المطلّقة على غير السنّة أيتزوّجها الرجل؟ فقال: ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، وتزوّجوهنّ، فلا بأس بذلك». قال الحسن: «وسمعت جعفر بن سماعة وسئل عن امرأة طلّقت على غير السنّة، ألي أن أتزوّجها؟ فقال: نعم، فقلت له: أليس تعلم أنّ علىّ بن حنظلة روى: إيّاكم و المطلّقات ثلاثاً على غير سنّة، فإنّهنّ ذوات أزواج؟ فقال: يا بُنىّ رواية علىّ بن أبي حمزة أوسع على الناس،
', '(1) الوسائل ج 15 باب 30 من مقدّمات الطلاق ح 11 ص 322.
(2) الوسائل ج 15 باب 30 من مقدمات الطلاق ح 10 ص 322.
(3) الوسائل ج 17 باب 4 من ميراث الاخوة والأجداد ح 4 ص 484.
', 325), (14, 326, 'book', '
قلت: وأىّ شيء روى علىّ بن أبي حمزة؟ قال: روى عن أبي الحسن (عليه السلام) أنّه قال: ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم وتزوجوهنّ، فإنّه لابأس بذلك»(1). هكذا رواه في التهذيب في كتاب الطلاق، ورواه أيضاً في كتاب الميراث كالتالي: الحسن بن محمد بن سماعة عن عبداللّه بن جبلّة عن عدّة من أصحاب علىّ، ولا أعلم سليمان إلّا أنّه أخبرني به، وعلىّ بن عبداللّه عن سليمان أيضاً عن علىّ بن أبي حمزة عن أبي الحسن (عليه السلام) أنّه قال: «ألزموهم بما ألزموا أنفسهم»(2). والظاهر أنّ المقصود بسليمان هو سليمان بن داود المنقريّ الثقة، بقرينة ورود روايات عديدة عن سليمان بن داود عن علىّ بن أبي حمزة، إلّا أنّه لم يظهر من هذه العبارة جزمه بكون سليمان أحد اُولئك العدّة، وعلىّ بن عبداللّه مشترك بين من ثبتت وثاقته ومن لم تثبت وثاقته. وعليه فالحديث لايخلو سنداً من ضعف، إلّا إذا قيل: إنّ الوسيط إذا كان (غير واحد) يورث الاطمئنان، خصوصاً إذا ضُمّ اليه ظنّ عبداللّه بن جبلّة ـ إن لم يكن جزماً، أو اطمئناناً ـ بأنّ سليمان أحدهم خصوصاً مع نقل علىّ بن عبداللّه عن سليمان، وخصوصاً مع ضمّ كلام جعفر بن سماعة: (يا بنىّ، رواية علىّ بن أبي حمزة أوسع...). أو يحصل الاطمئنان من مجموع هذه الأُمور بالجامع بين كون أحدهم سليمان وكون الحديث صادراً من علىّ بن أبي حمزة.
وأمّا من حيث الدلالة، فالمتن الأوّل لا إطلاق فيه، إذ قال: «ألزموهم من ذلك ـ يعني من مسألة الطلاق ـ ما ألزموه أنفسهم وتزوجوهنّ فلا بأس بذلك».
', '(1) التهذيب ج 8 ح 190 ص 58، والوسائل ج 15 باب 30 من مقدمات الطلاق ح 5 و 6 ص 321.
(2) التهذيب ج 9 ح 1156 ص 322، والوسائل ج 17 باب 4 من ميراث الإخوه والأجداد ح 5 ص 485.
', 326), (14, 327, 'book', '
فلعلّ قاعدة الإلزام خاصّة بباب الطلاق ونكاح المطلّقة. نعم لايخلو قوله: «ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم» من إشعار بالقاعدة العامّة، إلّا أنّه لايتجاوز الإشعار، ولايصل إلى مستوى الظهور في الإطلاق، والمتن الثاني مطلق، ولكن الاطمئنان بوحدة الحديثين قد يضرّ بالتمسّك بالإطلاق، إلّا إذا قيل: بأنّه يحتمل أن نصّ كلام الإمام (عليه السلام) كان مشتملا على الإطلاق، ونقل الراوي كان نقلا بالمعنى، فمن المحتمل أنّه نقله مرّة بلسان محتفظ بالإطلاق، ومرّة أُخرى بلسان غير محتفظ بالإطلاق، ودلالة أحد النقلين على الإطلاق لايعارضها عدم دلالة النقل الآخر على الإطلاق.
 $
شهادة الكافر في الوصيّة:
بقي الكلام في أُمور راجعة إلى مسألة نفوذ شهادة غير المسلم بشأن المسلم فيالوصيّة عند عدم وجدان شهود مسلمين:
شهادته في الوصية بغير المال:
الأوّل ـ هل الحكم مخصوص بالشهادة في المال، أو يشمل مثل تعيين الوصىّ على أولاده غير البالغين مثلا؟ ذكر السيّد الخوئي: أنّ جماعة منهم الشهيد (قدس سره) في المسالك ذهبوا إلى الأوّل وقوفاً فيما خالف الأصل على المتيقّن، وعن الأردبيليّ (رحمه الله)أنّه يشعر بذلك بعض الروايات.
والصحيح: أنّ الحكم يعمّ الثاني لإطلاق الأدلّة، ولم نظفر برواية مشعرة بالاختصاص، ولعلّ الأردبيليّ (قدس سره) أرادبها ما في بعض الروايات، كموثوقة
', '', 327), (14, 328, 'book', 'سماعة(1) من تعليل الحكم بأنّه لايصلح ذهاب حقّ أحد، ولكنْ من الظاهر أنّ حقّ الوصاية من حقوق الميّت، فلا يصلح ذهابه(2). انتهى مع تغيير يسير في العبارة.
شرط الذميّة أو الكتابية:
الثاني ـ هل يشترط في الشاهد أن يكون ذميّاً، أو كتابياً، أوْلا؟
مقتضى إطلاق الآية، هو عدم اشتراط الذّميّة و لاالكتابيّة، وكذا إطلاق بعض الروايات من قبيل ما ورد بسند تامّ عن هشام بن الحكم، أو هشام بن سالم، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في قوله ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿أو آخران من غيركم﴾قال: «إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصيّة»، وفي بعض النقول عن هشام بن الحكم عن أبي عبداللّه (عليه السلام): (إذا كان الرجل في أرض غُربة لايوجد فيها مسلم)(3).
إلّا أنّه قد ورد ما دلّ على تخصيص الحكم بالكتابيّ، وهو ما عن أحمد بن عمر بسند تامّ قال: «سألته عن قول اللّه ـ عزّ و جلّ ـ: ﴿ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم﴾، قال: اللّذان منكم مسلمان، واللّذان من غيركم من أهل الكتاب، فإن لم يوجد من أهل الكتاب، فمن المجوس؛ لأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: سُنّوا بهم سُنّة أهل الكتاب، وذلك إذا مات الرجل بأرض غربة، فلم يجد مسلمَين يشهدان،
', '(1) الوسائل ج 18 باب 40 من الشهادات ح 4 ص 287، وج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 5 ص 391.
(2) مباني تكملة المنهاج / ج 1 / ص 82
(3) الوسائل ج 13 باب 20 من أحكام الوصيّة ح 2 ص 391 و ج 18 باب 40 من الشهادات ح 3 ص 287.
', 328), (14, 329, 'book', '
فرجلان من أهل الكتاب»(1)، ونحوه ما ورد عن يحيى بن محمد ـ ولم تثبت وثاقته ـ عن أبي عبداللّه (عليه السلام)(2). وعليه فلا إشكال في شرط الكتابيّة.
والمجوسىّ في حكم الكتابيّ؛ لما مضى في حديث أحمد بن عمر من أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: «سُنّوابهم سُنّة أهل الكتاب» أي أنّ حكمهم حكم الكتابيّ، فما في حديث أحمد بن عمر من جعل إشهاد المجوسىّ معلقاً على عدم وجود اليهودىّ والمسيحىّ محمول على الاستحباب بقرينة تعليله لجواز إشهاده بقول رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) (سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب). نعم في حديث يحيى بن محمد الذي أشرنا إليه، ولم ننقل نصّه جاء: (... فإن لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس لأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) سنّ فيهم سنّة أهل الكتاب في الجزية...)، وهذا التعبير ظاهر في وجوب الترتيب بين المجوس وأهل الكتاب، والقرينة التي أشرنا إليها للحمل على الاستحباب غير موجودة هنا؛ إذ لم يعلّل جواز إشهاد المجوس بأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)أمر بأن يسنّ بهم سُنّة أهل الكتاب، وانّما علّل بأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) سنّ بهم في الجزية سُنّة أهل الكتاب، إلّا أنّ هذا الحديث - كما أشرنا إليه - غير تامّ سنداً.
والمجوس قد يختلفون عن اليهود والنصارى فيما قد يقال من أنّه ليس لهم كتاب سماويّ بالفعل ولو محرّفاً، إلّا أنّه ورد في روايات غير تامّة السند أنّه كان لهم نبيّ فقتلوه، وكتاب فأحرقوه(3).
وورد بسند تامّ عن زرارة قال: «سألته عن المجوس ما حدّهم؟ فقال: هم
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 40 من الشهادات ح 2 ص 287.
(2) الوسائل ج 13 باب 20 من احكام الوصايا ح 6 ص 392.
(3) راجع الوسائل ج 11 باب 49 من جهاد العدو، وج 19 باب 14 من ديات النفس ح 4 ص 163.
', 329), (14, 330, 'book', '
من أهل الكتاب، ومجراهم مجرى اليهود والنصارى من الحدود والديات»(1). وورد أيضاً بسند تامّ عن سماعة بن مهران عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «بعث النبيّ (صلى الله عليه وآله)خالد بن الوليد إلى البحرين، فأصاب بها دماء قوم من اليهود والنصارى والمجوس، فكتب إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّي أصبت دماء قوم من اليهود والنصارى، فَوَديتهم ثمانمائة درهم؟ وأصبت دماء قوم من المجوس ولم تكن عهدتّ إليّ فيهم عهداً، فكتب إليه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أنّ ديتهم مثل دية اليهود والنصارى، وقال: إنهم من أهل الكتاب»(2). وهذان الحديثان يدلاّن على أنّه كان لهم كتاب فيما سبق حتى إذا ثبت أنّه لم يبق حتى اليوم ذاك الكتاب ولو محرّفاً.
أمّا ما ورد بسند تامّ عن عبدالكريم بن عتبة الهاشمي في قصّة أُناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد، وفيه عن لسان أبي عبداللّه (عليه السلام): (ياعمرو أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعوني إلى بيعته، ثمّ اجتمعت لكم الاُمّة، فلم يختلف عليكم رجلان فيها، فأفضيتم إلى المشركين الذين لايسلمون ولايؤدّون الجزية، أكان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون فيه بسيرة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في المشركين في حروبه؟ قال: نعم. قال: فتصنع ماذا؟ قال: ندعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية، قال: وإن كانوا مجوساً ليسوا بأهل الكتاب؟ قال: سواء. قال: وإن كانوا مشركي العرب، وعبدة الأوثان؟ قال: سواء. قال: أخبرني عن القرآن تقرأ؟ قال: نعم، قال: إقرأ: ﴿قاتلوا الذين لايؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر، ولايحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله، ولا يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون﴾فاستثناء اللّه - تعالى -
', '(1) الوسائل ج 19 باب 13 من ديات النفس ح 11 ص 162.
(2) نفس المصدر ح 7 ص 161.
', 330), (14, 331, 'book', '
واشتراطه من أهل الكتاب، فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟ قال: نعم. قال: عمّن أخذت ذا؟ قال: سمعت الناس يقولون. قال: فدع ذا...)(1). فهذا محمول على نفي الكتاب السماويّ لهم فعلا، فهو (عليه السلام) بصدد امتحان الطرف المقابل؛ لكي يرى هل يعرف حكم المجوس الذين ليس لهم فعلا كتاب؟ أمّا لو كان المقصود نفي كون حكمهم حكم الكتابيّ في الجزية، فهذا ما يقرب من القطع ببطلانه؛ للروايات ولمايشبه الإجماع.
وعلى أيّ حال فالمجوسيّ محكوم بحكم الكتابي في الحدود والديات؛ لروايات تامّة السند(2)، وفي الجزية أيضاً وردت روايات تجعله كالكتابيّ غير تامّة السند(3)، ما عدا رواية أبي بصير قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الجزية، فقال: إنّما حرّم اللّه الجزية من مشركي العرب»(4) بناءً على أنّ الحصر ناظر إلى المجوس، كما هو ناظر إلى اليهود والنصارى، وقد ورد حديثان يدلاّن على إلحاق المجوس بالكتابيّ في كلّ الأحكام:
أحدهما - مامضى من حديث أحمد بن عمر التامّ سنداً؛ حيث جاء فيه أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال: «سُنّوابهم سنّة أهل الكتاب».
والثاني - ما ورد بسند غير تامّ عن عليّ بن عليّ بن دعبل عن عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قال:
', '(1) الوسائل ج 11 باب 9 من جهاد العدو ح 2 ص 29.
(2) راجع الوسائل ج 19 باب 13 وباب 15 من ديات النفس.
(3) الوسائل ج 11 باب 49 من جهاد العدو.
(4) نفس المصدر ح 4.
', 331), (14, 332, 'book', '
«سُنّوابهم سُنّة أهل الكتاب» يعني المجوس(1).
وعلى أيّ حال فقد عرفت أنّه يشترط في الكافر الذي يشهد للوصية كونه كتابيّاً.
أمّا شرط الذمّيّة فقد أنكره السيد الخوئي في كتابه.
وقد جاء ذكر الذمّيّة في ثلاث روايات:
الأولى - مامضى من حديث الحلبي قال: «سألت أباعبداللّه (عليه السلام): هل تجوز شهادة أهل الذمة على غير أهل ملّتهم؟ قال: نعم، إن لم يوجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم؛ إنّه لايصلح ذهاب حقّ أحد»(2). ولكن لايمكن الاستدلال بهذا الحديث لإثبات شرطيّة الذمّيّة؛ إذ يرد عليه - مضافاً إلى مامضى من أنّ هذا الحديث خارج عن محل البحث؛ لأنّه راجع إلى شهادة أهل الملل الأُخرى غير المسلمين فيما بينهم - أنّه لم يدلّ على شرط الذمّة، غاية ما هناك أنّ سؤال السائل كان عن خصوص أهل الذمّة، بل مقتضى إطلاق الجواب وهو قوله: «جازت شهادة غيرهم» هو عدم اشتراط الذمّيّة، على أنّه لايبعد أن تكون كلمة (أهل الذمّة) - وهي الواردة في نسخة الفقية -(3) اشتباهاً، ويكون الصحيح (أهل الملّة)، كما ورد في نسخة الكافي(4)؛ حيث روى عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عُمير عن حماد عن الحلبيّ ومحمد بن مسلم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته: هل تجوز شهادة أهل ملّة من غير أهل ملّتهم؟ قال: نعم، إذا لم يوجد من أهل ملّتهم جازت
', '(1) نفس المصدر ح 9 ص 98.
(2) الوسائل ج 18 باب 40 من الشهادات ح 1 ص 287.
(3) ج 3 ح 84 ص 29.
(4) ج 7 كتاب الوصايا باب الإشهاد على الوصيّة ح 2 ص 4.
', 332), (14, 333, 'book', '
شهادة غيرهم؛ إنّه لايصلح ذهاب حقّ أحد»(1). والظاهر وحدة الحديثين بقرينة اتّحاد المتن تقريباً، واتّحاد الإمام المنقول عنه، واتّحاد ثلاثة وسائط متتالية من الطرف المتصل بالإمام؛ حيث رواه الصدوق بإسناده عن عُبيداللّه بن عليّ الحلبيّ وإسناده إليه - على ما جاء في مشيخته - هو أبوه ومحمد بن الحسن - رضي اللّه عنهما - عن سعد بن عبداللّه والحميريّ جميعاً عن أحمد وعبداللّه ابني محمد بن عيسى عن محمد بن أبي عُمير عن حماد بن عثمان عن عُبيداللّه بن عليّ الحلبيّ، وأيضاً أبوه ومحمد بن الحسن وجعفر بن محمد بن مسرور عن الحسين بن محمد بن عامر عن عمّه عبداللّه بن عامر عن محمد بن أبي عُمير عن حماد بن عثمان عن عبد اللّه بن عليّ الحلبيّ. إذن فسند الصدوق وسند الكليني متّحدان من الطرف المتصل بالإمام في ابن أبي عُمير وحمّاد والحلبيّ بفرق أن الكليني عطف على الحلبيّ محمد بن مسلم.
الثانية - مامضى من حديث سماعة، قال: «سألت أباعبداللّه (عليه السلام) عن شهادة أهل الذمّة. قال: لاتجوز، إلّا على أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصيّة؛ لأنّه لايصلح ذهاب حقّ أحد»(2). وفي هذا الحديث أيضاً إنمّا جاء قيد الذمّة في مورد سؤال السائل، وهذا لايعني اشتراطها.
الثالثة - ما عن حمزة بن حمران عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن قول اللّه - عزّ وجلّ -: ﴿ذَوا عدل منكم أو آخَران من غيركم﴾(3)قال: فقال: اللّذان منكم مسلمان واللّذان من غيركم من أهل الكتاب، فقال: إذا مات الرجل المسلم
', '(1) الوسائل ج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 3 ص 390.
(2) الوسائل ج 18 باب 40 من الشهادات ح 4 ص 287، وج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 5 ص 391.
(3) المائدة: 106.
', 333), (14, 334, 'book', '
بأرض غربة، فطلب رجلين مسلمين يشهدهما على وصيّة فلم يجد مسلمين، فليشهد على وصيّة رجلين ذمّيّين من أهل الكتاب مرضيّين عند أصحابهما»(1). وأورد عليه السيّد الخوئيّ ـ دام ظله ـ بضعف سنده بحمزة بن حمران؛ لعدم ورود توثيق ولامدح بشأنه. ومن هنا أفتى السيّد الخوئي بعدم شرط الذمّيّة عملا بالمطلقات.
أقول: إنّ حمزة بن حمران قد روى عنه ابن أبي عُمير وصفوان بن يحيى، فبهذا تثبت على مبناناوثاقته، وعليه فيتعيّن شرط الذمّيّة في المقام خلافاً لما ذكره السيّد الخوئيّ؛ حيث قال: «إنّ المذكور في كلمات غير واحد من الفقهاء اعتبار كون الشاهد ذمّيّاً، بل ادّعي عليه الإجماع، ولم نعرف له وجهاً ظاهراً...»(2).
اشتراط موته في السفر:
الثالث - هل يشترط في نفوذ شهادة الكتابيّ كون المسلم قد حضره الموت في السفر، أو أنّ المقياس هو عدم وجود الشاهد المسلم حتى لو كان في الحضر؟ ذكر السيّد الخوئي(3) بعد نقله الإطلاق في الحكم من أكثر الفقهاء، ونقله الاختصاص بأرض غربة من جماعة منهم الشيخ في المبسوط وابن الجنيد وأبو الصلاح -: أنّ الصحيح هو الاختصاص بذلك، لورود القيد في الآية الكريمة؛ حيث قال تعالى: ﴿إن أنتم ضربتم في الأرض، فأصابتكم مصيبة الموت﴾، وكذلك فيما مضى من حديث أحمد بن عمر(4) (... وذلك إذا مات الرجل بارض غربة فلم يجد
', '(1) الوسائل ج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 7 ص 392.
(2) مباني تكملة المنهاج ج 1 ص 83.
(3) نفس المصدر ص 84.
(4) الوسائل ج 18 باب 40 من الشهادات ح 2 ص 287.
', 334), (14, 335, 'book', '
مسلمين...)، وكذلك مامضى من حديث هشام بن الحكم في أحد نقليه(1)، وأيّد ذلك بمامضى من حديث حمزة بن حمران(2)؛ حيث جاء فيه - أيضاً - التعبير بــ (إذا مات الرجل بأرض غربة). وإنّما جعل هذا الحديث مؤيّداً لادليلا، لما يعتقده من عدم ثبوت وثاقة حمزة بن حمران، ولكن مضى أنّنا نقول بوثاقته لرواية بعض الثلاثة عنه.
ثمّ أشكل على نفسه بأنّه قد يُقال: إنّ التعليل الوارد في حديث الحلبيّ(3): (إنّه لايصلح ذهاب حقّ أحد)، وفي حديث سماعة(4): (لأنّه لايصلح ذهاب حق أحد)، يقتضي عموم الحكم، وعدم اختصاصه بما إذا كان المسلم بأرض غربة، فيحمل القيد في الآية والروايات الأُخرى على وروده مورد الغالب.
وأجاب على ذلك: بأنّه لايمكن الأخذ بإطلاق التعليل؛ للجزم بعدم قبول شهادة غير المسلم على المسلم في غير الوصيّة مطلقاً، فالحكم لايدور مدار العلّة قطعاً، ومعه لاموجب لرفع اليد عن ظهور القيد في الآية والروايات الأُخرى في اشتراط قبول الشهادة بما إذا كان الموصي بأرض غربة.
$
', '(1) الوسائل ج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 4 ص 391، و ج 18 باب 40 من الشهادات ح 3 ص 287. وقد يفسر أحد النقلين وهو قوله: «إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم» بإرادة بلد الغربة بقرينة النقل الآخر، وهو قوله: «إذا كان الرجل في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم»، وقد يُقال: ليس هذا أولى من العكس بحمل أرض الغربة على المثاليّة، فهذا الحديث مجمل.
(2) الوسائل ج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 7 ص 392.
(3) الوسائل ج 18 باب 40 من الشهادات ح 1 ص 287، والوسائل ج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 3 ص 390.
(4) الوسائل ج 18 باب 40 من الشهادات ح 4 ص 287، والوسائل ج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 5 ص 391.
', 335), (14, 336, 'book', '
أقول: لعلّه يقصد أنّنا لو حملنا التعليل على المعنى العامّ لزم تخصيص الأكثر، وإلّا فمجرد خروج مورد عن عموم التعليل بالقطع لايستلزم عدم التمسّك به في مورد الشّك.
وعلى أىّ حال فقد مضى منّا بيان أنّ هذا ليس تعليلا بوصف ثابت لمورد الحكم كي يفيد العموم والإطلاق، بل هو ذكر لحكمة و مصلحة مترتّبة على الحكم، وقلنا: إنّ هذا لايفيد عموماً أو إطلاقاً. إلّا أنّ حديث سماعة بنفسه مطلق في المقام بلاحاجة إلى التمسّك بعموم التعليل؛ حيث قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن شهادة أهل الملّة. قال: فقال: لاتجوز إلّا على أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصيّة؛ لأنّه لايصلح ذهاب حقّ أحد.»وهذا ـ كما ترى ـ غير مقيّد بكون المسلم في أرض غربة.
ولعلّ السيّد الخوئىّ يقصد أنّ الآية و الروايات الأُخرى تقّيد هذا الإطلاق بناءً على أنّه إذا تعارض المفهوم و إطلاق المنطوق، قُدّم المفهوم على الإطلاق، وبدعوى أنّ هذا لايتأتّى في عموم التعليل لقوّة إطلاقه، فهو الذي يتقّدم على المفهوم، أمّا إذا لم نقل بذلك، وقلنا: إنّ المفهوم يتقدّم على إطلاق المنطوق لأخصّيّته ولو كان الإطلاق مستفاداً من التعليل، فنقاشه في مسألة عموم التعليل يبقى بلا فائدة؛ لأنّ الحديث ـ كما قلنا ـ مشتمل على الإطلاق سواء نظرنا إلى ما فيه من التعليل أولا.
وعلى أىّ حال فالصحيح هو عدم اشتراط كونه بأرض غربة عملا بالإطلاق الذي عرفت، وأمّا الآية والروايات التي جاءَت فيها فرضية الضرب في الأرض، أو الكون بأرض غربة، فلا أقلّ من إجمالها وعدم ظهورها في القيديّة للحكم، وذلك لقوّة مناسبتها للورود مورد الغالب، وللمثاليّة؛ إذ عادةً لا يتّفق للمسلم المفروض به أنّه يعيش في بلد المسلمين أن لايحصل على شهود مسلمين، إلّا إذا كان بأرض غربة.
$
', '', 336), (14, 337, 'book', 'مدى اشتراط الانحصار في الشهادة:
الرابع ـ هل يشترط في قبول شهادة الكتابىّ أو الذمّىّ عدم وجود شاهدين مسلمين عدلين، أو يعتبر فيه عدم وجود شاهدين مسلمين حتى غير العدلين، أو عدم وجود مسلم مطلقاً وإن كان واحداً؟
الصحيح: أنّه لامجال للاحتمال الثاني، فإن أخذنا بما قد يبدو في أوّل وهلة من بعض الروايات من شرط عدم وجود الشاهد المسلم، فالمفروض هو أن نأخذ بالاحتمال الثالث؛ فمثلا جاء في حديث هشام بن الحكم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في قول اللّه ـ عزّ وجلّ ـ ﴿أو آخران من غيركم﴾ قال: «إذا كان الرجل في أرض غربة ولايوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصيّة»(1)، فقد يُقال: إنّ هذا ظاهر في اشتراط عدم وجود المسلم إطلاقاً، إلّا أن يُقال بشأن هذا الحديث بما ذكره السيّد الخوئىّ ـ دام ظله ـ بلحاظ بعض روايات الباب من أنّها واردة مورد تفسير الآية، وبيان المراد من كلمة (منكم) أو جملة ﴿أو آخران من غيركم﴾. وظاهر الآية هو أنّ الشرط إنّما هو عدم وجود شاهدين عدلين من المسلمين.
إلّا أنّ بعض روايات الباب غير واردة بشأن تفسير الآية، وقد يستظهر منها شرط عدم وجود المسلم إطلاقاً ـ أيضاً ـ من قبيل ما عن سماعة سألت أباعبد اللّه (عليه السلام) عن شهادة أهل الذمّة، فقال: «لاتجوز إلّا على أهل ملتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصيّة؛ لأنّه لايصلح ذهاب حقّ أحد»(2). فقد يُقال:
', '(1) الوسائل ج 18 باب 40 من الشهادات ح 3 ص 287، وج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 4 ص 391.
(2) الوسائل ج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 5 ص 391، و ج 18 باب 40 من الشهادات ح 4 ص 287.
', 337), (14, 338, 'book', '
إنّ ظاهر قوله: «فإن لم يوجد غيرهم» هو عدم وجود المسلمين إطلاقاً، ونحوه ما عن ضريس الكناسي قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شهادة أهل الملل: هل تجوز على رجل مسلم من غير أهل ملّتهم؟ فقال: لا، إلّا أن يوجد في تلك الحال غيرهم، وإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم في الوصيّة؛ لأَنّه لايصلح ذهاب حقّ امرىء مسلم، ولا تبطل وصيّته»(1). على كلام في وثاقة ضريس مضى من أنّه لادليل على وثاقته، إلّا بناءً على انصرافه إلى ضريس بن عبد الملك الكناسي الذي وردت وثاقته في رجال الكشّي.
وأجاب السيّد الخوئىّ عن الروايات غير الواردة بشأن تفسير الآية: بأنّها ـ أيضاً ـ لاتدلّ على اشتراط عدم وجود شاهدين غير عدلين، أو عدم وجود شاهد واحد؛ لأنّها إنّما تنظر إلى إلغاء اعتبار الإسلام في الشاهد في فرض العجز عن تحصيل الشهود المسلمين، وليس لها نظر إلى كفاية شهادة مسلم واحد أو مسلمين غير عدلين(2).
أقول: إنّ هذا الكلام غير مفهوم ما لم يرجع إلى ما سيأتي، فإنّ هذه الرويات ناظرة ـ كما قال ـ إلى إلغاء اعتبار الإسلام في الشاهد. وهذا حكم قد شككنا في موضوعه هل هو عدم وجود شاهدين مسلمين عدلين، أو هو عدم شاهد مسلم على الإطلاق؟ فقد يُقال: إنّ مقتضى إطلاق قوله: «لم يوجد غيرهم» هو عدم وجود شاهد مسلم على الإطلاق، وليس الباب من قبيل ورود الكلام مورد حكم آخر المانع عن التمسك بإطلاقه بالنسبة للحكم المطلوب، كما في قوله ـ تعالى ـ: ﴿كلوا ممّا
', '(1) الوسائل ج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 1 ص 390.
(2) راجع مباني تكملة المنهاج ج 1 ص 85.
', 338), (14, 339, 'book', '
أمسكن عليكم﴾(1) الوارد مورد حكم التذكية، فلا تستفاد من إطلاقه طهارة محلّ عضّ الكلب.
والصحيح في الجواب: أنّ مثل قوله: «لم يوجد غيرهم»، وكذلك قوله في حديث هشام بن الحكم: «ولايوجد فيها مسلم» إن لم يكن بمناسبات الحكم والموضوع منصرفاً إلى إرادة فرض انتفاء البيّنة المسلمة الواجدة لجميع الشرائط، فلا أقلّ من الإجمال، ولايكون ظاهراً في فرض انتفاء المسلم على الإطلاق، وذلك لأنّ هذه الروايات بصدد بيان بديل عن البيّنة الشرعيّة، فمقتضى مناسبات الحكم والموضوع هو حجّيّة البيّنة الكتابيّة أو الذميّة عند فقدان البيّنة المسلمة بكامل شرائطها. نعم، لوكانت هذه الروايات بصدد إعطاء الحجّيّة لشهادة المسلم الفاقد للشرائط عند العجز عن البيّنة الجامعة للشرائط، فقد يُقال: بأنّها تتقدّم على شهادة الكافرين؛ لانّه أُخذ في موضوع نفوذ شهادتهما عدم وجود المسلم، وقد وجد، ولكن مادامت هذه الروايات غير ناظرة أصلا إلى نفوذ شهادة مسلمين غير عدلين، أو مسلم واحد عند العجز عن تحصيل مسلمين عدلين، فهي منصرفة بمناسبات الحكم والموضوع إلى فرض العجز عن تحصيل البيّنة بكامل شروطها، ولاأقلّ من الإجمال. ولعلّ هذا هو مقصود السيّد الخوئي و إن قصرت عبارته.
وبناءً على إجمال الروايات يكون المرجع هو ظاهر الآية المباركة، وهي قوله ـ تعالى ـ: ﴿يا أيّها الذين آمنوا شهادةُ بينِكم إذا حضَرَ أحدَكم الموتُ حينَ الوصيَّةِ اثنانِ ذَوا عدل منكم أو آخَرانِ من غيرِكم، إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت...﴾(2). وهذه الآية ـ كما ترى - ظاهرة في أنّه
', '(1) السورة 5 المائدة الآية 4.
(2) السورة 5 المائدة الآية 106.
', 339), (14, 340, 'book', '
لا بدّ من أحد أمرين: إمّا شهادة عدلين مسلمين، أو شهادة كافرين، و هذا يعني أنّ الثاني بديل عن الأوّل عند العجز عن الأوّل، ومن الواضح أنّه مع وجود مسلم واحد أو مسلمين غير عدلين يكون العجز عن الأوّل ـ الذي هو موضوع الانتقال إلى الثاني ـ حاصلا.
اشتراط سائر شرائط البينة:
الخامس ـ الظاهر اشتراط سائر شرائط البيّنة غير الإسلام في شهادة الكتابيّين أو الذميّين، فإنّ الأدلّة إنّما كانت ناظرة إلى إلغاء اعتبار الإسلام، وليس لها إطلاق من ناحية فرض انتفاء شرط آخر. قال السيّد الخوئىّ(1): «وتؤيّد ذلك رواية حمزة بن حمران»(2)
أقول: بل تدلّ عليه بعدما عرفت من توثيق حمزة بن حمران برواية ابن أبي عُمير، وصفوان بن يحيى عنه.
انضمامه إلى مسلم عدل:
السادس ـ هل تقبل شهادة مسلم عدل واحد منضّماً إلى واحد عدل من أهل الذمّة أو أهل الكتاب، أوْلا؟. نقل السيّد الخوئي عن المستند عدم القبول اقتصاراً فيما خالف الأصل على مورد النصّ، واختار هو القبول تمسّكاً بالأولويّة القطعيّة.
أقول: لو لم تكن الأولويّة قطعيّة، فلا أقلّ من كونها عرفيّة إلى حدّ تعطي لدليل قبول شهادة الذميّين دلالة التزاميّة عرفيّة على قبول شهادة مسلم وذمّيّ، وهذه الدلالة حجّة.
$
', '(1) في مباني تكملة المنهاج ج 1 ص 85.
(2) الوسائل ج 13 باب 20 من أحكام الوصايا ح 7 ص 392.
', 340), (14, 341, 'book', '
التحليف عند الارتياب:
السابع ـ إن وقع الارتياب في شهادة الذميَّيْن حُلِّفا من بعد الصلاة باللّه، وإن ظهرت بعد ذلك أمارات الكذب، حُلّف شخصان من الذين ظُلموا من قِبَل الذميّين. وقد دلّت على ذلك كلّه الآية الكريمة:﴿يا أَيُّها الذين آمنوا شهادةُ بينِكم إذا حضَرَ أحَدَكم الموتُ حينَ الوصيةِ اثنانِ ذَوا عدل منكم أو آخَرانِ من غيرِكم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحسبونهما من بعد الصلاة فيقسمان باللّه إن ارتبتم لانشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولانكتم شهادةَ اللّه إنّا إذاً لَمنَ الآثمين فإن عُثِر على أَنَّهما استحقّا إثماً فآخَرانِ يقومان مقامَهما من الذين استحقَّ عليهم الأَوْلَيان، فيُقسمانِ باللّهِ لَشهادتنا أَحقُّ من شهادتِهِما، وما اعتدَيْنا إنّا إذاً لَمن الظالمين﴾(1). وبهذا المضمون وردت مرفوعة علىّ بن إبراهيم(2).
 $
العدالة
الشرط الرابع ـ العدالة.
أدلّة الاشتراط:
وقد ورد شرط العدالة في الآيات الكريمة في موارد خاصّة من الشهادة،وهي:
1 ـ شاهدا الطلاق: قال ـ تعالى ـ: ﴿وأَشهِدوا ذَوَىْ عدل منكم﴾(3).
$
', '(1) السورة 5 المائدة الآية 106 و 107.
(2) الوسائل ج 13 باب 21 من أحكام الوصايا الحديث الوحيد في الباب ص 394 و 395.
(3) السورة 65 الطلاق الآية 2.
', 341), (14, 342, 'book', '
2 ـ شاهدا الوصيّة: قال ـ تعالى ـ: ﴿شهادةُ بينِكم إذا حضَرَ أحدَكُم الموتُ حينَ الوصيّةِ اثنانِ ذَوا عدل منكم﴾(1).
3 ـ في تشخيص كفّارة الصيد: قال اللّه ـ تعالى ـ: ﴿يا أيُّها الذينَ آمنوا لاتقتُلوا الصيدَ وأنتم حُرُمٌ، ومن قَتَلَهُ منكُم متعمِّداً فجزاءٌ مثلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يحكُمُ بِهِ ذَوا عدل منكُمْ...﴾(2).
والآية الأخيره إنّما ترتبط بما نحن فيه، لو فُسِّرت المِثْليّة بالمثْليّة في القيمة، أمّا بناءً على ما عليه رأي الشيعة ـ زادهم اللّه شرفاً ـ من أنّ المقصود هو المماثلة في الخِلْقة من قبيل (أنّ في النعامة بدنة) و (في الظبي شاة) ونحو ذلك ممّا عُيّن في الروايات، فالظاهر ـ بناءً على قراءة (ذوا عدل) بصيغة التثنية ـ أنّ المقصود بهما هو الرسول و الإمام (عليه السلام)، فهما اللّذان يعيِّنان كفّارة كلّ صيد، فالآية خارجة عن المقام، وقد ورد عن زرارة ـ بسند تامّ ـ عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿يحكم به ذوا عدل منكم﴾، فالعدل هو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، والإمام من بعده يحكم به، وهو ذو عدل. فإذا علمت ما حكم به رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)والإمام، فحسبك و لاتسأل عنه(3).
وقد ورد في عدّة روايات: أنّ الألف في (ذوا عدل) خطأ من النسّاخ، وأَنّ الصيغة مفردة، والمقصود بذي عدل هو الرسول أو الإمام (عليه السلام)، فعن حماد بن عثمان ـ بسند تامّ ـ قال: «تلوتُ عند أبي عبداللّه (عليه السلام) ﴿ذوا عدل منكم﴾، فقال: ﴿ذو
', '(1) السورة 5 المائدة الآية 106.
(2) السورة 5 المائدة الآية 95.
(3) التهذيب ج 6 ص 314 ح 867.
', 342), (14, 343, 'book', '
عدل منكم﴾، هذا ممّا أخطأت فيه الكُتّاب»(1). وعن إبراهيم بن عمر اليمانىّ ـ بسند تامّ ـ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿ذوا عدل منكم﴾قال: العدل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) والإمام من بعده، ثمّ قال: هذا ممّا أخطأت به الكُتّاب»(2) وعن زرارة ـ بسند تامّ ـ قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول اللّه ـ عزّ وجلّ ـ: ﴿يحكم به ذوا عدل منكم﴾قال: العدل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، والإمام من بعده، ثمّ قال: هذا مما أخطأت به الكتّاب»(3).
ومن الطريف ـ وإن كان خروجاً عن المقام ـ ما جاء في الجواهر(4) نقلا عن دعائم الإسلام أنّه: «رُوينا أنّ رجلا من أصحاب أبي عبداللّه (عليه السلام) وقف على أبي حنيفة ـ وهو في حلقة يفتي الناس وحوله أصحابه ـ فقال: يا أباحنيفة، ما تقول في محرم أصاب صيداً؟ قال: عليه الكفاره. قال: ومن يحكم عليه بها؟ قال أبوحنيفة: ذوا عدل، كما قال اللّه تعالى قال الرجل: فإن اختلفا؟ قال أبو حنيفة: يتوقف عن الحكم حتى يتّفقا. قال الرجل: فأنت لاترى أن تحكم في صيد قيمته درهم وحدك حتى يتّفق معك آخر، وتحكم في الدماء والفروج والاموال برأيك!!
فلم يُحِرْ أبو حنيفة جواباً غير أن نظر إلى أصحابه فقال: مسألة رافضي»
وعلى أىّ حال فالآية الثالثة خارجة عن المقام، والآية الاُولى خاصّة بباب الطلاق، فقد تصعب استفادة القاعدة العامّة منها باشتراط العدالة في الشاهد دائماً، والآية الثانية خاصّة بباب الوصيّة، فأيضاً قد تصعب استفادة القاعدة العامّة منها،
', '(1) روضة الكافي ص 205 ح 247.
(2) الكافي ج 4 أبواب الصيد باب نوادر ح 3 ص 396.
(3) نفس المصدر ح 5 ص 397
(4) ج 20 ص 199.
', 343), (14, 344, 'book', '
وإن كان السيّد الخوئي استفاد منها القاعدة العامّة بنكتة بناء الوصيّة على التوسعة، فتقبل فيها شهادة المرأة، وشهادة غير المسلم إذا لم يوجد مسلم. وقال: «وكيف يمكن الالتزام بعدم ثبوت الوصيّة بشهادة رجلين غير عدلين. وثبوت الزواج والقتل ودعوى المال وما شاكل ذلك بشهادتهما؟!»(1)
وعلى أىّ حال فهذا هو حال الآيات في المقام، وأحسنها حالا ـ كما رأيت ـ هي آية الوصيّة.
وأمّا آيةُ الدَيْن ـ وفيها: ﴿واستشهِدوا شهيدَيْنِ من رجالِكم، فإنْ لم يكونوا رجُلَيْنِ فرجلٌ وامرأتانِ ممّن ترضَوْنَ من الشهداء﴾(2) ـ فكون الشهيد مرْضيّاً لايدلّ على شرط العدالة بقدر ما يدلّ على شرط الوثاقة.
وأمّا الروايات: فقد دلّت جملة منها على ما نعيّة الفسق، كما ورد ـ بسند تامّ ـ عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: لاآخُذُ بقول عرّاف ولاقائف ولالصّ، ولاأقبل شهادة الفاسق إلّا على نفسه»(3). إلّا أنّ ما يدلّ على مانعيّة الفسق لايمكن جعله دليلا على شرط العدالة بناءً على وجود الواسطة بينهما.
نعم، ما دلّ منها على مانعيّة الفسق بنكتة دخول الفاسق في الظَنِين، كما ورد ـ بسند تامّ ـ عن عبد اللّه بن سنان، قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) ما يردّ من الشهود؟ قال: فقال: الظنين و المتّهم، قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: ذلك
', '(1) مباني تكملة المنهاج ج 1 ص 87.
(2) السورة 2 البقرة الآية 282.
(3) الفقيه ج 3 باب من يجب ردّ شهادته، ومن يجب قبول شهادته ح 36 ص 30، وذيل الحديث ورد في الوسائل ج 18 باب 41 من الشهادات ح 7 ص 290
', 344), (14, 345, 'book', '
يدخل في الظنين»(1) قد يُدّعى دلالته على شرط العدالة بدعوى أنّ فاقد الملكة كالفاسق في كونه ظنيناً، وقد يستشكل في ذلك بأنّ عنوان الظنين عنوان مشكّك ولاإشكال في اختلافهما في درجة الظنّ.
نعم، ورد في بعض الروايات عنوان العدالة، من قبيل رواية ابن أبي يعفور: قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام)، بِمَ تُعرف عدالة الرجل بين المسلمين؛ حتى تقبل شهادته لهم وعليهم؟ قال: أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان...»(2) وهذه الرواية واردة بسندين:
أحدهما: سند الصدوق إلى عبداللّه بن أبي يعفور، وهو تام بناء على وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى.
والآخر: سند الشيخ إلى محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن موسى عن الحسن بن علىّ عن أبيه عن عليّ بن عقبة عن موسى بن أكيل النميرىّ عن ابن أبي يعفور، وهذا ضعيف بمحمد بن موسى، وهو محمد بن موسى الهمدانيّ وقد استثنى محمد بن الحسن بن الوليد من روايات محمد بن أحمد بن يحيى رواياته عن جماعة أحدُهم محمد بن موسى الهمدانىّ.
ورواية عبدالرحمان بن الحجّاج التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لابأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا»(3)، إلّا أنّ هذا الحديث بما أنّه ورد بشأن قبول شهادة المملوك، فمصيره مرتبط بما سيأتي ـ إن شاء اللّه ـ من البحث عن اشتراط الحريّة وعدمه في الشاهد. فلو سقط هذا الحديث ـ ولو
', '(1) الوسائل ج 18 باب 30 من الشهادات ح 1 ص 274.
(2) الوسائل ج 18 باب 41 من الشهادات ح 1 ص 288.
(3) الوسائل ج 18 باب 23 من الشهادات ح 1 ص 253.
', 345), (14, 346, 'book', '
بالتعارض ـ عن الحجّيّة أشكلت استفادة شرط العدالة منه؛ لأنّنا لانقول بمثل هذا التجزيء التحليلي في سند حديث واحد.
ورواية عبد الرحمان بن أبي عبداللّه ـ بسند فيه معلّى بن محمد ـ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «كان علىّ (عليه السلام) إذا أتاه رجلان (يختصمان) بشهود عدلهم سواء وعددهم، أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين...»(1). وهذا الحديث قابل للمناقشة سنداً ودلالةً:
أمّا من حيث السند فبمعلّى بن محمد الذي قال النجاشي بشأنه: «إنّه مضطرب الحديث والمذهب». وحمل السيّد الخوئىّ اضطراب الحديث على أنّه يروي ما يعرف، ويروي ما ينكر، كما قال ابن الغضائري عنه: «إنّه يعرف حديثه وينكر». ولو سلّمنا هذا الحمل بقي أنّه لادليل على وثاقة الرجل عدا وروده في أسانيد كامل الزيارات، وتفسير علي بن إبراهيم، وهذان دليلان على الوثاقة عند السيّد الخوئىّ، ولكنّنا لانقول بذلك. وقد عبّر السيّد الخوئي عن هذه الرواية بصحيحة عبدالرحمان ابن أبي عبداللّه، وهذا مبتن على مبانيه.
وأمّا من حيث الدلالة فلأنّ الرواية بصدد بيان القرعة عند تساوي الشهود عدداً وعدلا، ومن هنا قد يقال: إنّ هذا يعني الفراغ مسبقاً عن شرط العدالة. بينما يكفي في صحّة التعبير الوارد في هذه الرواية، كون درجة العدالة من المرجّحات ـ وإن لم تكن أصل العدالة شرطاً ـ فحيث يقول: «عدلهم سواء» يقصد انتفاء هذا المرجّح، ولايدلّ ذلك على الفراغ عن شرط العدالة.
ورواية محمد بن الحسن الصفّار الذي كتب إلى أبي محمد (عليه السلام) هل تُقبل شهادة الوصي للميت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع (عليه السلام): إذا شهد معه
', '(1) الوسائل ج 18 باب 12 من كيفيّة الحكم ح 5 ص 183.
', 346), (14, 347, 'book', '
آخر عدل فعلى المدّعي يمين(1). وهذا الحديث إن دلّ على شرط العدالة، فهو وارد في الوصيّة، فلا يفيدنا شيئاً زائداً على مفاد آية الوصيّة، ونحوها بعض الروايات(2)الدالّة على شرط العدالة الواردة في خصوص الشهادة على الميت بدين، وهي ضعيفة سنداً.
ورواية بريد بن معاوية التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن القسامة فقال: الحقوق كلّها، البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه، إلّا في الدم خاصّة، فإنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بينما هو بخيبر؛ إذ فقدت الأنصار رجلا منهم، فوجدوه قتيلا، فقالت الأنصار: إنّ فلاناً اليهوديّ قتل صاحبنا، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)للطالبين: أقيموا رجلين عدلين من غيركم أَقِدْه برمته...»(3).
واستدلّ أيضاً السيّد الخوئيّ على اشتراط العدالة بما ورد بسند تامّ عن محمد ابن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ردّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) شهادة السائل الذي يسأل في كفه «قال: أبوجعفر (عليه السلام): «لأَنّه لايُؤمن على الشهادة، وذلك لأنّه إن أُعطي رضي، وإن مُنع سخط»(4) فقد دلّت هذه الرواية على أنّ الشاهد لابد أن يكون مأموناً على شهادته، بينما الفاسق غير مأمون عليها.
أقول: لو جعلنا المقياس هو الأمن على الشهادة، لم يدلّ هذا على أكثر من شرط الوثاقة، فإنّ من يكون ثقة في حديثه، يكون مأموناً على الشهادة وإن كان فاسقاً من بعض الجهات، أو كان غير واجد لملكة العدالة.
$
', '(1) الوسائل ج 18 باب 28 من الشهادات، الحديث الوحيد في الباب ص 373.
(2) الوسائل ج 13 باب 26 من الوصايا ح 5 و 6 و 7 ص 402.
(3) الوسائل ج 18 باب 3 من كيفيّة الحكم ح 6 ص 171.
(4) الوسائل ج 18 باب 35 من الشهادات ح 2 ص 281.
', 347), (14, 348, 'book', '
وهناك روايات أُخذ فيها بعض العناوين التي قد يُقال: إنّها إشارة إلى العدالة، وذلك كعنوان الصلاح والخير، من قبيل:
ماورد - بسند تامّ - عن محمد بن مسلم، قال: «سألت أباجعفر (عليه السلام) عن الذمّيّ والعبد يشهدان على شهادة، ثمّ يسلم الذمّيّ ويُعتق العبد، أتجوز شهادتهما على ما كانا اُشهدا عليه؟ قال: نعم، إذا عُلم منهما بعد ذلك خير، جازت شهادتهما»(1).
وماورد عن عمّار بن مروان - بسند فيه محمد بن موسى بن المتوكّل - قال: «سألت أباعبداللّه (عليه السلام): أو قال: سأله بعض أصحابه عن الرجل يشهد لأبيه، أو الأخ لأخيه، أو الرجل لامرأته، قال: لا بأس بذلك إذا كان خيّراً، تُقبل شهادته لأبيه، والأب لابنه والأخ لأخيه»(2).
وماورد - بسند تامّ - عن العلا بن سيّابة عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ أبا جعفر (عليه السلام) قال: لاتُقبل شهادة سابق الحاج، لأنّه قتل راحلته، وأفنى زاده، وأتعب نفسه، واستخفّ بصلاته، قلت: فالمكاريّ والجمّال والملاّح؟ فقال: وما بأس بهم، تقبل شهادتهم إذا كانوا صلحاء»(3).
وهذه الروايات قد يمكن المناقشة فيها دلاليّاً بأن يُقال: إنّ عنوان الخيّر والصالح ونحو ذلك، لا يلازم العدالة، وذلك بدعوى أنّ من يغلب عليه الخير والصلاح يُسمّى خيّراً أو صالحاً وإن كان مبتلى بمعصية مّا في أمر من أُموره
', '(1) الوسائل ج 18 باب 29 من الشهادات ح 1 ص 285.
(2) الفقيه ج 3 ح 70 ص 26، وذكر قسماً منه في الوسائل مع شيء من التغيير غير المضرّ في ج 18 باب 41 من الشهادات ح 9.
(3) الوسائل ج 18 باب 34 من الشهادات ح 1 ص 280 و 281.
', 348), (14, 349, 'book', '
الشخصيّة، إلّا أنّه لا يبعد القول بأنّ المستفاد عرفاً من كلمة الصلاح وكلمة الخيّر هو معنى العدالة.
وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه تماميّة بعض الروايات سنداً ودلالة على شرط العدالة.
ولو تنزّلنا عن ذلك قلنا: إنّ هذه الروايات حتى لو تمّت مناقشة كلّ قسم منها على حدة تصلح بمجموعها لإثبات شرط العدالة، فصحيح أنّ بعضاً منها دلّ على مانعيّة الفسق فحسب، فلم يدلّ على عدم نفوذ شهادة من لايكون فاسقاً، ولا عادلا، وبعضاً منها دلّ على شرط كونه مأموناً على الشهادة، وهذا لايمنع عن قبول شهادة الفاسق الثقة في إخباره، وبعضاً منها دلّ على شرط كونه خيّراً أو صالحاً، وهذا قد يُفرض عدم دلالته على شرط العدالة، ولكن من الواضح أنّ غير العادل لايخلو أمره من أحد فروض ثلاثة على سبيل منع الخلوّ:
1 - أن يكون فاسقاً.
2 - أن يكون غير واجد للملكة المانعة، أو الوازع الداخليّ، أو الرادع النفسانيّ، (وما شئت فعبّر) حتى عن الكذب في الشهادة.
3 - أن لايكون قد مضى عليه زمان يصدق عليه بلحاظ طول هذه المدّة أنّه خيّر أو صالح.
أمّا من لايكون فاسقاً، ويغلب عليه الخير والصلاح في طول مدّة معتدّبها، ويكون أميناً في النقل والشهادة، فهذا عادل لامحالة. وقد دلّ قسم من الأخبار على عدم نفوذ شهادة الأوّل، وقسم منها على عدم نفوذ شهادة الثاني، وقسم منها على عدم نفوذ شهادة الثالث، فالمجموع قد دلّ على عدم نفوذ شهادة غير العادل، بل القسم الأوّل والأخير يكفيان لإثبات المطلوب، فإنّ من لا يؤمن على النقل والشهادة لايعتبر خيّراً وصالحاً.
$
', '', 349), (14, 350, 'book', 'فإن قلت: إنّ النسبة بين ما دلّ على عدم نفوذ شهادة الفاسق وما دلّ على نفوذ شهادة الخيّر والصالح عمومٌ من وجه؛ لأنّ الفاسق قد يكون خيّراً وصالحاً، كما إذا غلب عليه الخير والصلاح، وكان مبتلىً بمعصية مّا، وقد لا يكون خيّراً، وقد لايكون الخيّر فاسقاً، فلماذا يقيّد الثاني بالأوّل دون العكس؟
قلت: أوّلا - لو فُرِض التعارض والتساقط وصلت النوبة إلى أصالة عدم نفوذ شهادة غير العادل.
وثانياً - إنّ دليل عدم نفوذ شهادة الفاسق دلّ بالإطلاق على عدم نفوذ شهادته، وإن غلب عليه الخير والصلاح، بينما دليل شرط الخير والصلاح لم يدلّ على نفوذ شهادة المبتلى بفسق ما، إذا غلب عليه الصلاح والخير، وذلك لأنّنا لو سلّمنا أنّ قوله (عليه السلام): «إذا كانوا صلحاء»، وقوله (عليه السلام) «إذا كان خيّراً» لايدلّ على شرطيّة عدم الفسق، فهو لايدلّ على العكس، فإنّ كلمة الصالح والخيّر مشكّكة، واحتمال إرادة العادل منها وارد، فلا أقلّ من الإجمال. وكذلك الحال في قوله: «إذا علم منهما بعد ذلك خير، جازت شهادتهما» بعد وضوح عدم إرادة مجرّد مسمّى الخير الذي قد يصدر حتى ممّن غلب عليه الفسق.
هذا. وذكر السيّد الخوئيّ(1): أنّ بعض الروايات تدلّ على عدم اعتبار العدالة في الشاهد، ونفوذ شهادة المسلم وإن كان فاسقاً، من قبيل ما عن حريز - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا، فعدِّل منهم اثنان، ولم يُعدَّل الآخران، فقال: «إذا كانوا أربعةً من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور، أُجيزت شهادتهم جميعاً، وأُقيم الحدّعلى الذي شهدوا عليه، إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا وعلموا، وعلى الوليّ أن يجيز شهادتهم، إلّا أن يكونوا معروفين
', '(1) في تكملة المنهاج ج 1 ص 89 و 90.
', 350), (14, 351, 'book', '
بالفسق»(1) وما عن علا بن سيابة - بسند تامّ - قال «سألت أباعبد اللّه (عليه السلام) عن شهادة من يلعب بالحمام، فقال: لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق»(2).
وردّ هذه الروايات: أوّلا - بالشذوذ، وعدم قابليّتها لمعارضة الروايات المشهورة المعروفة الدالّة على شرط العدالة. تقيّد بالروايات السابقة.
وثانياً ـ بأنها مطلقة تقيّد بالروايات السابقة.
أقول: إنّ ما في عنوان المعرفة من الطريقيّة يمنع عن ظهور هذه الأحاديث في عدم مانعية الفسق، ويجعلها ظاهرةً في إرادة أنّ الفسق لايثبت إلّا بالمعرفة، وأنّ الأصل عند الشكّ هو العدالة. إذن فهذه الأحاديث لاتعارض روايات شرط العدالة، وإنّما تعارض روايات كون الأمارة على العدالة هي حسن الظاهر؛ حيث إنّ هذه الروايات تفترض أنّ مجرد عدم ظهور الفسق أمارة على العدالة، وتحمل بالجمع بواسطة التقييد على أنّ المراد هو عدم ظهور الفسق فيما بين معاشريه، كجيرانه وأصدقائه، وهذا هو عبارة عن حسن الظاهر، وقد مضى الحديث عن ذلك في ما مضى عند البحث عن شرط العدالة في القاضي.
كما مضى هناك أيضاً البحث عن مدى اضرار ارتكاب الصغيرة بالعدالة.
والذي نضيفه هنا هو أنّ ممّا يمكن أن يُستدلّ به على قبول شهادة مرتكب الصغيرة هي الروايات الواردة في أنّ عدم قبول شهادة الفاسق من باب دخوله في الظنين: كرواية عبداللّه بن سنان التامّة سنداً: قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): ما
', '(1) الوسائل ج 18 باب 41 من الشهادات ح 18 ص 293 و 294.
(2) الوسائل ج 18 باب 41 من الشهادات ح 6 ص 291، وباب 54 من الشهادات ح 1 و 3 ص 305. والسند الموجود في المورد الأوّل وفي الحديث 3 من المورد الثاني، هو التامّ دون السند الآخر.
', 351), (14, 352, 'book', '
يردّ من الشهود؟ قال: فقال: الظنين، والمتهم. قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: ذلك يدخل في الظنين»(1)، ونحوها روايات أُخرى مذكورة في الوسائل في الباب (30) من الشهادات.
وجه الاستدلال: هو أنّ الإمام (عليه السلام) ذكر في هذه الأحاديث أنّ عدم قبول شهادة الفاسق يكون باعتباره داخلا في الظنين، بينما مرتكب الصغيرة غير المصرّ عليها، والمجتنب للكبائر لايصدق عليه عنوان الظنين، فهذه الروايات تدلّ على أنّ هذا المستوى من الذنب لايضرّ بالشهادة.
وقد يُقال: لوصار القرار على هذا النمط من الاستدلال إذن هذه الروايات تدلّ على قبول شهادة الفاسق الّذي يكون ثقة في شهادته؛ لأنّه ليس ظنيناً.
وبالإمكان الإجابة على ذلك: بأنّ من المحتمل كون الرواية ناظرة إلى كون الفسق قرينة نوعيّة على الظنّة؛ لأنّ من يرتكب الكبائر، يأتي بشأنه احتمال ارتكاب الكذب في الشهادة. فالفاسق بطبعه ظنين، وافتراض أنّ القاضي يثق صدفة بعدم ارتكاب هذا الفاسق للكذب، لاينافي كون الفاسق بما هو فاسق ظنيناً في نوعه، وهذا بخلاف من لم يرتكب إلّا الصغيرة بلا إصرار، فإنّ ارتكابه للصغيرة بلا إصرار لايوجب الظنّة به بلحاظ شهادة الزور الّتي هي كبيرة من الكبائر.
وبنفس هذا البيان أيضاً يمكن إثبات قبول شهادة المخالف لعقائد الشيعة إذا كان عدلا في مذهبه، كالسنّىّ العادل في مذهبه، فإنّه وإن كان فاسقاً في العقائد ـ بمعنى التقصير في تحصيل العقائد الحقّة ـ لكن هذا لايجعله ظنيناً إذا كان هو بحدّ ذاته إنساناً عدلا في تصرّفاته.
$
', '(1) الوسائل ج 18 باب 30 من الشهادات ح 1 ص 274.
', 352), (14, 353, 'book', '
 $
تعارض البيّنات في تزكية الشاهد:
وفي ختام البحث عن شرط العدالة لابأس بالكلام عن مسألة ما إذا كانالدليل على العدالة بيّنة مزكيّة للشاهد، وكانت معارضة بالبيّنة الجارحة، فأيتُهماتتقدم؟ والوجوه الّتي نطرحها الآن على بساط البحث خمسة:
1 ـ التعارض والتساقط.
2 ـ تقديم بيّنة التزكية.
3 ـ تقديم بيّنة الجرح.
4 ـ التفصيل بين مالو نفت البيّنة المزكّية سبب الجرح الّذي تذكره بيّنة الجرح، فلامبِّرر لتقديم بيّنة الجرح، وبين مالو اقتصرت على الشهادة بالعدالة.
5 ـ الترجيح بالعدد أو الأعدلية.
أمّا التعارض والتساقط ـ فوجهه واضح، وهو افتراض عدم موجب للترجيح.
والأثر العملىّ فيما بين التعارض والتساقط من ناحية وتقديم بيّنة الجرح من ناحية أُخرى يظهر في مستصحب العدالة، فعلى الثاني تسقط شهادته، وعلى الأوّل تبقى شهادته نافذة.
وأمّا تقديم بيّنة التزكية فلما قد يقال من أنّ الأصل هو الفسق، فبيّنة التزكية هي الّتي تشهد بأمر إضافي وجديد.
ولو سلّم أنّ الأصل هو الفسق ـ ولو بأن يقصد بالفسق عدم العدالة ـ فلا نسلّم أنّ مجرد كون بيّنة التزكية خلاف الأصل ـ وشاهداً لأمر جديد وإضافي ـ موجباً لتقدُّمها.
$
', '', 353), (14, 354, 'book', 'وأمّا تقديم بيّنة الجرح فيمكن الاستدلال عليه بوجهين:
الأوّل ـ ما ورد عن مسمع بن عبدالملك عن أبي عبداللّه (عليه السلام): أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يحكم في زنديق إذا شهد عليه رجلان عدلان مرضيان، وشهد له ألفٌ بالبراءة، يجيز شهادة الرجلين و يبطل شهادة الألف؛ لأنّه دين مكتوم(1).
فيُقال: إنّ مقتضى عموم التعليل بالمكتوميّة التعدّي من الزندقة إلى الفسق، فإنّ الفسق كثيراً ما يكتم، ويوجب كتمانه تخيّل العدالة.
ولكن لايخفى أنّ التعليل كان بأنّه دين مكتوم، واحتمال الفرق بين الدين والفسق موجود. بأن يفترض أنّ الشريعة تتسامح في جانب الفسق بما لاتتسامح في جانب الدين.
على أنّ الحديث ساقط سنداً.
الثاني ـ ما قد يُقال من أنّ بيّنه العدالة قد تعتمد على حسن الظاهر الذي هو أمارة العدالة، وبيّنة الجرح تشهد بما خفي على بيّنة العدالة.
وقد يُورد عليه بأنّ من المحتمل العكس أيضاً؛ بان تكون بيّنة العدالة قد اعتمدت على أمر إضافيّ لم تطّلع عليه بيّنة الجرح كما لو كانت بيّنة الجرح مطّلعة على الفسق، وبيّنة العدالة مطّلعة على توبته من ذلك الفسق، واسترجاع الملكة لو كانت زائلة، أو كانت بيّنة الجرح مطّلعة على شىء يكون معصية بالعنوان الأوّليّ، وبيّنة العدالة مطّلعة على عذر يزكّية، والّذي يجعل ذاك العمل حلالا له، ونحو ذلك من الأمثلة.
والواقع أنّ الّذي ينبغي أن يكون مقصوداً لمن يرجّح بيّنة الجرح على بيّنة التزكية هو أحد أمرين:
$
', '(1) الوسائل ج 18 باب 51 من الشهادات ح 1 ص 303 .
', 354), (14, 355, 'book', '
الأوّل ـ النظر إلى مدى دلالة الشهادتين، ودعوى أنّ الشهادة بالعدالة لاتدلّ على أكثر من حسن الظاهر؛ لأنّه أمارة على العدالة، بينما الشهادة على الفسق تدلّ على الفسق الواقعىّ، ولاتنافي بين الشهادتين، فيُؤخذ بهما معاً، وبالتالي يثبت الفسق. فهذا هو المقصود بتقديم بيّنة الجرح لا التقديم بمعنى تسليم التعارض وترجيح بيّنة الجرح، وليس الكلام في واقع ما في نفس البيّنتين كي يُقال: لعلّ البيّنة المزكّية اطّلعت على ما لم تطّلع عليه البيّنة الجارحة، وإنّما الكلام في مقدار دلالة الشهادتين، فالشهادة على العدالة لاتدلّ على أكثر من الشهادة على حسن الظاهر؛ لأنّه أمارة العدالة، بينما الشهادة على الفسق تدلّ على واقع الفسق.
ويرد عليه: أنّ الشهادة على العدالة ليست دائماً شهادة علىحسن الظاهر، بل ظاهر الشهادة على العدالة لو لم يأت بقرينة على إرادة حسن الظاهر، هو الشهادة على واقع العدالة، فتتعارض الشهادتان.
الثاني ـ أن يُقال: إنّ بيّنة التزكية تسقط كاشفيتها عرفاً أمام بيّنة الجرح دون العكس، وذلك بنكتة أنّ الفسق كثيراً ما يُكتَم إلى أن يتخيِّل المتخيّل أنّ هذا الرجل عادل، فمن اطّلع على الفسق يكون اطّلاعه على ذلك رافعاً لكاشفية شهادة البيّنة المزكيّة، حتى أنّ البيّنة المزكّية لو سمعت شهادة الجارح لعلّها ترفع يديها عن شهادتها بالعدالة.
وقد يورد على ذلك: بأنّ المقياس في حجيّة البيّنة هو الظنّ النوعىّ لا الشخصىّ، والظنّ النوعىّ لايمكن أن يزول.
ويمكن الجواب على ذلك: أنّ حجّيّة البيّنة إنْ كان منشؤها السيرة العقلائيّة فهي محكومة للنكات والارتكازات العقلائيّة، وإن كان منشوُها بعض النصوص فهي تنصرف أيضاً إلى النكات الارتكازية عند العقلاء، وحينما توجد قرينة نوعيّة على الخلاف تدركهاعامّة الناس وتعترف بأنّها تغطّي على كاشفيّة البيّنة، تسقط
', '', 355), (14, 356, 'book', 'حجّيّة البيّنة في نظر العقلاء، ومانحن فيه من هذا القبيل.
وأمّا التفصيل بين مالو نفت بيّنة التزكية سبب الجرح الذي تذكره بيّنة الجرح وعدمه، فيعرف وجهه بالرجوع إلى النكتتين اللّتين ذكرناهما لتقديم بيّنة الجرح:
النكتة الأُولى ـ دعوى أنّ الشهادة بالعدالة لاتدلّ على أكثر من حسن الظاهر. وهذه النكتة لاتأتي ـ فيما لو صرّحت بيّنة التزكية ـ لنفي السبب الجارح، فإنّ هذا ظاهر في أنّ بيّنة التزكية لم تكتف في نفي هذا السبب بمجرد حسن الظاهر.
والنكتة الثانية ـ سقوط كاشفيّة التزكية أمام الجرح دون العكس، وهذه النكتة أيضاً قد تنتفي عندما تصرّح البيّنة بنفي السبب الجارح، فتتساوى الشهادتان.
والأولى عندي أن لا يجعل مصبّ التفصيل عنوان نفي السبب الجارح وعدمه، بل يجعل مصبّ التفصيل نفس هاتين النكتتين، فيقال: متى ما كانت بيّنة التزكية لاتشهد على أكثر من حسن الظاهر عملنا ببيّنة الجرح، ولا تعارض بينهما في الحقيقة، ومتى ما كانت تشهد بواقع العدالة فعندئذ لوكان وضع التقابل بين البيّنتين بشكل تنتفي معه كاشفيّة بيّنة التزكية عند العقلاء دون بيّنة الجرح قدّمت بيّنة الجرح، وإلّا فلا، وممّا يؤثّر أحياناً في تحقيق هذا العنوان وعدمه نفي بيّنة التزكية للسبب الجارح وعدمه.
وأمّا الترجيح بالعدد والأعدليّة ـ فلا دليل عليه لخصوص ما نحن فيه، فإن قلنا بشكل عام بالترجيح في البيّنات المتعارضة ـ ولو بالتعدّي من موارد روايات الباب 46 من الشهادات من المجلّد الثامن عشر من الوسائل و بعضها تامّ السند، وبعض روايات أُخرى كالرواية الأُولى والخامسة من الباب 12 من كيفيّة الحكم من نفس المجلّد ـ ثبت الترجيح في المقام أيضاً وإلّا فلا والترجيح لو قلنا به، يجب أن يكون في مورد لم نبْن على تقديم بيِّنة الجرح، لابدعوى أنّ بيّنة التزكية لاتدلّ على أكثر من حسن الظاهر، ولابدعوى سقوط كاشفيّة بيّنة التزكية.
$
', '', 356), (14, 357, 'book', ' $
حجّيّة البيّنة في باب التزكيّة:
يبقى الكلام في الدليل على أصل حجّيّة البيّنة على العدالة في المقام، وهو إمّاالتعدّي عن مورد أدلّة حجّيّة البيّنة في باب المرافعات باعتبار أنّ عدالة أو فسق الشهود أيضاً أمر دخيل في تحديد مصير المرافعة، وإمّا القول بحجّيّة البيّنة في الموضوعات على الإطلاق تمسكاً بدعوى إطلاق مقامي لأدلة حجّيّة البيّنة في المرافعات، أو تمسكاً بالإجماع، أو السيرة، أو تعدّياً من الموارد الخاصّة ـ الّتي ورد فيها النصّ الخاصّ كالهلال والطلاق ـ بدعوى القطع بعدم الفرق، أو بدعوى فهم العرف المثالية و تعدّيه من تلك الموارد، أو غير ذلك مما يذكر لإثبات حجّيّة البيّنة في الموضوعات.
 $
عدم الاتّهام في الشهادة
الشرط الخامس ـ هو حسب تعبير السيّد الخوئي (رحمه الله) في مباني تكملة المنهاج:أن لا يكون الشاهد ممن له نصيب فيما يشهد به(1)، وحسب تعبير المحقّق في الشرائع: ارتفاع التهمة(2). وقد يفترض أنّ العنوان الثاني أوسع من العنوان الأوّل، فيشمل مثلا شهادة السائل في كفه؛ لكون عمله هذا موجباً لاتّهامه في شهادته؛ لاحتمال استناد شهادته إلى الطمع، أو إلى الرشاء، وشهادة الأجير لاتّهامه أيضاً في شهادته لاحتمال استناد شهادته إلى أنّ منافعة مرتبطة بالمستأجر، فيدافع عن المستأجر
', '(1) راجع مباني تكملة المنهاج ج 1 ص 90 .
(2) راجع الجواهر ج 41 ص 60 .
', 357), (14, 358, 'book', '
طمعاً فيما قد ينتفع به من قبل المستأجر، بل ويشمل أيضاً شهادة المقترب بالنسب أو السبب؛ لولا خروجه بالنصّ الخاصّ.
وقد حمل السيّد الخوئي (رحمه الله) عنوان المتّهم الوارد في الروايات على الاتّهام في عدالته لا الاتّهام في شهادته، فهذا راجع إلى شرط العدالة وليس شرطاً جديداً، وإنّما الشرط الجديد هو أن لايكون ممّن له نصيب فيما يشهدبه.
وعلى أىّ حال فنحن نبحث أوّلا الشرط بعنوانه الذي جاء في كلام السيّد الخوئي، وهو عنوان أن لايكون ممّن له نصيب فيما يشهدبه، ثمّ نرى أنّه هل بالإمكان إثبات شرطيّة عنوان أوسع منه كعنوان الاتّهام أوّلا؟ فنقول:
 $
رجوع نصيب إلى الشاهد:
إنّ رجوع نصيب من المشهود به إلى الشاهد يتصوّر على مراتب:
الأولى ـ أن يكون الشاهد والخصم واحداً بكل معنى الكلمة، وهذا لا إشكال فى عدم قبول شهادته وفق الارتكاز العقلائي والمتشرعي ممّا يمنع عن انعقاد أىّ إطلاق لأدلّة نفوذ الشهادة. ولاحاجة في هذا القسم إلى الإستشهاد بالروايات الآتية لوضوح الحكم، ولو دلّ حديث على خلاف ذلك رُدّ علمه إلى أهله، كما قد يُقال فيما ورد عن عمر بن يزيد ـ بسند تامّ ـ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): الرجل يُشهِدُني على شهادة فأعرف خطّي وخاتمي، ولاأذكر من الباقي قليلا ولاكثيراً؟ قال: فقال لي: إذا كان صاحبك ثقة ومعه رجل ثقة فاشهد له»(1). ولعلّه محمول على فرض كون الخطّ والخاتم وإخبار صاحب القضيّة مع وثاقته، وشهادة ثقة آخر معه،
', '(1) الوسائل ج 18 باب 8 من الشهادات ح 1 ص 234 .
', 358), (14, 359, 'book', '
كافياً في ثبوت العلم القريب من الحسّ بالموضوع، وإلّا فيردّ علم هذا الحديث إلى أهله.
الثانية ـ كالاُولى مع فارق صوري بين الشاهد والخصم، كما في شهادة المولى بمال لعبده بناءً على أنّ كلّ ما للعبد فهو مملوك للمولى. وهذا يلي القسم الأوّل في وضوح الارتكازين: العقلائي و المتشرّعي، وإن كانا في القسم الأوّل أوضح.
الثالثة ـ أن يكون شريكاً في مصبّ الشهادة كما لو شهد للمدّعي بدار له فيها حصّة. وهذا يلي القسمين الأوّلين في وضوح الارتكازين وإن كانا في القسم الأوّل أوضح.
الرابعة - أن يرجع إليه نفع ممّا يشهد به رجوعاً قانونيّاً وإن لم يكن شريكاً في مصبّ الشهادة كما لو شهد صاحب الدَّين للمحجور عليه بمال، أو شهد أحد أفراد العاقلة بجرح شهود الجناية، أو بنفي الجناية ـ بناءً على قبول الشهادة على الإنكار ـ وكما لو شهد المولى بمال لعبده ـ بناءً على أنّه ليس مال العبد ملكاً لمولاه، ولكن له يمتلكه ـ ولا يبعد دخول هذا كلّة أيضاً في دائرة الارتكازين. ونقصد بقيد الرجوع القانونىّ أن تصدق عرفاً كفاية القضاء وفق تلك الشهادة لاستحقاقه نصيبه، كما في شهادة صاحب الدَّين للمحجور عليه بمال، أو شهادة العاقلة، فإن لم يكن رجوع النفع إليه بهذا المستوى ـ كما في شهادة صاحب الدين لمن لم يحجر عليه، لكن من المعقول استفادته من هذه الشهادة؛ إذ لو قُبلت أصبح المدين واجداً للمال، فيستطيع مطالبته بدينه ـ لم يكن ذلك داخلا في محل الكلام.
الخامسة ـ أن يكون له حقّ التصرف بعنوان الولاية، أو الوصاية كما في شهادة الوصىّ بمال للميّت، أو للصغير المولّى عليه، ودخول ذلك في الارتكازين غير واضح.
أمّا الروايات: فيمكن الاستدلال بعدة روايات على اشتراط أن لايكون
', '', 359), (14, 360, 'book', 'للشاهد نصيب فيما يشهد به:
1 - ما ورد ـ بسند تامّ ـ عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن ثلاثة شركاء شهد اثنان عن واحد قال: لاتجوز شهادتهما»(1). وهذا ظاهر في المقصود بلحاظ المرتبة الثالثة من المراتب التي ذكرناها، ويدلّ بالأولويّة بالنسبة للمراتب السابقة عليها، ولايبعد التعدّي عرفاً إلى المرتبة الرابعة . امّا التعدي إلى المرتبة الخامسة فمشكل. وهذا الحديث بهذا الشكل قد رواه الكليني (رحمه الله) عن أبي علىّ الأشعري عن أحمد بن محمد بن عيسى وعن حميد بن زياد عن الحسن بن محمد بن سماعة جميعاً عن أحمد بن الحسن الميثمي عن أبان بن عثمان عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه والسند تامّ. أمّا الشيخ (رحمه الله) فقد رواه بشكل آخر؛ حيث روى بسنده عن الحسين بن سعيد عن القاسم عن أبان عن عبدالرحمان قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن ثلاثة شركاء ادّعى واحد وشهد الاثنان، قال: يجوز»(2). وهذا يدلّ على نقيض المدّعى، و حينئذ قد تسقط بعنوان كونه خلاف الارتكاز المتشرعىّ، ويبقى النقل الأوّل فارغاً عن المعارض، ويفيدنا في التعدّي إلى ما هو أوسع من الارتكاز المتشرعيّ لو افترضنا أنّ الارتكاز المتشرعي لايشمل المرتبة الرابعة أو الخامسة، وافترضنا أنّ التعدّي العرفي من مورد الحديث يتمّ إلى المرتبة الرابعة أو الخامسة. وقد نسقط هذا الحديث بكلا نقليه بعد غضّ النظر عن الارتكاز، وذلك للاطمئنان بوحده الحديثين لاتّحاد الإمام والراوي المباشر ومن قبله، وتقارب النصّين، عدا سقوط كلمة «لا»، فلا نعرف أىّ النقلين هو الصحيح، وبالتالي يسقطان معاً، ونرجع إلى باقي الروايات كما صنعه السيّد الخوئي في كتابه
', '(1) الوسائل ج 18 باب 27 من الشهادات ح 1 ص 272 .
(2) نفس المصدر الحديث الرابع .
', 360), (14, 361, 'book', '
مباني تكملة المنهاج.
2 - ما عن محمد بن الصلت، قال: «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن رفقة كانوا في طريق، فقطع عليهم الطريق، وأخذوا اللّصوص، فشهد بعضهم لبعض، قال: لاتُقبل شهادتهم إلّا بإقرار من اللّصوص، أو شهادة من غيرهم عليهم»(1) بناءً على أنّ هذا أيضاً من قبيل شهادة بعض الشركاء لبعض في العين المشتركة.
لكن الظاهر أنّ مورد الحديث ليس من هذا القبيل، فإنّ ظاهره أنّ كل واحد منهم شهد للآخر فيما يخصّه من حقّه، فالمسألة لاعلاقة لها بأن يكون للشاهد نصيب في المشهود به، وإنّما لها العلاقة بالعنوان الثاني الذي سنبحثه ـ إن شاء اللّه ـ من الاتّهام في الشهادة؛ حيث يتّهمون بأنّهم متوافقون على أن يشهد كلّ منهم لصالح صاحبه.
3 - ما عن أبان قال: «سُئل أبو عبداللّه (عليه السلام) عن شريكين شهد أحدهما لصاحبة. قال: تجوز شهادته إلّا في شيء له فيه نصيب»(2) والحديث من حيث الدلالة كالحديث الأوّل. وأمّا من حيث السند فالصدوق (رحمه الله) رواه - بسنده - عن فضالة عن أبان، قال: «سُئل أبوعبداللّه...»(3) وهذا السند تامّ، والشيخ (رحمه الله) رواه - بسنده - عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن أبان عمّن أخبره عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: «سألته عن شريكين...»(4) ومن المطمأَنّ به وحدة الحديثين، لوحدة المتن، والإمام، والراوي المباشر وهو أبان، ومن قبله وهو فضالة، ومن قبل
', '(1) نفس المصدر ح 2 .
(2) نفس المصدر ح 3
(3) الفقيه ج 3 ح 78 ص 27 .
(4) التهذيب ج 6 ح 623 ص 246 .
', 361), (14, 362, 'book', '
فضالة وهو الحسين بن سعيد. فإنّ سند الصدوق إلى فضالة ينتهي بالحسين بن سعيد، بل أحد سندي الصدوق إلى فضالة مع أحد أسانيد الشيخ إلى الحسين بن سعيد يشتركان أيضاً في من قبل الحسين بن سعيد، وهو أحمد بن محمد بن عيسى، فقد صرّح الصدوق هنا بأحمد بن محمد بن عيسى، وذكر الشيخ (أحمد بن محمد)، وهو ينصرف في كلام الشيخ إلى أحمد بن محمد بن عيسى. وعلى أيّ حال، فمع فرض وحدة الحديثين قد يقال: إنّ الحديث ساقط سنداً؛ لأنّه في السند الثاني روى أبان عمّن أخبره أنّه سأل أبا عبداللّه (عليه السلام)، وهذا يعني أنّ الحديث مرسل، وأنّ أباناً لم يتحمّل الشهادة بصدور هذا السؤال والجواب، وفي السند الأوّل روى أبان: (أنّه سُئل أبو عبداللّه (عليه السلام))، وهذا ظاهر في أنّ أباناً يتحمّل الشهادة بصدور هذا السؤال والجواب. إذن فبناءً على النقل الأوّل يتمّ السند، ولكن بما أنّنا تأكّدنا من وحدة الرواية، ولا ندري أنّ الصحيح هل هو النقل الأوّل أو النقل الثاني، فبالتالي يكون الحديث ساقطاً سنداً.
هذا، ولكنّ الظاهر أنّ هذا لايوجب سقوط سند الحديث لاحتمال صحّة كلا النقلين مع التحفّظ على كون شهادة أبان في النقل الأوّل بصدور السؤال والجواب شهادةً تقرب من الحسّ.
وبيان ذلك: أنّ شهادة أبان في النقل الأوّل بصدور هذا السؤال والجواب يمكن أن تجمع مع ماورد في السند الثاني من كلمة «عمّن أخبره» وذلك بأن يقال: أنّ شهادته تلك ليست شهادة عن حسّ؛ لأنّ قوله في السند الثاني «عمّن أخبره» دليل على أنّه لم يكن هو حاضراً مجلس السؤال والجواب، ولكنّها تحمل على ما يقرب من الحسّ، فهو باعتباره معاصراً للإمام وللسائل الذي سأل الإمام قد يستطيع أن يعرف بشكل واضح صحّة وقوع السؤال والجواب حقاً، ولاتنافي بين النقلين، إذن فبالإمكان أن نتصوّر صدور كلا النقلين، بأن يفترض أنّ فضالة نقل
', '', 362), (14, 363, 'book', 'الحديث مرّتين عن أبان: أحدهما - نقله لهذا الحديث في كتابه الذي وصل إلى الصدوق (رحمه الله)، وقد تضمّن هذا النقل شهادة أبان بوقوع السؤال والجواب بتعبير (سُئِل أبو عبداللّه (عليه السلام))، وقد وصل هذا الكتاب إلى الصدوق (رحمه الله) فنقله بسنده إلى ذاك الكتاب بالشكل الذي مضى. وثانيهما - نقله لهذا الحديث إلى الحسين بن سعيد، وفي هذا النقل أسقط تلك الشهادة، وعبّر بتعبير: (عمّن أخبره) والإسقاط الذي لايضيف معنىً غير مقصود ليس خيانة، فإنّ الخيانة هي الإضافة على القصّة لا الاقتصار على نقل قسم من القصّة، وكتاب الحسين بن سعيد وصل إلى الشيخ الطوسي (رحمه الله)، فنقل الشيخ الحديث من ذاك الكتاب بسنده إليه محتفظاًبما فيه من الإرسال، والنقل الأوّل الوارد بواسطة الصدوق (رحمه الله) حجّة لنا، فهذا الحديث إذن تامّ سنداً.
4 - ما رواه الكليني (رحمه الله) عن محمد بن يحيى، قال: «كتب محمد بن الحسن - يعني الصفّار - إلى أبي محمد (عليه السلام) هل تقبل شهادة الوصي للميّت بدَين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع: إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين ...». ورواه الصدوق - باسناده - عن محمد بن الحسن الصفّار، وكذا الشيخ(1).
وقد استدلّ السيّد الخوئي بهذا الحديث على عدم قبول شهادة الوصي؛ إذ لو كانت شهادته مقبولة لما كانت حاجة إلى اليمين بعد ضمّ عدل آخر إليه، فهذا يعني أنّ شهادته غير مقبولة، فبقيت شهادة العدل الآخر بحاجة إلى ضمّ اليمين، وهذا لو تمّ فهو وارد في المرتبة الخامسة من المراتب التي ذكرناها، ويثبت الحكم فيما قبلها بالأولويّة. وبودّي قبل الكلام عن مدى تماميّة دلالة هذا الحديث أن أذكر تتمّة الحديث، وهي كمايلي:
$
', '(1) الوسائل ج 18 باب 28 من الشهادات، الحديث الوحيد في الباب ص 273.
', 363), (14, 364, 'book', '
«وكتب: أيجوز للوصي أن يشهد لوارث الميّت صغيراً أو كبيراً بحقّ له على الميّت أو على غيره، وهو القابض للوارث الصغير، وليس للكبير بقابض؟ فوقّع (عليه السلام): نعم، وينبغي للوصيّ أن يشهد بالحقّ، ولايكتم الشهادة. وكتب: أو تقبل شهادة الوصىّ على الميّت مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع: نعم، من بعد يمين»(1)
وذيل الحديث وارد في الشهادة على الميّت، و لاإشكال في أنّ الشهادة إذا كانت على الميّت فلا فرق فيها بين الوصي وغير الوصي، والبيّنة تنفذ، إلّا أنّ الشريعة جعلت نفوذ البيّنة على الميّت مشروطاً باليمين بنكتة أنّ المدّعى عليه ميّت، ولايمكنه الدفاع عن نفسه. أمّا في صدر الحديث فالمفروض أنّ الشهادة للميّت، وليست على الميّت، فهنا يأتي احتمال عدم نفوذ شهادة الوصيّ الذي له حقّ التصرف في مال الميّت بالوصاية. وهذا ما فهمه السيّد الخوئي من الحديث بقرينة ما فيه من فرض اليمين؛ باعتبار أنّه لو كانت شهادة نافذة فبعد ضمّ العدل الآخر إليه لا حاجة إلى اليمين، وليست الشهادة على الميّت كي يشرّع اليمين بنكتة أنّ الميّت لايستطيع الدفاع عن نفسه.
إلّا أنّ هذا التفسير للعبارة يوجب نوعاً من التضارب بين الفقرة الأُولىلهذا الحديث و الفقرة الثانية؛ حيث إنّه فرض في الفقرة الأُولى عدم نفوذ شهادة الوصيّ لصالح الميّت؛ لأنّ له حقّ التصرف في مال الميّت، وفرض في الفقرة الثانية نفوذ شهادة الوصيّ لصالح الوارث الصغير الذي هو ولىّ عليه، ويقبض له، وله أيضاً حقّ التصرف بحدود ولايته، كما كان له حقّ التصرف في مال الميّت بحدود الوصية، فلئن جعلنا الفقرة الأولى دليلا على المدّعى، فالفقرة الثانية تدلّ على عكس المدّعى.
ولايبعد أن يقال: إنّ النظر في الفقرة الاُولى ليس إلى عدم نفوذ شهادة الوصيّ
', '(1) نحن نقلنا المتن بشكله الكامل، وفي الوسائل ـ الطبعة الجديدة ـ سِقْطٌ لايضرُّ بالمعنى .
', 364), (14, 365, 'book', '
بنكتة ماله من حقّ التصرف، بل النظر إلى عدم نفوذ شهادته بنكتة أنّه هو الخصم؛ إذ الميّت لايمكنه أن يخاصم المدّعى عليه، وإنّما الذي يخاصم المدّعى عليه في حصّة الميّت هو الوصيّ، وهذا بخلاف مورد الفقرة الثانية الذي لم يفرض فيه في الحديث كون الوارث صغيراً إلى حدّ عدم إمكانيّة مرافعته للخصم ورفعه للنزاع إلى القاضي، فكون المدّعي صغيراً لايلزم وحدة الشاهد والخصم إذا كان الوصيّ هو الشاهد؛ إذ بالإمكان أن يكون الصغير ـ بمعنى غير البالغ ـ هو الخصم مباشرة، والوصىّ يشهد له. ولعلّ السيّد الخوئي فهم من كلمة المدّعي ـ في قوله: «فعلى المدّعي يمين» ـ الوارثَ لا الوصىّ، ولكنّه إن لم يكن هذا خلاف الظاهر، فلا أقلّ من الإجمال؛ إذ لم يكن التعبير هكذا: (هل تقبل شهادة الوصىّ للوارث بدين للميّت على رجل؟)، بل قال: «هل تقبل شهادة الوصىّ للميّت بدين له علىرجل؟» فكأنّ المدّعى له والمشهود له هو الميّت، أمّا الوارث الذي يرجع نفع الدعوى إليه بالإرث فقد يكون هو أيضاً غير مطّلع على الدَّين.
5 ـ ما عن سليمان بن خالد ـ بسند تامّ ـ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام)، ما يردّ من الشهود؟ قال: فقال: الظنين والخصم. قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: ذلك يدخل في الظنين»(1).
ولا إشكال في شمول كلمة الخصم للمراتب الأربع الأُولى من المراتب الخمس الّتي بيّنّاها، ويرى السيّد الخوئي شمولها للوصىّ ـ وهو المرتبة الخامسة من المراتب التي بيّنّاها ـ وهذا غير واضح. نعم في شهادة الوصىّ للميّت قديُقال بشمول كلمة «الخصم» له بنكتة أنّه هو الذي يرفع الدعوى، ويجادل المدّعى عليه، وليس الميّت يفعل ذلك كما هو واضح، لابنكتة أنّ له حقّ التصرف، فيعدّ سهيماً في المشهودبه.
$
', '(1) الوسائل ج 18 باب 30 من الشهادات ح 2 ص 274 .
', 365), (14, 366, 'book', '
6 ـ ما عن أبي بصير ـ بسند تامّ ـ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام)» وذكر مثل الحديث السابق، إلّا أنّه قال: «الظنين والمتهم والخصم»(1). وهذا كالحديث السابق، وليس المقصود بالخصم خصوص الخصم بتمام معنى الكلمة ـ بان يشهد المدّعي الذي هو أحد المترافعين لصالح نفسه ـ فإنّ هذا لامجال لتوهّم قبول شهادته، فعنوان الخصم في هذه الروايات يشمل من له حصّة في المشهود به حتماً، وهو المقصود.
7 ـ ما عن عبيداللّه بن علىّ الحلبي ـ بسند تامّ ـ قال: «سُئل أبو عبداللّه (عليه السلام)عمّا يردّ من الشهود؟ قال: الظنين والمتهم والخصم. قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: هذا يدخل في الظنين».(2)
8 ـ ما عن محمد بن مسلم ـ بسند تامّ ـ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): لم تجز شهادة الصبي ولاخصم ولامتّهم ولاظنين»(3).
9 ـ ما عن سماعة ـ بسند تامّ ـ قال: «سألته عمّا يُردّ من الشهود؟ قال: المريب والخصم والشريك ودافع مغرم والأجير والعبد والتابع والمتهم، كل هؤلاء تُردّ شهادتهم»(4).
10 ـ مرسلة الصدوق؛ حيث قال (رحمه الله): «وفي حديث آخر قال: لا تجوز شهادة المريب والخصم ودافع مغرم، أو أجير، أوشريك أو متهم أو تابع [بائع ـ خ ل ـ]، ولاتقبل شهادة شارب الخمر، ولاشهادة اللاّعب بالشطرنج و النرد،
', '(1) نفس المصدر ح 3 ص 275 .
(2) نفس المصدر ح 5
(3) نفس المصدر ح 6 .
(4) الوسائل ج 18 باب 32 من الشهادات ح 3 ص 278 .
', 366), (14, 367, 'book', '
ولاشهادة المقامر»(1).
وكلمة (دافع مغرم) في الحديثين الأخيرين صريحة في المرتبة الرابعة من المراتب الّتي عرضناها في أوّل البحث.
وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه أنّه يُشترط في نفوذ شهادة الشاهد أن لايكون له نصيب في المشهود به بإحدى المراتب الأربع الأولى. أمّا المرتبة الخامسة فلم يتّضح الدليل على منعها من نفوذ الشهادة بشكل مطلق. نعم في مثل وصىّ الميّت الذي يكون الشاهد فيه عين المدّعي لاتقبل شهادته.
 $
الاتهام بمعنىً أوسع:
أمّا الكلام في أنّه هل يمكن إثبات شرط أوسع من شرط عدم النصيب لهـ وهو شرط عدم الاتّهام، أو شرط عدم مرتبة من مراتب الاتّهام ـ فنقول: إنّ روايات شرط عدم الاتّهام على طائفتين:
الطائفهَ الاُولى ـ هي الروايات المعبّرة بعنوان المتّهم كجملة من الروايات الماضية، وكما ورد ـ بسند تامّ ـ عن عبداللّه بن سنان قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): ما يردّ من الشهود؟ قال: فقال: الظنين والمتّهم. قال: قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: ذلك يدخل في الظنين»(2).
وقد حمل السيّد الخوئي كلمة المتّهم الواردة في هذه الرواية على معنى المتّهم في دينه وعدالته ـ دون معنى المتّهم في شهادته ـ وبهذا اسقطها عن الدلالة على شرط
', '(1) نفس المصدر ح 7 ص 279 .
(2) الوسائل ج 18 باب 30 من الشهادات ح 1 ص 274 .
', 367), (14, 368, 'book', '
جديد؛ حيث يرجع ذلك إلى شرط العدالة، وذكر لذلك وجهين، أو وجوهاً ثلاثة:
1 ـ دعوى أنّ الظاهر عرفاً من المتّهم ذلك.
2 ـ الاستشهاد بما ورد ـ بسند تامّ ـ عن يحيى بن خالد الصيرفىّ، أو الحسين بن خالد الصيرفىّ، عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: «كتبت إليه في رجل مات، وله أُمّ ولد، وقد جعل لها سيّدها شيئاً في حياته، ثمّ مات. فكتب (عليه السلام): لها ما أثابها به سيّدها في حياته معروف لها ذلك، تقبل على ذلك شهادة الرجل و المرأة و الخدّم غير المتهمين»(1)؛ لوضوح أنّ المقصود بالمتّهم هنا. هو المتهم في عدالته، لا المتهم في شهادته.
3 ـ أنّه لا شك في عدم ما نعيّة مطلق التهمة عن قبول الشهادة؛ كشهادة المرأة لزوجها وبالعكس، وشهادة الولد لأبيه، أو أخيه، أو سائر أقاربه و بالعكس، وشهادة الصديق لصديقه، ونحو ذلك.
إذن فلو لم نقبل تفسير المتّهم في تلك الروايات بالمتّهم في عدالته فلا أقلّ من القول بالإجمال(2).
أقول: قد يُورد على الوجه الثالث بأنّنا نلتزم بخروج عنوان الزوج والزوجة والأقارب والصديق بالنصّ، ويبقى الباقي تحت إطلاق المتّهم، فخروج هؤلاء لايكون دليلا على حمل المتّهم على المتّهم في عدالته دون المتّهم في شهادته، إلّا أن يكون نظره في هذا الوجه الثالث إلى إحدى نكتتين:
الأُولى - أنّه لوقيل بالتخصيص، لزم تخصيص الأكثر؛ إذن فلا بدّ من إرجاع كلمة المتّهم إلى معنى المتّهم في عدالته دون المتّهم في شهادته.
$
', '(1) الوسائل ج 18 باب 24 من الشهادات ح 47 ص 268 .
(2) راجع مباني تكملة المنهاج ج 1 ص 93 .
', 368), (14, 369, 'book', '
وبالإمكان أن يُقال في قبال ذلك: إنّ الاتّهام في الشهادة أمر مشكّك وله درجات، فقد يكون الاتّهام قوّياً، كما في الخادم و التابع ونحوهما ممّن ليس له استقلال في مقابل المشهود له، وقد يكون بمستوى الاتّهام الناتج من القرابة والصداقة والزوجيّة، والنصوص الدالّة على خروج مثل الزوج و الضيف و القريب تشهد لكون المقصود من المتّهم في الرواية المانعة لقبول شهادة المتّهم هي الدرجة الأُولى من الاتّهام.
الثانية - أن يُدّعى: أنّ قبول شهادة الزوج والقريب والصديق من الواضحات، ووضوح ذلك قرينة كالمتّصل على صرف المتّهم في تلك الروايات إلى الاتّهام في عدالته، ولعل هذا هو مقصوده ممّا ذكره من دعوى الظهور العرفّي للمتهم في الاتّهام في عدالته، فيكون كلامه مشتملا على وجهين، لاعلى وجوه ثلاثة.
وبالإمكان أن يُقال في قبال ذلك أيضاً: إنّه لِم لا يكون هذا قرينة على صرف الاتّهام في تلك الروايات إلى الدرجة الأُولى من الاتّهام الموجودة في مثل الخادم والتابع، لاعلى صرفه إلى الاتّهام في العدالة؟
وأمّا ما ذكره في الوجه الثاني من الاستدلال بالرواية الماضية، فجوابه: أنّ استعمال الاتّهام في تلك الرواية بمعنى الاتّهام في العدالة لايدلّ على كون المقصود بالاتّهام في تمام الروايات هو ذاك المعنى.
وأمّا ما ذكره من الوجه الأول من دعوى الاستظهار العرفىّ بناءً على كونه وجهاً مستقلا وغير راجع إلى الوجه الثالث، فهو ممّا لاوجه له، فإنّ الاتّهام لابدّ له من متعلّق، وكما يمكن أن يكون متعلّقه العدالة كذلك يمكن أن يكون متعلّقه الشهادة، ولانكتة لاستظهار الأوّل في قبال الثاني.
بل بالإمكان أن يُقال: إنّ عطف المتّهم على الظنين في جملة من الروايات شاهد على فرض التغاير بينهما، بينما الاتّهام والظنّة بمعنى واحد، فالمفروض أن يكون
', '', 369), (14, 370, 'book', 'أحدهما راجعاً إلى الدين والعدالة، والثاني راجعاً إلى الشهادة، وفي بعض تلك الروايات قال الراوي: «قلت: فالفاسق والخائن؟ قال: هذا يدخل في الظنين». وهذا يشهد لكون المقصود بالظنين الظنين في دينه وعدالته؛ إذن فالمقصود بالمتّهم هو المتّهم في شهادته، نعم يقتصر على الاتّهام بالمستوى الموجود في التابع والخادم اللذين لا إرادة استقلاليّة لهما عادةً فيما يرجع إلى المتبوع والمخدوم، ولا يشمل مثل القريب والصديق، ولو بقرينة الروايات الواردة في نفوذ شهادة القريب والضيف.
الطائفة الثانية - ما ورد في بعض مصاديق المتّهم من قبيل عنواني الأجير والتابع الواردين في الرواية التاسعة والعاشرة من الروايات الّتي ذكرناها تحت عنوان (اشتراط أن لايكون للشاهد نصيب فيما يشهد به)، وقد تُحمل كلمة العبد الواردة في الرواية التاسعة أيضاً على ذلك بناءً على كون المقصود عدم نفوذ شهادة العبد لصالح مولاه.
ومن قبيل ما ورد عن صفوان - بسندتامّ - عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «سألته عن رجل أشهد أجيره على شهادة ثمّ فارقه، أتجوز شهادته له بعد أن يفارقه ؟ قا ل: نعم، وكذلك العبد إذا أُعتق جازت شهادته»(1).
وما عن العلاء بن سيّابة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) لايجوِّز شهادة الأجير»(2). وسنده ضعيف بمحمد بن موسى المقصود به محمد بن موسى بن عيسى الهمداني السمّـان.
وما عن أبي بصير - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً. قال: ويكره شهادة الأجير لصاحبه، ولا بأس
', '(1) الوسائل ج 18، باب 29 من الشهادات، ح 1 ، ص 273 .
(2) نفس المصدر، ح 2 ، ص 274 .
', 370), (14, 371, 'book', '
بشهادته لغيره، ولا بأس به له بعد مفارقته»(1). والمقصود بالكراهة ليست هي الكراهة في مقابل الحرمه، فإنّ مسألة الشهادة ليست هي مسألة الحكم التكليفي، وإنّما مسألتها مسألة النفوذ وعدم النفوذ. فالمفهوم إذن من هذا الحديث هو عدم نفوذ شهادة الأجير.
وما في معاني الأخبار مرسلا قال: «قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): لاتجوز شهادة خائن، ولاذي غمز على أخيه، ولاظنين في ولاء ولاقرابة، ولا القانع مع أهل البيت»(2).
وروايات عدم نفوذ شهادة السائل بالكفّ(3).
إلّا أنّ روايات عدم نفوذ شهادة السائل بالكفّ يُحتمل فيها أيضاً النظر إلى الاتّهام في العدالة، فكون السائل بالكفّ بحيث إن أُعطي رضي، وإن مُنع سخط، صفةٌ تمنع العدالة طبعاً، ومادة الافتراق بين المتّهم في الشهادة والمتّهم في العدالة هي من أُحرز كونه - بغضّ النظر عن هذه الشهادة - عادلا، واحتمل كون شهادته هذه زوراً. بينما السائل بالكفّ الذي يحدس اتّصافه بتلك الصفة ليس كذلك، ولكن هنا قرينة في الرواية الثانية من روايات باب عدم قبول شهادة السائل بكفّه قد تشهد للنظر إلى الاتّهام في الشهادة، ونصُّها كما يلي:
«روى محمد بن مسلم - بسند تام - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ردّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) شهادة السائل الّذي يسأل في كفّه. قال أبو جعفر (عليه السلام): لأنّه لايُؤمن على
', '(1) نفس المصدر، ح 3 ، ص 274 .
(2) الوسائل ج 18، باب 32 من الشهادات، ح 8 ، ص 279 .
(3) وهي مذكورة في الوسائل ج 18، باب 35 من الشهادات، وهي ثلاثة أحاديث، والأوّلان منها تامّان سنداً.
', 371), (14, 372, 'book', '
الشهادة، وذلك لأنّه إن أُعطي رضي، وإن منع سخط»(1). فمقتضى الأخذ بعموم التعليل بأنّه لايؤمن على الشهادة هو أنّ كلّ من لايؤمن على الشهادة لاتقبل شهادته، وهذا معنى ما نعيّة الاتّهام في الشهادة.
ثمّ إنّ استفادة الحكم العامّ من هذه الطائفة الثانية بحدود كلّ من كان في الاتّهام بمستوى المذكورين فيها لا إشكال فيها، لكنّ التعدّي إلى الاتّهام بالمعنى الواسع الشامل للقريب والزوج والصديق ونحوهم مشكل؛ لاحتمال اختصاص الحكم بالعناوين المذكورة في هذه الأحاديث ومن في مستواهم، ويمكن تقريب التعدّي بأحد وجهين:
1 - التمسّك بكلمة الأجير الواردة في بعض هذه الروايات باعتبار شمولها لمثل الخيّاط والصائغ والبنّاء وكلّ من يرتبط بالإنسان باُجرة مّا، وإتّهام هؤلاء ليس بأشدّ من اتّهام القريب والزوج والصديق، بل أخفّ، فهذا يوجب التعدّي.
2 - التمسّك بإطلاق التعليل في الرواية الآنفة الذكر الواردة في السائل في الكفّ حيث قال: «لأنّه لايؤمن على الشهادة» فيقال: إنّ هذه العلّة موجودة في شهادة مثل القريب والصديق.
ولو سلّمنا تماميّة أحد هذين الوجهين، قلنا: إنّ هذه الروايات إذن تصبح طرفاً للمعارضة مع روايات قبول شهادة الزوج والزوجة والقريب(2) بل عرفت أنّ إحدى روايات المنع عن قبول شهادة الأجير تصرّح بقبول شهادة الضيف، وهذا كلّه يعني الفرق بين المستويين من الاتّهام، وبه نجمع بين الطائفتين، فروايات قبول شهادة القريب والضيف ونحوهما تدلّ على عدم مضرّيّة هذا المستوى من الاتّهام،
', '(1) الوسائل ج 18 ، باب 35 من الشهادات، ح 2 ، ص 281 .
(2) وهي الروايات الواردة في الوسائل المجلد الثالث عشر باب 25 و 26 من ابواب الشهادات.
', 372), (14, 373, 'book', '
ولانقتصر في مفادها على العناوين المذكورة فيها، بل تحمل عرفاً على المثاليّة، ونتعدّى إلى كلّ من كان في مستوى هذه العناوين. والطائفة الأُخرى تدلّ على عدم قبول شهادة مثل التابع والقانع مع أهل البيت والأجير، ولا نقتصر على العناوين المذكورة في الروايات، بل نتعدّى إلى كلّ مورد كانت قرائن الاتّهام بهذا المستوى من القوّة؛ لعدم احتمال الفرق عرفاً، أو لإطلاق العليل في حديث السائل بالكفّ حيث قال: «لأنّه لايؤمن على الشهادة»، أو لإطلاق كلمة المتّهم في بعض الروايات بعد تنزيل إطلاقها على مستوى معيّن من الاتّهام لايشمل مثل القريب والزوج جمعاً بين الروايات، وبعد حمل الأجير على معنى الخادم لا الأجير في عمل جزئيّ كالخياطة والصناعة للجمع ولقرينة داخليّة في بعض الروايات الماضية، وهي الروايات الّتي تقول بنفوذ شهادته إذا كان قد فارق المستأجر، فالتعبير بالمفارقة يعطي معنى كون الأجير ملازماً للمستأجر، ثمّ فارقه بترك الأُجرة، وهذا لا يكون إلّا في مثل الخادم دون مثل الخيّاط الذي أصبح أجيراً له صدفةً لخياطة ثوبه.
وقد تحصّل من كل ما ذكرناه: أنّ من له نصيب في المشهود به لاتقبل شهادته، وكذلك المتّهم البالغ في درجة اتّهامه الأمثلة المذكورة في الروايات التامّة سنداً.
ومن جملة المتّهمين العدوّ بمثل العداءات الشخصيّة الّتي توجب عادةً الاتّهام في الشهادة، إذا كانت ضدّ من يعاديه، فهو ملحق بموارد النصوص باعتباره بالغاً تلك الدرجة، وورد فيه أيضاً نصوص خاصّة:
أحدها - ما هو ضعيف سنداً بالنوفلي، و هو ما رواه الصدوق بإسناده عن السكوني - و في طريقه إلى السكوني النوفلي - عن الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام)عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال:«لا تقبل شهادة ذي شحناء، أو ذي مخزية في
', '', 373), (14, 374, 'book', 'الدين»(1).
والثاني - ما ورد في معاني الأخبار مرسلا عن النبّي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «لاتجوز شهادة خائن، ولاخائنة، ولاذي غمز على أخيه، ولاظنين في ولاء ولاقرابة، ولاالقانع مع أهل البيت» قال الصدوق (رحمه الله): «الغمز: الشحناء و العداوة، والظنين: المتّهم في دينه، والظنين في الولاء والقرابة: الذي يتّهم بالدعاء إلى غير أبيه والمتولّي غير مواليه، والقانع مع اهل البيت: الرجل يكون مع قوم في حاشيتهم كالخادم لهم والتابع والأجير ونحوه»(2).
والثالث: ما ورد - بسند تامّ - عن سماعة، وفيه ردّ شهادة الخصم(3).
وعلى أىّ حال فالعداء في الحالات المتعارفة يورث الاتّهام، فلا تنفذ شهادة صاحبه وفق المطلقات حتى مع غضّ النظر عن النصّ الخاصّ.
أمّا مثل مجرد القرابة، فلا يمنع عن قبول الشهادة، كما هو منصوص.
نعم، نُسب إلى المشهور عدم قبول شهادة الولد على الوالد. وهذا - كما ترى - لا علاقة له بالاتّهام الناشئ من القرابة، فإنّ القرابة إنّما توجب الاتّهام في الشهادة لصالح القريب لاضدّه.
والقول بعدم قبول شهادة الولد على الوالد - سواء استدل له بدعوى الإجماع، أو بمرسلة الصدوق: «لاتُقبل شهادة الولد على والده»(4)، أو بدعوى كون
', '(1) الوسائل ج 18، باب 32 من الشهادات، ح 5، ص 278 .
(2) نفس المصدر ح 8، ص 279 .
(3) نفس المصدر ح 3، ص 278 .
(4) الوسائل ج 18 باب 26 من الشهادات، ح 6، ص 271 .
', 374), (14, 375, 'book', '
هذه الشهادة منهيّاً عنهابقوله تعالى: ﴿وصاحبْهُما في الدنيا معروفاً﴾(1)، أو بكونها مسقطة للشاهد عن العدالة؛ لحرمتها وكونها عقوقاً للوالد - ضعيف، ومخالف للصريح أو مايشبه الصريح، لقوله تعالى: ﴿كونوا قوّامينَ بالقسطِ شُهداءَ للّه ولو على أَنفُسِكم أو الوالدَيْنِ و الأقرَبين﴾(2)، ولما ورد - بسند تامّ - عن داود بن الحصين عن أبي عبداللّه (عليه السلام) (أقيموا الشهادة على الوالديْنِ والولد...)(3) ولرواية عليّ بن سويد غير التامّة سنداً عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «كتب أبي في رسالته إلىّ: - وسألت عن الشهادات لهم، فأقم الشهادة للّه ولو على نفسِك أو الوالديْنِ والأقربين فيما بينك وبينهم، فإن خفت على أخيك ضيماً، فلا»(4). أمّا القول بأنّ الأمر بالشهادة على الوالد لايدلّ على نفوذها، فهو كما ترى.
 $
مقياس التهمة:
وفي ختام البحث ينبغي أن نشير إلى أنّ المقياس في التّهمة هو التّهمة الفعليّة لاالنوعية، فالخادم و التابع ونحوهما لو فرض صدفة عدم التّهمة بشأنهم لشدّة الورع والتقوى فيهم مثلا، نفذت شهادتهم، فضلا عمّا إذا فرض أنّ شهادتهم كانت ضدّ المخدوم والمتبوع، فهنا ينبغي أن يكون من الواضح عدم شمول روايات منع نفوذ شهادة المتّهم لمثل هذه الشهادة.
ولو استفاد أحد من إطلاقات بعض العناوين في الأدلّة كعنوان الأجير و
', '(1) السورة 31، لقمان، الآية 15 .
(2) السورة 4، النساء، الآية 135 .
(3) الوسائل ج 18، باب 19 من الشهادات، ح 3، ص 250 .
(4) الوسائل، باب 3 من الشهادات، ح 1، ص 229 - 230 .
', 375), (14, 376, 'book', '
التابع أنّ المقياس هو التّهمة النوعيّة، فمثل هذا الإطلاق لو تمّ، فهو مقيّد بما مضى من حديث ابن خالد الصيرفي عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: «كتبت إليه في رجل مات وله أمّ ولد، وقد جعل لها سيّدها شيئاً في حياته، ثمّ مات، فكتب (عليه السلام): لها ما أثابها به سيّدها في حياته، معروف لها ذلك، تقبل على ذلك شهادة الرجل أو المرأة والخادم غير المتهمين»؛ إذ من الواضح أنّ الاتّهام النوعي في الخادم موجود، فتوصيفه بغير المتّهم لايصح، إلّا إذا كان المقياس هي التّهمة الفعليّة.
 $
الحرّيّة
الشرط السادس - الحرّيّة. فلا تقبل شهادة المملوك مطلقاً على ما نسب إلىابن أبي عقيل من الشيعة، وإلى أكثر العامّة، قال في الجواهر: «قيل - والقائل ابن أبي عقيل منّا وأكثر العامّة -: لاتُقبل شهادة المملوك أصلا»(1).
ونُسب إلى مشهور الإماميّة القول بقبول شهادة المملوك إلّا على مولاه، قال في الجواهر: «وقيل: تُقبل مطلقاً إلّا على مولاه كما عن الأكثر، ومنهم الشيخان والمرتضى وسلاّر والقاضي وابن إدريس»(2). وقال أيضاً في الجواهر: «الأشهر ... القبول مطلقاً، إلّا على المولى، بل هو المشهور، بل عن الانتصار والغنية والسرائر الإجماع عليه كما عن الخلاف أيضاً الإجماع على قبوله لمولاه ولغيره وعلى غيره»(3).
$
', '(1) الجواهر، ج 41، ص 89
(2) نفس المصدر، ص 90 .
(3) نفس المصدر ص 92 .
', 376), (14, 377, 'book', '
ونسب في الجواهر(1) إلى ابن بابويه: قبول شهادة العبد لغير سيّده، وسيأتي - إن شاء اللّه - عن الصدوق ما يدلّ على إفتائه بهذا الرأي، ويشير إلى هذا الرأي ما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) في مقام الجمع بين الروايات المتعارضة في نفوذ شهادة المملوك وعدم نفوذها من أنّ وجه الجمع أحد أمرين: إمّا أن نحمل روايات المنع على التقيّة؛ لأنّها موافقة لمذاهب من تقدم على أمير المؤمنين (عليه السلام)، أو نحملها على أنّ شهادة المماليك لاتقبل لمواليهم، وتقبل لمن عداهم لموضع التّهمة من جرِّهم إلى مواليهم(2).
وذكر في الجواهر: أنّه حكي عن جماعة من الأصحاب منهم نجيب الدين يحيى بن سعيد: تقبل مطلقاً(3).
أقول: وبالإمكان أن يضاف إلى هؤلاء الأشخاص أصحاب الرأي الثالث؛ لو كان مقصودهم من عدم نفوذ شهادة العبد لمولاه عدم نفوذه لأجل انتفاء شرط آخر، وهو شرط عدم التّهمة.
وهناك رأي خامس يجمع في المنع بين الرأي الثاني والثالث، أي يمنع عن قبول شهادة المملوك لمولاه، وعليه، ويقبلها في غير ذلك، وهو ما نسبه في الجواهر إلى أبي الصلاح(4)
ورأي سادس نقل عن بعض، وقال عنه في الجواهر: «لم نعرف قائله»(5)،
', '(1) نفس المصدر ص 91 .
(2) التهذيب ج 6، ص 249، في ذيل الحديث 44 .
(3) نفس المصدر ص 90 .
(4) نفس المصدر ص 91 .
(5) نفس المصدر ص 90 .
', 377), (14, 378, 'book', '
وهو عكس القول الثاني، أي لاتقبل شهادته إلّا على مولاه.
ورأي سابع نقله في الجواهر عن ابن الجنيد، وهو قبول شهادة المملوك على مثله، وعلى الكافر دون الحرِّ المسلم.
 $
مادلّ على قبول شهادة العبد:
ونحن نجعل منطلق بحثنا هنا «القول الرابع» المنسوب إلى نجيب الدين يحيىابن سعيد وجماعة، وهو قبول شهادة العبد مطلقاً: وتدلّ على ذلك روايات عديدة من قبيل:
1 - ما عن عبدالرحمان بن الحجّاج - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا»(1).
2 - ما عن بريد - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن المملوك تجوز شهادته؟ قال: نعم. إنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك لفلان»(2).
3 - ما عن محمد بن مسلم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «في شهادة المملوك إذا كان عدلا، فإنّه جائز الشهادة، إنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك عمر بن الخطاب، وذلك أنّه تقدم إليه مملوك في شهادة، فقال: إن أقمت الشهادة تخوّفتُ على نفسي، وإن كتمتها أثمتُ بربيّ، فقال: هات شهادتك، أما إنّا لانجيز شهادة مملوك بعدك»(3).
وقد يناقش في سند الخبرين الأخيرين بوجود القاسم بن عروة الذي لم يُشهد بوثاقته، إلّا أنّنا نصحّحه بنقل محمد بن أبي عُمير بعض الروايات عنه.
$
', '(1) الوسائل ج 18 ، باب 23 من الشهادات، ح 1 ، ص 253.
(2) نفس المصدر ح 2 ، ص 254.
(3) نفس المصدر ح 3 ، ص 254.
', 378), (14, 379, 'book', '
4 - ما ورد - بسند تامّ - عن عبدالرحمان بن الحجّاج عن أبي جعفر (عليه السلام) في قصّه أميرالمؤمنين (عليه السلام) مع شريح القاضي بشأن عبداللّه بن قفل التميميّ الذي كان معه درع طلحة، حيث ردّ شريح شهادة قنبر؛ لأنّه مملوك، وردّ عليه عليّ (عليه السلام) بقوله: «وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا»، ورواه الصدوق (رحمه الله) - بسنده التامّ - عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام)، وزاد في آخره: ثمّ قال أبوجعفر (عليه السلام): «إنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك رمع»(1).
5 - مارواه الحسن بن محبوب عن العلا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «تجوز شهادة العبد المسلم على الحرّ المسلم»(2). وهذا الحديث ورد في الفقيه(3) بسنده إلى الحسن بن محبوب، وورد في التهذيب(4) تارةً بسنده، أي سند الشيخ (رحمه الله) إلى الحسن بن محبوب، وأُخرى عن الصدوق بسنده إلى الحسن بن محبوب، وثالثة: روى الشيخ - بسنده - عن محمد بن عليّ بن محبوب عن أحمد عن الحسن بن محبوب عن العلا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لاتجوز شهادة العبد المسلم على الحرّ المسلم»(5). وقد يُقال: من المطمَأَنّ به وحدة الحديثين؛ لاتّحاد الرواة من الحسن بن محبوب إلى الإمام، واتّحاد المتن ما عدا كلمة (لا) الموجودة في الثاني وغير الموجودة في الأوّل. وبناءً على هذا يسقط الحديث عن
', '(1) الوسائل ج 18 ، باب 14 من كيفيّة الحكم، ح 6 ، ص 194 و 195 .
(2) الوسائل ج 18 ، باب 23 من الشهادات، ح 5 ، ص 254 .
(3) ج 3 ، ح 69 ، ص 26 .
(4) ج 6 ، ح 636 ، ص 249 .
(5) الوسائل ج 18، باب 23 من الشهادات، ح 12، ص 256، والتهذيب ج 6، ح 637، ص 249.
', 379), (14, 380, 'book', '
الحجّيّة؛ لعدم معرفة النسخة الصحيحة من النسختين. والشيخ الحرّ (رحمه الله)بعد أن نقل في الوسائل الحديث الأوّل عن الصدوق وعن الشيخ (رحمهما الله) قال: ذكر الصدوق أنّه محمول على ما لوشهد لغير سيّده، وفي نسخة لايجوز، وهو محمول على التقيّة».
أقول: وبالفعل قد ذكر الصدوق (رحمه الله) في ذيل الحديث الأوّل حمله على مالو شهد لغير سيّده
وكأنّه لأجل مجيء قول الشيخ الحر: (وفي نسخة: لايجوز) مباشرة بعد ذكره لحمل الصدوق (رحمه الله) للحديث على ما لو شهدلغير سيّده فهم السيّد الخوئي أنّ مقصود الشيخ الحرّ هو دعوى اختلاف نسخ الفقيه، ولكنّي أحتمل أنّ مقصوده هو الإشارة إلى الحديث الثاني الذي ذكره بعد ذلك في الوسائل بعد عدة أحاديث؛ حيث إنّه من المحتمل - كما عرفت - دعوى كونه نفس الرواية. وعليه فلا يتعامل مع الحديثين تعامل المتعارضين كما صنعه السيّد الخوئي؛ حيث فرضهما متعارضين، ورجّح أحدهما بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة، وهذا مبنيّ على فرضهما حديثين لاحديثاً واحداً وقع الاختلاف في نسخة، وإلّا فمن الواضح أنّه لم يثبت لدينا نقلان عن الإمام كي يوقع التعارض بينهما ويُحمل أحدهما على التقيّة مثلا.
والسيّد الخوئي قد فرض اختلاف النسخ في داخل (من لايحضره الفقيه) بناءً على تسليم نقل الشيخ الحرّ (رحمه الله) الذي مضى أنّه حمله على هذا المعنى، ولكنّه قال: «إنّ المظنون قويّاً أن ماذكره من النسخة فيها تحريف(1).
أقول: لو حمل كلام الشيخ الحرّ (رحمه الله) على هذا المعنى، فمن المقطوع به خطأ الشيخ الحرّ (رحمه الله)، أو خطأ تلك النسخة وأَنّ الشيخ الصدوق (رحمه الله) إنّما أراد نقل كلمة (يجوز)، وليس نقل كلمة (لايجوز)، والدليل على ذلك: أنّ الشيخ الصدوق (رحمه الله) قد
', '(1) مباني تكملة المنهاج ج 1 ، ص 106 .
', 380), (14, 381, 'book', '
حمل هذا الحديث بصريح كلامه عقيب نقله لهذا الحديث مباشرة على شهادة العبد لغير سيّده، وهذا يعني أنّ الشيخ الصدوق (رحمه الله) يفصِّل بين شهادة العبد لسيّده وشهادته لغير سيّده بحجيّة شهادته في الثاني دون الأوّل، وهذا الحمل غير معقول لو كانت النسخة عبارة عن كلمة (لايجوز)، ولايُحتمل فقهياً العكس؛ بأن تكون شهادة العبد لمولاه نافذة، ولغير مولاه غير نافذة كي يكون هذا الاحتمال منسجماً مع نسخة (لايجوز)، ويُحمل كلام الصدوق على هذا المعنى.
ولو احتمل أحد ذلك قلنا: إنّ هذا لم يكن مقصوداً للشيخ الصدوق (رحمه الله) حتماً بدليل أنّه روى الشيخ الصدوق (رحمه الله) بعد هذا الحديث بعدّة أحاديث حديثاً عن إسماعيل بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه عن عليّ (عليهم السلام)أنّ شهادة الصبيان إذا شهدوا وهم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها، وكذلك اليهود والنصارى إذا أسلموا جازت شهادتهم، والعبد إذا شهد على شهادة ثمّ أُعتق جازت شهادته إذا لم يردّها الحاكم قبل أن يُعتق، وقال (عليه السلام): إن أُعتق العبد لموضوع الشهادة لم تجز شهادته(1). ثمّ ذكر (رحمه الله) بعد نقله لهذا الحديث مباشرةً مانصّه:
«قال مصنّف هذا الكتاب (رحمه الله): أمّا قوله (عليه السلام): (إذا لم يردَّها الحاكم قبل أن يعتق) فإنّه يعني به أن يردّها لفسق ظاهر، أو حال يجرح عدالته، لا لأنّه عبد؛ لأنّ شهادة العبد جائزة، وأوّل من ردّ شهادة المملوك عمر. وأمّا قوله (عليه السلام): (إن أُعتق العبد لموضوع الشهادة لم تجز شهادته) كأنّه يعني إذا كان شاهداً لسيّده، فأمّا إذا كان شاهداً لغير سيّده جازت شهادته - عبداً كان أو معتقاً - إذا كان عدلا».
وعلى أيّ حال فبناءً على ما نستظهره من أنّ الصدوق (رحمه الله) إنَّما ينقل نسخة (يجوز) دون نسخة (لايجوز) يقع الكلام في أنّه بعد فرض كون النقلين في التهذيب
', '(1) الفقيه ج 3 ، ح 80 ، ص 28 .
', 381), (14, 382, 'book', '
حديثاً واحداً متضارب النسخ، فهل بالإمكان عندئذ الاعتماد على نقل الصدوق بعد سقوط نقل الشيخ، وجعل حديث الصدوق دليلا على نفوذ شهادة العبد؟ أو أنّ نقل الصدوق يتساقط مع نقلي الشيخ؟
والواقع أنّه لو كان نقل الشيخ قد سقط بتضارب في نسخ التهذيب، كان نقل الصدوق سليماً عن الإشكال؛ اذ لم نعرف أنّ الشيخ كيف نقل؟ ونقل الصدوق حجّة لنا، و لكن لايوجد في المقام تضارب في نسخ التهذيب وإنّما الشيخ روى الحديث في التهذيب مرّتين: مرّة بتعبير (يجوز)، ومرّة أُخرى بتعبير (لايجوز)، والصدوق رواه مرةً واحدةً بتعبير (يجوز)، وبعد فرض الوثوق بوحدة الحديث تتساقط كلّ هذه النقول الثلاثة بالتضارب في النسخ.
 $
ما دلّ على عدم قبول شهادة العبد:
وعلى أىّ حال فتوجد في مقابل هذه الروايات الدالّة على نفوذ شهادةالمملوك روايات أُخرى دالّة على عدم نفوذ شهادته من قبيل:
1 - ما عن الحلبىّ - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن شهادة ولد الزنا فقال: لا، ولاعبد»(1).
2 - ما عن سماعة - بسند تامّ - قال: «سألته عمّا يُردّ من الشهود. قال: المريب والخصم والشريك ودافع مغرم والأجير والعبد والتابع والمتهم؛ كلّ هؤلاء تردّ شهادتهم»(2).
$
', '(1) الوسائل ج 18، باب 31 من الشهادات، ح 6، ص 277.
(2) الوسائل ج 18 باب 32 من الشهادات، ح 3، ص 278.
', 382), (14, 383, 'book', '
ولو كنّا وهذا الحديث فحسب، كان بالإمكان بقرينة ذكر العبد في سياق من لهم حصّة في المشهود به والمتّهمين إبداء احتمال كون المقصود عدم نفوذ شهادة العبد لمولاه لمكان التّهمة.
3 - ما عن تفسير الحسن العسكرىّ (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «كنّا عند رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وهو يذاكرنا بقوله - تعالى -: ﴿واستشهِدوا شهيدينِ من رجالِكم﴾ قال: أحراركم دون عبيدكم، فإنّ اللّه شغل العبيد بخدمة مواليهم عن تحمّل الشهادات وأدائها(1).
ومن المحتمل اتّحاد ما نقلناه من الرأي الأوّل المنسوب إلى ابن أبي عقيل، وهو عدم نفوذ شهادة المملوك والرأي السابع المنسوب إلى ابن الجنيد، وهو نفوذ شهادته على مثله وعلى الكافر دون الحرّ المسلم، وذلك بأن يُقال: إنّ شرط الحرّيّة لايعني أكثر من ذلك كما أنّ شرط الإسلام لم يكن يمنع عن قبول شهادة الكافر على أهل ملّته، وقد يقال: بأنّ الروايات أيضاً لا تعني أكثر من ذلك. وبناءً على هذا تضاف إلى روايات المنع روايات الرأي السابع، وذلك كما يلي:
4 - ما مضى عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «لا تجوز شهادة العبد المسلم على الحرّ المسلم»(2) بناءً على كونه حديثاً آخر غير نسخة (يجوز)، إلّا فالحديث ساقط بتضارب النسخ كما مضى.
5 - ما عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «تجوز شهادة المملوك من أهل القبلة على أهل الكتاب، وقال: العبد المملوك لاتجوز
', '(1) الوسائل ج 18، باب 23 من الشهادات، ح 15، ص 257.
(2) الوسائل ج 18، باب 23 من الشهادات، ح 12، ص 256.
', 383), (14, 384, 'book', '
شهادته»(1).
6 - المرسل الوارد في الخلاف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه كان يقبل شهادة بعضهم على بعض ولايقبل شهادتهم على الأحرار. قال الشيخ (رحمه الله)في الخلاف ما نصّه: «العبد إذا كان مسلماً بالغاً عدلا، قُبلت شهادته على كلّ أحد من الأحرار والعبيد، إلّا علىمولاه. فأمّا غيره فإنّه تقبل شهادته لهم وعليهم، وروي عن علىّ (عليه السلام) أنّه تُقبل شهادة بعضهم على بعض، ولاتُقبل شهادتهم على الأحرار ...» ثمّ نقل (رحمه الله) أقوالا عن بعض الصحابة أو التابعين أو فقهاء السنّة، وهي: قبول شهادته مطلقاً، وعدم القبول مطلقاً، و القبول في القليل دون الكثير، ثمّ قال: «دليلنا: قوله تعالى: ﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم﴾(2). وذلك عامّ في الجميع، وقال: ﴿واستشهدوا ذوي عدل منكم﴾(3). وهذا عدل، وعليه إجماع الفرقة وأخبارهم»(4).
وقد تُضاف روايات أُخرى إلى طائفة الأخبار الدالّة على عدم نفوذ شهادة المملوك مطلقاً، وإن كان قد يُقال: إنّ مقدمات الحكمة لإثبات إطلاقها - في مقابل بعض التفصيلات الجزئيّة من قبيل استثناء الشهادة في الأمور اليسيرة، أو الشهادة في القتل - غير تامّة، إلّا أنّها - على أىّ حال - تدلّ على أنّ شهادة المملوك في غالب الأحوال غير نافذة، وتلك الأخبار كمايلي:
7 - ما عدّه السيّد الخوئي من هذه الطائفة، و هو ما عن أبي بصير - بسند
', '(1) نفس المصدر ح 10.
(2) السورة 2، البقرة، الآية 282.
(3) السورة 65، الطلاق، الآية 2.
(4) الخلاف ج 3، كتاب الشهادة، مسألة 19، 332.
', 384), (14, 385, 'book', '
تامّ - قال: «سألته عن شهادة المُكاتَب كيف تقول فيها؟ قال: فقال: تجوز على قدر ما أُعتق منه، إن لم يكن اشترط عليه: أنّك إن عجزتَ رَدَدْناك، فإن كان اشترط عليه ذلك، لم تجز شهادته حتى يؤدّي، أو يستيقن أنّه قد عجز. قال: فقلت: فكيف يكون بحساب ذلك؟ قال: إذا كان أدّى النصف أو الثلث، فشهد لك بألفين على رجل، أُعطيت من حقّك ما اُعتق النصفَ من الألفين»(1).
والوجه فيما أشرت إليه من إمكانيّة القول بعدم تماميّة الإطلاق في هذا الحديث أنّه بصدد بيان نسبة المكاتب إلى العبد القنّ في الحكم، وأنّ المُكاتب تقبل شهادته بنسبة ما أُعتق منه بخلاف العبد القِنِّ الّذي ترفض كلّ شهادته. أمّا أنّه ما هي موارد رفض شهادة العبد؟ هل على الإطلاق؟ أوله بعض المستثنيات كالقتل أو الشيء اليسير مثلا؟ فليس بصدد بيانه، وقد يُتفصّى عن هذا الإشكال بأنّ التفصيلات الجزئيّة غير محتملة فقهيّاً، فنفوذ شهادته بالنسبة للقتل فقط، أوبالنسْبة للشيء اليسير فقط ممّا لا قائل به عندنا، وإن حكى الشيخ الطوسي الثاني عن بعض العامة، فإذا فرض عدم احتمال تلك التفصيلات فقهياً، كان الحديث بحكم المطلق. نعم، يُحتمل التفصيل بأن تكون شهادة العبد لمولاه غير نافذة ولو لمكان التّهمة، وشهادته لغيره نافذة، أو أن تكون شهادته على مولاه غير نافذة، وفي غير ذلك نافذة بناءً على ما نسب إلى مشهور الأصحاب، ولكنّ حمل الحديث على خصوص فرض الشهادة لمولاه، أو عليه غير محتمل عرفاً، لكونه حملا على مورد نادر نسبيّاً. إذن فالحديث بحكم المطلق بلحاظ تمام التفاصيل، إلّا أن يناقش في عدم احتمال التفصيلات
', '(1) الوسائل ج 18، باب 23 من الشهادات، ح 14، ص 257.
', 385), (14, 386, 'book', '
الجزئيّة فقهياً بدعوى أنّ عدم القائل لايوجب القطع بالعدم، ومن المحتمل مدركيّة الإجماع.
8 - ما عدّه السيّد الخوئي أيضاً من هذه الطائفة، وهو ما عن إسماعيل بن أبي زياد - بسند تامّ - عن جعفر عن أبيه عن علىّ (عليهم السلام) أنّ شهادة الصبيان إذا شهدوا وهم صغار، جازت إذا كبروا مالم ينسوها، وكذلك اليهود والنصارى، إذا أسلموا جازت شهادتهم، والعبد إذا شهد بشهادة ثمّ أُعتق، جازت شهادته، إذا لم يردّها الحاكم قبل أن يُعتق، وقال علىّ (عليه السلام): «وإن أُعتق لموضع الشهادة، لم تجز شهادته»(1).
وهذا أيضاً يمكن الاستشكال في إطلاقه بأنّه إنّما هو بصدد بيان أنّ العتق يزيل مانعيّة المملوكيّة بزوال المملوكيّة، ولايضرّ بالأمر كون تحمّل الشهادة في زمان المملوكيّة، أمّا ماهي مدى ما نعية المملوكيّة؟ فليس الحديث بصدده.
فاحتمالات الاستثناءات الجزئيّة - كالشهادة على الشيء اليسير أو الشهادة على القتل - واردة، ما لم يدّعى القطع الفقهىّ بخلافها، بل هذا الحديث بعد عدم تماميّة مقدمات الحكمة فيه يأتي احتمال حمله على الشهادة لمولاه على ما يناسبه قوله: «إن أُعتق لموضع الشهادة»، إذ - عادةً - لا يعتق المولى عبده لأجل الشهادة لغيره، وإنّما يعتقه لأجل الشهادة لنفسه، فهذا التعبير وإن كان لايبطل الإطلاق لو تمّت مقدمات الحكمة، لكنّه يبطل إشكال استبعاد الحمل على الفرد النادر بعد فرض عدم تماميّة مقدمات الحكمة.
على أنّ في متن الحديث نوع التواء. إذ لم نعرف معنىً معقولا لقوله: «إذا لم يردَّها الحاكم قبل أن يعتق»، عدا ما أُوّلت به العبارة من أنّ المقصود هو ردّ شهادته
', '(1) الوسائل ج 18، باب 23 من الشهادات، ح 13، ص 257.
', 386), (14, 387, 'book', '
بمانع آخر من فسق ونحْوه.
9 - ما عدّه صاحب الجواهر (رحمه الله) من هذه الطائفة، وهو ما عن صفوان ـ بسند تامّ ـ عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «سألته عن رجل أشهد أجيره على شهادة، ثمّ فارقه أتجوز شهادته له بعد أن فارقه؟ قال: نعم، وكذلك العبد إذا أُعتق جازت شهادته»(1).
وهذا الحديث أيضاً يمكن المناقشة في إطلاقه باعتباره وارداً بصدد بيان أنّ عتق العبد يزيل المانع عن قبول الشهادة، وأنّه لايضرّ بالأمر كون تحمُّل الشهادة في زمان العبوديّة. أمّا مدى ما نعيّة المانع، فليس بصدد بيانه. وهنا أيضاً لو كان التشكيك بلحاظ استثناءات من قبيل استثناء الشيء اليسير أو القتل، قد يقول القائل بالقطع الفقهي بعدم استثناء من هذا القبيل، ولكن بالإمكان ذكر هذا التشكيك بمعنى دعوى احتمال اختصاص الحكم بفرض الشهادة لمولاه، كما يناسبه ما جاء في هذا الحديث من السؤال عن فرض أنّ الرجل أشهد أجيره على شهادة، ثمّ فارقه، والإمام (عليه السلام) عطف في الجواب على ذلك فرض عتق العبد، فهذا وإن كان لايبطل الإطلاق لو تمّت مقدمات الحكمة، لكنّه يبطل إشكال الحمل على الفرد النادر.
10 - ما عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الذّمي والعبد يشهدان على شهادة، ثمّ يسلم الذّمي، ويُعتق العبد، أتجوز شهادتهما على ما كانا اُشهدا عليه؟ قال: نعم، إذا عُلم منهما بعد ذلك خير، جازت شهادتهما»(2). ونفس النقاش السابق في الإطلاق يجري هنا. وقد يُدّعى أيضاً القطع
', '(1) الوسائل ج 18، باب 29 من الشهادات، ح 1، ص 273.
(2) الوسائل ج 18، باب 39 من الشهادات، ح 1، ص 285.
', 387), (14, 388, 'book', '
بعدم بعض الاستثناءات كاستثناء القتل أو الشيء اليسير، لكن يبقى احتمال تخصيص الحديث بشهادة العبد لمولاه أو على مولاه ما دامت مقدمات الحكمة غير تامّة، إلّا أنّه ليس في متن هذا الحديث مايناسب ذلك كما في سوابقه، ومن هنا قد يُستبعد فرض تخصيصه بمورد خاصّ من الشهادة لمولاه، أو الشهادة على مولاه.
11 - ما عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) وعن أبي بصير وسماعة والحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام). - والاسانيد كلّها تامّة - في المكاتب يعتق نصفه هل تجوز شهادته في الطلاق؟ قال: «إذا كان معه رجل وامرأة»، و قال أبو بصير: «وإلّا فلا تجوز»(1)، ورواه الصدوق - بسنده - عن حمّاد عن الحلبي كالتالي: قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول في المكاتب: كان الناس مدّة لايشترطون إن عجز، فهو ردّ في الرّق، فهم اليوم يشترطون والمسلمون عند شروطهم و يجلد في الحدّ على قدر ما أُعتق منه، قلت: أرأيت إن أُعتق نصفه أتجوز شهادته في الطلاق؟ قال: إن كان معه رجل وامرأة، جازت شهادته»(2). والسند تامّ، والإشكال الماضي في الإطلاق يأتي هنا؛ لأنّ الإمام لم يكن بصدد بيان شرط الحرّيّة ابتداءً. وقد يُدّعى هنا أيضاً القطع الفقهي بعدم الاستثناءات الجزئيّة. وهنا لايأتي احتمال اختصاص الحديث بفرض الشهادة للمولى أو عليه؛ لأنّ مورده هو الشهادة على الطلاق. نعم، فيه ما جعله(3)الشيخ الطوسي (رحمه الله) مؤكّداً للحمل على التقيّة، وهو إشراك المرأة في الشهادة على
', '(1) الوسائل ج 18، باب 23 من الشهادات، ح 11، ص 256.
(2) الفقيه ج 3، ح 86، ص 29، وجاء ذيله في الوسائل ج 18، باب 23 من الشهادات، ح 6، ص 255 .
(3) راجع التهذيب ج 6، ذيل الحديث 639، ص 250، و الاستبصار ج 3، ذيل الحديث 47.
', 388), (14, 389, 'book', '
الطلاق(1).
ثمّ إنّ روايات عدم قبول شهادة المملوك إلّا على مثله، أو الكافر وإن لم تكن مطلقة بتمام معنى الكلمة في عدم نفوذ شهادة المملوك؛ إذ خرج من إطلاقها الشهادة على المملوك، أو الشهادة على الكافر، لكن هذا لايغيّر من نسبتها إلى روايات قبول شهادة المملوك، فالتعارض لازال يعتبر كأنّه تعارض تباينىّ، وليس بالعموم والخصوص؛ إذ ليس من العُرفيّ تقييد روايات قبول شهادة المملوك بخصوص ما إذا كانت شهادته على المملوك، أو على الكافر. وكذلك الحال في نفس روايات عدم قبول شهادة المملوك المطلقة بناءً على منع إطلاقها للشهادة على المملوك والكافر، كما أنّ روايات شرط الإسلام لم تكن تعني عدم نفوذ شهادة الكافر على أهل مذهبه.
وأيضاً الروايات الّتي قلنا: قد يناقش في إطلاقها لبعض الحالات الخاصّة كالشهادة على القتل، أو الشيء اليسير، لو تمّ مثل هذا النقاش، لم يضرّ بكون التعارض بينها وبين روايات نفوذ شهادة العبد كالتعارض التبايُنىّ، وليس بالعموم
', '(1) جعل هذا مؤكّداً للحمل على التقيّة يمكن أن يُفسَّر بأحد تفسيرين:
الأوّل - ما هو الظاهر من عبارة الشيخ الطوسي (رحمه الله) في كتابيه من أنّه بما أنّ ذكر شهادة المرأة في الطلاق محمول على التقيّة؛ إذن هذا يؤكّد كون نفي شهادة العبد أيضاً محمولا على التقيّة.
والثاني - أن يُقال: إنّ وضوح عدم نفوذ شهادة المرأة في الطلاق عند الشيعة يجعلنا نحتمل أنّه كان فرض ضمّ شهادة المرأة والرجل الحرّ إلى شهادة العبد لأجل أن يفهم الشيعىّ نفوذ شهادة العبد، ويتوهّم غيره كون المقصود عدم نفوذ شهادة العبد، حيث إنّ الشيعي يرى أنّ ضمّ شهادة المرأة في الطلاق ضمّ للحجر إلى جنب الإنسان، فيعرف أنّ النافذ هو شهادة الرجل الحرّ والعبد، وبعض العامّة يرى أنّ شهادة المرأة في هذا الفرض نصف شهادة الرجل. فيفهم من كلام الإمام أنّه قد جعل شهادة العبد الذي أُعتق نصفه أيضاً نصف شهادة الحرّ.
وسيأتي - إن شاء اللّه - في محلّة أنّ العامة في شهادة المرأة في الطلاق مختلفون على رأيين.
', 389), (14, 390, 'book', '
والخصوص المطلق. إذ ليس من الجمع العرفىّ تقييد روايات نفوذ الشهادة ببعض الموارد الخاصّة كالشهادة على اليسير، أو على القتل.
 $
علاج التعارض في المسألة:
وأمّا ما هو علاج هاتين الطائفتين المتعارضتين في المقام؟ فقد ذكر الشيخالطوسي (رحمه الله)(1) علاجين:
أحدهما - حمل روايات عدم نفوذ شهادة العبد على التقيّة.
والثاني - حملها على عدم نفوذ شهادته لمولاه، لمكان التهمة.
وذكر صاحب الجواهر: أنّ روايات عدم النفوذ محمولة على الشهادة على المولى، أو على الكراهة، أو على التقيّة الّتي قد أوْمأ إليها في النصوص السابقة(2).
أقول: الحمل على الكراهة لاوجه له، فإنّ المفهوم العرفي من الروايات هو الحكم الوضعي، وهو شرطية الحرّيّة، أو مانعية الرّقّية، وهذا لايقبل الحمل على الكراهة، إلّا بمعنى صرفه عن كونه حكماً وضعيّاً، وحمله على الحكم التكليفىّ الكراهيّ. وهذا جمع تبرّعي لاأثرله.
كما أنّ الحمل على الشهادة على المولى أيضاً حمل تبرّعي لادليل عليه.
وأمّا ما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) من الحمل على الشهادة للمولى، فهو أوجه من الحملين المذكورين في الجواهر، لما مضى منّا من تناسب ذلك مع بعض روايات الباب، وصياغة ذلك فنّياً - كجمع عرفي - يجب أن تكون بأحد وجهين، وهما
', '(1) في التهذيب ج 6، في ذيل الحديث 639، ص 249.
(2) الجواهر ج 41، ص 92.
', 390), (14, 391, 'book', '
لايتّمان إلّا في بعض الروايات الماضية:
الوجه الأوّل - إرجاع ذلك إلى الجمع بحمل المطلق على المقيَّد بدعوى عدم الإطلاق في روايات المنع لغير الشهادة للمولى، فهي أخصّ من روايات النفوذ.
إلّا أنّ تطبيق قاعدة حمل العامّ على الخاصّ، أو المطلق على المقيّد على مثل المقام لايخلو عن تفصيل، فإنّ حمل العامّ أو المطلق على الخاصّ أو المقيّد يكون بأحد ملاكات ثلاثة:
1 - دعوى انخرام مقدّمات الحكمة بالمقيّد المنفصل.
2 - دعوى تقديم الخاصّ أو المقيّد بالأقوائيّة.
3 - دعوى تقديم الخاصّ أو المقيّد بالقرينيّة العرفيّة.
أمّا الدعوى الأُولى لو تمّت في نفسها، فهي لاتتّم في مثل المقام، إلّا إذا كان الخاصّ قدراً متيقّناً ممّا لم يتمّ الإطلاق فيه، كما هو الحال في بعض روايات الباب. أمّا ما كان من قبيل رواية محمد بن مسلم، وهي الرواية العاشرة من روايات المنع الماضيّة: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الذّمىّ والعبد يشهدان على شهادة، ثمّ يسلم الذمّىّ ويُعتق العبد أتجوز شهادتهما على ما كانا اُشهدا عليه؟ قال: نعم، إذا عُلم منُهما بعد ذلك خير، جازت شهادتهما» بناءً على تسليم عدم الإطلاق فيها، وإمكان حملها على الشهادة لمولاه، فهذا الوجه لا يأتي فيه؛ إذ كما يمكن حملها على الشهادة لمولاه يمكن حملها على الشهادة لغير مولاه، وليس الأوّل قدراً متيقَّناً من الحديث تمّ البيان المنفصل بشأنه؛ كي يقال بانخرام مقدّمات الحكمة في مطلقات نفوذ الشهادة به.
وأمّا الدعوى الثانية - بناءً على تماميّتها في نفسها - فأيضاً لاتتمّ إلّا إذا كان الخاصّ قدراً متيقَّناً ممّا لم يتمّ فيه الإطلاق؛ كي تتمّ الأقوائية، كما قد يقال بذلك في الحديث الثامن والتاسع من أحاديث المنع الماضية، أو في الحديث التاسع فقط. أمّا في مثل الرواية الّتي أشرنا اليها - وهي الرواية العاشرة - فلا تتصور أقوائيّة في المقام.
$
', '', 391), (14, 392, 'book', 'وأمّا الدعوى الثالثة - بناءً على تماميّتها في نفسها - فهي لاتتمّ في المقام، حتى مع فرض كون الخاصّ قدراً متيقّناً ممّا لم يتمّ الإطلاق فيه، فإنّ القرينيّة لا تتمّ بمجرّد كونه قدراً متيقَّناً، وإنّما قوام القرينية يكون بذكر العنوان الخاصّ، اللهمّ إلّا في رواية جاء فيها تعبير يكون في قوّة التصريح بالعنوان الخاصّ، كما قد يقال بذلك فيما مضى من الرواية الثامنة من روايات المنع بناءً على أنّ قوله: «وإن أُعتق لموضع الشهادة لم تجز شهادته» في قوّة التصريح بفرض كون الشهادة لمولاه.
الوجه الثاني - أن يقال: إنّ روايات نفوذ شهادة المملوك لم تدلّ أساساً على نفوذ شهادته لمولاه، وذلك لأحتمال عدم نفوذ شهادته لمولاه بملاك فقدان شرط آخر، وهو عدم التهمة، ودليل نفوذ شهادة المملوك ليس له نظر إلى نفي الشرائط الأُخرى، ولذا لا يعدّ شرط العدالة مثلا تقييداً لإطلاق أدلّة نفوذ شهادة المملوك، فاذا كانت روايات نفوذ الشهادة لا إطلاق لها للشهادة لمولاه، وروايات عدم نفوذ الشهادة لا إطلاق لها للشهادة لغير مولاه، فقد ارتفع التعارض لا محالة.
إلّا أنّ كلا هذين الوجهين لا يتّمان في تمام روايات المنع؛ إذ أنّ بعض روايات المنع قد تمّ إطلاقه، كما يظهر بمراجعة الروايات الماضية، ويكون حمله على الشهادة لمولاه حملا تبرّعيّاً، بل بعضُها لا يقبل هذا الحمل كالحديث الحادي عشر، إن لم نقل بوجود قرينة داخلية فيه للحمل على التقيّة. وعلى أىّ حال، فبعد إفلاس الجمع العرفىّ في المقام - ولو بلحاظ بعض الروايات - تصل النوبة إلىالترجيح، ويطبّق في المقام المرّجحان الرئيسيّان في باب التعادل والتراجيح لصالح روايات نفوذ شهادة المملوك.
المرجِّح الأوّل - هو موافقة الكتاب: فروايات نفوذ شهادة المملوك توافق إطلاق الكتاب، وروايات عدم نفوذها تخالف إطلاق الكتاب كقوله - تعالى -:
$
', '', 392), (14, 393, 'book', '1 - ﴿واستشهدوا ذوي عدل من رجالكم﴾(1).
2 - ﴿واستشهدوا ذوي عدل منكم﴾(2).
3 - ﴿اثنان ذوا عدل منكم﴾(3).
لايقال: إنّ المرجع لضمير الخطاب غير معلوم، فلعلّه ليس هو مطلق المسلمين، بل خصوص المسلمين الأحرار.
فإنّه يقال: إنّ الآية الاُولى مصدَّرة بقوله ﴿يا أيّها الذين آمنوا﴾، وهذا التعبير يشمل العبيدالمؤمنين، والآية الأخيرة أيضاً مصدّرة بذلك إضافةً إلى أنّه عطف على قوله: ﴿ذوا عدل منكم﴾ قولَهُ: ﴿أو آخرانِ من غيرِكم إن أنتم ضربْتم في الأرض ...﴾ والمعروف أنّ المقصود به غير المسلمين، فتعرف بقرينة المقابلة أنَّ المقصود بقوله: «منكم» هو المسلمون. نعم، الآية الثانية خالية عن هاتين القرينتين، لكن ضرورة اشتراك أحكام الطلاق في مورد الآية بين الأحرار والعبيد يجعلنا نفهم بوحدة السياق أنّ الخطاب لجميع المسلمين.
المرجّح الثاني - مخالفة العامّة؛ حيث إنّ روايات عدم نفوذ شهادة العبد موافقة لكثير من العامّة، وروايات النفوذ مخالفة لهم. نعم، خصوص الرواية المرويّة عن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وهي الرواية الثالثة من روايات المنع الماضية - قد لا تقبل الحمل على التقيّة؛ لأنّ النقل انتهى إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بناءً على تفسير الترجيح بمخالفة العامّة بمعنى حمل الموافق على التقيّة لاعلى الكذب، أو على الجامع بين الكذب والتقيّة. إلّا أنّ هذه الرواية
', '(1) السورة 2، البقرة، الآية 282.
(2) السورة 65، الطلاق، الآية 2.
(3) السورة 5، المائدة، الآية 106.
', 393), (14, 394, 'book', '
- على أىّ حال - ساقطة سنداً.
وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّ روايات نفوذ شهادة المملوك تُقدّم على روايات المنع.
 $
دراسة التفاصيل في المسألة:
بقيت علينا بعد ذلك دراسة التفاصيل الّتي ذكرت في المقام، وأوّل تفصيلندرسُهُ في المقام: هو ما نسب إلى مشهور الإماميّة من التفصيل بين الشهادة على المولى فهي غير نافذة وغير الشهادة على المولى فهي نافذة. وقد يستدلّ على ذلك بعدّة وجوه:
1 - الإجماع: وهو لا يفيد شيئاً، لكونه منقولا، وقد نُسِب، الخلافُ إلى جماعة، وهو محتمل المدركيّة على أقلّ تقدير.
2 - القياس بالولد - على حدّ تعبير السيّد الخوئي في مباني المنهاج(1)-: بناءً على عدم نفوذ شهادته على أبيه، وقد أورد عليه السيّد الخوئي بأنّه قياس لانقبل به، مع أنّنا لانقبل بالمقيس عليه.
أقول: عدم القبول بالمقيس عليه صحيح، أمّا إشكال القياس فلا يرد على مثل تعبير صاحب الجواهر الذي ذكر: أنّ شهادة العبد على مولاه أولى بعدم القبول من شهادة الابن على أبيه بناء على أنّ المنع فيه للعقوق(2). فهذا - كما ترى - استدلال في باب المملوك بعين الدليل المستدلّ به في باب الولد، فإشكاله ينحصر
', '(1) ج 1، ص 106
(2) الجواهر ج 41، ص 92.
', 394), (14, 395, 'book', '
بإبطال ذاك الدليل.
3 - ما عن الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجل مات، وترك جارية ومملوكين، فورثهما أخ له، فأعتق العبدين، وولدت الجارية غلاماً، فشهدا بعد العتق أنّ مولاهما كان أشهدهما أنّه كان يقع على الجارية، وأنّ الحمل منه، قال: «تجوز شهادتهمايردّان عبدين كما كانا»(1).
وينبغي أن يكون وجه الاستدلال: أنّ الحديث ورد في مورد الشهادة على من كان مولاه بظاهر الشرع، لولا نفوذ الشهادة وهو أخو الميّت، وقد دلّ في هذا المورد على أنّ نفوذ الشهادة مشروط بأن تكون بعد العتق، وبه تقيّد إطلاقات نفوذ شهادة العبد. فالنتيجة هي التفصيل بين شهادة العبد على مولاه فلا تنفذ وشهادته لا على مولاه فتنفذ.
وأورد عليه في الجواهر: بأنّ قيد العتق مذكور في مفروض السائل، وبأنّ مفهوم الوصف غير حجّة، ولذا جعل الحديث من مؤيّدات رأي المشهور لا دليلا عليه.
أقول: إشكال مفهوم الوصف غير وارد، فإنّ ذكر الوصف عند عدم وجود نكتة عقلائية أُخرى له يدلّ على السلب الجزئيء، وبما أنّا لا نحتمل الفرق فيما بين موارد الشهادة على المولى، فلا محالة يدلّ الحديث على عدم نفوذ الشهادة على المولى مطلقاً، إلّا أنّ الإشكال الأوّل وارد، مضافاً إلى ضعف سند الحديث بسند الشيخ إلى أبي عبداللّه البزوفري، فإنّ سنده إليه في المشيخة عبارة عن أحمد بن عبدون والحسين بن عبيداللّه الغضائري، ولادليل على وثاقتهما، وإن كانا من مشايخ النجاشي حسب ما هو المختار من عدم الدليل على وثاقة كلّ من هو من مشايخ
', '(1) الوسائل ج 18 باب 23 من الشهادات، ح 7، ص 255.
', 395), (14, 396, 'book', '
النجاشي. نعم، ذكر الشيخ في رجاله: (أخبرنا عنه - يعني عن البزوفري - جماعة منهم محمّد بن محمّد بن النعمان والحسين بن عبيداللّه وأحمد بن عبدون)، لكن هذا - كما ترى - لا يدلّ على أنّ كلّ ما أخبره عنه الغضائري وأحمد بن عبدون فقد أخبره عنه المفيد أيضاً كما هو واضح.
4 - أنّه لايُقبل إقرار العبد على نفسه باعتباره إقراراً على المولى. وأورد عليه السيّد الخوئي(1) بأنّه لا ربط لباب الإقرار بباب الشهادة، فعدم نفوذ الإقرار على نفسه باعتبار أنّه إقرار بحقّ غيره، ودليل حجيّة الإقرار لايشمل مثله. وهذا بخلاف دليل حجيّة الشهادة.
أقول: إنّ صاحب الجواهر إنّما ذكر هذا الوجه كتأييد، أو دليل بدعوى أنّ الإقرار على المولى شهادة عليه، ولاقائل بالفصل بين شهادة على المولى تكون في نفس الوقت إقراراً على النفس وشهادة على المولى لاتكون كذلك(2).
الجواب: أنّ الفصل بين شهادة على المولى تكون في نفس الوقت إقراراً على النفس وشهادة على المولى لا تكون كذلك لامبرّر له، ولكن هذا لايعني عدم نفوذ شهادة العبد على المولى، فالقول بعدم نفوذ شهادة إقراره لكونه إقراراً على المولى يعني أنّه بما هو إقرار وبمجرد تماميّة شرط نفوذ الإقرار - وهو العقل - لا ينفذ. أمّا لو نفذ عندما تتمّ فيه شروط نفوذ الشهادة من التعدّد والعدالة، فهذا لا ينافي القول بعدم نفوذ إقرار العبد لكونه إقراراً على المولى.
5 - الجمع بين روايات المنع وروايات النفوذ يكون بالتفصيل الذي اختاره المشهور.
$
', '(1) راجع مباني تكملة المنهاج ج 1، ص 107.
(2) الجواهر ج 41، ص 93.
', 396), (14, 397, 'book', '
وهذا - كما ترى - جمع تبرّعىّ لا قيمة له.
6 - ما عن كنز العرفان ممّا يستفاد منه وجود حديث بهذا المضنون؛ حيث قال: «بناءً على نقل الجواهر: واختلف في شهادة العبد ...» إلى أن قال: «وعن أهل البيت (عليهم السلام) روايات أشهرها وأقواها القبول إلّا على سيّده خاصّة»(1).
وهذا لو سلّم كونه رواية وليس استنباطاً له من الروايات، فهو مرسل لا قيمة له.
7 - ما مضى من حديث درع طلحة، وهو الحديث الرابع من أحاديث نفوذ شهادة العبد، فقد يقال: إنّ هذا الحديث صريح في نفوذ شهادة العبد على غير مولاه؛ لأنّ آخذ الدرع لم يكن هو مولىً لقنبر، ومقتضى الجمع بينه وبين روايات عدم النفوذ هو تخصيص عدم النفوذ بفرض الشهادة على المولى حملا للمطلق على المقيد. وبالإمكان جعل هذا الوجه توجيهاً للوجه الخامس، وإخراجاً له عن كونه جمعاً تبرّعياً.
ويرد عليه: أوّلا - أنّ حديث درع طلحة من الروايات الدالّة على نفوذ شهادة العبد على الإطلاق حيث جاء فيه: (وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا). نعم، مورده هو الشهادة على غير المولى، والمورد لايخصِّص الوارد، ومجرد كونه قدراً متيقّناً لايخرج الجمع عن كونه جمعاً تبرعيّاً.
وثانياً - أنّ تقييد روايات عدم النفوذ بالشهادة على المولى تقييد بفرد نادر، وهو غير عرفي.
والتفصيل الثاني - هو عكس تفصيل المشهور، وهو القول بنفوذ شهادة العبد على مولاه وعدم نفوذها في غير ذلك، وهو الذي قال عنه صاحب الجواهر: «إنّه لم
', '(1) الجواهر ج 41 ص 92.
', 397), (14, 398, 'book', '
نعرف قائله».
وما يمكن جعله دليلا على هذا الوجه دعوى الجمع بين الروايات المتعارضة بهذا التفصيل.
ويرد عليه: أوّلا - أنّه جمع تبرّعىّ لا مبرّرله.
وثانياً - أنّ تخصيص روايات نفوذ الشهادة - على فرض كونها شهادة على مولاه - تخصيص بالفرد النادر.
وثالثاً - أنّ رواية درع طلحة لاتقبل هذا الحمل. فإنّ الإمام (عليه السلام) طبّق قاعدة نفوذ شهادة العبد على شهادته على غير مولاه.
والتفصيل الثالث - هو القول بنفوذ الشهادة على الكافر والعبد دون المسلم الحرّ، ويحتمل أن لا يكون هذاتفصيلا في مقابل القول بعدم النفوذ مطلقاً، بأن يُقال: إنّ القول بعدم النفوذ مطلقاً لايقصد أكثر من ذلك، سنخ أنّ القول بشرط الإسلام في الشاهد لايعني عدم نفوذ شهادة الكافر بشأن من هو من أهل مذهبه.
وعلى أىّ حال فالدليل على هذا التفصيل وجهان:
الأوّل - روايات عدم نفوذ شهادة العبد بدعوى أنّه لا يفهم منها أكثر من عدم النفوذ على الحرّ المسلم، كما لايفهم من دليل شرط الإسلام أكثر من عدم نفوذ شهادة الكافر على المسلم أو على غير من هو من أهل مذهبه، وعندئذ تقدّم هذه الروايات على روايات نفوذ شهادة العبد بالأخصّيّة.
والجواب: أنّ تخصيص روايات النفوذ بفرض الشهادة على الكافر أو العبد غير عرفىّ، وبالتالي يكون التعارض بحكم التعارض التبايني، فلا مجال إلّا لما مضى من الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة.
والثاني - الأخبار الخاصّة في المقام وهي ثلاثة:
$
', '', 398), (14, 399, 'book', '1 - ما مضى من رواية محمد بن مسلم(1) من قوله: «لا تجوز شهادة العبد المسلم على الحرّ المسلم». بناءً على كونها غير روايته الّتي عبّر فيها ب-(تجوز) لاأنّها من اختلاف النسخ.
وردّ الاستدلال بذلك بعدم حجّيّة مفهوم الوصف غير صحيح؛ لأنّ الوصف يدلّ على السلب الجزئي، ولانحتمل الفرق بين موارد الشهادة على الكافر أو موارد الشهادة على العبد.
2 - ما مضى أيضاً من رواية محمد بن مسلم(2): «تجوز شهادة المملوك من أهل القبلة على أهل الكتاب، وقال: العبد المملوك لا تجوز شهادته». وهذه الرواية لو كانت وحدها فهي أخصّ من المدّعى؛ إذ لم تدلّ على جواز شهادة العبد على العبد.
3 - ما مضى أيضاً من المرسل(3) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «أنّه كان يقبل شهادة بعضهم على بعض، ولايقبل شهادتهم على الأحرار» وقد يتعدّى من شهادة بعضهم على بعض إلى شهادتهم على الكفار بالأولويّة.
والجواب على الاستدلال بهذه الروايات - مع غضّ النظر عمّا قد يُقال في الرواية الأُولى من حملها على اختلاف النسخ، وفي الثانية من كونها أخصّ من المدّعى، وفي الثالثة من سقوطها سنداً -: أَنّ هذه الروايات معارضة بروايات نفوذ شهادة العبد، ولايمكن تقديمها عليها بالأخصّيّة؛ لعدم عرفيّة حمل تلك الروايات على خصوص الشهادة بشأن الكافر أو العبد، والتعارض بحكم التعارض التبايني، على
', '(1) وهي الرواية الرابعة من روايات عدم نفوذ شهادة العبد، فراجع.
(2) وهي الرواية الخامسة من روايات عدم نفوذ شهادة العبد، فراجع.
(3) وهي الرواية السادسة من روايات عدم نفوذ شهادة العبد، فراجع.
', 399), (14, 400, 'book', '
أنّ رواية درع طلحة لايمكن حملها على هذا المحمل، وكذلك رواية محمد بن مسلم غير المشتملة على كلمة (لا) بناءً على كونها رواية مستقلة لامن باب اختلاف النسخ. إذن لامجال إلّا لإسقاط روايات عدم نفوذ الشهادة بشأن الحرّ المسلم بمخالفتها لإطلاق الكتاب وموافقتها للعامّة.
والتفصيل الرابع - هو القول بنفوذ شهادة العبد إلّا لمولاه وعلى مولاه. والدليل على ذلك: إمّا هو الجمع بين الروايات المتعارضة نفياً وإثباتاً، وهذا جمع تبرّعي لاقيمة له. أو الجمع بين دليل التفصيل الثاني ودليل التفصيل الخامس، وقد مضى ما في الدليل على التفصيل الثاني، وسيأئي البحث عن التفصيل الخامس - إن شاء اللّه -.
والتفصيل الخامس - هو نفوذ شهادة العبد إلّا لمولاه. ومن المحتمل أن لا يكون هذا تفصيلا في مقابل القول بنفوذ شهادة العبد مطلقاً، وذلك بأن يقصد بالاستثناء عدم نفوذ شهادته لمولاه لفقدان شرط آخر، وهو عدم التهمة، فلامنافاة بين القول بنفوذ شهادة العبد مطلقاً وعدم نفوذ شهادته لمولاه، كما لامنافاة بين القول بنفوذ شهادة العبد مطلقاً وعدم نفوذ شهادته إذا كان فاسقاً مثلا.
وعلى أيّ حال فيمكن الاستدلال على هذا التفصيل بوجهين:
الأوّل - الروايات الخاصّة، وهي كما يلي:
1 - ما عن ابن أبي يعفور عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن الرجل المملوك تجوز شهادته لغير مواليه؟ قال: تجوز في الدين والشيء اليسير»(1). فتخصيص الحكم بالدين والشيء اليسير قد يحمل على التقيّة مثلا، ولكن محل الشاهد في المقام هو تخصيص السؤال بما إذا كانت الشهادة لغير مواليه، فكأنّه كان
', '(1) الوسائل ج 18، باب 23 من الشهادات، ح 8، ص 255 و 256.
', 400), (14, 401, 'book', '
من المسلّم أنّ الشهادة لمواليه غير نافذة، ولايحتمل العكس بأن يفرض أنّ من المسلّم أنّ شهادته لمواليه نافذة وأنّ الشكّ وقع في الشهادة لغير مواليه، إذ لو كان حكم الشهادة للمولى مسلّماً - دون الشهادة لغير المولى - فإنّما هو الحكم بعدم النفوذ للتهمة - مثلا - لا الحكم بالنفوذ.
وأمّا الإيراد على الاستدلال بالحديث بعدم حجيّة مفهوم الوصف فغير وارد؛ لما حقّقناه في الاُصول من أنّ الوصف إذا لم تكن نكتة عقلائية أُخرى لذكره يدل على السلب الجزئي. وحينما لانحتمل الفرق بين موارد انتفائه يتمّ لامحالة السلب الكلّي.
كما أنّ الإيراد عليه بما ذكره السيّد الخوئي في مباني التكملة(1) - من أنّ السؤال إنّما هو عن الشهادة لغير الموالي، ولا مفهوم له - قابل للنقاش سواء كان هذا الكلام ناظراً ضمناً إلى نفي مفهوم الوصف الذي عرفت جوابه، أو ناظراً فقط إلى أنّ القيد إنّما جاء في لسان السائل لافي لسان الإمام، وذلك لأنّ كلام السائل لم يكن ناظراً إلى قضيّة شخصيّة كي يُقال: إنّها قضيّة في واقعة، بل هو ناظر إلى القضيّة الكلّيّة الفرضيّة، أي السؤال عن شهادة المملوك لغير مواليه بنحو القضيّة الحقيقيّة. ومن الواضح أنّ قيد كون الشهادة لغير مواليه في القضيّة الحقيقيّة يوحي إلى أنّه كان من المسلّم عند السائل عدم نفوذ شهادته لمواليه، والإمام (عليه السلام) لم يردع عن ذلك، وهو دليل الإمضاء.
2 - الحديث الثاني من أحاديث المنع الماضيّة، وهو ما عن سماعة - بسند تام - قال: «سألته عمّا يردّ من الشهود قال: المريب، والخصم، والشريك، ودافع مغرم، والأجير، والعبد، والتابع، والمتّهم كلّ هؤلاء تردّ شهادتهم» بناءً على حمله
', '(1) ج 1، ص 105.
', 401), (14, 402, 'book', '
بقرينة السياق على فرض التهمة، وهو فرض شهادته لمولاه.
3 - ما مضى في الحديث الثامن من أحاديث المنع من قوله (عليه السلام): «وإن أُعتق لموضع الشهادة، لم تجز شهادته» بناءً على أنّ الرواية ناظرة إلى الشهادة للمولى، فإنّ العتق لموضع الشهادة إنّما يكون عادة في حالة من هذا القبيل.
فإذا قيّد إطلاق روايات نفوذ شهادة العبد - لو تمّ لها إطلاق لشهادة العبد لمولاه - ببعض هذه الروايات، ثبت التفصيل بين شهادة العبد لمولاه وشهادته لغير مولاه بالنفوذ في الثانية دون الاُولى.
والثاني - مطلق الروايات الدالّة على مانعيّة التهمة؛ حيث إنّ التّهمة الموجودة في شهادة العبد لمولاه ليست بأقلّ من التّهمة الموجودة في مثل التابع والقانع والأجير من العناوين الواردة في تلك الروايات، وقد استفدنا نحن - فيما مضى - من تلك الروايات قاعدةً عامّةً، وهي منع نفوذ الشهادة في موارد التّهمة الّتي تكون من مستوى هذه العناوين، فاذا ضمّ ذلك إلى روايات نفوذ شهادة العبد الدالّة على أنّ مجرّد العبوديّة لايمنع عن نفوذ الشهادة، ثبت التفصيل بين شهادة العبد لمولاه فلا تنفذ، وشهادته لغير مولاه فتنفذ.
وقد يُقال: إنّ حديث درع طلحة(1)- وهو الحديث الرابع من أحاديث نفوذ شهادة العبد - يدلّ بالنصوصيّة على نفوذ شهادته لمولاه، وذلك لأنّ مورده هو شهادة قنبر لصالح كلام مولاه، وهو أميرالمؤمنين (عليه السلام) الذي ادّعى على عبداللّه بن قفل التميميّ أنّه أخذ درع طلحة غلولا.
ولكنّ هذا الحديث إنّما دلّ على نفوذ شهادة العبد لمولاه حينما لايكون المولى مدّعياً لشيء يرجع إليه ربحه، وإن شئت فقل: إنّ عدم نفوذ شهادة العبد لإثبات
', '(1) الوسائل، ج 18، ب 14 من كيفية الحكم، ح 6.
', 402), (14, 403, 'book', '
دعوى عليّ (عليه السلام) لايضرّ بصحّة حكم القاضي على عبداللّه بن قفل لصالح طلحة؛ إذ غاية ما يفترض في المقام أنّ دعوى عليّ (عليه السلام) ساقطة؛ لأنّ أحد شاهديه مملوك، فكأنّه لم يكن عليّ (عليه السلام) بوصفه وليّ الغائب أو بوصفه وليّاً على المسلمين مدّعياً من قبل المولّى عليه وهو طلحة، ولكن قد قامت بيّنة على أنّ هذه درع طلحة وليس أحد فردي البيّنة عبداً لطلحة، فلابدّ من تنفيذ القاضي لهذه البيّنة حتى بغضّ النظر عن دعوى عليّ (عليه السلام).
بقي شيء: وهو أنّه لو فرض صدفةً أنّ العبد لم تكن شهادته لمولاه موضعاً للتّهمة، كما لو كان - مثلا - له عداء مع المولى بحيث يُخرج شهادته عن موضع التهمة، أو كان من الزهد والتقوى والموضوعيّة بمستوىً لايبقى معه موضع للتهمة، فهل تنفذ شهادته على مولاه، أوْلا؟
التحقيق: أنّه لو استظهرنا من روايات شرط عدم التهمة أنّ المقياس هي التهمة النوعيّة الموجودة في مثل الخادم والتابع والقانع مع أهل البيت - ولو فرض صفة عدم التهمة الفعليّة - فهنا أيضاً لا إشكال في عدم نفوذ شهادة العبد رغم فرض انتفاء التهمة الفعليّة.
امّا لو استظهرنا من تلك الروايات أنّ المقياس هي التهمة الفعليّة لا النوعية، فلو فرض خادم أو تابع انتفت التهمة الفعلية بالنسبة إليه - صدفةً بسبب ما - نفذت شهادته، فقد يقال بخصوص العبد: إنّ شهادته لمولاه لا تنفذ حتى مع ارتفاع التهمة الفعلية؛ لأنّ الدليل على عدم نفوذ شهادته لم يكن منحصراً في روايات التهمة، بل كانت هناك روايات خاصّة يستدلّ بها على ذلك، وهي الروايات الثلاث الّتي أشرنا اليها.
ولكنّ الواقع أنّنا لو فرضنا عدم الإطلاق في روايات التهمة لفرض انتفاء التهمة الفعلية، أو أنّ إطلاقها مقيّد بما مضى عن ابن خالد الصيرفي عن أبي الحسن
', '', 403), (14, 404, 'book', 'الماضي (عليه السلام)، فهذه الروايات الثلاث لاتشفع لإطلاق الحكم لهذا الفرض:
أمّا الرواية الأُولى - وهي رواية ابن أبي يعفور - فدلالتها كانت بمثل مفهوم الوصف، والوصف كما أشرنا إليه لايدلّ على أكثر من السلب الجزئي عند احتمال الفرق بين مورد ومورد، ولا إشكال في احتمال الفرق بين مورد ثبوت التهمة الفعلية ومورد عدم ثبوتها.
وأمّا الرواية الثانية - وهي رواية سماعة - فلو حُملت على النظر إلى خصوص فرض شهادة العبد لمولاه، فإنّما حُملت على ذلك لورود ذكر العبد في سياق العناوين الموجبة للاتّهام بدعوى أنّ وحدة السياق توجب حمل المنع عن نفوذ شهادة العبد على نكتة الاتّهام، والمفروض أنّ روايات الاتّهام لا إطلاق لها لفرض زوال الاتّهام الفعليّ، إذن هذه الرواية لا إطلاق لها لهذا الفرض.
وأمّا الرواية الثالثة - وهي قوله: «وإن اُعتق لموضع الشهادة لم تجز شهادته» - فبعد فرض حمل الرواية على الشهادة لمولاه تنصرف - لا محالة - إلى النكتة العقلائيّة الكامنة في هذا المورد، وهي الاتّهام، كصرف الروايات الخاصّة الواردة في العناوين الأُخرى المشتملة على الاتّهام - كالتابع والأجير والقانع مع أهل البيت - إلى نكتة الاتّهام، فهذه الرواية حالها حال باقي روايات مانعيّة الاتّهام المفروض عدم الاطلاق لها لحالة انتفاء الاتّهام الفعلي صدفةً.
ثمّ إنّ السيّد الخوئي ذكر: أنّ هناك روايات دلّت على اختصاص قبول شهادة العبد بموارد خاصّة، فهي لو تمّت، كانت شاهد جمع بين الطائفتين الدالّة إحداهما على نفوذ شهادته مطلقاً والأُخرى على عدم نفوذها مطلقاً، ولكنّها غير تامّة، وذكر تحت هذا العنوان ثلاث طوائف.
1 - ما دلّ على استثناء الدين والشيء اليسير من عدم نفوذ الشهادة: وهو ما
', '', 404), (14, 405, 'book', 'مضى من حديث ابن أبي يعفور(1).
2 - ما دلّ على استثناء الشهادة على القتل: وهو ماورد عن جميل - بسند تامّ - قال: «سألت أباعبداللّه (عليه السلام) عن المكاتب تجوز شهادته؟ فقال: في القتل وحده»(2). واعترف بالنسبة لهذا القسم بأنّه حتى لو تمّ في نفسه لايصلح شاهد جمع بين الطائفتين المتعارضتين بالتباين، لأَنّ تخصيصَ ما دلّ على نفوذ الشهادة بخصوص الشهادة على القتل تخصيصٌ بالفرد النادر، وهو غير عرفّي.
3 - ما دلّ على استثناء شهادته على أهل الكتاب، أو تخصيص عدم الجواز بالشهادة على الحرّ المسلم: فذكر رواية محمد بن مسلم على نسخة (لاتجوز) وروايته الأُخرى (تجوز شهادة المملوك من أهل القبلة على أهل الكتاب. وقال: العبد المملوك لاتجوز شهادته).
وأورد على الطائفة الأُولى والثانية: بأنّه لا قائل بمضمونهما، فلا بدّ من حملهما على التقيّة، وبأنّه تعارضهما رواية درع طلحة الّتي ليست الشهادة فيها على الدين ولا الشيء اليسير ولا القتل، فلابدّ من حمل هاتين الروايتين على التقيّة، وأورد على الطائفة الثالثة بأنّها معارضة برواية درع طلحة الّتي كانت الشهادة فيها على الحرّ المسلم، وبرواية محمد بن مسلم الأُخرى الّتي جاء فيها التعبير بكلمة (تجوز). وعلى تقدير تسليم اختلاف نسخ الفقيه في الكلمة (تجوز) أوْ (لاتجوز) تكفي نسخة
', '(1) ونحوه في استثناء اليسير ماورد - بسند تام - عن عبيد بن زرارة رواه في الوسائل / ج 18، باب 22 من الشهادات، ح 5، قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن شهادة الصبيّ والمملوك، فقال: على قدرها يوم اُشهِد تجوز في الأمر الدون، ولا تجوز في الأمر الكبير».
(2) الوسائل، ج 18، باب 23 من الشهادات، ح 9، ص 256.
', 405), (14, 406, 'book', '
التهذيب الّتي جاء فيها التعبير بكلمة تجوز(1).
أقول: مسألة كون كلمة (تجوز) أوْ (لاتجوز) من اختلاف النسخ في كتاب واحد أو كتابين قد مضى الحديث عنه، فلا نكرّره، أمّا الإيراد بعدم وجود قائل - بمضمون الطائفة الأُولى والثانية فتحملان على التقيّة - فغير دقيق؛ لأنّ الإجماع على خلاف مضمونهما ليس إجماعاً تعبّدياً، ولا مبِّرراً للحمل على التقيّة. نعم، قد تُشكِّل ولو بإضافة الروايات غير المشتملة على هذا الاستثناء قرينة عقلائيّة عند متعارف الناس على عدم مطابقة الاستثناء للواقع، فلووصل ذلك إلى مستوى الاطمئنان اوقلنا بأن القرينة الفعلائية على الخلاف يسقط الخبر عن الحجية - أوجب ذلك في المقام سقوط حديث الاستثناء عن الحجّيّة.
وأمّا الطائفة الثالثة، فلا تصلح للجمع بين المطلقين المتعارضين حتى لو تمّت في نفسها؛ لأنّ حمل روايات نفوذ الشهادة على خصوص الشهادة على الكفار أو العبيد ليس عرفيّاً، فتعارض هذه الطائفة مع تلك الروايات يكون كالتعارض التباينيّ، وتحمل على التقيّة.
وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ الصحيح نفوذ شهادة العبد إلّا لمولاه.
 $
طهارة المولد
الشرط السابع - طهارة المولد أو عدم كونه ولد الزنا. وتدلّ على ذلك عدةروايات من قبيل:
1 - ما عن أبي بصير - بسند تامّ - قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن ولد الزنا
', '(1) راجع مباني تكملة المنهاج / ج 1، ص 105 و 106 .
', 406), (14, 407, 'book', '
أتجوز شهادته؟ فقال: لا. فقلت: إنّ الحكم بن عتيبة يزعم أنّها تجوز، فقال: اللّهم لاتغفر ذنبه»(1). وللحديث بعض التكملات الّتي لم تثبت بسند تامّ(2).
2 - ما عن محمّد بن مسلم بسند تامّ قال: «قال أبوعبداللّه (عليه السلام): لاتجوز شهادة ولد الزنا»(3).
3 - ما عن زرارة - بسند تامّ - قال: «سمعت أباجعفر (عليه السلام) يقول: لو أنّ أربعة شهدوا عندي بالزنا على رجل وفيهم ولد زنا، لحددتّهم جميعاً؛ لأنّه لاتجوز شهادته، ولايؤمّ الناس»(4).
4 - ما عن الحلبي - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن شهادة ولد الزنا، فقال: لا، ولاعبد»(5). كون ذيله محمولا على التقيَّة لايضرّ بصدره.
5 - مرسلة العياشي عن عبيداللّه الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «ينبغي لولد الزنا أن لاتجوز له شهادته، ولا يؤمّ بالناس، لم يحمله نوح في السفينة وقد حمل فيها الكلب والخنزير»(6).
6 - مرسلة العياشي عن إبراهيم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّ نوحاً حمل الكلب في السفينة، ولم يحمل ولد الزنا»(7). ذكر صاحب الوسائل هذا الحديث في أحاديث الباب. ولعلّه بنكتة أنّ فرضه أتعس من الكلب، يدلّ على عدم قبول
', '(1) و (2) راجع الوسائل / ج 18، باب 31 من الشهادات، ح 1 و2، وذيل حديث 3 ، ص 276.
(3) نفس المصدر، ح 3، ص 276 .
(4) نفس المصدر ح 4 .
(5) نفس المصدر ح 6، ص 277 .
(6) نفس المصدر ح 9 .
(7) نفس المصدر ح 10 .
', 407), (14, 408, 'book', '
شهادته.
والحديثان الأخيران إضافة إلى سقوطهما سنداً مشتملان على مضمون يبدو لأوّل وهلة أنّه خلاف ما هو مسلّم من الكتاب والسنّة والعقل و إجماع العدلية من أنّه لا تزروازرةٌ وزر أُخرى، إلّا أن يُحملا على إرادة قضية خارجيّة غالبيّة، وهي انحراف ولد الزنا عن طريق الحقّ عادةً، وعليه يفقد الحديث الأخير دلالته على عدم نفوذ شهادة ولد الزنا لو كان عدلا.
وفي مقابل هذه الروايات روايتان:
الأُولى - تدلّ على نفوذ شهادة ولد الزنا، وهي ما عن عبداللّه بن جعفر في قرب الإسناد عن عبداللّه بن الحسن عن عليّ بن جعفر عن أخيه قال: «سألته عن ولد الزنا هل تجوز شهادته؟ قال: نعم، يجوز شهادته، ولا يؤمّ»(1)، ولايمكن الجمع بين هذه الرواية وما مضى، بحمل ما مضى على الكراهة سنخ حمل كلّ نهي على الكراهة حينما يعارض ورود الترخيص؛ لأَنّ الحكم في المقام كان وضعيّاً ولم يكن تكليفيّاً.
ويمكن الإيراد على التمسّك بهذه الرواية من عدّة وجوه:
1 - ضعف سندها بعبداللّه بن الحسن الّذي لم تثبت وثاقته.
2 - كونها محمولة على التقيّة كما في الوسائل، وجاء في مباني تكملة المنهاج:(2)- على تقدير تسليم صحّة السند - أنّه لابدّ من حملها على التقيّة.
أقول: إنّ الترجيح بموافقة الكتاب يكون قبل الترجيح بمخالفة العامّة، فلو تمّ سند هذا الحديث، وانحصر الأمر بالترجيح، تعيّن ترجيح هذا الحديث الموافق
', '(1) الوسائل / ج 18، باب 31 من الشهادات، ح 7، ص 277.
(2) ج 1، ص 110.
', 408), (14, 409, 'book', '
لإطلاقات الكتاب على أحاديث المنع عن نفوذ شهادته.
3 - دعوى أنّ قيام ما يشبه الإجماع لدى الإماميّة على عدم نفوذ شهادة ولد الزنا منضمّاً إلى الروايات العديدة الصحيحة الدالّة على ذلك يشكِّل قرينة عرفيّة عقلائيّة على خطأ هذا الحديث فلو بنينا في علم الاصول على كون ذلك مسقطاً للسند عن الحجّيّة سقط الحديث هنا عن الحجّيّة وإلا لم يسقط بذلك عن الحجية إلا إذا فرضنا القرينة بالغة مستوى حصول الاطمئنان.
4 - إنّ نفس الحديث رواه عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه، إلّا أنّه قال: «لايجوز شهادته، ولايؤمّ»(1). فبناءً على دعوى الاطمئنان بوحدة الحديث يدخل ذلك في باب اختلاف النسخ، ونسخة كتاب عليّ بن جعفر أولى بالصحّة. وعلى أيّ حال فمع فرض اختلاف النسخ يسقط الحديث عن الحجّيّة.
والثانية - ماورد - بسند تامّ - إلى أبان عن عيسى بن عبداللّه قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن شهادة ولد الزنا، فقال: لاتجوز إلّا في الشيء اليسير إذا رأيت منه صلاحاً»(2). وعن الشيخ وابن حمزة إلافتاء بذلك .
وقد حمل صاحب الوسائل الحديث على التقيّة، بينما مقتضى الفنّ - لو تمّ الحديث - تقد يمه على روايات المنع بالأخصّية.
وجاء في مباني تكملة المنهاج(3) الإيراد على الاستدلال بالحديث بأن الشيء اليسير والكثير ليس لهما واقع محفوظ، بل هما أمران إضافيّان، ويختلفان بأختلاف الزمان والمكان.
$
', '(1) الوسائل / ج 18، باب 31 من الشهادات، ح 8، ص 277.
(2) نفس المصدر ح 5.
(3) ج 1، ص 110 .
', 409), (14, 410, 'book', '
أقول: إنّهما عنوانان عرفيّان، وهناك ما يتيقّن بأنّه عند العرف يعتبر يسيراً أو كثيراً حسب اكتراث العقلاء به وعدمه، ولايضر اختلاف تطبيق الحكم باختلاف الزمان والمكان، وهناك بعض المصاديق المشكوك كونه من اليسير أو الكثير، وهذا لايضرّ بحجّيّة الحديث في غير المصاديق المشكوكة، فشأن عنوان اليسير والكثير هو شأن سائر المفاهيم العرفيّة الّتي توجد لها مصاديق مشكوكة.
وعن بعض الأصحاب الاستشكال في سند الحديث من حيث تردّد عبداللّه ابن عيسى بين الأشعريّ الثقة والهاشمي الّذي لم تثبت وثاقته.
وأجاب عليه السيّدالخوئي(1) بأنّ رواية أبان عنه قرينة على كون المقصود هو الأشعريّ.
أقول: إنّ الشهرة القائمة على خلاف التفصيل الوارد في هذا الحديث منضمة إلى الإطلاقات الصحيحة سنداً قد تشكّل قرينة عرفيّة عقلائيّة على خطأ هذا الحديث ممّا يسقطه عن الحجّيّة على بعض المباني أما إذا لم نبن على ذلك فهذا لايضرّ بحجيّة السند إلّا إذا بلغت القرينة مستوىً يورث الاطمئنان بالبطلان.
 $
حالة الشك في طهارة المولد
بقي الكلام فيما لو شككنا في طهارة مولد الشاهد، وقد يستدل على قبولشهادته بوجوه:
1 - التمسّك بالعمومات و الإطلاقات كما في الجواهر(2).
$
', '(1) في مباني تكملة المنهاج / ج 1، ص 110.
(2) ج 41، ص 121.
', 410), (14, 411, 'book', '
وفيه: أنّه تمسّكٌ بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، ولعلّه سدّاً لهذا النقص ذكر في الجواهر في آخر كلامه: أنّ النهي الوارد على طريق المانعيّة ظاهر في اختصاصه بالمعلوم دون المشكوك(1).
ويرد عليه: أنّه لافرق بين ورود النهي على طريق مانعيّة خبث المولد أو على طريق شرطيّة طهارة المولد في أنّ ظاهر الكلام كون موضوع الحكم هو العنوان المفروض في الكلام بوجوده الواقعيّ لابقيد العلم، وأمّا إن كان المقصود التمسّك بقاعدة المقتضي والمانع، فقد حقّق في الأُصول في محله بطلان هذه القاعدة.
2 - دعوى الإجماع، ولو ثبت لم يثبت كونه تعبديّاً، ولا يفيد العلم.
3 - قيام سيرة المتشرِّعة على عدم الفحص عن حال الشاهد من حيث المولد، والفحص عن ذلك أمر يجلب النظر، ولو كان فيما سبق لَنُقل وبان، ولعلّ المقصود من الأصل في قوله في الجواهر: «هذا إنْ لم نقل بظهور أصل شرعي في الحكم بطهارة مولد كلّ من لم يعلم أنّه ابن زنا»(2) هو الأصل المستفاد من سيرة من هذا القبيل.
إلّا أنّ من المحتمل كون السيرة معتمدة على قاعدة الفراش الّتي هي محروزة في الموارد الاعتياديّة، وثبوت السيرة في خصوص ما إذا وقع الشكّ في الفراش غير معلوم.
4 - ما ذكره السيّد الخوئي(3) من أنّ المخصِّص عنوان وجودي، فيثبت عدمه عند الشّك بالأصل.
$
', '(1) ج 41، ص 121.
(2) الجواهر / ج 41، ص 121.
(3) في مباني تكملة المنهاج / ج 1، ص 111.
', 411), (14, 412, 'book', '
وهذا مبتن على مبنَيْينِ أُصوليَّيْنِ، أحدهما جريان الاستصحاب في العدم الأزلي، والثاني استظهار كون الموضوع هو العنوان الوجوديّ من ذكره في لسان الدليل حتى مع عدم تصوّر مورد افتراق بينه وبين عدم ضدّه المحتمل شرطيّته، أمّا لوقيل: إنّ العرف يتقبّل التعبير عن شرطيّة طهارة المولد بلسان مانعيّة خبث المولد وبالعكس، ولا يمكن استظهار كون المستثنى عنواناً وجودياً، لم يتمّ هذا البيان.
وعلى أيّ حال، فلونا قشنا في أحد المبنيَيْنِ الأُصوليَّيْنِ، لم يبق دليل على نفوذ شهادته، ووصلت النوبة إلى يمين المنكر، لا للقاعدة المنقَّحة في علم الأُصول من أنّ الشكّ في الحجيّة يساوق القطع بعدم الحجيّة، فإن تلك القاعدة إنّما تنظر إلى آثار القطع الطريقي من التنجيز والتعذير لا الآثار الموضوعيّة من قبيل وصول النوبة إلى اليمين وعدمه، بل لأنّنا نستظهر من دليل كون اليمين على من أنكر والبيّنة على المدّعي أنّه متى ما عجزنا عن الوصول إلى الحجّة ثبت اليمين، فوصول النوبة إلى اليمين أثر موضوعيّ موضوعه عبارة عن عدم تماميّة الحجّة على خلافه، وبالفعل لم تتمّ الحجّة على خلافه؛ إذ لم تثبت حجيّة هذه البيّنة سنْخَ ما لو شككنا في عدالتها ولم يمكن إثبات عدالتها بأمارة أو أصل.
 $
عدم التبرّع بالشهادة
الشرط الثامن - أن لايكون متبرّعاً بالشهادة في حقوق الناس بأن يشهدقبل طلب الشهادة منه على ما نسب إلى المشهور، بل ادّعي عليه الإجماع. هذا في حال الشهادة.
 $
$
', '', 412), (14, 413, 'book', ' $
المتبرّع بحمل الشهادة:
وأمّا في حال التحمّل، فلا إشكال في أنّه لا يشترط أن يكون التحمّل بطلبمنه من قبل المشهود له أو من قبلهما، فلو شهد واقعة من دون طلب منه، نفذت بعد ذلك شهادته. نعم، نسب إلى بعض العامّة عدم نفوذ الشهادة إذا اختبأ عن المشهود عليه، فنطق المشهود عليه مسترسلا، ونسب ذلك إلى ابن الجنيد أيضاً.
أمّا عندنا فمفاد الروايات هو نفوذ شهادة الشاهد سواء تحمّل بطلب منه أوتحمّل صدفة بعلمهما أو عدم علمهما. نعم، لو تحمّل بلا طلب، لم يجب عليه أداء الشهادة.
فعن العلا عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - عن أبي جعفر (عليه السلام) «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها، فهو بالخيار إن شاء شهد، وإن شاء سكت»(1).
وعن هشام بن سالم - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها، فهو بالخيار إن شاء شهد، وإن شاء سكت، وقال: إذا اُشهد، لم يكن له إلّا أن يشهد»(2).
ولحديث العلا عن محمد بن مسلم في بعض نقوله تتمّة، وهي قوله بعد جملة (وإن شاء سكت): «إلّا إذا علم مَنِ الظالم، فيشهد، ولا يحلّ له إلّا أن يشهد»(3).
ونحوه ماورد بسند فيه إسماعيل بن مرار عن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها، فهو بالخيار إن شاء
', '(1) الوسائل / ج 18، باب 5 من الشهادات، ح 1 و 3، ص 231 و 232.
(2) نفس المصدر/ ح 2، ص 231 و 232.
(3) نفس المصدر / ح 4، ص 232.
', 413), (14, 414, 'book', '
شهد، وإن شاء سكت، إلّا إذا علم مَنِ الظالم، فيشهد، ولايحلّ له أن لايشهد»(1).
ولعلّة إليه تشير مرسلة الصدوق الّتي تقول: «قال الصادق (عليه السلام) العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوماً»(2).
وعلى أيّ حال فهذا الاستثناء - وهو استثناء ما إذا علم مَن الظالم - قد يراد به: أنّ معرفة الحقّ في الشهادة لاتلازم معرفة الظالم من المظلوم، فقد يعرف الشاهد أن زيداً قتل عمراً - مثلا - ولايعرف مع ذلك أنّ عمراً - مثلا - مظلوم، فلعلّه قتله بحقّ، فإذا كان الشاهد اطّلع على واقعة صدفةً ومن دون طلب منه لتحمّل الشهادة، لايجب عليه أداء الشهادة حينما يطلب منه الأداء، إلّا إذا عرف الظالم من المظلوم، فيكون هذا تقييداً لإطلاق حديث هشام بن سالم الماضي الخالي عن هذا الاستثناء.
إلّا أنّ هذا التفسير للاستثناء الوارد في حديث العلا عن محمد بن مسلم يعارض ما ورد من نفس العلا عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - عن أبي جعفر (عليه السلام)في الرجل يشهد حساب الرجلين، ثم يُدعى إلى الشهادة. قال: «إن شاء شهد، وإن شاء لم يشهد»(3). فإنّ المتبادر إلى الذهن من قوله: «يشهد حساب الرجلين» هو شهادة كامل القصّة بحيث يعرف الحقّ من غير الحقّ، وورد مضمونه بتعبير آخر عن العلا عن محمد بن مسلم بسند ضعيف بمحمد بن عبداللّه بن هلال(4).
وعلى أي حال فاذا فرض أنّ حديث العلا عن محمد بن مسلم المشتمل على جملة (يشهد حساب الرجلين) غير حديثه المشتمل على جملة (إلّا إذا علم مَن
', '(1) نفس المصدر / ح 10، ص 233.
(2) نفس المصدر / ح 9، ص 233.
(3) نفس المصدر / ح 6، ص 232.
(4) نفس المصدر / ح 5، ص 232.
', 414), (14, 415, 'book', '
الظالم)، وتعارضا وتساقطا، رجعنا إلى إطلاق حديث هشام بن سالم(1)، بل وكذا إطلاق حديث محمد بن مسلم الذي نقلناه أوّلا لو فرض حديثاً مستقلا لمحمد بن مسلم غير متّحد مع ما فيه الاستثناء.
أمّا إذا جمعنا بينهما بما يقرب إلى الذهن من استثناء فرض العلم بالظالم من حمله على أنّ النظر فيه إلى مسألة وجوب نصرة المظلوم، إذا انحصر انتصاره بشهادة هذا الشخص، تعيّن ما أفتى به الصدوق (رحمه الله) من أنّه إذا انحصرت الشهادة به، فعلم أنّ صاحب الحقّ مظلوم ولايحيى حقّة إلّا بشهادته، وجبت عليه إقامتها، ولم يحلّ له كتمانها(2). ويؤيّد هذا التفسير للاستثناء الوارد في حديث العلا عن محمد بن مسلم احتمال كون كلا حديثيه المتعارضين، أو هما مع الحديث الأوّل حديثاً واحداً، جاء الفرق فيما بينها من تقطيع الرواة، والنقل بالمعنى.
هذا وقد ورد حديث محمد بن مسلم في الرجل يشهد حساب الرجلين بسند آخر، وليس فيه ذكر التخيير بين الشهادة وعدم الشهادة، بل قال: يشهد(3).
وقد حمل الصدوق (رحمه الله) الحديث الذي حكم بالتخيير بالنسبة لمن حضر صدفةً من دون إشهاد، على ما إذا لم تنحصر الشهادة به، ولم يتوقَّف إنقاذ الحقّ على شهادته(4).
وهذا الحمل وإن كان - لو لا الشاهد - حملا تبرعيّاً؛ إذ أنّ الرواية الأخيرة
', '(1) هذا بناءً على المسلك المعروف من مرجعيّة المطلق أو العام لدى ابتلاء المقيّد او المخصّص بالمعارض.
(2) الفقيه / ج 3، في ذيل الحديث 109، ص 34.
(3) الفقيه / ج 3، ح 108، ص 33 . والوسائل / ج 18، باب 5 من الشهادات، ح 7 .
(4) الفقيه / ج 3، في ذيل الحديث 109، ص 34.
', 415), (14, 416, 'book', '
تعارض ما دلّ على عدم وجوب أداء الشهادة بالتباين، ولا معنى لحملها على فرض معيّن وحمل معارضها على الفرض الآخر، ولكنّ الرواية المفصّلة - أعنى المشتملة على مامضى من الاستثناء - قد تصلح شاهد جمع بين الروايتين المتعارضتين.
وعلى أىّ حال فهذه الرواية - لو لم يتمّ الجمع بهذا الوجه - لاتصلح لمعارضة ما دلّ على عدم وجوب أداء الشهادة، فقوله في هذه الرواية: (يشهد) إمّا أن يُحمل على الحكم الوضعي، وهو نفوذ الشهادة، وعندئذ لا تعارض بينه وبين ما دلّ على عدم وجوب أداء الشهادة، أو يحمل على الحكم التكليفي، وهو الأمر بأداء الشهادة، وعندئذ يحمل على الاستحباب كما هو الشأن في كلّ أمر عارضَ الترخيص.
كلّ هذا بعد فرض تماميّة سند هذه الرواية، والّذي يهوِّن الخطب أنّ سندها ضعيف بأحمد بن يزيد.
وهناك حديث آخر قد يدلّ على وجوب أداء الشهادة رغم عدم الإشهاد بمعنى طلب التحمّل، وهو ما رواه الصدوق بإسناده إلى علىّ بن أحمد بن أشيم قال: «سألت أبا الحسن عن رجل طهرت امرأته من حيضها، فقال: (فلانة طالق) وقوم يسمعون كلامه، لم يقل لهم: (اشهدوا) أيقع الطلاق عليها؟ قال نعم، هذه شهادة، أفيتركها معلّقة؟!»(1) بناءً على الملازمة بين كفاية ذلك في الإشهاد على الطلاق ووجوب أداء الشهادة - عند الطلب - المستفادة من قوله - تعالى -: ﴿وأَشهِدوا ذَوَيْ عدل منكم، وأقيموا الشهادةَ لله﴾(2).
وتوضيح المقصود: أنّ الإشهاد في الآية الكريمة إمّا أن يقصد به طلب تحمّل الشهادة، أو يقصد به مجرد إيقاع الطلاق أمام الشاهد. وهذه الرواية تدلّ على أنّ
', '(1) الوسائل / ج 18، باب 5 من الشهادات، ح 8، ص 233.
(2) السورة 65، الطلاق، الآية 2.
', 416), (14, 417, 'book', '
المقصود هو الثاني، والآية قد أمرت مَنْ أشهِدوا بأداء الشهادة، وهذا يعني أنّ من وقع الفعل عنده يجب عليه أداء الشهادة وإن لم يُطلب منه تحمّل الشهادة، وهذا يعارض الروايات الدالّة على أنّ وجوب أداء الشهادة مشروط بإلاشهاد بمعنى طلب تحمّل الشهادة دون الحضور صدفةً أو الاطّلاع صدفةً. إلّا أنّ هذا الحديث غير تامّ سنداً؛ لعدم توثيق علىّ بن أحمد بن أشيم، ولعدم ثبوت تماميّة سند الصدوق (رحمه الله)إلى علىّ بن أحمد بن أشيم.
ولو ثبت في بحث الطلاق أنّه يكفي فيه حضور العدلين صدفةً، لم يؤدِّ ذلك إلى التعدّي إلى سائر موارد القضاء؛ لأنّ احتمال الفرق موجود.
هذا، ولايبعد أن يُقال: إنّ هذه الرواية - وحتى بعد ضمّها إلى الآية المباركة - لاتعارض روايات الباب إطلاقاً، وذلك لأنّ المفهوم عرفاً من كلمة (الإشهاد) في الروايات وفي الآية المباركة ليس هو خصوص أن يقول لهم: (إشهدوا)؛ أي أن يطلب منهم تحمّل الشهادة، بل يكفي في الإشهاد إيقاع الفعل أمامهم وبنيّة اطلاعهم عليه في مقابل الحضور الصدفىّ البحث، والاطّلاع صدفة من دون إرادة الطرفين. وعليه فإلاشهاد في مورد رواية علىّ بن أحمد ابن أشيم حاصل. وهناك حديث قد يدلّ بإطلاقه على وجوب أداء الشهادة حتى مع عدم الإشهاد، وهو ما عن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدي الحاكم حتى يتبوّء مقعده من النار، وكذلك من كتم الشهادة»(1). إلّا أنّه - مضافاً إلى ضعف سنده - يقيّد إطلاقه بما مضى.
 $
$
', '(1) الوسائل / ج 18، باب 9 من الشهادات، ح 4، ص 237.
', 417), (14, 418, 'book', '
 $
المتبرّع بأداء الشهادة:
والآن فلْننتقل إلى صلب المطلب، وهو أنّ المتبرّع في حقوق الناس بالشهادةهل تنفذ شهادته، أوْلا؟
وقد فسّر في الجواهر في أوّل كلامه التبرّع بالشهادة(1) بمعنى الشهادة قبل سؤال الحاكم في مجلس الحكومة.
وأدلّة القول بعدم نفوذ شهادة المتبرّع بعد فرض تفسيره بهذا التفسير لعلّها تنحصر في مايلي:
1 - الإجماع: وقد قال عنه صاحب الجواهر: «لعلّه العمدة في الحكم المزبور»(2)، ولكنّه - مع منقوليّته، وما قيل من وجود بعض المخالفين، واحتمال مدركيّته، واستبعاد إجماع تعبدّىّ ناشىء من توارث الحكم يداً بيد في مسألة يقلّ الابتلاء بها؛ إذ قلّ ما يفترض التبرّع بالشهادة في الخصومات - لا تبقى صلاحيّة للإجماع بحيث يمكن جعله دليلا على الفتوى في المقام.
2 - تطرُّق التهمة: وأبطله صاحب الجواهر بما اختاره في باب شرط عدم التهمة من أنّ المقياس هو العناوين الاتّهاميّة الخاصّة الواردة في الروايات، لا عنوان التهمة بمعناه العرفىّ العامّ.
والصحيح إبطاله بمنع كون التبرّع موجباً لتطرُّق التهمة على الإطلاق، وكونه أحياناً موجباً لتطرّق التهمة - لاكتنافه بقرائن أُخرى أو خصوصيّات - لايصلح دليلا للإفتاء بعدم نفوذ شهادة المتبرّع بشكل عامّ.
$
', '(1) و(2) الجواهر، ج 41، ص 104.
', 418), (14, 419, 'book', '
3 - النبويّات(1) المنقولة عن غير طرق الإماميّة: كقوله (صلى الله عليه وآله): «ثمّ يجيء قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها» وقوله (صلى الله عليه وآله): «ثمّ يَفْشُو الكذب حتى يَشهدَ الرجلُ قبل أن يُستشهَد»وقوله (صلى الله عليه وآله): «تقوم الساعة على قوم يَشهَدون من غير أن يُستشهَدوا» بعد ضمّه إلى ما ورد في البحار وصحيح مسلم من أنّ القيامة تقوم على شرار الخلق.
وهذه النبويّات - كما ترى - ساقطة سنداً ومعارضة بالنبوىّ الآتي على أنّه يُحتمل أن يكون المقصود بها شهادة الكذب، وأن يكون المقصود بالسؤال أو الاستشهاد طلب المشهود له الشهادةَ لصالحه؛ إذ من الواضح أنّ شهادة الكذب من دون طلبها أقبح وأكثر دلالة على الجرأة وهتك حرمات اللّه من شهادته بعد طلبها، ويشير الى هذا الاحتمال قوله في النبويّ الثاني: «ثمّ يفشو الكذب ...».
ثمّ إنّ قيام الإجماع أو - على الأقلّ - الشهرة علىعدم نفوذ شهادة المتبرّع - بعد تفسير التبرّع بعدم طلب الحاكم - أمر غريب؛ إذ لو فرض الإجماع تعبديّاً حاصلا من وضوح الحكم قديماً وتوارثه جيلا بعد جيل، فتحقّق شيء من هذا القبيل في أَمر لايكثر الابتلاء به بعيد، ولو فرض مدركيّاً فهذه المدارك نسبتها إلى حقوق الناس الفرديّة وحقوق اللّه أو المصالح العامّة على حدّ سواء، فما معنى اختصاص القول بعدم نفوذ شهادة المتبرّع بالأَوّل، وإفتاء المشهور بنفوذها في الأَخيرين؟!
ولايرفع هذا الاستغراب الوجوه الواهية الّتي تذكر لاستثناء حقوق اللّه والمصالح العامّة من قبيل:
1 - أنّه لو جعل التبرّع بالشهادة فيها مانعاً لتعطّلت.
2 - وأنّ المصلحة إذا عمّت عدول المؤمنين بأجمعهم كانت الشهادة منهم
', '(1) راجع الجواهر/ ج 41، ص 106.
', 419), (14, 420, 'book', '
دعوى، فلو توقفت على دعوى غيرهم كان ترجيحاً من غير مرجّح مع لزوم الدور.
3 - وأنّ الشهادة بحقوق اللّه - تعالى - نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان، والواجب لايُعدّ تبرّعاً.
4 - والجمع بين النبويّات الماضية والنبوىّ الآخر: «ألا أخبركم بخير الشهود ؟ قالوا بلى يا رسول اللّه. قال: أن يشهد الرجل قبل أن يُستشْهَد»(1).
ولا أراني بحاجة إلى توضيح ضعف هذه الوجوه.
وقد وقع في كلمات الأصحاب تشويش آخر في ما يشتمل على حقّ اللّه وحقّ الناس معاً كالسرقة، فهل تنفذ فيه الشهادة التبرّعية لكونه حقاً للّه ولم - يثبت بالإجماع أكثر من استثناء ما كان حقّاً آدميّاً محضاً، أوْ لاتنفذ لكونه حقّاً للناس، أو تنفذ بالنسبة لحقّ اللّه، ولاتنفذ بالنسبة لحقّ الناس، فتقطع يد السارق من دون أن يغرم، أو غير ذلك ممّا جاء نقله في الجواهر(2)؟
أقول: إنّ أصل التفصيل بين حقّ اللّه وحقّ الناس لم يعرف له وجه معقول مادمنا نفسّر التبرّع في الشهادة بعدم طلب الحاكم.
ولكن من المحتمل أن يكون مقصود الأصحاب من التبرّع هو ما أبدى احتماله في الجواهر(3) في ثنايا الكلام بعنوان (قد يقال) ومن دون تركيز عليه، وهو الشهادة من دون إذنِ مَنْ له الحقّ كالمدّعي الّذي عليه البيّنة، وهذا الاحتمال وارد بشأن كلّ من لم يصرّح بأنّ مقصوده من التبرّع هو الشهادة قبل طلب الحاكم، بل
', '(1) راجع الجواهر/ج 41، ص 107.
(2) ج 41، ص 108 و 109.
(3) ج 41، ص 105.
', 420), (14, 421, 'book', '
لعلّه يرد حتى بالنسبة لمن صرّح بذلك، باعتبار أنّ طلب المدّعي من الشهود لأداء الشهادة يكون عادةً عن طريق الحاكم؛ أي أنّ الحاكم يطلب من الشهود بناءً على رغبة المدّعي أداء الشهادة، فأخذ عنوان طلب الحاكم استطراقاً إلى ثبوت طلب المدّعي. وعلى أىّ حال لو بنينا على هذا الاحتمال، ارتفع الاستغراب، فإنّ الوجه في التفصيل بين حقّ الفرد وحقّ اللّه أو الحقوق العامّة أحد أمرين:
إمّا التمسّك بمسألة التهمة؛ حيث يُقال: إنّ عدم انتظار طلب المدّعي موجب للتهمة، وهذا إنّما يفرض في حقّ الفرد لا في حقّ من لايوجد بشأنه مدّع خاصّ من حقوق اللّه أو الحقوق العامّة ممّا تثار بمبادرة الناس لا بمبادرة المدعي.
وأمّا أن يُقال: بأنّ عدم نفوذ شهادة المتبرّع قبل طلب المدّعي في الحقوق الفرديّة يكون بنكتة أنّ البيّنة حقّ للمدَّعي، وليس للحاكم فرض الحكم وفق البيّنة من دون إذن ذي الحقّ مادام الحقّ ليس من حقوق اللّه أو الحقوق العامّة الّتي يكون لولىّ الأمر حقّ التدخّل فيها ابتداءً، ومن هنا يصبح التفصيل بين حقوق الناس الفرديّة وحقوق اللّه أو الحقوق العامّة أيضاً أمراً معقولا؛ حيث لايوجد في الثاني مدّع يكون له الحقّ في طلب الحقّ بالبيّنة ورفضه بخلاف الأوّل.
وبه يتّضح الحال أيضاً في الحقوق المشتركة بين اللّه - تعالى - والآدمىّ، فإن كان اشتراك الحقّ بمعنى أنّ قسماً منه لله وقسماً منه للآدمىّ - كما قد يقال في السرقة من أنّ القطع لله والضمان للآدمي - فما للآدمي يتوقّف على إذن المدّعي؛ لأنّه حقّه، وما لله تنفذ فيه الشهادة التبرعيّة. وإن كان اشتراك الحقّ بمعنى أنّ شيئاً واحداً هو حقّ للّه وللآدمي كما لو قلنا: إن القطع في السرقة والحدّ في القذف كلّ منهما حقّ للّه و للآدمي، فالشهادة التبرّعيّة تنفذ فيه؛ لأنّ عدم إذن المدّعي إنّما يُسقط حقّه في الحكم ولا يسُقط حقّ اللّه.
هذا فيما إذا كان المدرك لعدم نفوذ شهادة المتبرّع عبارة عن أنّ الحاكم
', '', 421), (14, 422, 'book', 'لا يحقّ له فرض الحكم من دون طلب المدّعي للحكم وفق البيّنة؛ لأنّ ذلك حقّ له، أمّا إذا كان المدرك هو التهمة، فهي موجودة في الحقّ المشترك.
والآن فلنقطع النظر عن أنّ مقصود الأصحاب من التبرّع هل هو عدم طلب الحاكم، أو عدم طلب ذي الحقّ؟ لنبحث أصل الموضوع، وهو أنّ الشهادة هل تنفذ ابتداءً بلا طلب، أوْ أنّ نفوذها مشروط بطلب ذي الحقّ، أو بطلب الحاكم في خصوص حقوق الناس الفرديّة، أو حتّى العامّة، أو حتّى حقوق اللّه؟
تحقيق الحال في شهادة المتبرّع:
وتحقيق الحال في ذلك يتوقّف على أن نرى أنّه هل هناك إطلاق يُثبت لنا نفوذ شهادة البيّنة على الإطلاق أوْلا؟ فإن لم يكن هناك إطلاق فما هو القدر المتيقّن من النفوذ؟ وإن كان هناك إطلاق فهل خرج منه شيء بالتخصيص؟ وما هو الخارج منه بالتخصيص؟
فنقول: إنّ أدلّة نفوذ شهادة البيّنة عديده:
الأوّل - الإجماع البالغ حدّ الضرورة الفقهيّة ممّا لا يضرّ به وجود المدرك،
وهذا دليل لبّي لا إطلاق له، فمتى ما احتملنا عدم نفوذ البيّنة - لعدم طلب الحاكم أو ذي الحق - لم تنفذ، وتصل النوبة إلى اليمين بناءً على أنّ دليل اليمين ظاهر في وصول النوبة إليه متى مالم تصبح البيّنة حجّة فعليّة.
الثاني - حديث مسعدة بن صدقة: (... والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة)(1) بناءً على تماميّة دلالته على حجيّة البيّنة بالمعنى المصطلح.
وقد يُقال: إنّ هذا الحديث إن تمّت دلالته على حجّيّة البيّنة، فإنّما يدلّ على
', '(1) الوسائل، ج 12، باب 4 من أبواب ما يكتسب به، ح 4، ص 60.
', 422), (14, 423, 'book', '
الحجّيّة الذاتية لها، لا الحجّيّة القضائيّة، فقد يكون شيء حجّة بذاته، ولكن ليس موضوعاً كاملا للقضاءبه كالأصل الذي هو في صالح المنكر.
ويمكن الجواب على ذلك: بأنّ البيّنة إذا كانت أمارة شرعيّة تثبت الحقّ، فبضمّ أدلّة القضاء بالحقّ تثبت لها الحجيّة القضائيّة. وعلى أىّ حال فالحديث ساقط سنداً.
الثالث: دليل حجّيّة خبر الواحد بناءً على شموله للخبر في الموضوعات، وهو وإن دلّ على الحجّيّة الذاتيّة لا القضائيّة، لكن بما أنّ الخبر أمارة على الحقّ والواقع فبضمّه إلى دليل القضاء بالحقّ تثبت له الحجّيّة القضائيّة، ولايضرّ بذلك فرض قيام الدليل على الحاجة إلى التعدّد في باب المرافعة، فلا يكفي خبر إنسان واحد، فإنّ هذا لا يعني إسقاط حجّيّة خبر الواحد في باب المرافعة، وإنّما يعني تقييد إطلاقه بشرط التعدّد، فبالتالي تثبت حجّيّة خبر الواحد - أي ما دون المتواتر - في باب المرافعة بشرط التعدّد حجّيّة ذاتية، وبضمّ ذلك إلى دليل القضاء بالحقّ تثبت له الحجّيّة القضائيّة، بل قد يقال: إنّ خبر الإنسان الواحد أيضاً حجّة في باب المرافعة بذاته لإطلاق دليل حجّيّة خبر الواحد، غاية الأمر أنّه دلّ الدليل على اشتراط الحجّيّة القضائية بالتعدّد.
ولكنّ الواقع: أنّ عمدة أدلّة الحجّيّة الذاتيّة لخبر الواحد هي السيرة أو بعض الإطلاقات الّتي يتمّ إطلاقها بواسطة السيرة - على شرح مضى في بحث تمييز المدّعي من المنكر - وفي باب المرافعة لم تثبت سيرة على حجّيّة خبر الواحد أو البيّنة حجّيّةً ذاتيّةً بحيث يعمل بها الشخص الثالث قبل حكم الحاكم؛ إذن فلا يمكن ضمّ ذلك إلى دليل القضاء بالحقّ لإثبات حجّيّة البيّنة على الإطلاق في باب القضاء.
الرابع - ما ورد من مثل قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(1)،
', '(1) الوسائل ج 18، باب 2 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 169.
', 423), (14, 424, 'book', '
ومثل قوله (صلى الله عليه وآله): «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»(1).
وقد يورد على إطلاق الأوّل بأنّ الحديث إنّما هو بصدد حصر القضاء بالبيّنات والأيمان، أمّا أنّه متى يكون الرجوع إلى البيّنات؟ ومتى يكون الرجوع إلى الأيمان؟ فليس الحديث بصدد بيانه، وعلى إطلاق الثاني بأنّه ليس بصدد ذكر الشروط، وإنّما هو بصدد بيان من عليه البيّنة ومن عليه اليمين.
والواقع أنّ هذا وإن كان يضرّ بالإطلاق الحَكَمي، ولكنّ الإطلاق المقامي - بالنسبة لرفض كلّ قيد يكون مرفوضاً وفق المرتكزات العقلائية - ثابت، والأمر في ما نحن فيه من هذا القبيل، فكون طلب الحاكم دخيلا في نفوذ شهادة البيّنة من دون فرض تحقّق التهمة في الشهادة التبرعية خلاف المرتكز العقلائي، وأمّا كون طلب ذي الحقّ أو إذنه دخيلا في ذلك، فإن كان بمعنى دخله في تكميل نقص البيّنة كبيّنة وإيصالها إلى مستوى الحجّيّة فهذا أيضاً - حينما لا يفرض تحقّق التهمة في الشهادة التبرعيّة - مرفوض عقلائياً، وإن كان بمعنى أنّه وإن لم يكن هناك عيب في البيّنة ولكنّ حكم الحاكم في غير الحقوق الإلهية والحقوق العامّة إنّما هو من حقّ من يحكم بصالحه، فإذا هو لم يرد الحكم، فلا مبِّرر لجواز الحكم ونفوذه، فهذا المعنى ليس على خلاف مرتكز العقلاء.
إلّا أنّ هذا لايعني صحّة ما نقل عن الأصحاب من عدم نفوذ شهادة المتبرّع الظاهر في إرادة النقص في جانب الشهادة.
إذن فالصحيح وجود الإطلاق الدالّ على نفوذ شهادة المتبرّع ولامقيّد له، والتهمة ممنوعة كما تقدّم. نعم، لابأس بالقول بعدم جدوى شهادة المتبرّع - أي الشهادة من دون طلب المدّعي - لا بمعنى النقص في جانب الشهادة، بل بمعنى
', '(1) راجع الوسائل ج 18، باب 3 من كيفيّة الحكم، ص 170 إلى 172.
', 424), (14, 425, 'book', '
النقص في جانب الحكم من دون إرادة المدّعي حيث لا دليل على نفوذ الحكم في هذه الحالة، أمّا إذا افترضنا أنّ الشهادة كانت تبرعيّة - أي من دون طلب ذي الحقّ - ثم بعد ذلك طلب ذو الحقّ حكم الحاكم وفق الشهادة، وحَكَم الحاكم وفقها، فهذا الحكم نافذ رغم تبرّعيّة الشهادة.
بقي هنا إشكال في الحساب، وهو أنّ المدّعي لو لم يرد من الحاكم الحكم وفق البيّنة رغم قيام البيّنة ولو تبرّعاً، واراد تحليف المنكر وقيام الحكم وفق حلف المنكر، فما هو الدليل على نفوذ حكم الحاكم وفق حُلف المنكر؟ فصحيح أنّه لا دليل على نفوذ حكم الحاكم وفق البيّنة؛ لأنّ هذا من حقّ المدّعي الّذي لم يطلبه، ولكن قد يُقال: لادليل أيضاً على نفوذ حكمه وفق يمين المنكر، فإنّ مثل قوله (صلى الله عليه وآله): «إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» وإن كان ظاهراً في حجّيّة اليمين عند عدم فعليّة حجّيّة البيّنة، لكنّ النقص - كما عرفنا - لم يكن هنا في البيّنة، فالبيِّنة - بما هي بيِّنة - كانت مستكملة لشروط الحجّيّة رغم تبرّعيّتها، وإنّما النقص كان في جانب الحكم الذي لادليل على نفوذه حينما يكون من حقّ شخص لايريد حقّه؛ إذن لا دليل على نفوذ الحكم وفق اليمين أيضاً.
إلّا أنّ هذا الإشكال يرفع بالتمّسك بإطلاق ما ورد - بسند تامّ - عن ابن أبي يعفور عن أبي عبداللّه (عليه السلام): قال: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه، فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحق المدّعي، فلا دعوى له. قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم، وإن أقام بعد ما استحلفه باللّه خمسين قسامة، ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه». وزاد في (من لايحضره الفقيه): قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «من حلف لكم على حقّ فصدّقوه، ومن سألكم باللّه فاعطوه، ذهبت اليمين بدعوى المدّعي،
', '', 425), (14, 426, 'book', 'ولا دعوى له»(1). وهذه الزيادة إن كانت من كلام الإمام الصادق (عليه السلام)، فسندها هو سند الصدوق إلى ابن أبي يعفور، وإن كانت من الصدوق (رحمه الله)، فهي مرسلة. وعلى أيّ حال فالمهم إطلاق صدر الحديث لفرض اكتفاء المدّعي بيمين المنكر رغم وجود الشهادة التبرّعيّة، ولاتضرّ بذلك ندرة الفرض، فإنّ ندرة الفرض تضرّ بحمل الإطلاق عليه، لابشموله له
ومثل هذا الحديث حديث خضر النخعي في الرجل يكون له على الرجل مال فيجحده قال: «فإن استحلفه، فليس له أن يأخذ شيئاً، وإن تركه ولم يستحلفه، فهو على حقّه»(2)، إلّا أنّ خضر النخعي لم تثبت وثاقته.
الخامس - ما عن يونس عمّن رواه قال: «استخراج الحقوق باربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد، فاليمين على المدّعى عليه، فإن لم يحلف وردّ اليمين على المدّعي، فهي واجبة عليه أن يحلف، ويأخذ حقّه، فإن أبى أن يحلف، فلا شىء له»(3)، فهذا الحديث أيضاً بإطلاقه يشمل شهادة المتبرّع سواء كان بمعنى الشهادة قبل طلب الحاكم، أو بمعنى الشهادة قبل طلب ذي ا الحقّ، إلّا أنّه لا يدلّ على أكثر من حجّيّة البيّنة بما هي، أمّا أنّه لو اكتفى صاحب الحقّ بتحليف المنكر ولم يوافق على أن يحكم الحاكم وفق البيّنة التبرّعيّة، فالحديث لا يدلّ على جواز حكم الحاكم وفق البيّنة، ونرجع مرّةً أُخرى إلى ما دلّ على أنّ تحليف المنكر يذهب بحقّ المدّعي.
$
', '(1) الوسائل ج 18، باب 9 من كيفية الحكم، ح 1 و 2، ص 179.
(2) الوسائل ج 16، باب 48 من كتاب الأيمان، ح 1، ص 179 .
(3) الوسائل، ج 18، باب 7 من كيفية الحكم، ح 4، ص 176.
', 426), (14, 427, 'book', '
وعلى أي حال فهذا الحديث ضعيف سنداً بعدم معرفة من روى عنه يونس، وعدم انتهائه إلى المعصوم، فالمهم هو الوجه الرابع.
والمتحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ طلب الحاكم ليس دخيلا في نفوذ الشهادة، وموافقة المدّعي دخيلة لا في نفوذ الشهادة بالمعنى الّذي قد يوحي إليه هذا اللّفظ، بل في حكم الحاكم حينما يكون من حقّ المدّعي؛ إذ لا دليل على نفوذ الحكم في هذه الحالة، وينتقل الأمر عندئذ إلى حلف المنكر الّذي يذهب بحقّ المدّعي. أمّا في حقّ اللّه والحقوق العامّة فلا موضوع لهذا البحث؛ لأنّ من حقّ ولىّ الأمر أن يتدخّل مباشرةً في الحكم من دون افتراض مدّع يطالب به. وما يشتمل على حقّ اللّه وحقّ للفرد تنفذ فيه الشهادة التبرّعيّة بالنسبة لحقّ اللّه، ولا تنفذ بالنسبة لحقّ الفرد بالمعنى الذي شرحناه لعدم النفوذ، لا بالمعنى الذي يوحي إليه حاقّ اللّفظ.
وإذا كان حقّ واحد للّه وللفرد في وقت واحد تنفذ فيه الشهادة التبرعيّة بلا إشكال.
 $
شرط (الحسّ) في الشهادة
الشرط التاسع - أن تكون الشهادة عن حسّ.
لاإشكال في وجوب استناد الشهادة إلى مدرك مقبول، وعدم جواز الشهادة بمجرّد الاحتمال أو الظنّ وبلامستند مثبت لما يشهد به، وعدم نفوذها.
والمستند الّذي يمكن للشاهد أن يعتمد عليه في مقام الشهادة لا يخلو عن أحد أُمور أربعة:
الأوّل - الحسّ: وأقصد بذلك ما لو كان الوسيط بينه وبين علمه بالواقع
', '', 427), (14, 428, 'book', 'إحدى حواسّه كالبصر أو السمع.
والثاني - ما يقرب من الحسّ: و أقصد بذلك ما لو كان هناك وسيط آخر غير الحسّ وقع في طريقه إلى العلم بالواقع، إلّا أنّ هذا الوسيط سنخ أمر يوجب العلم لعامّة الناس كالتواتر، فسمعه - مثلا الذي هو من إحدى حواسّه - لم يقع مباشرةً على ما يشهد به، وإنّما وقع على التواتر القائم على ما يشهد به، والتواتر موجب للعلم لعامّة الناس.
والثالث - العلم غير الحسّي وغيرما يقرب من الحسّ: وأقصد بذلك ما لو كان هناك وسيط بينه وبين علمه بالواقعة غير الحسّ وغير ما يوجب العلم لعامّة الناس، كما يتّفق كثيراً لإنسان ما يحصل له العلم بشيء على أساس قرائن لو عرضت على إنسان آخر ربّما لا توجب له العلم.
والرابع - الدليل التعبّدي من أمارة أو أصل كما لو ثبتت له ما لكيّة المدّعي لمال باليد أو بالاستصحاب.
ولا شكّ في جواز الشهادة ونفوذها في القسم الأوّل، وهو الشهادة عن الحسّ، فإنّه القدر المتيقن من الأقسام في النفوذ بلا إشكال .
 $
الشهادة بما يقرب من الحسّ:
وأمّا القسم الثاني وهو الشهادة عمّا يقرب من الحسّ كالشهادة على أساسالتواتر ونحوه، فهو ملحق بالقسم الأوّل؛ لأنّ الأدّلة اللّفظيّة الدالّة على نفوذ القسم الأوّل تدلّ على نفوذ هذا القسم أيضاً حتى ولو لم يتمّ فيها الإطلاق اللّفظي، أوكان مفاد لفظها مخصوصاً بالقسم الأوّل:
امّا ما لا يتمّ فيه الإطلاق اللّفظي فكقوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات
', '', 428), (14, 429, 'book', 'والأيمان»(1) حيث إنّه بصدد حصر مقياس القضاء بالبيّنة واليمين، أمّا أنّه متى يعمل بالبيّنة؟ ومتى يعمل باليمين؟ فليس بصدده. ولكن رغم هذا نعتقد دلالته على نفوذ الشهادة القائمة على أساس ما يقرب من الحسّ وذلك باعتبار الإطلاق المقامي الرافض لكلّ قيد يرفضه ارتكاز العقلاء، ومنها قيد الحسّ في مقابل ما يقرب من الحسّ.
وأمّا ما يكون مفاده مخصوصاً بالقسم الأول فكما ورد عن عليّ بن غياث أو علىّ بن غراب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لا تشهدَنَّ بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفّك»(2). والسند غير تامّ، وكما رواه المحققّ مرسلا عن النبي (صلى الله عليه وآله)أنّه قال - وقد سئل عن الشهادة -: «هل ترى الشمس؟ على مثلها فأشهدْ أو دَعْ»(3). فبناءً على اختصاص المفاد اللّفظي لذلك بالشهادة الحسّية نتعدّى إلى الشهادة القائمة على أساس ما يقرب من الحسّ ببركة عدم احتمال العرفِ الفرقَ، فإنّ عدم احتمال الفرق يكوّن للديل دلالة التزاميّة عرفيّة على المقصود، وبهذا البيان يتمّ أيضاً الاستدلال بمثل قوله (صلى الله عليه وآله): «إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» حتى ولو غضّ النظر عن فرض الإطلاق المقامي، فإنّ عدم الإطلاق لا يجعله أتعس حالا من نصٍّ كان مفاده خاصّاًبالقسم الأوّل.
وإن شئت فقل إنّ النكتة الّتي جعلتنا نؤمن بحجّيّة لوازم الأمارة الّتي لم يكن مدلولها المطابقي موضوعاً للحجّيّة لعدم ترتب أثر شرعي عليه، ولكنّ لازمه كان ذا أثر شرعي؛ نفس تلك النكتة تجعلنا نؤمن بحجّيّة البيّنة الّتي ليست هي بلحاظ مصبّ
', '(1) الوسائل / ج 18، باب 2 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 169.
(2) الوسائل / ج 18 باب 20 من الشهادات، ح 1، ص 250.
(3) نفس المصدر ح 3، ص 251 .
', 429), (14, 430, 'book', '
الأثر القضائي بيّنة عن حسّ، لكن هي بلحاظ ما لاينفكّ عن مصبّ الأثر القضائي - ويلازمه عادةً - كالتواتر المخبِر عن الواقعة المشهود بهابيّنة عن حسّ.
ويشهد لنفوذ البيّنة الّتي انصبّ علمها الحسّي على مايلازم المقصود في باب القضاء لا على نفس المقصود ما رواه الشيخ بسنده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن موسى بن جعفر البغدادىّ عن جعفر بن يحيى عن عبداللّه بن عبدالرحمن عن الحسين بن يزيد عن أبي عبداللّه (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: «أتى عمر بن الخطاب بقدامة بن مظعون وقد شرب الخمر، فشهد عليه رجلان: أحدهما أنه رآه يشرب، وشهد الآخر أنّه رآه يقيء الخمر، فأرسل عمر إلى ناس من أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فيهم أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال لأمير المؤمنين (عليه السلام): ما تقول يا أبا الحسن فإنّك الذي قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): أنت أعلم هذه الأُمّة وأقضاها بالحقّ، وأنّ هذين قد اختلفا في شهادتهما، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): ما قاءها حتى شربها، فقال: وهل تجوز شهادة الخصىّ؟ فقال ما ذهاب لحيته إلّا كذهاب بعض أعضائه»(1).
والحسين بن يزيد ثبتت وثاقته برواية ابن أبي عُمير وصفوان عنه، ولكنّ في السند موسى بن جعفر البغداىّ ولادليل على وثاقته عدا وروده في أسانيد كامل الزيارات، وعدم استثناء رواياته من روايات محمد بن أحمد بن يحيى، وكلاالوجهين لا يصلحان للتوثيق.
وهناك رواية أُخرى تامّة سنداً ودالة على المقصود، وهي ما رواه الصفّار أنّه كَتَب إلى أبي محمد (عليه السلام): هل يجوز للشاهد الذي أشهده بجميع هذه القرية أن يشهد بحدود قطاع الأرض الّتي له فيها إذا تعرّف حدود هذه القطاع بقوم من أهل هذه القرية إذا كانوا عدولا؟ قال: «فوقّع (عليه السلام) نعم، يشهدون على شيء مفهوم
', '(1) التهذيب ج 6، ح 772، ص 281.
', 430), (14, 431, 'book', '
معروف»(1). وعلى أىّ تقدير فحجّيّة البيّنة في القسم الأوّل والثاني ينبغي افتراضها من الواضحات.
 $
الشهادة القائمة على أساس الأمارة أو الأصل:
كما لا ينبغي الإشكال في أنّ مقتضى القواعد عدم حجّيّة البيّنة في القسمالرابع، وهو البيّنة القائمة على أساس الأمارة أو الأصل.
وقد يقال: إننّا لو آمنّا في القسم الثالث - وهو البيّنة القائمة على أساس العلم الشخصىّ غير القائم على الحسّ أو ما يقرب منه - بنفوذها، وأمنّا في علم الأُصول بقيام الأمارة و الأصل مقام العلم الموضوعيّ، كانت النتيجة الطبيعية لمجموع هذين الأمرين نفوذ الشهادة القائمة على أساس الأمارة أو الأصل .
ولكنّ الواقع أنّنا - حتى لو آمنّا بهذين الأمرين - نقول: إنّه في خصوص نفوذ الشهادة في باب القضاء لا تقوم الأمارة والأصل مقام العلم الموضوعي، وذلك لأنّ هذه البيّنة إمّا أن نفترض أنّها تشهد بمفاد الأمارة أو الأصل - أي تشهد بالحكم الظاهري - وهذا في الحقيقة شهادة عن حسّ، أو نفترض أنّها تشهد بالحكم الواقعي اعتماداً على الحكم الظاهري إيماناً منه بقيامه مقام العلم الموضوعي، فإن فرضت شهادته بالحكم الظاهري، فهذه الشهادة سوف لاتكون أفضل من علم القاضي عن حسّ بالحكم الظاهري وعلم جميع الناس به، ونحن نعلم أنّ الحكم الظاهري وحده لايكون منشأً لحكم القاضي، بل يجب ضمّه إلى اليمين، أي أنّ الحكم الظاهري يجعل من كان كلامه موافقاً له منكراً، ومن كان كلامه مخالفاً له مدّعياً، فتصل النوبة إلى
', '(1) الوسائل ج 18، باب 48 من الشهادات، ح 1، ص 301.
', 431), (14, 432, 'book', '
يمين المنكر لو لم تكن للمدّعي بيّنة، فشهادة الشاهدين بالملكيّة الظاهرية لزيد على أساس اليد - مثلا - ليست بأفضل حالا ممّا لو رأى القاضي بأُمّ عينيه وجميع من كانوا جلوساً حوله أنّ زيداً له اليد على هذا المال، ومن الواضح أنّه عندئذ ليس للقاضي الحكم بمالكية زيد إلّا بعد يمينه، فالشهادة بالحكم الظاهري لا تعتبر بيّنة موجبة للحكم على أساسها. نعم، قد تقلب الشهادة بالحكم الظاهري المدّعي منكراً و المنكر مدّعياً، كما لو لم تكن لزيد ولا لعمرو أمام القاضي يد على المال، وكانت دعوى عمرو للملكية مطابقة للاستصحاب، فكان هو المنكر، وشهدت البيّنة بأنّ زيداً كان هو صاحب اليد على هذا المال بعد الملكية السابقة لعمرو في زمان تعلم البيّنة بأنّه لم ينتقل المال بعد ذلك منه إلى عمرو، فهذه شهادة من قبل البيّنة تقلب المدّعي منكراً والمنكر مدّعياً، فيصبح زيد هو المنكر بعد أن كان مدّعياً وعمرو المدّعي بعد أن كان منكراً.
وإن فرضت شهادة البيّنة بالحكم الواقعي اعتماداً على الحكم الظاهري، فمن الواضح أنّ العرف لا يتصوّر كون شهادتها على الحكم الواقعي الّتي هي فرع علمها بالحكم الظاهري بأكثر قيمة من شهادتها الحسّية بنفس الحكم الظاهري الذي هو الاساس لشهادتها بالواقع، فلا يتمّ في نظر العرف إطلاق لدليل نفوذ الشهادة القائمة على العلم - منضّماً إلى دليل قيام الأمارة والأصل مقام العلم - لما نحن فيه.
فتحصّل حتى الآن: أنّ مقتضى الأدلّة الأوّليّة عدم نفوذ الشهادة القائمة على أساس الأمارة والأصل.
نعم شهادته بالواقع اعتماداً على الظاهر جائزة تكليفاً؛ بمعنى عدم مشموليّتها لحرمة الكذب لو قلنا بقيام الأمارة والأصل مقام القطع الموضوعي، ولكن يبقى محلّ للقول بالحرمة التكليفية من ناحية التغرير وحرف مسير القضاء عن مسيره الطبيعي لو لم يُبرِزاأنّ شهادتهما بالواقع إنّما هي بالاعتماد على الظاهر، فتخيّل القاضي أنها
', '', 432), (14, 433, 'book', 'شهادة بالواقع عن علم فرتّب عليها الأثر.
ويمكن أن يصاغ الدليل على كون مقتضى القاعدة عدم نفوذ الشهادة القائمة على أساس التعبّد بصياغة أُخرى بيانها: أن يُقال: إنّ الموقف الفقهي من بيّنة المنكر فيه احتمالات ثلاثة سندرسها في موضعها - إن شاء اللّه -:
الأوّل: أن تكون بيّنة المنكر حجّة كبيّنة المدّعي وموجبة للقضاء وفقها بفرق أن المدّعي هو الذي يكون عليه البيّنة، فلو أقامها لاتصلُ النوبة إلى بيّنة المنكر، ولو لم يقمها جاز للمنكر أن يكتفي باليمين، فيُقال: هذا هو المقدار الذي يفهم من ماورد من أنّ (البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر)، فهذه القاعدة ليس معناها عدم قبول البيّنة من المنكر، وإنّما معناها التسهيل على المنكر بالاكتفاء بيمينه إذا أراد، وذلك بنكتة مطابقة كلامه للأصل. أمّا إذا أقام البيّنة - بعد فرض عدم إقامة المدّعي للبيّنة ووصول النوبة إليه - فلا بأس بذلك، ولا يطالَب عندئذ باليمين.
والثاني - أن يقال: إنّ قاعدة أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر كما لم تدلّ على رفض البيّنة من المنكر كذلك لم تدلّ على تقديم بيّنة المدّعي على المنكر، فهما متساويتان في القيمة، وإنّما الفرق بين المدّعي والمنكر أنّ المدّعي هو الذي يطالَب بالبيّنة، وأمّا المنكر فله الاكتفاء بالحلف أو بالبيّنة لو لم يقم المدّعي البيّنة، أمّا لو أقام كلاهما البيّنة بالتساوي: فإمّا أن يحكم للمنكر لمطابقة كلامه للأصل، أو يحلّف المنكر، ثمّ يحكم له بعد حلفه. ونلحق بهذا الاحتمال احتمال كون بيّنة المنكر حجّة ذاتية لاقضائية، فالمنكر - على أيّ حال - بحاجة إلى اليمين، وإنّما فائدة بيّنته هي إسقاط بيّنة المدّعي بالتعارض. وعلى أيّ حال فيشهد للأوّل - أعني كون الحكم للمنكر - ما عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبداللّه (عليه السلام): (أنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام)اختصم إليه رجلان في دابّة، وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للّذي في يده،
', '', 433), (14, 434, 'book', 'وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين)(1). ويشهد للثاني - أعني تقييد الحكم عند تعارض البيّنتين بحلف المنكر - ما عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللّه (عليه السلام): (أنّ رجلين اختصما إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، فأحلفهما عليّ (عليه السلام)، فحلف أحدهما، وأبى الآخر اُن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما، أقاما البيّنة؟ فقال: أُحلّفهما، فأيّهما حلف، ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فإن كانت في يدأحدهما، وأقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الّذي هو في يده)(2). وفي السند غياث بن كلوب، ولعلّه يكفي في توثيقه ما ذكره الشيخ في العدّة من أنّه (عملت الطائفة بأخباره إذا لم يكن لها معارض من طريق الحقّ)، فقد يجعل هذا الحديث مقيّداً للحديث الأوّل.
والثالث - أن يقال: إنّ معنى كون (البيّنة على المدّعي واليمين على المنكر) أنّه لاتُقبل من المنكر البيّنة أصلا، فالبيّنة إنّما تُقبل من المدّعي الذي عليه أن يقيم البيّنة، وأمّا المنكر فليس عليه إلّا اليمين، أمّا لو أقام بيّنة على إنكاره فلاقيمة لبيّنته إطلاقاً؛ كما يشهد له ما ورد عن منصور قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): رجل في يده شاة، فجاء رجل فادّعاها، فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده، ولم يهب، ولم يبع، وجاء الذي في يده بالبيّنة مثلهم عدول أنّها ولدت عنده لم يبع ولم يهب، فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): حقّها للمدّعي، ولاأقبل من الذي في يده بيّنةً؛ لأنّ اللّه - عزّوجلّ - إنّما أمر أن تطلب البينة من المدّعي، فإن كانت له بيّنة، وإلّا فيمين الذي هو في يده، هكذا
', '(1) الوسائل / ج 18، باب 12 من كيفية الحكم، ح 3، ص 182.
(2) نفس المصدر / ح 2.
', 434), (14, 435, 'book', '
أمر اللّه - عزّ وجلّ -»(1). إلّا أنّ سند الرواية ضعيف؛ لأنّ إبراهيم بن هاشم رواها عن محمد بن حفص عن منصور، فإن كان منصور منصرفاً إلى منصور بن حازم الذي كان له كُتبٌ أو كان منصرفاً عن غير شخصين: أحدهما منصور بن حازم الذي له كتب، والثاني منصور بن يونس الذي له كتاب، فلا إشكال في سند الحديث من ناحية منصور؛ لأنّهما ثقتان، لكن يبقى الإشكال من ناحية محمد بن حفص، وذلك لما ذكره السيّد الخوئي في مباني تكملة المنهاج(2) من أنّ تطبيق الأردبيلي (رحمه الله)هذا الرجل على محمد بن حفص وكيل الناحية الذي كان يدور عليه الأمر، وكان من أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) غير صحيح؛ اذ لايمكن أن يروي محمد بن حفص هذا عن منصور الذي كان في زمن الصادق والكاظم (عليهما السلام)، ولايمكن أن يروي عنه إبراهيم بن هاشم الذي لقي الرضا وأدرك الجواد (عليهما السلام). إذن فمحمد بن حفص الوارد في سند هذا الحديث رجل مجهول.
وعلى أيّ حال فلو قلنا في المقام بحجّيّة البيّنة الّتي كانت شهادتها قائمة على أساس التعبّد في باب القضاء، فبضمّ ذلك إلى أيّ مبنىً نختاره في بينة المنكر، نصل إلى نتيجة غربية:
فإن اخترنا المبنى الإوّل، وهو أنّ بيّنة المنكر تقبل بعد فقد المدّعي للبيّنة وتُغني عن اليمين، لزم من ذلك أن يكون بإمكان المنكر التخلّص من اليمين دائماً؛ لأنّ كلامه مطابق دائماً للحكم الظاهري، فبإمكانه تحصيل الشهود على طبق كلامه بناءً على نفوذ الشهادة القائمة على أساس التعبّد. وهذا غير محتمل فقهياً.
وإن اخترنا المبنى الثاني، وهو سقوط بيّنة المدّعي لدى إقامة المنكر البيّنة،
', '(1) الوسائل / ج 18، باب 12 من كيفية الحكم، ح 14، ص 186.
(2) ج 1، ص 50.
', 435), (14, 436, 'book', '
فيقضي القاضي لصالح المنكر، إمّا مطلقاً، أو بعد يمينه، لزم من ذلك أنّ بامكان المنكر دائماً أن يُلغي بيّنة المدّعي، ذلك بإقامته هو للبيّنة ما دام كلامه مطابقاً للحكم الظاهري، وما دمنا قلنا بجواز كون الحكم الظاهري أساساً للشهادة، وهذا أيضاً غير محتمل فقهياً، ثمّ لو قلنا بعدم الحاجة إلى يمين المنكر عند تعارض البيّنتين، لزم أيضاً ما مضى من إمكان تخلّص المنكر من اليمين دائماً.
وإن اخترنا المبنى الثالث: وهو أنّه لا تقبل البيّنة من المنكر بأيّ شكل من الأشكال، قلنا: إنّ البيّنة القائمة على أساس التعبّد: إمّا أن تكشف هويّتها أمام القاضي، أوْلا تكشف هويّتها أمام القاضي، فيعتقد - أو يحتمل - القاضي كونها قائمة على أساس معرفة الواقع بالحسّ أو ما يقرب من الحسّ.
فإن كشفت هويّتها أمام القاضي وبيّنت أنّ الشهادة قائمة على أساس الحكم الظاهري، فبهذا قد انقلب المدّعي منكراً، إذ أصبح كلامه موافقاً للحكم الظاهري، وبذلك سقطت البيّنة عن الحجّيّة القضائية؛ لأنّنا فرضنا عدم قبول البيّنة من المنكر إطلاقاً.
وإن لم تكشف هويّتها أمام القاضي، فهنا نسأل: ما ذا يقصد بفرض حجّيّة هذه البيّنة؟
فإن قصد بذلك حجيّتها بمعنى أنّ القاضي قد اغترّ، واعتقد أنّ هذه بيّنة قائمة على أساس الإحساس بالواقع، وكان من الطبيعي عندئذ تنفيذه هذه البيّنة، فهذا لايعني حجّيّة البيّنة القائمة على أساس التعبّد كما هو واضح، وإنّما يعني أنّ البينة خانت بتحريف مسيرة القضاء بإيحائها إلى ذهن القاضي أنّها قائمة على أساس الإحساس بالواقع لا التعبّد.
وإن قصد بذلك أنّ عدم كشف البيّنة عن هويّتها التعبّديّة جعلها ذات قيمة أكبر ممّا لو كشفت عن هويّتها بحيث أصبحت الآن حجّة حقيقيّة لامن باب تغرير
', '', 436), (14, 437, 'book', 'القاضي، فالقاضي يقضي وفقاً لهذه البيّنة، ولو احتمل كونها قائمة على أساس التعبّد، فهذا أمر غريب عقلائيّاً، فإنّه من المعقول - عقلائيّاً - أن يكون دليل مّا عند عدم معرفة هويّته أقوى قيمةً من باب خطأ المستدلّ وافتراضه للدليل على هويّة أُخرى، ولكن ليس من المعقول - عقلائيّاً - أن يكون دليل مّا أقوى قيمة واقعاً لدى عدم معرفة هويّته منه لدى معرفة هويّته.
كلّ هذا البيان إنّما صغناه لإثبات أنّ مقتضى القواعد عدم الحجّيّة للبيّنة القائمة على أساس التعبّد في باب القضاء بعد تسليم نفوذ البيّنة القائمة على أساس العلم غير الحسّي وغير ما يقرب من الحسّ، وتسليم قيام الأمارة والأصل مقام العلم الموضوعي، أمّا إذا أنكرنا الثاني - كما هو الصحيح عندنا في بحث الأُصول - أو أنكرنا الأوّل كما سيتّضح - إن شاء اللّه - في البحث عن القسم الثالث، فكون مقتضى القاعدة عدم حجّيّة القسم الرابع يكون في غاية الوضوح.
يبقى في المقام أنّ هناك بعض الروايات ممّا يمكن جعلها دليلا على نفوذ الشهادة القائمة على أساس الأمارة أو الأَصل، وهي عدّة روايات من قبيل ما يأتي ممّا قد يُجعل بعضها شاهداً على نفوذ البينة القائمة على أساس اليد، وبعضها شاهداً على نفوذ البينة القائمة على أساس الاستصحاب:
الرواية الأُولى - ماورد عن حفص بن غياث عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يَدَيْ رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم. قال الرجل: أشهد أنّه في يده، ولا أشهد أنّه له، فلعلّه لغيره. فقال أبوعبداللّه (عليه السلام): أفيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم. فقال أبوعبداللّه (عليه السلام): فلعلّه لغيره فمن أين جازلك أن تشتريه ويصير ملكاًلك ثمّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟! ثمّ قال أبوعبداللّه (عليه السلام): لو لم يجز هذا
', '', 437), (14, 438, 'book', 'لم يقم للمسلمين سوق»(1) وهذا الحديث في سنده شخصان قد يتوقّف في تماميّة السند من أجلهما.
أحدهما - الراوي المباشر للإمام، وهو حفص بن غياث حيث لم يرد في كتب الرجال له توثيق عدا ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في فهرسته من قوله: «حفص بن غياث القاضي عامّيّ المذهب له كتاب معتمد» فقد يُقال: إنّ كون كتابه معتمداً لايدلّ على وثاقته، ولكن قد يكفينا ما ذكره الشيخ في العدّة من أنّ الطائفة عملوا بأخبار حفص ابن غياث إذا لم يرد في طريق الإماميّة الموثوق به ما يخالفه.
والثاني - القاسم بن يحيى أو القاسم بن محمد الأصبهاني حيث وقع الأوّل في سند الكليني والشيخ (رحمهما الله) إلى هذه الرواية، والثاني وقع في سند الصدوق (رحمه الله) إليها، والثاني بناءً على اتّحاده مع القاسم بن محمد القميّ - كما هو الظاهر - قد ضعّف من قبل النجاشي، وبناءً على عدم اتّحاده معه لم يثبت ضعفه، ولكن لم تثبت - أيضاً - وثاقته. والأوّل هو القاسم بن يحيى ورد عن ابن الغضائري تضعيفه، ولا عبرة بذلك، ولكن لم يرد في كتب الرجال توثيق له، إلّا أنّ السيد الخوئي بنى في معجم رجال الحديث(2) و مباني تكملة المنهاج(3) على و ثاقته لوروده في أسانيد كامل الزيارات، وذلك بناءً على ما بنى عليه من وثاقة كلّ من ورد في أسانيد كامل الزيارات، إلّا أنّ هذا المبنى غير مقبول عندنا، ولكن هناك شاهد آخر على وثاقته، وهو ما أشار إليه السيّد الخوئي في معجم رجال الحديث(4) من كلام للشيخ
', '(1) الوسائل / ج 18، باب 25 من كيفيّة الحكم، ح 2، ص 215 .
', 438), (14, 439, 'book', '
الصدوق (رحمه الله) في (من لا يحضره الفقيه)، و قد أشار اليه السيّد الخوئى بعنوان التأييد لوثاقته الّتي أثبتها بوروده في أسانيد كامل الزيارات وبيانه: أنّ الشيخ الصدوق (رحمه الله)- في (من لايحضره الفقيه)(1) ذكر في زيارة الحسين (عليه السلام) زيارةً نقلها عن الحسن بن راشد عن الحسين بن ثوير عن الصادق (عليه السلام)، ثمّ ذكر وداعاً للحسين (عليه السلام) نقلا عن يوسف الكناني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) ثم قال: «وقد أخرجتُ في كتاب الزيارات، وفي كتاب مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنواعاً من الزيارات، واخترت هذه لهذا الكتاب؛ لأنّها أصحّ الروايات عندي من طريق الرواية، وفيها بلاغ وكفاية»، ومن البعيد افتراض رجوع اسم الإشارة في عبارته هذه إلى زيارة الوداع رغم أنّها هي الزيارة المتصلة بهذه العبارة، فالظاهر رجوعها إلى الزيارة الّتي نقلها عن الحسن بن راشد - وإن كانت تلك مذكورة قبل زيارة الوداع - فإنّها هي الزيارة العامّة المنصرف إليها الكلام لا الزيارة الخاصّة بحال الوداع، وهي الّتي عَنْوَنَها بعنوان: (زيارة قبر أبي عبداللّه الحسين (عليه السلام)) ولم يعنون الوداع بذلك، فهذه شهادة منه (رحمه الله) بأنّ هذه الزيارة أصحّ الزيارات سنداً، وللصدوق (رحمه الله) إلى الحسن بن راشد - على ما نقله هو في مشيخة الفقيه - سندان:
أحدهما: عبارة عن أبيه عن سعد بن عبداللّه و أحمد بن محمد بن عيسى وإبراهيم بن هاشم جميعاً عن القاسم بن يحيى عن جدّه الحسن بن راشد.
والثاني: عبارة عن محمّد بن علي ماجيلويه عن أبيه عن علي بن إبراهيم عن هاشم عن أبيه عن القاسم بن يحيى عن جدّه الحسن بن راشد. إذن فالقاسم بن يحيى واقع في كلا السندين، فحكمه بتصحيح هذه الزيارة يعني وثاقة القاسم بن يحيى.
ولعلّ السبب في أنّ السيّد الخوئي جعل هذا تأييّداً لوثاقة القاسم بن يحيى ولم
', '(1) ج 2، الحديث: 1614 و 1615 .
', 439), (14, 440, 'book', '
يجعله دليلا عليها هو ما يقال من أنّ تصحيح الرواية من قبل القدماء لا يدلّ على توثيق الراوي؛ إذ من المحتمل كون مبناهم في التصحيح على مثل أصالة العدالة، لا على ثبوت الوثاقة بالشكل الّذي نؤمن به.
هذا كلّه بلحاظ حال سند الحديث.
وأمّا بلحاظ الدلالة: فالظاهر أنّ دلالة الحديث غير تامّة؛ لأنّ الظاهر أنّ المقصود بما ذكره الإمام (عليه السلام) في الرواية من جواز الشهادة بما لكيّة من كان المال في يده هو الشهادة بالملكيّة الظاهريّة لا الواقعيّة، والقرينة على ذلك استدلال الإمام (عليه السلام) في مقام إقناع السائل بأنّه لو اشتراه منه لحلف أنّه ملكه، فكيف لا يشهد بملكيّة من انتقل الملك منه إليه؟ والمفروض أن يكون الإقناع بالاستدلال بشيء واضح بحيث يسلّم به السائل مسبقاً بوضوح، والشيء الواضح إنّما هو جواز الحلف على ملكيّته الظاهريّة لما اشتراه من ذي اليد. أمّا جواز الحلف على ملكيّته الواقعيّة اعتماداً على الحكم الظاهري فحتى لو قلنا به ليس من الواضحات والمسلّمات الّتي يناسب ذكرها في مقام الاستدلال والإقناع بالدليل، فإذا حملت الشهادة في الحديث على الشهادة بالملكيّة الظاهريّة، فمن الواضح أنّ هذه شهادة عن علم حسّي، وليست شهادة عن تعبّد، فالرواية خارجة عمّا نحن بصدده. نعم لو كانت الرواية واردة بخصوص مورد الشهادة في القضاء، كان هناك مجال للقول بانصراف الرواية إلى كون هذه الشهادة حجّة قضائيّة، أي أنّها تثبت صحّة دعوى المدّعي، ولكنّ الرواية لم ترد بخصوص باب القضاء، غاية ما هناك شمولها لمورد القضاء بالإطلاق ودلالتها على كونها حجّة ذاتية في موارد القضاء لإثبات الملكيّة الظاهرية، وهذا أثره ليس بأكثر من تشخيص المنكر من المدّعي.
ويشهد لما ذكرناه - من كون النظر في الحديث إلى الشهادة بالملكيّة الظاهريّة لا الملكيّة الواقعية - قوله: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»؛ إذ من الواضح أنَّ
', '', 440), (14, 441, 'book', 'فرض عدم إمكان الشهادة بالملكيّة الواقعيّة لا يهدّم سوق المسلمين، وإنّما الذي يهدّم سوق المسلمين هو عدم إمكان الشهادة بالملكيّة الظاهريّة - الّتي عرفنا دليلها، وهو اليد - بالحسّ، فإنّ هذا يساوق عدم تلك الملكيّة الظاهريّة، وهذا يعني عدم قيام سوق للمسلمين.
والسيّد الخوئي(1) فَهِمَ من الحديث أنّ النظر إلى الشهادة بالملكيّة الواقعيّة، ولكنّه مع ذلك أبطل الاستدلال بهذا الحديث على نفوذ الشهادة القائمة على أساس أمارة اليد في باب القضاء بوجهين - أثبت بهما أنّ المراد بجواز الشهادة في المقام جواز الإخبار عن كون شيء لصاحب اليد استناداً إلى يده لا نفوذ الشهادة في باب الترافع -:
الوجه الأوّل - أنّه لوجازت الشهادة بمجرد كون المال في يد أحد لم يكن فرض مورد لا تكون لصاحب اليد بيّنة، وبهذا يسقط أثر بيّنة المدّعي دائماً؛ لأنّ بيّنة المدّعي إنّما تؤثّر إذا لم تكن لصاحب اليد بيّنة. أمّا إذا كانت له بيّنة فالقول قوله مع يمينه(2).
أقول: هذا الكلام يعني أنَّه اختار في بيّنة ذي اليد ما شرحناه من الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة في بيّنة المنكر على أساس دلالة بعض الروايات على ذلك كما تقدم، فرأى أنّ ضمّ ذلك إلى فرض نفوذ البيّنة في باب القضاء يؤدّي إلى نتيجة غريبة، وهي إمكان إسقاط بيّنة المدّعي من قبل المنكر دائماً، ولكنّه لم يكمل الشوط ببيان النتائج على المحتملات الأُخرى.
ومن حقِّنا أن نتساءل: هل أنّ مقصوده إنكار ظهور رواية حفص بن غياث
', '(1) راجع مباني تكملة المنهاج / ج 1، ص 113و 114.
(2) على ما أثبته السيّد الخوئي في مباني تكملة المنهاج / ج 1، ص 49 و 50، فراجع.
', 441), (14, 442, 'book', '
في نفوذ البيّنة في المقام لأجل ما دلّ عنده من بعض الروايات على أنّه لو تعارضت بيّنة المدّعي مع بيّنة ذي اليد كان القول قول ذي اليد بيمينه؟ أو مقصوده صرف رواية حفص بن غياث عن ظهورها في نفوذ البيّنة إلى بيان مجرّد جواز الإخبار بقرينة ما دلّ عنده على الرجوع إلى يمين ذي اليد عند التعارض بين البيّنتين؟
فإن أراد الأوّل ورد عليه: أنّ نفوذ بيّنة ذي اليد في إسقاط بيّنة المدّعي ليس أمراً ارتكازيّاً كالمتّصل يؤدّي إلى تغيير الظهور، ولو كان فإنّما هو أمر منفصل لا يؤثّر في ظهور الكلام.
وإن أراد الثاني ورد عليه: أنّ فرض القرينيّة بهذا المقدار من البيان غير تامّ، غاية الأمر أن يفترض التعارض بين خبر حفص بن غياث وما دلّ عنده على سقوط بيّنة المدّعي ببيّنة المنكر، والرجوع بعد ذلك إلى مقتضى القاعدة الّذي هو في رأيه عدم نفوذ البينة. نعم، لو كان أكمل الشوط ببيان النتائج الغريبة على كلّ المحتملات والّتي كان آخرها استغراب العقلاء عن كونه بيّنة ما نافذة حينما لا تكشف عن هو يتّها، وغير نافذة حينما تكشف عن هويتها، أمكن أن يدّعي أنّ هذا الارتكاز العقلائي لا يردع بمثل ظهور رواية حفص، بل هذا الارتكاز يوجب توجيه الرواية بحملها على محمل آخر.
الوجه الثاني - أنّ قوله في ذيل رواية حفص: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» قرينة على أنّ المراد من الحديث لم يكن هو نفوذ الشهادة كبيّنة في باب القضاء، وإنّما المقصود هو التعامل مع ذي اليد معاملة المالك عملا، وجواز الإخبار عن مالكيّته.
أقول: الشيء الدخيل في قيام السوق للمسلمين ليس هو جواز الإخبار بالملكيّة الواقعيّة، وإنّما هو التعامل مع ذي اليد معاملة المالك عملا وجواز الإخبار بملكيته الظاهريّة، فجواز الإخباربالملكيّة الواقعيّة أجنبيّ عن المقام. إذن فنفس هذا
', '', 442), (14, 443, 'book', 'الذيل قرينة على كون المقصود هو الإخبار بالملكية الظاهرية، فإنّ عدم جوازه مساوق لعدم الملكيّة الظاهريّة المساوق لعدم قيام السوق للمسلمين، ونفوذ الشهادة بالملكيّة الظاهرية مطلق يشمل باب القضاء وإن لم يكن للحديث نظر إلى خصوص باب القضاء؛ فإنّ هذا لا ينافي إطلاقه، إلّا أنّ نفوذ الشهادة بالملكيّة الظاهريّة في باب القضاء بإطلاق الحديث لا يثبت أزيد من تشخيص المنكر عن المدّعي كما وضّحناه فيما مضى.
الرواية الثانية - ما عن أبي بصير - بسند تامّ - قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن الرجل يأتي القوم، فيدّعي داراً في أيديهم، ويقيم البيّنة، ويقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه، ولا يدري كيف كان أمرها قال: أكثرهم بيّنة يستحلف وتدفع إليه ...»(1) فيقال: إنّ المفروض في هذا الحديث أنّ البيّنة اعتمدت على الظاهر، وهو يد الأبّ، ومع ذلك فرض اعتبارها، ولذا يستحلف أكثرهم بيّنة.
ولكنّك ترى أنّ مفاد هذا الحديث ليس هو فرض الشهادة على الواقع اعتماداً على التعبّد، وإنّما هو فرض الشهادة الحسّيّة على الظاهر، وهو الإرث عن أبيه. ومن الواضح أنّ هذه الشهادة لا تكون بأقوى حالا في مقام إثبات الواقع من نفس يد المنكر الّتي يشاهدها القاضي في مجلس القضاء وكلّ مَن حوله، فهل أنّ يده لا تثبت الواقع، ولكن يد أبيه تثبت الواقع؟!!
إذن فالظاهر أنّ الحديث محمول على فرض التكاذب بين المدّعي وبيّنة المنكر؛ بأن يقصد المدّعي من ملكيته للدار أنّ هذا الذي في يده الدار هو الذي غصبها منه - مثلا -، وعندئذ فبيّنة المنكر في مقابل المدّعي بيّنة على الواقع عن حسّ؛ إذ تشهد أنّه ورثها من أبيه ولم يغصبها من المدّعي، ويشهد لهذا الحمل ذيل الحديث، أي المقطع
', '(1) الوسائل / ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 181.
', 443), (14, 444, 'book', '
الثالث من الحديث الشريف، فإنّه مشتمل على مقاطع ثلاثة: أوّلها ما مضى، والثاني والثالث مايلي:
... وذكر أنّ عليّاً (عليه السلام) أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مِذوَدهم(1) ولم يبيعوا، ولم يهبوا، وقامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك، فقضى علىّ (عليه السلام) بها لأكثرهم بيّنة واستحلفهم .
قال: «فسألته - حينئذ - فقلت: أرأيت إن كان الذي عليه الدار قال: إنّ أبا هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، ولم يقم الذي هو فيها بيّنة، إلّا أنّه ورثها عن أبيه قال: إذا كان الأمر هكذا فهي للذي ادّعاها، وأقام البيّنة عليها»
نعم، المقطع الثالث إنّما جاء في نقل الكليني والشيخ، أمّا الصدوق (رحمه الله) فقد ترك المقطع الثالث، واقتصر على المقطع الأوّل والثاني مقدِّماً الثاني على الأوّل: وعلى أىّ حال، فهذا لايضرّ، فإنّ عدم نقل الصدوق - أو راو آخر قبله - للمقطع الثالث ليس شهادة على عدمه؛ إذ ليس من الواضح فهم قرينيّة لهذا المقطع تبدّل ما يفهم من المقاطع السابقة كي يكشف تركه عن خطأ منفىّ بالأصل أو عن الخيانة المنفيّة بفرض الوثاقة، فاذا لم يكن تركه شهادة على عدمه، كفانا وجوده في نقل الكليني والشيخ. على أنّك قد عرفت أنّه حتّى لو غضّ النظر عن هذا المقطع فالظاهر أنّه لا محيص عن حمل الحديث على المعنى الذي شرحناه، على أنّ نقل الصدوق (رحمه الله) ساقط عن الحجّيّة، فإنّه قد نقل الحديث عن شعيب عن أبي بصير،ولم يعرف سنده الى شعيب.
الرواية الثالثة - ما عن معاوية بن وهب - بسند تامّ - قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) الرجل يكون له العبد والأَمة قد عرف ذلك فيقول: أَبَقَ غلامي، أو أمتي، فيكلّفونه القضاة شاهدين بأنّ هذا غلامه، أو أمته لم يبع، ولم يهب، أنشهد على
', '(1) المِذوَد: معتلف الدواب.
', 444), (14, 445, 'book', '
هذا إذا كلّفناه؟ قال: نعم»(1) فهذه شهادة على عدم البيع والهبة وبقاء الملكيّة قائمة على أساس الاستصحاب.
إلّا أنّ الظاهر أنّ هذه الرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه، فإنّه ليس المفروض فيها دعوى المملوك البيع أو الهبة أو نحو ذلك مع الاعتراف بالملك السابق، وإلا لكان القاضي يطالب المملوك بالبيّنة لا المولى؛ لوضوح أنّ المملوك - عندئذ - هو المدّعي والمولى منكر، إذن فمفروض المسألة إمّا هو سكوت المملوك، أو إنكاره لملكيّته إيّاه من أصلها، وفي مثل هذا الفرض تكفي الشهادة بالملكيّة السابقة مع عدم العلم بالبيع أو الهبة، ولا حاجة إلى الشهادة بعدم البيع أو الهبة، فلا مورد لنفوذها، فكأنّ الإمام إنمّا سمح بالشهادة بذلك أو بما يُوهم القاضي أنّه شهادة بذلك إقناعاً لقاضي الجور الّذي كان يصرّ - ولو خطأً - على ضرورة الشهادة بذلك، ومثل هذا لا يدلّ على نفوذ الشهادة القائمة على أساس الاستصحاب.
ولكنّ السيّد الخوئي اعترف بتماميّة دلالة الرواية على نفوذ الشهادة القائمة على أساس الاستصحاب، وقال: إنّها مبتلاة بالمعارض، وهو ذيل رواية أُخرى لمعاوية بن وهب «... قلت: الرجل يكون له العبد و الأمة، فيقول: أبِقَ غلامي أو أبِقَتْ أَمَتي، فيؤخذ بالبلد فيكلّفه القاضي البيّنة أنّ هذا غلام فلان لم يبعه، ولم يهبه، أفنشهد على هذا إذا كلّفناه ونحن لم نعلم أنّه أحدث شيئاً؟ فقال: كلّما غاب من يدالمرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهدبه»(2)على أنّه حمل السيّد الخوئي الحديث الأوّل على الشهادة بمقدار العلم على ما سيأتي بيانه.
وفي سند الحديث الثاني ورد إسماعيل بن مرار، و قال السيّد الخوئي في مباني
', '(1) الوسائل / ج 18، باب 17 من الشهادات، ح 3، ص 246.
(2) نفس المصدر / ح 2.
', 445), (14, 446, 'book', '
تكملة المنهاج(1): «إنّه ثقة على الأظهر»، ولكنّه في معجم الرجال الطبعة الأُولى(2) لم يبنِ على وثاقته؛ حيث ذكر أنّ مصدر وثاقته منحصر في أنّه روى عن يونس، و محمد بن الحسن بن الوليد قال: «إنّ كتب يونس بن عبدالرحمان الّتي هي بالروايات كلّها صحيحة»، وبما أنّ روايات إسماعيل بن مرار عن يونس بلغت مائتين أو أكثر، فالظاهر أنّ رواياته من كتب يونس لاستبعاد الروايات الشفهيّة بهذا المقدار، ولكنّ هذا لا يكفي لتوثيق إسماعيل بن مرار؛ لأنّ تصحيح القدماء للرواية لا يدلّ على وثاقة الراوي؛ إذ قد يكون مبتنياً على أصالة العدالة.
أقول: لا حاجة في إثبات رواية إسماعيل بن مرار لكتب يونس إلى التمسّك بإكثاره من الرواية عنه؛ إذ هو واقع في بعض أسانيد الشيخ التامّ إلى كتب يونس، وهذا كاف في ثبوت روايته لكتب يونس. نعم نقاشه في دلالة تصحيحهم للروايات على وثاقة الراوي في محلّه.
وبنى السيّد الخوئي في معجم الرجال في الطبعة الأخيرة على وثاقة إسماعيل ابن مرار؛ لوروده في أسانيد تفسير علىّ بن إبراهيم(3) ولكنّنا لا نبني على وثاقة كلّ من ورد في أسانيد تفسير علىّ بن إبراهيم، وإنّما نبني على وثاقة من روى عنه علىّ
', '(1) ج 1، ص 115.
(2) راجع معجم رجال الحديث / ج 2، ص 177 و 178 من الطبعة الأُولى.
(3) راجع معجم الرجال الطبعة الأخيرة . ج 2، ص 183.
هذا، و ورود إسماعيل بن مرار في تفسير علىّ بن إبراهيم إن لم يثبت بما بأيدينا من نسخ تفسير علىّ بن إبراهيم؛ لكونه تأليفاً لتلميذ له لم يوثّق، جَمَعَ بين روايات عليّ بن إبراهيم وغيرها، فبإلامكان أن يثبت بنقل صاحب البحار (رحمه الله) عن تفسير علىّ بن إبراهيم. راجع البحار / ج 12، ص 28 وج 26، ص 114 حسب الطبعة الجديدة.
', 446), (14, 447, 'book', '
ابن إبراهيم مباشرةً في تفسيره؛ حيث قال في مقدمة تفسيره: «ونحن ذاكرون ومخبرون بما انتهى إلينا ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض اللّه طاعتهم ...»
وهذا - كما ترى - لا يدلّ على أكثر من وثاقة مشايخه الذين روى عنهم الأحاديث في تفسيره. أمّا استظهار تقيّده بوثاقة كلّ رواتها - بدليل أنّ هدفه ممّا ذكره إثبات صحّة تفسيره، وأنّ رواياته ثابتة وصادرة من المعصومين، وأنّها انتهت إليه بواسطة المشايخ والثِّقات من الشيعة كما ذكره السيّد الخوئي(1) - فغير صحيح، ولا أدري كيف عرف أنّ هدفه ذلك؟ هل بإطلاق في العبارة؟ أو ببيان أنّه لولا تصحيح الأحاديث فلا قيمة لوثاقة المشايخ المباشرين؟ فإن قصد الثاني قلنا: إنّه أوّلا: أنّ وثاقة المشايخ المباشرين تؤيّد وتقوّي الروايات بلا شكّ، وثانياً: لم يثبت كون تصحيح القدماء للروايات مبتنياً دائماً على توثيق الرواة كما نبّه عليه السيّد الخوئي في معجمه(2)، فلعلّه التزم في تفسيره بالرواية عن مشايخه الثِّقات معتقداً أنّهم لا يروون إلّا الروايات الصحيحة، أمّا أنّهم إنّما صحّحوا تلك الروايات لوثاقة رواتها فغير معلوم. وإن قصد الأوّل قلنا: إنّ عنوان (الانتهاء إلينا، ورَواهُ مشايخنا وثِقاتُنا) صادق بمجرّد وثاقة الراوي المباشر، فلا يدلّ بإطلاقه على وثاقة كلّ الرواة. إذن فسند الحديث في المقام غير تامّ.
الرواية الرابعة - صدر رواية معاوية بن وهب الّتي مضى ذيلها، والّتي عرفْتَ ضعف سندها بإسماعيل بن مرار، وهو كمايلي: قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): «الرجل يكون في داره، ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة، ويدع فيها عياله، ثمّ يأتينا هلاكه، ونحن لا ندري ما أحدث في داره، ولاندري ما أحدث له من الولد، إلّا أنّا لا نعلم أنّه
', '(1) راجع معجم رجال الحديث / ج 1، ص 50 حسب الطبعة الأخيرة.
(2) راجع معجم رجال الحديث / ج 1، ص 74 حسب الطبعة الأخيرة.
', 447), (14, 448, 'book', '
أحدث في داره شيئاً، ولاحدث له ولد، ولاتقسّم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان مات وتركها ميراثاً بين فلان و فلان، أوَ نشهد على هذا؟ قال: نعم. قلت: الرجل يكون له العبد والأمة...» إلى آخر ما مضى.
وهذا أيضاً أجنبىّ عن المقام؛ لعدم وجود مرافعة في مورد الحديث، ومن الواضح أنّه تكفي في فرض عدم المرافعة الشهادة على الملكيّة السابقة مع استصحاب بقائِها فعلا، وكذلك الشهادة على وارثيّة هؤلاء مع استصحاب عدم وارث آخر بلا حاجة إلى الشهادة ببقاء الملكيّة، أو عدم وجود وارث آخر، ولا مورد لنفوذ شهادة من هذا القبيل في مفروض الرواية؛ إذن فإنّما سمح الإمام (عليه السلام) بشهادة من هذا القبيل، أو بالشهادة بما يوحي إلى القاضي بكونه شهادة بذلك إفحاماً للقاضي الّذي طالب بذلك، ومثل هذا لايدلّ على نفوذ الشهادة القائمة على الاستصحاب.
وهناك تهافت بين صدر الحديث و ذيله؛ حيث إنّه في صدر الحديث سمح بالشهادة بالنسبة للدار، بينما في ذيل الحديث منع الشهادة بالنسبة للعبد والأمة.
والسيّد الخوئي لم يفترض تهافتاً بين الصدر و الذيل؛ حيث إنّه حمل الصدر على فرض عدم المرافعة و الذيل على فرض المرافعة.
ولكن يظهر ممّا مضى أنّ هذا لايرفع التهافت؛ لأنّه حتى إذا فرضنا في الذيل المرافعة فهذا لا يعني تسليم المملوك لأصل الملكية السابقة، ودعواه البيع أو الهبة أو نحو ذلك، وإلّا لكان القاضي يطالب المملوك بالبيّنة لا المولى فمرافعة المملوك إنّما هي على أصل الملكيّة السابقة، ومعه لا فرقَ جوهرىَّ بين هذا الفرض وفرض عدم المرافعة، فإنّ الشهادة بالملكية السابقة كافية في كلا الموردين، والشهادة ببقاء الملكية شهادة بغير علم في كلا الموردين.
وأنا أحتمل أن يكون قوله في ذيل الحديث: «كلّما غاب من يد المرء المسلم
', '', 448), (14, 449, 'book', 'غلامه أو أَمَتُه، أو غاب عنك لم تشهد به» استفهاماً إنكاريّاً، وبه يرتفع التهافت، فلعلّ صاحب الكتاب - الذي كتب هذا الحديث في كتابه - اعتمد في مقام حمل هذا الكلام على الاستفهام الإنكاري على فرض قرينيّة الصدر الصريح في جواز الشهادة.
ويؤيّد الحمل على الاستفهام الإنكاري احتمال كون ذيل هذا الحديث هو عين الحديث الأوّل لمعاوية بن وهب مع الاختلاف في التعبير على أساس النقل بالمعنى.
وعلى أي حال فالسيّد الخوئي لم يَر تهافتاً بين صدر الحديث وذيله، ولكنّه رأى التهافت بين ذيل الحديث والحديث الأوّل لمعاوية بن وهب؛ حيث منع هنا عن الشهادة، وأجاز هناك الشهادة في مورد واحد، وجمع بينهما(1) بحمل الحديث الأوّل على الشهادة بأكثر من مقدار العلم وحمل هذا الحديث على الشهادة. بمقدار العلم، وجعل الشاهد على هذا الجمع رواية اُخرى لمعاوية بن وهب، وهي ما رُوي - بسند تامّ - عن معاوية بن وهب قال: «قلت له: إنّ ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان، وتركها ميراثاً، وأنّه ليس له وارث غير الذي شهدنا له، فقال: اشهد بما هو علمك. قلت: إنّ ابن أبي ليلى يحلّفنا الغموس، فقال: احلف إنّما هو على علمك»(2).
أقول: قد يكون هذا الحمل صحيحاً على مبناه من عدم التهافت بين الصدر والذيل؛ لكون الصدرِ ناظراً إلى فرض عدم المرافعة، والذيلِ ناظراً إلى فرض المرافعة. أمّا على ما وضّحناه من عدم الفرق في روح المطلب بين الصدر و الذيل، نقول: لو حمل الذيل على المنع عن الشهادة بأكثر من العلم، فكيف سمح في الصدر
', '(1) راجع مباني تكملة المنهاج / ج 1، ص 115.
(2) الوسائل ج 18، باب 17 من الشهادات، ح 1، ص 145 و 146.
', 449), (14, 450, 'book', '
بالشهادة بذلك؟!! وحمل الصدر على فرض الشهادة بمقدار العلم مع حمل الذيل على فرض الشهادة بأزيد من ذلك أيضاً غير عرفىّ؛ لأنّهما ذُكِرا بمنهج واحد وبصياغة واحدة بفرق تبديل الدار بالمملوك. إذن فلو لم يكن الذيل استفهاماً إنكاريّاً، فلا بدّ من إرجاع علم الرواية إلى أهلها للتهافت الموجود بين صدرها وذيلها.
الرواية الخامسة - ما ورد عن حمران بن أعين قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام)عن جارية لم تدرك بنت سبع سنين مع رجل وامرأة، ادّعى الرجل أنّها مملوكة له، وادّعت المرأة أنّها ابنتها، فقال: قد قضى في هذا علىّ (عليه السلام) قلت: وما قضى في هذا؟ قال: كان يقول: الناس كلّهم أحرار إلّا من أقرّ على نفسه بالرقّ وهو مدرك، ومن أقام بيّنة على من ادّعى من عبد أو أمة، فإنّه يدفع إليه، ويكون له رقّاً قلت: فما ترى أنت(1) قال: أرى أن أسأل الذي ادّعى أنّها مملوكة: له بيّنة على ما ادّعى؟ فإن أحضر شهوداً يشهدون أنّها مملوكة لا يعلمونه باع ولا وهب، دفعت الجارية إليه حتى تقيم المرأة من يشهد لها أنّ الجارية ابنتها حرّة مثلها، فلتدفع إليها، وتخرج من يد الرجل. قلت: فإن لم يقم الرجل شهوداً أنّها مملوكة له؟ قال: تخرج من يده، فإن أقامت المرأة البيّنة على أنّها ابنتها، دفعت إليها، فإن لم يقم الرجل البيّنة على ما ادّعى، ولم تقم المرأة البيِّنة علىما ادّعت، خلّي سبيل الجارية تذهب حيث تشاء»(2). وسند الحديث تامّ، وحمران بن أعين ثبتت وثاقته - على الأقلّ - برواية صفوان عنه. ومحل الشاهد قوله: «فإن أحضر شهوداً يشهدون أنّها مملوكة لا يعلمونه باع ولاوهب...»؛ حيث يُقال: إنّ هذا يعني نفوذ البيّنة القائمة على أساس
', '(1) يبدو أنّ هذا سؤال عن كيفيّة تطبيق الكبريات في فرض القضاء في المثال المذكور، بينما الأجوبة التي نقلها الإمام عن جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) لم تكن قضاء بالمعنى المصطلح، و إنّما كانت كبريات عامّة.
(2) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 9، ص 184.
', 450), (14, 451, 'book', '
الاستصحاب.
ولكنّ الواقع أنّ هذا الحديث أجنبىّ عمّا نحن فيه؛ لأنّه ليس في مفروض القضيّة الّتي هي مورد الحديث شخص ادّعى أنّه باعها أو وهبها إيّاه، ولو كان ذلك لكان عليه أن يقيم البيّنة على المولى؛ إذن فتكفي شهادة البيّنة بالملكيّة السابقة مع عدم علمها بالبيع والهبة لإثبات مملوكيّتها له، وهذا هوالمقصود بما في هذا الحديث.
ولابأس بأن نشير إلى ما في ذيل هذ الحديث من الحكم بدفع البنت إلى المرأة المدّعية لكونها بنتاًلها عند تعارض البيّنتين، فهل هذا مجرد حكم تعبّديّ بحت؛ لأنّ مقتضى القاعدة تساقط البيّنتين وتخلية سبيل الجارية تذهب حيث تشاء، كما جاء في هذا الحديث في فرض عدم البيّنة لأىّ واحد منهما؟ الظاهر أنّه ليس حكماً تعبّديّاً بحتاً، بل هو حكم مطابق لمقتضى القواعد. وتوضيح ذلك:
أنّ فروض قيام البيّنة التي تعرّض لها الحديث ثلاثة:
الأوّل - قيام البينة لصالح الرجل تشهد على أنَّها مملوكة للرجل، وهنا يحكم بكونها مملوكة للرجل، وتدفع إليه. ولم يفرض في ذلك شهادتها بنفي البنوّة للمرأة، ولاأثر لذلك في مورد الدعوى، فإنهّا لوكانت مملوكة للرجل وفي نفس الوقت بنتاً للمرأة، لا بدّ من دفعها إليه.
والثاني - قيام البيّنة لصالح المرأة تشهد على أنَّها بنت المرأة، وهنا تسلّم إلى المرأة لكونها بنتاً لها. ولم يفرض في الحديث شهادة البيّنة على نفي رقّيّتها له، ولاأثر لذلك، فإنّ الرقّية منفيّة حتى مع عدم شهادة من هذا القبيل وذلك بالأصل، فيكفي لدفعها إليها شهادة البيّنة ببنوّتها لها.
والثالث - قيام بيّنة لصالح الرجل، وقيام بيّنة أُخرى لصالح المرأة. ولم تفرض في البيّنة الأُولى أكثر من الشهادة بمملوكيّتها للرجل دون الشهادة بنفي البنوّة لها، وكان هذا كافياً لكونها في صالح الرجل؛ لما قلنا من أنّها لو كانت مملوكة له وفي نفس
', '', 451), (14, 452, 'book', 'الوقت بنتاً لها لكفى ذلك في دفعها إليه. أمّا بيّنة المرأة، فقد فرض في الحديث أنّها شهدت بأمرين: (الأوّل) أنّها ابنتها. (والثاني) أنّها حرّة مثلها، وكان السبب في هذا الفرض أنّه من دون هذه الزيادة سوف لن تكون البيّنة الثانية في صالح المرأة مادامت البيّنة الأُولى شهدت بمملوكيّتها له، وذلك لما قلنا من أنّها لو كانت مملوكةً له، وفي نفس الوقت بنتاً لها، دفعت إليه. وفي هذا الفرض الثالث ذكر الحديث أنّ الجارية تدفع إلى المرأة على أنّها بنتها، وهذا واضح على مقتضى القواعد؛ لأنّ إحدى شهادتي البيّنة الثانية - وهي شهادتها بحرّيتها - تعارضت مع شهادة البيّنة الأُولى وتساقطتا. أمّا الشهادة الأُخرى للبيّنة الثانية - وهي شهادتها ببنوّتها لها - فلا معارض لها، فمن الطبيعي أن تدفع الجارية إلى المرأة.
وعلى أىّ حال فهذا حال ما وجدناه من روايات قد يستدلّ بها على نفوذ البيّنة القائمة على أساس اليد، أو الاستصحاب في الشهادة على الواقع، وقد عرفت عدم تماميّة هذه الروايات وأمثالها دلالة.
وهناك رواية قد تدلّ على نفوذ الشهادة القائمة على أساس البيّنة - وهذا غير الشهادة على الشهادة كما هو واضح - وهي ما روي عن عمر بن يزيد - بسند تامّ - قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): «الرجل يشهدني على شهادة، فأعرف خطّي وخاتمي، ولاأذكر من الباقي قليلا ولاكثيراً قال: فقال لي: إذا كان صاحبك ثقة، ومعه رجل ثقة فأشهدله»(1)، فيقال: إنّ هذه شهادة قائمة على أساس البيّنة المكوّنة من شهادة صاحبه وثقة آخر.
إلّا أنّ هذا الحديث إمّا أن يوجَّه بالحمل على فرض كون الخطّ والخاتم وشهادة الثقتين كافياً لحصول العلم القريب من الحسّ، أو يردّ علمه إلى أهله
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 8 من الشهادات، ح 1، ص 234.
', 452), (14, 453, 'book', '
لوضوح عدم حجّيّة شهادة المدّعي.
وعلى أىّ حال فقد اتّضح إلى هنابما لا مَزيد عليه:
1 - أنّ البيّنة القائمة على أساس الحسّ هي القدر المتيقَّن من النفوذ.
2 - أنّ البيّنة القائمة على أساس ما يقرب من الحسّ بالمعنى الذي مضى لا ينبغي الإشكال في نفوذها.
3 - أنّ البيّنة القائمة على أساس التعبّد لا ينبغي الإشكال في عدم نفوذها.
 $
الشهادة القائمة على أساس الحدس:
بقي الكلام في البيّنة القائمة على أساس العلم غير القائم على الحسّولا ما يقرب من الحسّ.
ولاينبغي الإشكال في أنّ مقتضى الأصل هو عدم النفوذ؛ لأنّ علم الشاهد بالنسبة لنفوذ الشهادة يعتبر علماً موضوعيّاً يحتاج نفوذه إلى الدليل التعبّدي، وليس علماً طريقيّاً تكون حجّيّة ذاتيّة له، ولا إطلاق لمثل قوله (صلى الله عليه وآله): «إنَّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»، فإنّه لم يرد إلّا لحصر القضاء بالبيّنة واليمين، أمّا متى تكون البيّنة؟ ومتى يكون اليمين؟ فهذا خارج عن عهدة مثل هذا الكلام، ولا لمثل قوله: «البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر»؛ إذ أوّلا: نحن نحتمل كون الحسّ دخيلا في حقيقة البيّنة، وثانياً: ليس الحديث بصدد بيان شروط نفوذ البيّنة، وإنّما هو بصدد بيان من عليه البيّنة ومن عليه اليمين، واحتمال شرط الحسّ احتمال عرفي، وليس على خلاف الارتكاز كي ينفى بإطلاق مقاميّ.
وبإلامكان أن يتوهّم أنّنا نخرج من هذا الأصل بما مضى قبل صفحات من الحديث الثالث لمعاوية بن وهب قال: «قلت له: إنّ ابن أبي ليلى يسألني الشهادة
', '', 453), (14, 454, 'book', 'عن هذه الدار مات فلان وتركها ميراثاً، وأنّه ليس له وارث غير الذي شهدنا له فقال: إشهد بما هو علمك. قلت: إنّ ابن أبي ليلى يحلِّفنا الغَموس، فقال: إحلف، إنّما هو على علمك»(1). فيقال: إنّ مقتضى إطلاق هذا الحديث هو أنّ الشهادة تدور مدار العلم من دون فرق بين أن يكون العلم حسّيّاً أو حدسيّاً.
والواقع: أنّ هذا الحديث لا يتمّ فيه إطلاق من هذا القبيل، وذلك لأنّه وارد مورد بيان أمر آخر، وهو حلّ مشكلة حرمة الشهادة بغير العلم والحلف على ما لا يعلم، وقد حلّها الإمام (عليه السلام) بأن لايقصد من شهادته إلّا مبلغ علمه. أمّا أنّ نفوذ شهادته هل يشمل فرض حدسيّة العلم أيضاً أوْلا؟ فهذا خارج عمّا هو بصدد بيانه.
ولو غضضنا النظر عن هذا الإشكال، أو وجدنا حديثاً آخر لايرد على التمسّك بإطلاقه مثلُ هذا الإشكال، قلنا: إنّ نفس النكتة التي تجعلنا ندّعي انصراف دليل حجيّة خبر الواحد اللّفظي - لو تمّ - إلى الخبر الحسّي تجعلنا أيضاً ندّعي انصراف دليل نفوذ الشهادة إلى الشهادة الحسّيّة. وبتعبير أدقّ: إنّ المفهوم من دليل نفوذ الشهادة بمناسبة الارتكازات العقلائية - كما هو الحال في دليل حجيّة خبر الواحد - إنّما هو إلغاء احتمال الكذب فقط، أو مضافا إلى التأكيد على أصالة عدم الخطأ والغفلة في الموارد التي يجري فيها هذا الأصل عقلائياً، وهي موارد الحسّ وما يشبه الحسّ. أمّا في موارد الحدس والاجتهاد فلايوجد أصل عقلائي من هذا القبيل إلّا في موارد الرجوع إلى أهل الخبرة؛ أي رجوع الجاهل إلى العالم بالتقليد.
ويؤيِّد عدم نفوذ الشهادة غير القائمة على أساس الحسّ أو القريب من الحسّ خبران غير تامّين سنداً:
الأوّل - المرسل المروي في الشرائع عن النبي (صلى الله عليه وآله) وقد سئل عن الشهادة:
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفية الحكم، ح 9، ص 184.
', 454), (14, 455, 'book', '
قال: «ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد أو دع»(1).
والثاني - ما عن عليّ بن غياث أو عليّ بن غراب عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لاتشهدَنَّ بشهادة حتى تعرفَها كما تعرفُ كفَّك»(2). وقد جاء في الكافي التعبير عن الراوي المباشر بعليّ بن غياث، بينما جاء في الفقيه التعبير عنه بعليّ بن غراب، ويبدو أنّ الأخير هو الأصحّ لعدم وجود الأوّل في كتب الرجال ولا في الروايات، ولأنّ الصدوق في المشيخة ذكر سنده إلى عليّ بن غراب فقط لا إلى عليّ بن غياث. وعلى أيّ حال فسند الحديث ضعيف بمحمد بن حسان وإدريس بن الحسن وعليّ بن غراب أو عليّ بن غياث.
وتؤيّد أيضاً اشتراطَ الحسّ في الشهادة الرواياتُ الواردة في باب الزنا الدالّة على أنّ حدّ الرجم لايثبت إلّا بالشهادة على الرؤية، من قبيل ما عن الحلبي - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام): قال: «حدّ الرجم أن يشهد أربعٌ أنّهم رأوه يُدخِل ويُخرِج»(3)، ونحوه ما عن أبي بصير(4).
والاستشهاد بهذه الروايات: تارةً يكون بمقدار أنّها دلّت على اشتراط الحسّ في الشهادة في ثبوت الرجم في الزنا واحتمال الخصوصية وارد، ولهذا جعلناه مؤيّداً لا دليلا، وأُخرى يكون بتقريب آخر أقوى من هذا التقريب، وهو أن يُقال: إنّ الروايات الواردة في هذا الباب على قسمين: أحدهما ما دلّ على أنّ الرجم لايثبت
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 20 من الشهادات، ح 3، ص 251.
(2) الوسائل، ج 18، باب 20 من الشهادات، ح 1، ص 250. وباب 8 من الشهادات أيضاً، ح 3، ص 235.
(3) الوسائل، ج 18، باب 12 من حدّ الزنا، ح 1، ص 371.
(4) نفس المصدر ح 3 و ح 5، ص 371 - 372.
', 455), (14, 456, 'book', '
إلّا برؤية الزنا كما مضى، والآخر ما دلّ على أنّ الرجم لايثبت إلّا بالشهادة على الزنا، من قبيل ما عن محمد بن قيس - بسند تامّ - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال أميرالمؤمنين (عليه السلام): لايرجم رجل ولا امرأة حتى يشهد عليه أربعة شهود على الإيلاج والإخراج»(1)، وما عن أبي بصير - بسند تامّ - قال: «قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) لا يرجم الرجل والمرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهداء على الجماع والإيلاج كالميل في المكحلة»(2).
وهذان القسمان في أكبر الظنّ يهدفان إلى الإشارة إلى نكتة واحدة، وهي الفرق بين الرجم والجلد، فالرجم لايثبت إلّا بالشهادة على نفس الزنا، بينما الجلد يثبت ولو بمقدار التعزير بالشهادة بما هو أقلّ من الزنا كالنوم مجرَّدَيْنِ تحت غطاء واحد. نعم، هناك رواية واحدة دلّت في الجلد على نفس المضمون، أي شرط الشهادة على الزنا، وهي ما عن محمد بن قيس - بسند تامّ - عن أبي جعفر (عليه السلام)قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يجلد رجل ولا امرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهود على الإيلاج والإخراج وقال: لا أكون أوّل الشهود أخشى الروعة أن ينكُلَ بعضهم فأُجْلَد»(3). وأكبر الظنّ اتّحاد هذه الرواية مع رواية محمد بن قيس الماضية، فهما معاً مرويّتان عن الباقر (عليه السلام) عن أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وهما مشتركتان في الرواة ابتداءً من الراوي المباشر وهو محمد بن قيس وانتهاءً بإبراهيم بن هاشم، فكلتاهما مرويّتان عن إبراهيم بن هاشم عن عبدالرحمان بن أبي نجران عن عاصم بن حميد ابن محمد بن قيس، والمتن واحد، إلّا أنّه عبّر في الرواية الأُولى بالرجم، وفي الرواية
', '(1) نفس المصدر، ح 2، ص 371.
(2) نفس المصدر، ح 4.
(3) نفس المصدر، ح 11، ص 373. وباب 50 من الشهادات، ح 1، ص 303.
', 456), (14, 457, 'book', '
الثانية بالجلد، فإمّا أنّ هذا اشتباه، أو محمول على خصوص الجلد الذي يكون حدّاً لاتعزيراً؛ لوضوح عدم اشتراط الشهادة بالإيلاج والإخراج في التعزير، ولما جاء في ذيله من أنّه لا يكون أوّل شاهد خشية أن يجلد بنكول بعضهم عن الشهادة، فإنّ هذا مورده الشهادة على الزنا لا الشهادة على مقدمات الزنا.
وعلى أيّ حال، فإذا افتراضنا أنّ هذين القسمين من الروايتين يشيران إلى معنىً واحد - وهو فرض خصوصيّة للرجم في مقابل الجلد، وهي خصوصيّة لزوم الشهادة على نفس العمل - قلنا: إنّ التعبير عن ذلك تارةً بالشهادة على الرؤية، وأُخرى بالشهادة على نفس الزنا يشهد لكون المفهوم المرتكز منهما كان معنىً واحداً، وهو الشهادة عن الحسّ، فإنّ الكلام بصدد بيان أهميّة الرجم باعتباره قتلا، وأنّه لابدّ من الدقّة في الشهادة، وكونها شهادة على الزنا، وكون الشهادة عن رؤية وحس، فلو لم يكن شرط الحسّ في الشهادة مركوزاً وقتئذ في الأذهان، كان من المستبعد ترك ذكر قيد الرؤية في القسم الثاني من الروايات اعتماداً على تقييده بالقسم الأول مثلا؛ لأنّ المقام مقام تهويل الأمر بالنسبة للرجم، وبيان ضرورة ترتّبه على شهادة هامّة في المقام، فسواء افترضنا أن التعبير تارة بالشهادة على الرؤية وأُخرى بالشهادة على الزنا كان من قبل الإمام، أو افترضنا أنّه كان من قبل الراوي، فهذا يشهد بأنّ المرتكز وقتئذ في الشهادة فرضها نابعة من الحسّ والرؤية، ولا نقصد بذلك - طبعاً - اكثر من تأييد المدّعى لا الاستدلال به على ذلك.
ثمّ إنّ السيّد الخوئي ذكر في مقام بيان إثبات عدم نفوذ الشهادة القائمة على العلم غير الحسّي: أنّ الشهود بمعنى الحضور، ومنه المشاهدة، وليس كلّ عالم شاهداً، قد استعملت الشهادة بمعنى الحضور في عدّة من الآيات منها قوله تعالى: ﴿عالم
', '', 457), (14, 458, 'book', 'الغيب والشهادة﴾(1). - ويستعرض بهذا الصدد عدة آيات - إلى أن يقول: نعم، يستعمل لفظ الشهادة في إظهار الاعتقاد بشيء كقوله تعالى:﴿وما شهدنا إلّا بما علمنا﴾(2)- ويستعرض بهذا الصدد أيضاً عدّة آيات - إلى أن يقول: وبما أنّ حجّية إخبار المخبر لاتثبت إلّا بدليل، فما لم يكن إخباره عن حسّ وعن مشاهدة لايكون حجّة لعدم الدليل(3).
أقول: إنّ صدر هذا الكلام لايتحصّل منه شيء مفهوم، فصحيح ما يظهر في آخر كلامه من التمسُّك بأصالة عدم النفوذ مادمنا لا نملك دليلا على نفوذ الشهادة القائمة على أساس العلم غير الحسّي، ولكن لا علاقة لذلك بما جاء في صدر حديثه من أنّ الشهادة استعملت تارةً بمعنى الحضور، وأُخرى بمعنى الإخبار والإظهار، ولا أثر لذلك فيما نحن بصدده.
ويمكن افتراض علاقة صدر حديثه بما ذكره في ذيل الحديث بأحد بيانين:
الأوّل - أن يقال: إنّ الشهادة لو كانت بمعنى إظهار ما يعتقد فحسب، لكان مقتضى إطلاق الدليل نفوذ الشهادة القائمة على أساس العلم الحدسي، لكن بما أنّ الشهادة استعملت تارةً بمعنى إظهار ما يعتقد، وأُخرى بمعنى الحضور، فقد أصبح دليل نفوذ الشهادة مجملا، فنقتصر فيه على القدر المتيقّن، وهو نفوذ الشهادة الحسّية، ونرجع في غيره إلى أصالة عدم النفوذ.
ويرد عليه:
أوّلا - ما ظهر ممّا سبق من أنّه حتى لو فرض لفظ الدليل - بغضّ النظر عن
', '(1) التوبة، الآية 94.
(2) يوسف، الآية 81.
(3) مباني تكملة المنهاج: ج 1، ص 112 - 113.
', 458), (14, 459, 'book', '
الارتكازات العقلائية - مطلقاً، فالإطلاق لا يتمّ بعد صرف العقلاء له إلى نفي الكذب، أو إلى نفيه ونفي الغفله في موارد صدق أصالة عدم الغفلة العقلائية، وهي غير موارد الحدس كما هو الحال في أدلّة حجّيّة خبر الواحد.
اللّهم إلّا أنْ يكون مقصوده في المقام إبراز عيب في الإطلاق، وهو احتمال أخذ قيد الحضور في معنى الشهادة من دون نظر إلى دعوى تماميّة الإطلاق لو لا هذا العيب.
وثانياً - أنّ استبطان كلمة الشهادة لمعنى الحضور وعدمه أجنبيّ عن المقام إطلاقاً، وذلك لأنّ المأخوذ في لسان عمدة أدلّة حجّية الشهادة في باب القضاء إنّما هو عنوان البيّنة لا عنوان الشهادة من قبيل قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»، وقوله (صلى الله عليه وآله): «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»، وما ورد في بعض الموارد من التعيبر بالشهادة كما في روايات باب الزنا الّتي تقول: «حدّ الرجم يثبت بالشهادة على الزنا، أو على رؤية الزنا» لاشكّ في أنّها مستعملة بمعنى الإخبار لا بمعنى الحضور، فإنّ الشهادة بمعنى الحضور إنّما هي عند التحمّل، أمّا عند الأداء، فإنّما هي بمعنى الإخبار كما هو واضح.
الثاني - أن يقال: إنّ هناك موارد قد أمرت الشريعة فيها بالإشهاد بمعنى تحميل الشهادة كما في باب الطلاق وباب الدَين، قال اللّه - تعالى - بشأن الطلاق: ﴿وأشهدوا ذَوَيْ عَدْل منكم﴾(1). وقال - تعالى - بشأن الدَّين: ﴿واستشهدوا شهيدَيْنِ من رجالِكم، فإنْ لم يكونا رَجُلَيْنِ فرجلٌ وامرَأَتانِ ممَّن تَرْضَوْنَ من الشُّهداء﴾(2). والإشهاد هنا يمكن أن يكونَ مستبطناً لمعنى الحضور على ما هو أحد معنيي الشهادة، ونحن نعلم أنّ هذا الإشهاد مقدّمة لأداء الشهادة كما قال اللّه
', '(1) الطلاق، الآية، 2.
(2) البقرة، الآية، 282.
', 459), (14, 460, 'book', '
- تعالى - في الآية الأُولى عقيب ما مضى مباشرة: ﴿وَأَقيمواالشهادَةَ للهِ﴾وقال - تعالى - في الآية الثانية عقيب ما مضى مباشرة: ﴿أن تضلّ إحداهما، فتذكّر إحداهُما الأُخرى. ولايأب الشهداءُ إذاما دُعوا﴾.
وعليه فبناءً على حمل الشهادة هنا لدى التحمُّل على الحضور يثبت شرط الحضور في نفوذ الشهادة لدى الأداء في هذين الموردين، ويتمّ الكلام في باقي الموارد بعدم احتمال الفصل فقهيّاً. وبالإمكان أن يجعل هذا البيان تعميقاً للبيان الأوّل لأجل دفع الإشكال الثاني عنه.
ويرد عليه: أوّلا - أنّ الشهادة لدى التحمُّل ليست بمعنى الإخبار والإظهار كما هو واضح، فلا يحتمل في معنى الإشهاد الوارد في الآيتين عدا المعنى الآخر المستبطن - في ما هو المفهوم عنه عرفاً - للحضور. إذن فلو تمّ هذا الوجه لم نكن بحاجة إلى الرجوع الى أصالة عدم النفوذ؛ لأجل عدم الدليل على نفوذ الشهادة غير الحسّية كما يظهر من آخر كلامه، بل يجب أن نفترض هذا بنفسه دليلا على شرط الحسّ.
وثانياً - أنّ الأمر بالإشهاد في هذين الموردين - بمعنى الإحضار - لايدلّ على أنّ نفوذ الشهادة لدى الأداء مشروط بحصول الإشهاد والحسّ مسبقاً، صحيح أنّ الإشهاد كان مقدّمة لأداء الشهادة، لكن هذا لايدلّ على انحصار المقدّمة للشهادة النافذة بذلك، فلعلّ الأمر بالإشهاد جاء كاحتياط من قبل الشارع لضمان إمكانيّة أداء الشهادة بعد ذلك، أو كمقدمة لإيجاب الأداء عليه. نعم، فى خصوص باب الطلاق ثبت تعبّداً دخل الإشهاد في صحّة الطلاق، وهذا مطلب آخر، ولعلّه بحكمة التشديد في ذاك الاحتياط.
إذن فقد اتّضح أنّ كون كلمة الشهادة مستبطنة لمعنى الحضور لا دخل له فيما نحن فيه بأىّ وجه من الوجوه.
$
', '', 460), (14, 461, 'book', ' $
الذكورة
الشرط العاشر - الذكورة في الجملة، فشهادة المرأة في بعض الأُمور لا تنفذإطلاقاً، وفي بعض الأُمور لا تنفذ إلّا بشرط انضمام الرجل إليها في الشهادة، وفي بعضها تنفذ على الإطلاق على تفصيل في هذه الأُمور سيظهر - إن شاء اللّه -.
 $
القاعدة الأوّلية في شهادة النساء:
وأوّل نقطة نبحثها بهذا الصدد هي أنّه هل نفترض القاعدة الأوّليّة في شهادةالنساء عدم النفوذ، ثمّ نرى ما الذي خرج عن هذه القاعدة بالنصّ، وكلّما لم يثبت خروجه عنها نحْكم بعدم نفوذ شهادة النساء فيه، أو نفترض القاعدة هي النفوذ ونستثني منها ما خرج بالدليل ويبقى الباقي تحت كبرى النفوذ؟
لا ينبغي الإشكال في أنّ مقتضى الأصل هو عدم النفوذ إلّا ما خرج بالدليل، والإطلاقات من قبيل «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» و «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» غير تامّة لنفي قيدمّا، إلّا على أساس الإطلاق المقامي لا الحَكَمي على ما اتّضح في تضاعيف ما مضى. والإطلاق المقامي فيها إنّما يتمّ في قيد يكون مرفوضاً حسب الارتكازات المعاشة في الأجواء الإسلامية؛ ممّا يجعل الإنسان المتشرّع يفهم من الدليل الإطلاق، ويكون سكوت الإمام دليلا على إمضائه، وقيد الذكورة ليس من هذا القبيل، ففي زماننا هذاقد يعتير قيد من هذا القبيل في الأجواء الغربيّة خلاف المساواة بمعناها الفاسد الذي ينادى به في الغرب، ولكنّ الجوّ المتشرّعي الإسلامي خال من أمر من هذا القبيل.
وبهذه المناسبة لابأس بالإشارة إلى أنّ افتراض تفريق من هذا القبيل بين
', '', 461), (14, 462, 'book', 'الذكر والاُنثى ليس خلافاً للعدالة الاجتماعية في نظر الإسلام في المناصب كالقضاء لأمرين:
أحدهما - أنّ المناصب في نظر الإسلام ليست كراسي للفخر والاعتزاز وجرّ المنافع، بل هي مسؤوليّات بحتة.
وثانيهما - أنّ المسألة راجعة إلى توزيع المهامّ وفق القابليات. وقد مضى شرح لهذا الكلام فيما سبق في شرط الذكورة في القضاء، والذي اُريد أن أذكره هنا هو أنّ الأَمر في الشهادة أوضح؛ لأنّ الشهادة ليست منصباً ومقاماً حتى بالمنظار الذي يرى مثل القضاء منصباً ومقاماً، فهي أوضح في أنّها ليست عدا مسؤوليّة شرعيّة واجتماعيّة.
وعلى أىّ حال فجوّ متشرّعىّ مأنوس بالفرق بين الرجل والمرأة في القضاء والشهادة وإمامة الجماعة وغير ذلك لايتمّ فيه إطلاق مقامىّ فضلا عن جوّ صدر الإسلام قبل ما يعتاد الناس فيه على خلاف الجوّ الجاهلي الّذي لم يكن يعدّ المرأة مساوية للرجل في الإنسانيّة والكرامة.
فإذالم يتمّ إطلاق من هذا القبيل، كان مقتضى الأصل الأوّلي عدم نفوذ شهادة المرأة. يبقى أن نرى بعد ذلك هل هناك إطلاق في خصوص باب شهادة النساء يدلّ على نفوذ شهادتهنّ على الإطلاق؟ أو على عدم نفوذ شهادتهنّ على الإطلاق أوْلا؟ فإن ثبت الأوّل، أصبحت القاعدة الأوّلية نفوذ شهادة النساء إلّا ما خرج بالدليل. وإن ثبت الثاني، تأكّد كون القاعدة الأوّلية عدم النفوذ، وصعدت القاعدة من مستوى الأصل إلى مستوى الأمارة. وإن لم يثبت شيء من الإطلاقين، أو ثبت كلاهما وتعارضا وتساقطا، فمقتضى القاعدة هو الرجوع إلى الأصل الأوّلي، وهو عدم النفوذ إلّا ما خرج بالدليل. فهنا نبحث أوّلا عن أنّه هل يوجد إطلاق يدلّ على نفوذ شهادة النساء، أوْلا؟ وثانياً: عن أنّه هل يوجد إطلاق يدلّ على عدم نفوذ
', '', 462), (14, 463, 'book', 'شهادتهنّ، أوْلا؟ وثالثاً: عمّا ورد من الدليل في موارد خاصّة على نفوذ شهادة النساء أو عدم نفوذها.
أمّا فرض إطلاق يدلّ على نفوذ شهادة النساء، فالظاهر أنّه غير موجود. وهنا بعض روايات يمكن أن يتوهّم فهم الإطلاق منها لنفوذ شهادتهن، ولكن شيئاً من التأمّل يثبت عدم الدلالة على ذلك، وذلك من قبيل مايلي:
1 - ما عن عبدالكريم بن أبي يعفور - ولم ثبت وثاقته - عن أبي جعفر (عليه السلام)قال: «تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات معروفات بالستر والعفاف مطيعات للأزواج تاركات للبذا والتبرّج إلى الرجال في أنديتهم»(1).
ولكن من المحتمل كون النظر في هذا الحديث إلى بيان شرط قبول شهادة النساء، وهو كونهن بهذه المواصفات، أمّا أنّ شهادَتَهُنّ تقبل في أىّ مورد، ولاتقبل في أىّ مورد، فهذا خارج عن محلّ البيان.
2 - ما عن الحلبي - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال: تجوز شهادة الرجل لأمرأته، والمرأة لزوجها إذا كان معها غيرها»(2).
وهذا الحديث أوّلا: لا إطلاق له لمثل كثير من الحدود التي لا يتعقَّل أن تكون شهادتها فيها شهادة في صالح الزوج.
وثانياً: أنّ صياغة التعبير بعنوان الزوج والزوجة تدلّ على أنّ النظر كان إلى عدم إضرار علاقة الزوجيّة بنفوذ الشهادة، فمتى ما تنفذ شهادة المرأة بشأن غير الزوج تنفذ بشأن الزوج أيضاً إذا كان معها غيرها. أمّا أنّ شهادة المرأة تنفذ في أي
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 41 من الشهادات، ح 20، ص 294.
(2) الوسائل، ج 18، باب 25 من الشهادات، ح 1، ص 269.
', 463), (14, 464, 'book', '
شيء، ولا تنفذ في أي شيء؟ فهذا خارج عن محطّ نظر الحديث.
3 - ما عن سماعة - بسند تامّ - قال: «سألته عن شهادة الوالد لولده والولد لوالده والأخ لأخيه. قال: نعم. وعن شهادة الرجل لامرأته؟ قال: نعم. والمرأة لزوجها؟ قال: لا، إلّا أن يكون معها غيرها»(1).
ونفس الإشكالين واردان هنا، وورود الإشكال الثاني هنا أوضح منه في الحديث الأوّل، وذلك باعتبار ذكر الوالد والولد والأخ ممّا يوّضح أنّ نظر السائل كان إلى السؤال عن مدى تأثير القرابة والعلاقة في الإضرار بالشهادة لأجل ما تجلبها من التهمة.
4 - ما عن منصور بن حازم أنّ أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: «إذا شهد لطالب الحقّ امرأتان ويمينه فهو جائز»(2). والكلام في هذا الحديث تارةً يقع في سنده، وأُخرى في دلالته.
أمّا السند: فقد رواه الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن منصور بن حازم، وسند الصدوق إلى منصور بن حازم عبارة عن محمد بن علي ما جيلويه عن محمد بن يحيى العطّار عن محمّد بن أحمد عن محمد بن عبدالحميد عن سيف بن عميرة عن منصور ابن حازم، وهذا السند فيه محمد بن علي ماجيلويه، و لم تثبت وثاقته، إلّا أنّ الحديث رواه أيضاً الكليني عن بعض أصحابنا عن محمد بن عبدالحميد عن سيف بن عميرة عن منصور بن حازم قال: «حدّثني الثقة عن أبي الحسن (عليه السلام)»(3) وذكر نفس
', '(1) صدره وارد في الوسائل، ج 18، باب 26 من الشهادات، ح 4، ص 271. وذيله ورد في نفس نفس المجلّد، باب 25 من الشهادات، ح 3، ص 270.
(2) الوسائل، ج 18، باب 15 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 198.
(3) نفس المصدر، ح 4.
', 464), (14, 465, 'book', '
الحديث، والظاهر وحدة الحديثين و سقوط الواسطة بين منصور والإمام (عليه السلام)في النقل الأوّل. وعلى أىّ حال، فهذا السند أيضاً لا يتمّ لنا، لأننّا لم نعرف من أراده الكليني (رحمه الله) بكلمة (بعض أصحابنا).
ورواه الشيخ أيضاً بإسناده عن محمد بن عبدالحميد عن سيف بن عميرة عن منصور بن حازم قال: «حدّثني الثقة عن أبي الحسن (عليه السلام)»(1) وذكر نفس المتن، إلّا أنّ سند الشيخ إلى محمد بن عبدالحميد ضعيف بأبي المفضّل وابن بطّة. وأمّا محمد بن عبدالحميد - وهو واقع في كلّ هذه الأسانيد - فقد يستدلّ على وثاقته بعدة أُمور:
الأوّل - ما قاله النجاشي في ترجمته: «محمد بن عبدالحميد بن سالم العطّار أبو جعفر روى عبدالحميد عن أبي الحسن موسى، وكان ثقة من أصحابنا الكوفيّين له كتاب النوادر». فقد يستظهر من هذا التعبير رجوع التوثيق إلى محمد بن عبدالحميد، وذكر السيّد الخوئي أنّ التوثيق راجع إلى أبيه بقرينة العطف بالواو. وهذا الكلام صحيح.
والثاني - ما اعتمد عليه السيّد الخوئي في توثيقه من وروده في أسانيد كامل الزيارات. وهذا غير مقبول لدنيا.
والثالث - ما نعتمد عليه من رواية ابن أبي عُمير عنه.
وعلى أيّ حال فقد تبيّن أنّ سند الحديث في المقام غير تامّ.
وأمّا الدلالة: فإطلاق الحديث إنّما هو في دائرة المرافعة بقرينة كلمة «طالب الحق»، وبقرينة عطف اليمين على شهادة امرأتين.
5 - ما عن يونس عمّن رواه قال
«استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل
', '(1) نفس المصدر، ح 4، وباب 24 من الشهادات، ح 31، ص 264.
', 465), (14, 466, 'book', '
ويمين المدّعي...»(1).
وهذا الحديث ساقط بالإرسال وعدم انتهائه إلى المعصوم، ودلالته لا تتمّ أيضاً في غير دائرة المرافعة.
6 - ما عن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) في قوله - تعالى -: ﴿فإن لم يكونا رَجُلينِ فرجلٌ وامرأتان﴾ قال: «عدلت امرأتان في الشهادة برجل واحد، فإذا كان رجلان أو رجل وامرأتان أقاموا الشهادة، قضي بشهادتهم...»(2)، فقد يتمسك بإطلاق قوله (عليه السلام): «عدلت امرأتان في الشهادة برجل واحد»، أو قوله (عليه السلام): «قضي بشهادتهم»، ولكنّك ترى أنّه لا يتمّ الإطلاق في هذا الحديث بأكثر من مورد الآية الكريمة؛ حيث إنّه ورد بشأن تفسير الآية المباركة. وعلى أيّ حال فالحديث ساقط سنداً.
وهكذا اتّضح عدم تماميّة إطلاق لنفوذ شهادة المرأة، وهذا كاف في أن يثبت أنّ مقتضى القاعدة هو عدم نفوذ شهادة المرأة في غير ما ثبت نفوذ شهادتها بالدليل؛ لأنّ الأصل عدم النفوذ.
وأمّا ما يمكن حمله على عدم نفوذ شهادة النساء على الإطلاق إلّا ما خرج بالدليل فهو عدّة روايات، إلّا أنّ أكثرها خاصّ بشهادة النساء وحدهنّ؛ أي عند عدم انضمام شهادة الرجل إليهنّ، وهذه الإطلاقات كما يلي:
1 - ما عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - قال: «قال: لاتجوز شهادة النساء في الهلال ولا في الطلاق، وقال: سألته عن النساء تجوز شهادتهنّ؟ قال: نعم في
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 15 من كيفيّة الحكم، ح 2، ص 198، وباب 7 من كيفيّة الحكم، ح 4، ص 176.
(2)- الوسائل، ج 18، باب 15 من كيفيّة الحكم، ح 5، ص 176.
', 466), (14, 467, 'book', '
العذرة والنفساء»(1). فبما أنّ السؤال كان عن شهادة النساء على الطلاق وجاء الجواب بالجواز في العذرة والنفساء، فلا محالة يدلّ على عدم نفوذ شهادة النساء في كلّ ما ليس من قبيل العذرة والنفساء، أي كلّ ما لا تختصّ برؤيته النساء، وإنّما قلنا: إنّ الإطلاق خاصّ بشهادة النساء وحدهنّ وبلا رجال؛ لأنّ وضوح نفوذ شهادة النساء مع الرجال ولو في الجملة، وصراحة القرآن بذلك يعتبر كالقرينة المتّصلة الصارفة لإطلاق الحديث إلى شهادة النساء وحدهنّ وبلا رجال، ويكفينا احتمال ذلك لو فرض عدم الجزم به لعدم جريان أصالة عدم القرينة في الشكّ في قرينيّة الموجود في باب القرائن المتّصلة.
2 - ما عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه قال: «سألته عن المرأة يحضرها الموت وليس عندها إلّا امرأة أتجوز شهادتها، أم لا تجوز؟ فقال: تجوز شهادة النساء في المنفوس والعذرة»(2). فالجواب في المنفوس والعذرة عن سؤال راجع إلى غير المنفوس والعذرة يدلّ لا محالة على الحصر بالمنفوس والعذرة، أو ما لايمكن للرجل فيه المشاهدة، إلّا أنّ الحكم في مورد الحديث وهو الوصيّة مبتل بالمعارض، وسنجث - إن شاء اللّه - حال هذا التعارض عند بحثنا عن الروايات الواردة في الموارد الخاصّة.
وأمّا سند الحديث ففيه الحسين بن محمد عن معلّى بن محمد، ومعلّى بن محمد لم تثبت وثاقته، والسيّد الخوئي بنى على وثاقته لوقوعه في أسانيد كامل الزيارات وذكر: أنّ هذا لاينافي ما قاله النجاشي بشأنه من أنّه مضطرب الحديث والمذهب، أمّا اضطراب المذهب لو ثبت فلا يضرّ بوثاقته، وأمّا اضطراب الحديث فهو بمعنى أنّه
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 8، ص 260.
(2) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 14.
', 467), (14, 468, 'book', '
يروي ما يعرف وما ينكر، وهذا أيضاً لايضرّ بوثاقته.
أقول: إنّ وثاقة كلّ من ورد في أسانيد كامل الزيارات ممنوعة لدنيا.
أمّا الحسين بن محمد فقد روى عنه الكليني كثيراً، وفي بعض الموارد عبّر عنه بعنوان الحسين بن محمد بن عامر، وفي بعض الموارد بعنوان الحسين بن محمد بن عامر الأشعري. وقد روى النجاشي كتاب الحسين بن محمد بن عمران عن محمد بن محمد عن أبي غالب الزراري عن الكليني عن الحسين بن محمد بن عمران بن أبي بكر الأشعري، والظاهر أنّهما شخص واحد، وأنّ عنوان الحسين بن محمد بن عمران إسناد إلى الجدّ، لانّ عمران أبوعامر كما استدلّ السيّد الخوئي على ذلك بقول النجاشي في ترجمة عبداللّه بن عامر بن عمران: (أخبرنا الحسين بن عبيداللّه في آخرين عن جعفر بن محمد بن قولويه قال: حدّثنا الحسين بن محمد بن عامر عن عمّه عبداللّه بن عامر بن عمران) فإذا ثبت اتّحاد الرجلين، ثبتت وثاقة الحسين بن محمد بن عامر بشهادة النجاشي بوثاقة الحسين بن محمد بن عمران، ولو لم نقبل بالاتّحاد قلنا: كلاهما ثقة على أيّ حال: أمّا الثاني فلشهادة النجاشي. وأمّا الأوّل فلرواية جعفر بن محمد بن قولويه عنه في كامل الزيارات(1)، والقدر المتيقّن من شهادة جعفر بن محمد بن قولوية بوثاقة رواته في كامل الزيارات هو الراوي المباشر له.
3 - ما عن العلاء - بسند تامّ - عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «لا تجوز شهادة النساء في الهلال. وسألته هل تجوز شهادتهن وحدهنّ قال: نعم في العذرة والنفساء»(2). وهذا يعني عدم نفوذ شهادتهنّ وحدهنّ في ما يمكن للرجال الحضور
', '(1) كامل الزيارات، الباب 41، الحديث 5.
(2) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 18، ص 262.
', 468), (14, 469, 'book', '
فيه.
4 - ما عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - قال: «سألته: تجوز شهادة النساء وحدهنّ؟ قال: نعم في العذرة والنفساء»(1).
5 - ما عن عبدالرحمان قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن المرأة يحضرها الموت وليس عندها إلّا امرأة تجوز شهادتها؟ قال: تجوز شهادة النساء في العذرة والمنفوس، وقال: تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال»(2). وفي سند الحديث القاسم، وهو محمول على القاسم بن محمد الجوهري بقرينة رواية الحسين بن سعيد عنه، وهو ثقة لرواية بعض الثلاثة عنه. والحديث في مورده مبتلىً بالمعارض الدالّ على قبول شهادة النساء في الوصيّة، وفي ذيله أيضاً مبتلىً بالمعارض، وسنبحث حال التعارضين - إن شاء اللّه - عند بحثنا عن الروايات الواردة في الموارد الخاصّة. ويحتمل اتّحاد هذا الحديث مع الحديث الثاني؛ لاتّحاد المتن ما عدا الذيل الذي لم يكن موجوداً في ذاك الحديث، ولأنّ الراوي فيهما هو عبدالرحمان والراوي عنه فيهما هو أبان.
6 - ما له إطلاق في دائرة الشيء الكثير، وهو ما عن عبيد بن زرارة - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) تجوز شهادة المرأة في الشيء الذي ليس بكثير في الأمر الدون ولا تجوز في الكثير(3). ونصرف الحديث إلى شهادة النساء وحدهن بلا رجال بنفس القرينة التي ذكرناها سابقاً، إلّا أنّ تفصيله بين الأمر الدون والأمر
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 19، ص 262.
(2) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 21، ص 262، وج 13، باب 22 من أحكام الوصايا، ح 6، ص 397.
(3) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 22، ص 263.
', 469), (14, 470, 'book', '
الكثير - ممّا لعلّه لا قائل به - قد يكون قرينة لسقوط الحديث وردّ علمه إلى أهله.
7 - ما عن عبداللّه بن سنان، أو عبداللّه بن سليمان قال: «سألته عن امرأة حضرها الموت وليس عندها إلّا امرأة: أتجوز شهادتها؟ فقال: لاتجوز شهادتها إلّا في المنفوس والعذرة»(1). والراوي المباشر للإمام في التهذيب هو عبداللّه بن سنان، وفي الاستبصار هو عبداللّه بن سليمان، ولعلّ الثاني أقوى احتمالا؛ لأنّ الراوي عنه أبان، وقد شوهدت رواية أبان عن عبداللّه بن سليمان دون عبداللّه بن سنان. وعلى أيّ حال فعبداللّه بن سنان لاشكّ في وثاقته، وأمّا عبداللّه بن سليمان فقد روى عنه ابن أبي عُمير وصفوان بن يحيى في طريق الصدوق (رحمه الله) في مشيخة الفقيه إليه، وهذا دليل الوثاقة، إلّا أنّ هذا الاسم مشترك، وفي مشيخة الفقيه قد قصدبه عبداللّه بن سليمان الصيرفي، فإنّه الذي ذكر في الرجال له كتاب دون غيره، والمفروض أنّ الصدوق في الفقيه يروي عن كتاب عبداللّه بن سليمان، فيكون المقصود به الصيرفي، فإن قلنا بأنّه متى ما أُطلق هذا الاسم انصرف إلى عبداللّه بن سليمان الصيرفيلأنّه صاحب كتاب بخلاف غيره، تمّ سند الحديث في المقام؛ لانصراف هذا الاسم في هذا الحديث إلى الصيرفي الذي قد روى عنه ابن أبي عُمير وصفوان بن يحيى. هذا، والحديث في مورده مبتلىً بالمعارض، وسيبحث - إن شاء اللّه - في الروايات الخاصّة.
8 - ما عن محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام) فيما كتب إليه من العلل: وعلّة ترك شهادة النساء في الطلاق والهلال لضعفهنّ عن الرؤية ومحاباتهنّ النساء في الطلاق، فلذلك لاتجوز شهادتهنّ إلّا في موضع ضرورة مثل شهادة القابلة وما لا يجوز
', '(1) نفس المصدر، ح 24، ص 263. وج 13، باب 22 من أحكام الوصايا، ح 7، ص 397.
', 470), (14, 471, 'book', '
للرجال أن ينظروا إليه...(1) والحديث ساقط سنداً.
9 - مرسلة تحف العقول عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) قال: «وأمّا شهادة المرأة وحدها التي جازت فهي القابلة جازت شهادتها مع الرضا، فإن لم يكن رضا فلا أقلّ من امرأتين، تقوم المرأة بدل الرجل للضرورة؛ لأنّ الرجل لايمكنه أن يقوم مقامها، فإن كانت وحدها، قبل قولها مع يمينها»(2). فقوله: «أمّا شهادة المرأة وحدها التي جازت فهي القابلة...» قد يدلّ بالحصر على عدم قبول شهادة المرأة وحدها في غير مثل القابلة، والحديث ساقط سنداً، إضافة إلى اشتماله على مضمون غريب.
10 - ما عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن عليّ (عليه السلام) أنّه كان يقول: «شهادة النساء لاتجوز في طلاق ولانكاح ولا في حدود إلّا في الديون، وما لايستطيع الرجال النظر اليه»(3). وهذا الحديث ميزته عن الأحاديث السابقة أنّ إطلاقه يشمل حتى شهادة النساء مع الرجال. توضيح ذلك: أنّه نفى أوّلا نفوذ شهادة النساء في الطلاق والنكاح والحدود، وإلى هنا لايتمّ إطلاق، ولكنّ استثناءه للديون وما لا يستطيع الرجال النظر إليه الذي قد يبدو في الذهن كونه استثناءً منقطعاً يكون عرفاً - بقرينة كون الاستثناء المنقطع خلاف الأصل - دالّا على أنّ ذكر الطلاق والنكاح والحدود كان بعنوان المثال، وأنّ المقصود عدم نفوذ شهادة النساء مطلقاً إلّا في الديون وما لا يستطيع الرجال النظر اليه، وبما أنّ شهادة النساء في الديون إذا كانت مع شهادة الرجال تنفذ بصريح القرآن؛ إذن فالمستثنى منه يشمل شهادة
', '(1) نفس المصدر، ح 50، ص 269.
(2) نفس المصدر، ح 51، ص 269.
(3) نفس المصدر، ح 42، ص 267.
', 471), (14, 472, 'book', '
النساء مع الرجال أيضاً.
وابتلاؤه في نفوذ شهادة النساء في النكاح بالمعارض، أو حمله على التقيّة - كما سيأتي بحثه إن شاء اللّه - لعلّة لايضرّ بالأخذ بالمفاد الآخر للحديث، وهو إطلاق عدم قبول شهادة النساء.
ولكنّ العيب المهمّ في الحديث هو أنّه قد وقع في سنده بنان بن محمد، ولا دليل على وثاقته عدا وروده في أسانيد كامل الزيارات، وهو غير كاف عندنا للتوثيق.
وعليه فلم يتمّ لدنيا إطلاق لنفي نفوذ شهادة النساء إلّا في شهادة النساء وحدهن وبلا رجال؛ إذن فبالنسبة لشهادتهنّ مع الرجال يكون المرجع عند الشكّ هو أصالة عدم النفوذ.
لايقال: إنّ المرجع هو الارتكاز العقلائي الذي لايفرّق في ذلك بين الرجال والنساء، كما هو مشاهد في المجتمع الغربي غير المتديّن بدين الإسلام ممّا يشهد على أنّ الفرق بينهما إنّما هو فرق شرعيّ ومتشرّعيّ. أمّا بحسب الذوق العقلائي فلا فرق في ذلك بينهما، والارتكاز أو السيرة العقلائيان يكونان حجّة ما لم يردع عنهما، ففي موارد عدم وصول الردع نتمسّك بهما لإثبات نفوذ شهادة النساء ولا نتمسك بأصالة عدم النفوذ.
فإنّه يقال: أوّلا - إنّ ارتكازاً عقلائياً من هذا القبيل لم يكن ثابتاً في الجوّ العقلائي المكتنف بالنصوص في عصر صدور النصوص، فإنّ العقلاء غير المتشرّعين آنئذ لم يكونوا يعترفون بأبسط الحقوق البشريّة للنساء، وقد جاء الإسلام واهتمّ بحقوق النساء وقال: ﴿أَنّي لا أُضيع عمل عامل منكُم من ذكر أو أُنثى﴾(1)، وأثبت لهنّ كامل حقوقهنّ، وجعلهنّ في النصاب المفروض لهنّ من قبل اللّه - تعالى - أمّا
', '(1) سورة 3 آل عمران الآية 195.
', 472), (14, 473, 'book', '
المساواة - بالمعنى المزيّف المنادى به اليوم في الغرب - فلم تكن أمراً يتحدّث عنه وقتئذ لدى المجتمع الجاهلي الذي بزغ فيه نور الإسلام.
وثانياً - أنّه لو افترضنا وجود مستوىً من الارتكاز العقلائي وقتئذ من هذا القبيل، فلا شكّ في أنّه لم يؤثّر على جوّ المتشرّعين في قضاياهم الشرعية وهم يألفون فوارق من هذا النمط بين الرجال والنساء في الجمعة والجماعة والجهاد وغير ذلك من دون أن يروا أنّ في ذلك حيفاً بحقوق المرأة والعدالة بمعناها الصحيح. وقد نقّحنا في علم الأُصول أنّ عدم الردع إنّما يدلّ على إمضاء السيرة العقلائيّة حينما تشكّل - على تقدير عدم موافقتها لرأي الشريعة - خطراً على أغراض الشريعة، وفي المقام لم تشكّل خطراً عليها.
وثالثاً - أنّ عدم صدور الردع غير معلوم؛ إذن من المحتمل صدور الردع ووصوله إلينا ضمن الأحاديث الماضية وإن ابتُليَ بمرور الزمن بالغموض سنديّاً أو دلاليّاً، وليست السيرة - لو سلّمنا بها - بتلك المستوى من القوّة بحيث نجزم بأنّها لو لم تكن مطابقة لرأي الشريعة لاشتدّ الردع عنها إلى حدٍّ كان يصلنا بكامل الوضوح.
هذا تمام الكلام فيما هو مقتضى القاعدة عند الشكّ في نفوذ شهادة النساء.
وأمّا الروايات الخاصّة الواردة في الموارد الخاصّة الدالّة على عدم نفوذ شهادة النساء أو نفوذها، فهي واردة في عدّة موارد:
 $
شهادة المرأة في الحدود:
المورد الأوّل - الحدود: فقد ورد فيها ما يدلّ على عدم نفوذ شهادة النساءفيها، ما عدا الزنا الذي ورد بشأنه بشكل خاصّ ما يدلّ على نفوذ شهادة النساء على تفصيل في ذلك:
$
', '', 473), (14, 474, 'book', 'فقد ورد عن جميل بن دراج ومحمد بن حمران - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قلنا: أتجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: في القتل وحده، إنّ عليّاً (عليه السلام)كان يقول: لا يَبطل دم امرىء مسلم»(1). ولعلّ استثناء القتل قرينة على أنّ المقصود بالحدود في هذا الحديث ما يشمل باب القصاص والديات.
وعن غياث بن إبراهيم - بسند تامّ - عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علىّ (عليه السلام) قال: «لاتجوز شهادة النساء في الحدود ولافي القَوَد»(2).
وعن موسى بن إسماعيل عن أبيه إسماعيل بن موسى بن جعفر عن آبائه عن علىّ (عليه السلام) قال: «لاتجوز شهادة النساء في الحدود ولاقود»(3). ولادليل على وثاقة موسى بن إسماعيل وأبيه عدا ورود هما في أسانيد كامل الزيارات، وهذا غير كاف عندنا. والراوي عن موسى بن إسماعيل هو محمد بن محمد بن الأشعث وهو ثقة، والراوي عنه عبيداللّه بن الفضل بن محمد بن هلال، وقد ثبت توثيقه برواية جعفر ابن قولويه مباشرة عنه في كامل الزيارات.
وقد مضى حديث السكوني المشتمل على عدم نفوذ شهادة النساء في الحدود، وقلنا: إنّه ضعيف سنداً ببنان بن محمد.
والكلام تارةً يقع فيما يعارض هذه الأحاديث، وأُخرى فيما ورد في الحديث الأوَّل من استثناء القتل، وثالثة في استثناء الزنا.
$
', '(1) نفس المصدر، ح 1، ص 258. و ج 19، باب 2 من دعوى القتل، ح 1، ص 104.
(2) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 29، ص 268. و ج 19، باب 2 من دعوى القتل، ح 7، ص 105.
(3) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 30، ص 264، وج 19، باب 2 من دعوى القتل، ح 8، ص 105.
', 474), (14, 475, 'book', '
أمّا ما يعارض هذه الأحاديث فهو ما مضى عن أبان عن عبدالرحمان قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن المرأة يحضرها الموت وليس عندها إلّا امرأة، تجوز شهادتها؟ قال: «تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال»(1). وقد يكون مقتضى الجمع العرفي بين هذا الحديث والأحاديث السابقة هو التقييد؛ لأنّ مقتضى إطلاق الأحاديث السابقة عدم قبول شهادة النساء في الحدود مطلقاً، وهذاالحديث دلّ على قبول شهادة النساء في الحدود إذا كان معهنّ رجال، فهذا أخصّ من تلك.
وذكر السيد الخوئي: أنَّ ذيل الحديث وهو قوله: «وقال: تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال» غير ثابت؛ لأنّه وإنْ نقله الشيخ - بسنده إلى الحسين بن سعيد - عن القاسم عن أبان عن عبدالرحمان، ولكنّ نفس الحديث رواه الكليني بسند معتبر عن أبان عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه(2) من دون هذا الذيل، ورواه أيضاً الشيخ- بسنده إلى الحسين بن سعيد - عن فضالة عن أبان عن عبداللّه بن سنان في التهذيب وعبداللّه بن سليمان في الاستبصار(3)، ومتن الرواية واحد في الجميع، فالأمر يدور بين الزيادة والنقيصة، ومن البعيد افتراض أنّ أبان يرويها تارةً مع الذيل وأُخرى بدونه، مضافاً إلى أنّ الكليني أضبط في الر واية من الشيخ، و لاسيّما أنّ روايته مؤيّدة برواية الشيخ نفسه(4).
ولعلّه يشير بقوله: «إن رواية الكليني مؤيّدة برواية الشيخ نفسه» إلى أنّ الشيخ (رحمه الله) قد روى نفس الرواية عن الكليني من دون الذيل.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 21، ص 262.
(2) وهو الحديث الثاني مما مضى من أحاديث عدم نفوذ شهادة النساء.
(3) وهو الحديث الخامس مما مضى من أحاديث عدم نفوذ شهادة النساء.
(4) مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 123.
', 475), (14, 476, 'book', '
أقول: إنّ مجرّد كون الراوي عن عبداللّه بن سنان، أو عبداللّه بن سليمان وعن عبدالرحمان هو أبان مع وحدة المتن لايدلّ على أنّهما رواية واحدة، بل الظاهر أنّهما روايتان؛ لأنّ عبدالرحمان ينسب السؤال عن الإمام إلى نفسه، وعبداللّه بن سنان أو سليمان أيضاً ينسب السؤال إلى نفسه على أنّنا لم نعرف أنّ أبان في الروايتين شخص واحد. وأمّا رواية الكليني عن عبدالرحمان فإنّما وصفها السيد الخوئي باعتبار السند؛ لأنّه بنى على وثاقة معلّى بن محمّد الوارد في أثناء السند لوروده في أسانيد كتاب كامل الزيارات. أمّا على مبنانا فلم تثبت وثاقته، وبالتالي يكون السند ساقطاً، ولو سلّمنا سلامة السند، وسلّمنا وحدة الرواية مع رواية عبداللّه بن سنان أو سليمان، فكون المقام من موارد دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة ممنوع، فإنّ الذيل جملة مستقلّة برأسها، ولعلّها رواية مستقلّة سمعها الراوي في مجلس آخر، فاستبعاده لذكرها تارةً وحذفها أُخرى في غير محلّه.
وعلى أىّ حال فالصحيح هو ردّ علم هذا الذيل إلى أهله؛ إذ لاكلام فقهيّاً بين الأصحاب في عدم نفوذ شهادة النساء في الحدود غير الزنا الذي سيأتي الحديث عنه - إن شاء اللّه - كما قال السيد الخوئي: «إنّه لا عامل به منّا، فهو شاذ لا بدّ من ردّ علمه إلى أهله»(1) وهذا يوجب إمّا القطع ببطلانه، أو تشكيل قرينة عرفية معتدّبها نوعيّاً وعقلائياً ضدّ صحّة الحديث على تقدير إرادة ما يظهر منه، ممّا يسقطه عن الحجّيّة.
وأمّا القتل فقد مضى حديث جميل ومحمد بن حمران الدالّ على نفوذ شهادة النساء في القتل، ويعارضه ما دلّ على نفي ذلك من قبيل: ما عن ربعي - بسند تامّ -
', '(1) مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 123.
', 476), (14, 477, 'book', '
عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لاتجوز شهادة النساء في قتل»(1). وماعنه - بسند تامّ أيضاً - عن محمد بن مسلم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان لم يجز في الرجم، ولاتجوز شهادة النساء في القتل»(2). وكون الجزء الأوّل من الحديث خلاف المتسالم عليه عندناً، أو حمله على التقيّة مثلا قد لا يضرّ بحجّيّة الجزء الثاني منه.
وقد جمع السيد الخوئي بين الطائفتين بحمل الأُولى على إثبات الدِيَة والثانية على نفي القَوَد، وذلك بقرينة رواية غياث بن إبراهيم الماضية النافية لنفوذ شهادة النساء في القَوَد. وهذا مبتن على مبنى انقلاب النسبة بأنْ يُقيَّد بذلك حديث إثبات القتل، فيختصّ بالدِيَة ويصبح مقيِّداً لحديث عدم ثبوت القتل بشهادة النساء.
ويمكن تتميم المطلب حتى على عدم القول بانقلاب النسبة، وذلك بأن ندخل في الحساب ما دلّ على نفوذ شهادة النساء في القتل بلحاظ الدِيَة من قبيل ما عن محمد بن قيس - بسند تامّ - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في غلام شهدت عليه امرأة أنّه دفع غلاماً في بئر فقتله، فأجاز شهادة المرأة بحساب شهادة المرأة»(3). وما عن عبداللّه بن الحكم - بسند غير تامّ - قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن امرأة شهدت على رجل أنّه دفع صبيّاً في بئر فمات، قال: على الرجل ربع دِيَة الصبي بشهادة المرأة»(4). وعلى هذا نقول: إنّ ما دلّ على ثبوت
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 27، ص 263. وج 19، باب 2 من دعوى القتل، ح 6، ص 105.
(2) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 28، ص 264.
(3) نفس المصدر، ح 26، ص 263.
(4) نفس المصدر، ح 33، ص 265.
', 477), (14, 478, 'book', '
القتل بشهادة النساء يقيَّد بما دلّ على نفي القَوَد، وما دلّ على نفي ثبوت القتل بشهادة النساء يقيَّد بما دلّ على ثبوت الدِيَة. فالنتيجة هي التفصيل بين الدِيَة والقَوَد.
بل بالإمكان أن يقال: إنّ حديث جميل بن دراج ومحمد بن حمران الدالّ على ثبوت القتل بشهادة النساء لايدلّ على أكثر من ثبوت الدية، وذلك بقرينة ذيله وهو التعليل بأنّه لا يبطل دم امرىء مسلم، فهذا التعليل يناسب التنزّل إلى الدية، لا تصعيد شهادة النساء إلى مستوى القبول المطلق كي لا يبطل دم المقتول؛ إذ فيه خطر بطلان دم المتّهم بالقتل الذي هو مسلم أيضاً. وقد تنبّه إلى هذه القرينة الشيخ الطوسي (رحمه الله) في التهذيب(1)والاستبصار(2).
بل إنّ روايات عدم ثبوت القتل بشهادة النساء مجملة، ولاتدلّ أيضاً على أكثر من نفي القَوَد، فإن قوله: «لاتجوز شهادة النساء في القتل» كما يحتمل فيه إرادة عدم نفوذ شهادة النساء على القتل كذلك يحتمل فيه إرادة عدم نفوذ شهادة النساء في مشروعيّة قتل المتّهم، سنخ روايات عدم نفوذ شهادة النساء في القَوَد أو في الرجم، أي في مشروعيّة القَوَد أو الرجم.
بقي الكلام في ما دلّ على نفوذ شهادة النساء في الدم مع الرجال: كحديث أبي الصباح الكناني - بسند فيه محمد بن الفضيل - عن أبي عبداللّه (عليه السلام)قال: «قال علىّ (عليه السلام): شهادة النساء تجوز في النكاح، ولاتجوز في الطلاق، وقال: إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان جاز في الرجم، وإذا كان رجلان وأربع نسوة لم تجز وقال: تجوز شهادة النساء في الدم مع الرجال»(3)، وحديث زيد الشّحّام - بسند فيه المفضّل بن
', '(1) ج 6، ذيل الحديث 711.
(2) ج 3، ذيل الحديث 82.
(3) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 25، ص 263.
', 478), (14, 479, 'book', '
صالح - قال: «سألته عن شهادة النساء. قال: فقال: لاتجوز شهادة النساء في الرجم إلّا مع ثلاثة رجال وامرأتين، فان كان رجلان وأربع نسوة فلا تجوز في الرجم. قال: فقلت: أفتجوز شهادة النساء مع الرجال في الدم؟ قال نعم»(1)، وحديث أحمد بن محمد بن أبي نصير - بسند تامّ - قال: «... لاتجوز شهادة النساء في الطلاق، وقد تجوز شهادتهنّ مع غير هنّ في الدم إذا حضرنه ...»(2) فقد يقال: إنّ هذه الروايات تقدّم على ما مضى ممّا دلّ على عدم نفوذ شهادة النساء في القتل بالأخصّية؛ لأنّ تلك الروايات تمنع عن قبول شهادة النساء في القتل مطلقاً، وهذه الروايات تدلّ على قبول شهادتهنّ في ذلك مع الرجال، أو بالأحرى رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر هي الّتي تقدّم في المقام؛ لأنّ ما قبلها من الروايتين غير نقيّتين سنداً، فلا إشكال في سقوط سند الرواية الأُولى بمحمد بن الفضيل لتضعيف الشيخ إيّاه، ولاتثبت وثاقته برواية بعض الثلاثة عنه؛ لأنّ هذا التوثيق إذا سقط بالتعارض مع تضعيف الشيخ أصبح الرجل بلا توثيق. وأمّا سند الرواية الثانية ففيه المفضل بن صالح، وهو أيضاً روى عنه بعض الثلاثة، ولكن ذكر النجاشي في ترجمة جابر بن يزيد: أنّه (روى عنه جماعة غمّز فيهم وضعّفوا منهم عمرو بن شمر ومفضل بن صالح ومنخل بن جميل ويوسف بن يعقوب)، فإن قلنا: إنّ هذا التعبير - أي التعبير بصيغة المجهول في (غمّز) و (ضعّفوا) - يشعر بالشكّ والترديد من قبل النجاشي في ضعفه - كما قال الشيخ عرفانيان(3) - حيث لم يقل: (هم ضعفاء)، أو على الأقلّ يمنع عن دلالة العبارة على تضعيفه، فقد تبقى دلالة نقل بعض الثلاثة عنه على وثاقته بلا معارض. وإن قلنا: إنّ
', '(1) نفس المصدر، ح 32، ص 264.
(2) الوسائل، ج 15، باب 10 من مقدّمات الطلاق وشرائطه، ح 4، ص 282.
(3) كتاب مشايخ الثقات ص 202.
', 479), (14, 480, 'book', '
هذا التعبير يدلّ على مسلّميّة ضعف هؤلاء أي أنّه إنّما جيء بهذه الصيغة لأنّ التضعيف لم يكن خاصاً به، وإنّما التضعيف هو الشيء المعروف المألوف بشأنهم، كما استظهر ذلك السيّد الخوئي في معجم الرجال في ترجمة المفضّل بن صالح؛ إذن فالتوثيق المستفاد من رواية بعض الثلاثة عنه يسقط بالتعارض مع هذا الكلام، وبالتالي لا يبقى دليل على وثاقته.
هذا، وحمل عبارة النجاشي في المقام على الشكّ والترديد ينافي تصريحه بضعف عمرو بن شمر ومنخل بن جميل ويوسف بن يعقوب في تراجمهم، بل صرّح في عمرو بن شمر بأنّه ضعيف جدّاً، و في منخل بن جميل بأنّه ضعيف فاسد الرواية، فإمّا أن يحمل على ما قاله السيّد الخوئي، أو يقال بالإجمال و عدم الدلالة على الضعف، ولا على التشكيك في الضعف. وعلى أىّ حال فلو لم يتمّ سند هذا الحديث فلا إشكال في تماميّة سند الرواية الأخيرة، وهي رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر، فقد يقال: إنّها تقدّم على ما دلّ على عدم نفوذ شهادة النساء في القتل بالأخصّية، فينتج ثبوت القتل قصاصاً وديةً بشهادة النساء مع الرجل.
إلّا أنّ هناك مالا يمكن حمله على هذا المعنى لكونه كالتصريح في عدم نفوذ شهادة النساء في الدم حتى مع الرجال من قبيل ما ورد عن أبي بصير قال: «سألته عن شهادة النساء فقال: تجوز شهادتهنّ وحدهنّ على مالايستطيع الرجال النظر إليه، وتجوز شهادة النساء في النكاح إذا كان معهنّ رجل، ولاتجوز في الطلاق ولا في الدم، غير أنّها تجوز شهادتها في حدّ الزنا إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، ولا تجوز شهادة رجلين وأربع نسوة»(1). فذكر عدم جواز شهادة النساء في الدم في مقابل جواز شهادتهنّ مع الرجل في بعض الأُمور كالتصريح في عدم جواز شهادتهنّ في
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 4، ص 258 و 259.
', 480), (14, 481, 'book', '
الدم حتى مع الرجل. أمّا سند الحديث، ففيه علىّ بن أبي حمزة البطائني، فلو قلنا بوثاقته تمّ السند، وإلّا فلا. ومثله ما ورد عن إبراهيم الخارقي أو الحارثي - ولم يوثّق - قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه ويشهدوا عليه، وتجوز شهادتهنّ في النكاح، ولاتجوز في الطلاق ولا في الدم، وتجوز في حدّالزنا إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، و لاتجوز إذا كان رجلان وأربع نسوة، ولا تجوز شهادتهنّ في الرجم»(1). وما عن محمد بن الفضيل - وقد تقدّم عدم ثبوت وثاقته- قال: «سألت أباالحسن الرضا (عليه السلام) قلت له: تجوز شهادة النساء في نكاح أو طلاق أو رجم؟ قال: تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه وليس معهنّ رجل، و تجوز شهادتهنّ في النكاح إذا كان معهن رجل، وتجوز شهادتهنّ في حدّ الزنا إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، ولا تجوز شهادة رجلين وأربع نسوة في الزنا والرجم، ولا تجوز شهادتهنّ في الطلاق ولا في الدم»(2). وقد ورد حديث صريح في عدم نفوذ شهادة النساء مع الرجال في الدم، إلّا أنّه غير تامّ سنداً، وهو ما عن زرارة بسند فيه سهل بن زياد ومثنّى الحنّاط قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ قال: نعم، ولاتجوز في الطلاق، قال: وقال: علىّ (عليه السلام) تجوز شهادة النساء في الرجم إذا كان ثلاثة رجال وأمرأتان، وإذا كان أربع نسوة ورجلان، فلا يجوز الرجم. قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجال في الدم؟ قال: لا»(3). وسهل بن زياد لم تثبت وثاقته. ومثنّى الحنّاط محتمل الانطباق على ثلاثة: ابن راشد وابن عبدالسلام وابن الوليد، وقد روى بعض الثلاثة الذين
', '(1) نفس المصدر، ح 5، ص 259.
(2) نفس المصدر، ح 7، ص 259 و 260.
(3) نفس المصدر، ح 11، ص 260 و 261.
', 481), (14, 482, 'book', '
لايروون إلّا عن ثقة عن الأوّل وعن الثالث، وروى بعض الثلاثة أيضاً عن مثنّى الحنّاط بهذا العنوان القابل للانطباق على الأوّل أو الثالث، فلاجزم بانطباقه على الثاني، ولم نَر رواية عن أحد الثلاثة عن مثنّى بن عبدالسلام. نعم، نقل الكشّي عن العياشي عن عليّ بن الحسن ما يدلّ على توثيقه و توثيق الثالث، والسيّد الخوئي القائل بوثاقة كلّ من ورد في أسانيد كامل الزيارات بنى على وثاقة من يرد بعنوان مثنّى الحنّاط؛ لأنّه ورد بهذا العنوان في أسانيد كامل الزيارات(1). وهذا مبتن على أنّ
', '(1) أشرنا كراراً إلى أنّ مجرد ورود شخص في أسانيد كامل الزيارات غير كاف لدنيا لإثبات الوثاقة.
والدليل على كفاية ذلك ما جاء في أوّل كامل الزيارات من قوله: «وقد علمنا بأنّا لانحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، ولكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم اللّه برحمته ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال يؤثر ذلك عنهم عن المذكورين غير المعروفين بالرواية المشهورين بالعلم والحديث» ووجه الاستدلال بذلك إن كان ذيله فهو لايدلّ على أكثر من الالتزام بكون من يقع في سند حديثه مشهوراً بالعلم والحديث وغير شاذّ، وهذا يجتمع مع الضعف كما في سهل بن زياد. وإن كان صدره فيكفي في صدق عنوان ما وقع لنا من جهة الثقات وثاقة شيخه المباشر. وإن كان هو نكتة أنّه لو لاكون هدفه الاقتصار على الروايات الصحيحة فلا فائدة في وثاقة الشيخ أو عدم كون الراوي شاذّاً، فالجواب أوّلا أنّ هذا مستوىً من القوّة للرواية، فلعلّه كان يرغب أن لاتكون روايات كتابه في غاية الضعف، وثانياً أنّه لعلّه كان يعتقد أنّ ما يصله من الروايات من مشايخه الثقات ممّا لم يقع في سنده إنسان شاذّ غير مشهور بالعلم والحديث هي روايات صحيحة، والإيمان بصحة الرواية وقتئذ لم تكن تلازم الشهادة بوثاقة رواتها. ولهذا ومثله نرى أنّ السيّد علي بن طاووس (رحمه الله) التزام في أوّل كتابه (فلاح السائل) بأنْ لايروي فيه إلّا عن مشايخ ثقات مع تصريحه بعدم الالتزام بذلك بالنسبة لباقي من يقع في سند الحديث، فراجع.
', 482), (14, 483, 'book', '
لانحتمل حذف ما يشخّص أحدَ الأشخاص الثلاثة من قبل ابن قولويه نفسه.
وعلى اى حال فنحن وان كنا نبني على وثاقة مثنى الحناط بكل محتملاته لرواية بعض الثلاثة عن بعضهم وورد التوثيق للبعض الآخر فى رجال الكشّي ولكن يكفي في سقوط السند في المقام وجود سهل بن زياد.
هذا. ويعارض أيضاً حديث البزنطي في المقام ما مضى من حديث نفي نفوذ شهادة النساء في القَوَد؛ إذ لا يمكن تقييده بحديث البزنطي؛ إذ لو كان حديث البزنطي خاصّاً بشهادة النساء مع الرجال، فهو أخصّ من حديث نفي القَوَد الشامل لشهادة النساء وحدهنّ وشهادتهنّ مع الرجال، كذلك حديث نفي القَوَد خاصّ بنفي القصاص، بينما حديث البزنطي قابل للحمل على ثبوت الدية فكأنّهما متعارضان بالعموم من وجه.
بل إنّ تقديم حديث البزنطي على روايات نفي نفوذ شهادة النساء في القتل بالأخصّية أيضاً غير واضح؛ لما عرفت من احتمال كون المقصود بها هو عدم نفوذ شهادتهنّ في القَوَد، فالتعارض بينه وبينها كالتعارض بالعموم من وجه.
والجمع بين حديث نفوذ شهادة النساء مع الرجال في الدم وحديث نفي نفوذها فيه بحمل الأوّل على الدية وحمل الثاني على نفي القصاص بدعوى تأويل ظهور كلّ منهما بنصّ الآخر غير عرفي، سنخ حمل الأمر والنهي المتعارضين على الإباحة، ولو استحكام التعارض فالمرجع بعد التساقط في شهادة النساء في الدم مع الرجال بالنسبة لثبوت القصاص ما عرفته من أنّ مقتضى الأصل هو عدم نفوذ شهادة النساء. وأمّا بالنسبة للدية، فإنْ كانت الشهادة على القتل غير العمدي، ثبتت الدية الكاملة بشهادة امرأتين ورجل؛ لأنّ هذا داخل في إطلاق حديث البزنطي وحديث البزنطي في هذه الحصة من دلالته لا معارض له بناءً على عدم، نقاء سند
', '', 483), (14, 484, 'book', 'الروايات الواردة بعنوان عدم نفوذ شهادة النساء مع الرجال في الدم، أمّا لو قلنا بتماميّة بعضها سنداً فقد بطل هذا التقريب لإثبات الدية، ولكن يبقى تقريب آخر لأثبات الدية يشمل الشهادة على القتل العمدي وغير العمدي، وهو التمسّك بما دلّ على نفوذ شهادة النساء في دية القتل بناءً على أنّه لايحتمل كون رجل وامرأتين أضعف حالا من أربع نساء.
وأمّا الزنا، فشهادة اثنتين من النساء عليه بضمّ شهادة ثلاثة رجال تكفي في ثبوت حدّ الزنا حتى الرجم، وشهادة أربع نساء بضمّ شهادة رجلين تكفي الجلد فحسب ولا تثبت الرجم، كما دلّ على كل ذلك ما عن الحلبي - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّه سئل عن رجل محصن فجر بامرأة، فشهد عليه ثلاثة رجال وامرأتان وجب عليه الرجم، وان شهد عليه رجلان وأربع نسوة فلا تجوز شهادتهم، ولا يرجم، ولكن يضرب حدّ الزاني»(1). فهذا الحديث صريح في كلّ الأحكام الثلاثة أعني:
1 - نفوذ شهادة امرأتين مع ثلاثة رجال في الزنا حتى الرجم.
2 - عدم نفوذ شهادة أربع نساء ورجلين في الرجم.
3 - نفوذ شهادة أربع نساء ورجلين في الجلد.
وبعض الروايات صرّحت بالأوّل والثاني دون الثالث من قبيل بعض الروايات الماضية، ومن قبيل ما ورد بسند تامّ عن الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام)قال: «سألته عن شهادة النساء في الرجم فقال: إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، وإذا كان رجلان وأربع نسوة لم تجز في الرجم»(2). وما ورد - أيضاً بسند تامّ - عن
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 30 من حدّ الزنا، ص 401.
(2) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 3، ص 258.
', 484), (14, 485, 'book', '
عبداللّه بن سنان قال: «سمعت أباعبداللّه (عليه السلام) قال: لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال، ولا يجوز في الرجم شهادة رجلين وأربع نسوة، ويجوز في ذلك ثلاثة رجال وامرأتان، وقال تجوز شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال في كلّ ما لا يجوز للرجال النظر إليه، وتجوز شهادة القابلة وحدها في المنفوس»(1).
وما تقدّم من روايات عدم نفوذ شهادة النساء في الحدود يقيّد إطلاقها بهذه الروايات، كما أنّ ما تقدّم في حديث أبي بصير من قوله: «ولا تجوز شهادة رجلين وأربع نسوة» الدالّ بإطلاقه على عدم نفوذها لافي الرجم ولا في الجلد يقيّد بما عرفته من حديث الحلبي المشتمل على قوله: «ولكن يضرب حدّ الزاني».
نعم، ورد حديث تامّ السند يدلّ على عدم نفوذ شهادة ثلاثة رجال وامرأتين في الرجم، وهو ما مضى من حديث ربعي عن محمد بن مسلم عن أبي عبداللّه (عليه السلام)قال: «إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان، لم يجز في الرجم...»(2) . فهذا يعارض روايات نفوذها في الرجم، ويتعيّن حمله على التقيّة لموافقته لمذهب العامّة.
ومن الغريب ما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) في الخلاف من قوله: (روى أصحابنا أنّه يجب الرجم بشهادة رجلين وأربع نسوة، وثلاثة رجال وامرأتين، ويجب الحدّ دون الرجم بشهادة رجل واحد وست نسوة)(3). والظاهر أنّ هذا سهومنه - رضوان اللّه عليه -.
 $
$
', '(1) نفس المصدر، ح 10، ص 260.
(2) نفس المصدر، ح 28، ص 264.
(3) الخلاف، ج 3، ص 325 و 326.
', 485), (14, 486, 'book', '
 $
شهادة المرأة فيما لايجوز للرجل النظر إليه:
المورد الثاني - ما لا يستطيع الرجال النظر إليه، فقد وردت فيه رواياتعديدة تدلّ على نفوذ شهادة النساء في ذلك، وقد تقدّمت جملة منها، والروايات الدالة على نفوذ شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه التامّة سنداً على ثلاثة أقسام:
الأول: ما دلّ على ذلك على الإطلاق من قبيل ما مضى عن عبداللّه بن سنان بسند تامّ، فيه: «تجوز شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال في كلّ ما لا يجوز للرجال النظر إليه». و ما عن عبداللّه بن بكير - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «تجوز شهادة النساء في العذرة وكلّ عيب لايراه الرجل»(1). وما عن داود بن سرحان - بسند غير تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «اُجيز شهادة النساء في الغلام (الصبي) صاح أو لم يصح، وفي كل شيء لاينظر إليه الرجال تجوز شهادة النساء فيه»(2).
والثاني - ما ورد في مورد خاصّ، كما ورد - بسند تامّ - عن عمر بن يزيد قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن رجل مات، وترك امرأته وهي حامل، فوضعت بعد موته غلاماً، ثمّ مات الغلام بعد ما وقع إلى الارض، فشهدت المرأة الّتي قَبِلتْها: أنّه استهلّ وصاح حين وقع إلى الارض، ثم مات؟ قال: على الإمام أن يُجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام»(3).
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 9، ص 260.
(2) نفس المصدر، ح 12، ص 261.
(3) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات ح 6، ص 259.
', 486), (14, 487, 'book', '
وما ورد عن السكوني - بسند غير تامّ - عن جعفر عن أبيه «أنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) قال في امرأة ادّعت أنّها حاضت ثلاث حيض في شهر واحد، فقال: كلّفوا نسوة من بطانتها أنّ حيضها كان في ما مضى على ما ادّعت، فإن شهدن فقد صدقت، وإلّا فهي كاذبة»(1). ومثلُ هذا لو لم نقل بتعدّي العرف عن مورده فلا أقل من أنّه لا ينافي المطلقات لوضوح عدم المفهوم فيه.
والثالث - ماورد في مورد خاصّ بشكل قد يتوهّم دلالته بمفهوم الحصر على عدم نفوذ شهادة النساء في غير مورده، وإن لم يمكن للرجال النظر إليه من قبيل ما تقدم عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - قال: «سألته: تجوز شهادة النساء وحدهنّ؟ قال: نعم في العذرة والنفساء» فقد يقال: إنّ هذا باعتباره بصدد الحصر ينفي قبول شهادة النساء في غير العذرة والنفساء، ولو كان ممّا لايمكن للرجال النظر إليه. فقد يقال: إنّ مثل هذا الحديث يعارض المطلقات بالعموم من وجه، فالمطلقات تدلّ على قبول شهادة النساء وحدهنّ فيما لا يمكن للرجال النظر إليه، وهذه الروايات تدلّ بمفهوم الحصر على عدم قبول شهادتهنّ في غير المورد المنصوص عليه، وإطلاق ذلك يشمل ما لا يمكن للرجال النظر إليه غير المورد المنصوص.
إلّا أنّ الصحيح أنّه لو لم يحمل المورد المنصوص عليه في هذه الروايات على المثالية، فلا أقلّ من احتمال ذلك إلى حدٍّ لا ينعقد الإطلاق للمفهوم فيما لايجوز للرجال النظر إليه، فتبقى المطلقات بلا معارض.
هذا، والروايات الواردة في نفوذ شهادة النساء فيما لا يمكن للرجال النظر إليه مطلقاً، أو في مورد خاصّ عديدة، مضى قسم منها ضمن الروايات السابقة ويوجد
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات ح 37، ص 266.
', 487), (14, 488, 'book', '
غيرها أيضاً من قبيل روايات الشهادة على البكارة(1)، وقد جاء في اثنتين منها(2): «وكان يُجيز شهادة النساء في مثل هذا»، وهما غير تامّين سنداً، والتامّة سنداً(3)لاتشتمل على هذه الجملة.
وتوجد رواية غير تامّة سنداً تدلّ على كفاية شهادة امرأتين على استهلال الطفل، وهي ما عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال: تجوز شهادة امرأتين في استهلال»(4). وفي السند يزيد بن إسحاق ولا دليل على وثاقته عدا وروده في سند كامل الزيارات ممّا لاعبرة به لدنيا، ولو تمّ سنداً لقلنابلحاظ المتن: إنّه إن أمكن تقييده بما دلّ على أنّ شهادة المرأة بالاستهلال إنّما تقبل بقدرها قيّد بذلك، وإلّا ردّ علمه إلى أهله؛ إذ لا يحتمل فقهياً كون شهادة امرأتين بالاستهلال كشهادة رجلين. وستأتي في تضاعيف الأبحاث الآتية روايات اُخرى واردة في بعض الموارد الخاصّة.
 $
شهادة المرأة في النكاح:
المورد الثالث - شهادة المرأة في النكاح: ويمكن تقسيم الروايات الواردةبهذا الصدد إلى خمس طوائف:
الأُولى - ما دلّ على قبول شهادة النساء في النكاح: من قبيل ما مرّ من حديث إبراهيم الخارقي أو الحارثي: «... وتجوز شهادتهنّ في النكاح ...»، وقد ذكرنا
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات ح 13 و 44 و 49.
(2) وهما الحديث 13 و 49 من ذاك الباب.
(3) وهي الحديث 44 من الباب نفسه.
(4) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات ح 41، ص 267.
', 488), (14, 489, 'book', '
عدم تماميّته سنداً. وما مرّ من حديث زرارة الضعيف سنداً أيضاً: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ قال: نعم ...». وما مضى من حديث أبي الصباح الكناني الضعيف سنداً أيضاً: «قال عليّ (عليه السلام): شهادة النساء تجوز في النكاح ...».
والثانية - ما دلّ على عدم قبول شهادتهنّ في النكاح مطلقاً: وهو ما مضى من حديث السكوني: «شهادة النساء لاتجوز في طلاق ولانكاح ولاحدود ...» وقد مضى ضعف سنده ببنان بن محمد.
ولو تمّت الطائفتان سنداً، ولم يمكن الجمع بينهما، أمكن حمل الثانية على التقيّة لما نقل من العامّة من القول بعدم نفوذ شهادة النساء في النكاح مطلقاً، أو إذا لم تُضَمّ إلى شهادة الرجال، ولعلّه يمكن أيضاً جعل الروايةِ الّتي سنذكرها - إن شاء اللّه - تحت عنوان الطائفة الثالثة قرينةً على حمل الثانية على التقيّة. وعلى أيّ حال فقد عرفت أنّ كلتا الطائفتين ضعيفتان سنداً.
الثالثة - ما دلّ على كفاية شهادة المرأتين في النكاح بلا رجل، وهو ما ورد عن داود بن الحصين - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن شهادة النساء في النكاح بلا رجل معهن إذا كانت المرأة منكرة؟ فقال: لا بأس به، ثمّ قال: ما يقول في ذلك فقهاؤكم؟ قلت: يقولون: لا تجوز إلّا شهادة رجلين عدلين، فقال: كذبوا - لعنهم اللّه - هوّنوا واستخفّوا بعزائم اللّه وفرائضه، وشدّدوا وعظّموا ما هوّن اللّه. إنّ اللّه أمر في الطلاق بشهادة رجلين عدلين، فأجازوا الطلاق بلا شاهد واحد، والنكاح لم يجيء عن اللّه في تحريمه عزيمة، فسنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في ذلك الشاهدين تأديباً ونظراً لئلاّ ينكر الولد والميراث وقد ثبتت عقدة النكاح، واستحلّ الفروج ولا أن يشهد. وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار، ولا يجيز في الطلاق إلّا شاهدين عدلين، فقلت: فأنّى ذكر اللّهُ - تعالى -
', '', 489), (14, 490, 'book', 'قولَه: ﴿فرجل وامرأتان﴾(1)، فقال: ذلك في الدين، إذا لم يكن رجلان فرجل وامرأتان، ورجل واحد ويمين المدّعي إذا لم يكن امرأتان، قضى بذلك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) بعده عندكم»(2).
وما في هذا الحديث من كفاية شهادة امرأتين في النكاح بلا رجل بأن تكون شهادة امرأتين في قوّة شهادة رجلين أمر غير محتمل فقهياً سواء في ذلك فقه السنّة والشيعة، فلا بدّ من ردّ علمه إلى أهله.
الرابعة - ما دلّ على التفصيل بين شهادة النساء في النكاح مع الرجل فتقبل، أو وحدهنّ فلاتقبل من قبيل ما مضى عن محمد بن الفضيل: «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) قلت له: تجوز شهادة النساء في نكاح أو طلاق أو رجم؟ قال: تجوز شهادة النساء فيما لاتستطيع الرجال أن ينظروا إليه وليس معهنّ رجل، وتجوز شهادتهنّ في النكاح إذا كان معهن رجل ...» و قد مضى أنّه ضعيف سنداً. وما مضى عن أبي بصير - بسند فيه علىّ بن أبي حمزة -: «... وتجوز شهادة النساء في النكاح إذا كان معهنّ رجل ...». وما ورد عن الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنّه سئل عن شهادة النساء في النكاح، فقال: «تجوز إذا كان معهنّ رجل، وكان علىّ (عليه السلام) يقول: لااُجيزها في الطلاق. قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجال في الدين؟ قال: نعم، وسألته عن شهادة القابلة في الولادة؟ قال: تجوز شهادة الواحدة، وقال: تجوز شهادة النساء في المنفوس والعذرة. وحدّثني من سمعه يحدّث: أنّ أباه أخبره: أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أجاز شهادة النساء في الدين مع يمين الطالب يحلف باللّه إنّ حقّه
', '(1) البقرة: 282.
(2) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 35، ص 265.
', 490), (14, 491, 'book', '
لحقّ»(1)وسند الحديث تامّ وإن كان فيه إبراهيم بن هاشم، فإنّ الصحيح وثاقة إبراهيم بن هاشم.
وقد استدل السيّد الخوئي على وثاقة إبراهيم بن هاشم بوجوه:
1 - أنّه روى عنه ابنه علىّ في تفسيره كثيراً، وقد التزم في أوّل كتابه بأنّ ما يذكره فيه قد انتهى إليه بواسطة الثقات.
2 - أنّ السيّد ابن طاووس ادّعى الاتّفاق على وثاقته؛ حيث قال عند ذكره رواية عن أمالي الصدوق في سندها إبراهيم بن هاشم: «رواة الحديث ثقات بالاتّفاق»(2).
3 - أنّه أوّل من نشر حديث الكوفيين بقم، والقمّيّون قد اعتمدوا على رواياته وفيهم من هو مستصعب في أمر الحديث، فلو كان فيه شائبة الغمز، لم يكن يتسالم على أخذ الرواية عنه و قبول قوله.
4 - أنّه وقع في أسانيد كامل الزيارات(3).
أقول الوجه الرابع عندنا غير مقبول، كما أشرنا إليه مراراً. والوجه الثالث حدسىّ لايبعد إفادته للعلم أو الاطمئنان، وعلى كلّ حال فكلّ من يحصل له الاطمئنان به فهو حجّة له. والوجة الثاني صحيح، فإنّ فرض الاتّفاق من قبل طبقة علىّ بن طاووس على وثاقة شخص من الرواة الواقعين في زمن الأئمّة المتأخّرين (عليهم السلام) يورث القطع بوثاقته أو بثبوت وثاقته بسند تامّ - على الأقلّ -. وبه نصحّح أيضاً محمد بن موسى بن المتوكل، فإنّه وارد في نفس سند الحديث الّذي
', '(1) نفس المصدر، ح 2، ص 258.
(2) فلاح السائل، الفصل التاسع عشر، ص 158.
(3) معجم الرجال، ج 1، ص 317 و 318.
', 491), (14, 492, 'book', '
ادّعى علىّ بن طاووس (رحمه الله) الاتّفاق على وثاقة كلّ من وقع فيه. والوجه الأوّل أيضاً صحيح لشهادة صاحب الوسائل (رحمه الله) الّذي له سند تامّ إلى تفسير علىّ بن إبراهيم برواية علىّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه مباشرةً منضمّاً إلى شهادته بالعبارة(1) الّتي تنسب إلى علىّ بن إبراهيم في أوّل تفسيره الّتي تدلّ - على الأقلّ - على وثاقة كلّ من روى عنه في تفسيره مباشرة.
أمّا ما يوجد اليوم باسم تفسير علىّ بن إبراهيم، فهو - على ما يبدو من مطالعته - ما جمعه تلميذ له بتركيب بين تفسير علىّ بن إبراهيم وغيره، ولهذا يقول أحياناً مع الانتهاء من حديث: (رجع إلى حديث علىّ بن إبراهيم)، أو ما شابه ذلك من العبائر(2). وهذا التلميذ و هو أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر (عليه السلام) ليس له ذكر في كتب الرجال. فلو أحسنّا الظنّ بهذا الكتاب وأغفلنا عدم وجود سندلنا إلى النسخ الموجودة فعلا، فغاية ما يفترض ثبوته كونه كتاباً لتلميذ من تلاميذ علىّ بن إبراهيم جمع فيه بين تفسير أُستاذه وغيره، وعندئذ يبقى احتمال كون التعبير المعروف في أوّل التفسير الذي يفترض دليلا على وثاقة كلّ من ورد في أسانيد تفسير علىّ بن إبراهيم عبارة من عبائر هذا التلميذ الذي لم يثبت توثيقه لا عبارة صادرة من علي بن إبراهيم، ولكن عرفنا كون هذا عبارة لعلىّ بن إبراهيم في تفسيره عن طريق صاحب الوسائل (رحمه الله) الذي له سند تامّ الى تفسير علىّ بن إبراهيم.
الخامسة - ما دلّ على عدم نفوذ شهادة النساء بلا رجال في النكاح مع السكوت عن شهادتهنّ مع رجل، وهو ما عن إسماعيل بن عيسى قال: «سألت
', '(1) راجع الوسائل، ج 20، ص 124.
(2) راجع الذريعة للشيخ آقا بزرگ الطهراني (رحمه الله) الجزء الرابع ص 302 إلى ص 307.
', 492), (14, 493, 'book', '
الرضا (عليه السلام) هل تجوز شهادة النساء في التزويج من غير أن يكون معهنّ رجل؟ قال: لا هذا لا يستقيم»(1). وسند الحديث غير تامّ.
والذي يبدو بعد العرض لهذه الروايات هو أنّ المعتمد هي الطائفة الرابعة المفّصلة بين شهادة النساء في النكاح مع رجل وشهادة النساء فيه وحدهنّ، فتنفذ الأُولى دون الثانية. ولو كانت الطائفة الأُولى والثانية صحيحتين، لكانت هذه الطائفة شاهدة للجمع بينهما بحمل الأُولى على ما إذا كان معهنّ رجل، وحمل الثانية على ما إذا لم يكن معهنّ رجل، كما أنّ الطائفة الخامسة لم تدلّ على شيء يعارض التفصيل المذكور، وإنّما تعرّضت صريحاً لأحد طرفي التفصيل، وإن لم يكن ذلك تلويحاً بالطرف الآخر فهو سكوت لايضرّنا.
نعم، الطائفة الثالثة تعارض التفصيل؛ لأنّها دلّت بصدرها على نفوذ شهادة النساء بلا رجل في النكاح، وبذيلها على نفوذ شهادة امرأتين في النكاح.
وقد يخطر بالبال تقديمها على روايات التفصيل و حمل روايات التفصيل على التقيّة؛ لأنّ العامّة بين قائل بعدم نفوذ شهادة النساء في النكاح مطلقاً، وقائل بالتفصيل الوارد في تلك الروايات، فرواية داود بن الحصين هي المخالفة للعامّة.
ولكن قد عرفت أنّ ظاهر رواية داود بن الحصين لا يمكن الأخذ به؛ لعدم إفتاء أحد بكون المرأة في الشهادة على النكاح كالرجل، فإنّ أمكن حملها - ولو بقرينة عدم إمكان جعل المرأة في الشهادة فقهيّاً كالرجل - على نفوذ شهادة امرأتين بمعنى كونها كشهادة رجل واحد، ولابدّ من ضمّ امرأتين أُخريين إليهما أو رجل، فقد يتمّ ما قلناه من تقديم رواية داود بن الحصين على روايات التفصيل بمخالفة العامّة، وإن قلنا: إنّ هذا الحمل غير عرفىّ - ولو بلحاظ سياق مجموع الحديث كماليس
', '(1) الوسائل / ج 18، ب 24، من أبواب الشهادات، ح 39، ص 266.
', 493), (14, 494, 'book', '
ببعيد -، ردّ علم رواية داود بن الحصين إلى أهلها، وسقطت عن الحجّيّة، وبقي التفصيل بلا معارض.
لايقال: إن لم يمكن الأخذ بذيل الحديث الدالّ على كفاية شهادة امرأتين في ثبوت النكاح فلم لا نأخذ بصدر الحديث الدالّ على كفاية شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال المحمول على شهادة أربع نساء للعلم بأنّ المرأة نصف الرجل في الشهادة، ويقدّم ذلك على روايات اشتراط نفوذ شهادة النساء في النكاح بكونها مع شهادة رجل، وذلك لمخالفته للعامّة وموافقة تلك الروايات لفتاوى قسم منهم؟
فإنّه يقال: لو كان الحديث نقلا الكلام الإمام باللفظ، لأمكن أن يقال: بأنّنا نأخذ بصدر الحديث بعد حمله على شهادة أربع نساء؛ لأنّ الذيل الذي هو قرينة على إرادة كفاية شهادة امرأتين ساقط، ونقطع بعدم صدوره من الإمام، فإمّا أنّ الحديث لم يكن مذيّلا بذيل. أو كان مذيّلا بذيل لايدلّ على كفاية شهادة امرأتين، فلا مانع من الأخذ بصدر الحديث مثلا، ولكن بما أنّ الأحاديث عادةً نقل بالمعنى فالراوي لا يروي نصّ الكلام، وإنّما يروي المفاد، ومفاد هذا الحديث إنّما هو كفاية شهادة امرأتين في النكاح، وهذا المفاد ساقط جزماً حسب الفرض، فلا يمكن الأخذ بصدر الحديث، فإنّه لم يستقرّ لصدر الحديث ظهور مستقل عن الذيل.
 $
شهادة النساء في الهلال:
المورد الرابع - شهادة النساء في الهلال:
وقد دلّت روايات عديدة على عدم قبول شهادتهنّ فيه، مضى بعضها ويوجد غيرما مضى أيضاً من قبيل ما عن حماد بن عثمان - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام)
', '', 494), (14, 495, 'book', 'قال: «لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال، ولا يقبل في الهلال إلّا رجلان عدلان»(1). هكذا جاء في التهذيب(2).
وفي الاستبصار: «لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال، ولا في الطلاق إلّا رجلان عدلان»(3).
وتدلّ على ذلك أيضاً روايات عديدة تامّة السند مذكورة في الباب الحادي عشر من أحكام شهر رمضان من الوسائل وهي الروايات (رقم 1 و 2 و 3 و 7 و 8 و 9) إلّا أنّ فى سند الأخيرة علىّ بن السندي، ولم تثبت وثاقته.
وهناك حديث واحد قد يستفاد منه التفصيل بين هلال شهر رمضان فتقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، وهلال الفطر فلا تقبل فيه شهادة النساء، وهو ما ورد عن داود بن الحصين - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام): قال: «لاتجوز شهادة النساء في الفطر إلّا شهادة رجلين عدلين، ولابأس في الصوم بشهادة النساء ولو امرأة واحدة»(4).
ويمكن المناقشة في دلالة الحديث بحمله بقرينة قوله فيه: «لابأس» على إرادة استحباب الاحتياط والاستظهار ونحو ذلك، كما حمله على ذلك الشيخ الطوسي (رحمه الله)في التهذيب(5) والاستبصار(6).
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 17، ص 262.
(2) ج 6، ح 724.
(3) ج 3، ح 96.
(4) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 36، ص 266. وج 7، باب 11 من أحكام شهر رمضان، ح 15، ص 211.
(5) ج 6، في ذيل الحديث 726.
(6) ج 3، في ذيل الحديث 98.
', 495), (14, 496, 'book', '
ولو لم يتمّ هذا النقاش، فلابدّ من تأويله أو ردّ علمه إلى أهله؛ للقطع الفقهىّ بعدم قبول شهادة امرأة واحدة في الهلال.
 $
شهادة النساء في الطلاق:
المورد الخامس - شهادة النساء في الطلاق.
وقد مرّت عليك ضمن الأحاديث الماضية روايات عديدة تدلّ على عدم نفوذ شهادتهنّ في الطلاق.
نعم، ورد عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) وعن أبي بصير وسماعة والحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في المكاتب يعتق نصفه هل تجوز شهادته في الطلاق ؟ قال: «إذا كان معه رجل وامرأة»(1). وعن الحلبي قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام)يقول في المكاتب ... - إلى أن قال -: قلت: أرأيت إن أُعتق نصفه تجوز شهادته في الطلاق؟ قال: إن كان معه رجل وامرأة جازت شهادته»(2). والأسانيد كلّها تامّة.
ولئن أمكن فرض النسبة بين هذه الأحاديث و بعض الأحاديث السابقة عموماً مطلقاً بأن يقال: إنّ هذه تدلّ على نفوذ شهادة المرأة في الطلاق إذا كان معها رجل، فيقيّد بها ما دلّ على عدم نفوذ شهادتها في الطلاق مطلقاً، لكن يوجد في الأحاديث السابقة مالايمكن تقييده بهذه الروايات من قبيل ما مضى عن الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنّه سئل عن شهادة النساء في النكاح؟
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 23 من الشهادات، ح 11، ص 256.
(2) الوسائل، ج 18، باب23 من الشهادات، ح 6، ص 255.
', 496), (14, 497, 'book', '
فقال: «تجوز إذا كان معهنّ رجل، وكان علىّ (عليه السلام) يقول: لااُجيزها في الطلاق ...». فهذا بقرينة المقابلة لجواز شهادتهنّ مع الرجل في النكاح صريح في عدم نفوذ شهادتهنّ في الطلاق حتى مع الرجل. فهاتان طائفتان متعارضتان، ولايمكن ترجيح إحداهما على الأُخرى بمخالفة العامّة، وذلك لأنّ كلاّ منهما مطابق لبعض العامّة ومخالف لبعضهم الآخر على ما قال الشيخ في الخلاف من أنّ مالكاً والشافعي والأوزاعي والنخعي قالوا بعدم نفوذ شهادة النساء في الطلاق، والثوري وأبا حنيفة وأصحابه قالوا بثـبوت الطـلاق بشـاهد وامرأتين(1).
وبالإمكان ترجيح ما دلَّ على عدم نفوذ شهادة النساء في الطلاق حتى مع الرجل على روايات محمد بن مسلم وأبي بصير وسماعة والحلبي بموافقة تلك للكتاب ومخالفة هذه للكتاب بناءً على أنْ نستظهر من آية الطلاق - الّتي هي خطاب للرجال: ﴿وأَشهِدوا ذَويْ عدل منكم وأقيموا الشهادةَ لله﴾(2) - شرط الذكورة في نفوذ الشهادة في الطلاق، وليس فقط في صحّة الطلاق لدى شاهدين عدلين؛ باستظهار أنّ هذا الشرط في الطلاق كان كمقدّمة لأجل أداء الشهادة عند النزاع.
ولو لم يقبل هذا الكلام، وانتهى الأمر إلى التعارض والتساقط، رجعنا إلى مقتضى الأصل الأوّلي الذي نقّحناه وهو عدم نفوذ شهادة النساء.
 $
 $
$
', '(1) راجع الخلاف، ج 3 كتاب الشهادات، المسألة 4، ص 326.
(2) الطلاق، الآية 2.
', 497), (14, 498, 'book', '
 $
شهادة النساء في الوصيّة:
المورد السادس - شهادة النساء في الوصيّة: والروايات فيها على ثلاثطوائف:
الأُولى - ما دلّ على عدم نفوذ شهادة النساء في الوصيّة من قبيل ما مضى عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله قال: «سألته عن المرأة يحضرها الموت وليس عندها إلّا امرأة، أتجوز شهادتها، أم لا تجوز ؟ فقال: تجوز شهادة النساء في المنفوس والعذرة» وسند الحديث ضعيف بمعلى بن محمد كما مضى.
وما مضى عن عبد الرحمان - أيضاً - قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن المرأة يحضرها الموت وليس عندها إلّا امرأة، تجوز شهادتها ؟ قال: تجوز شهادة النساء في العذرة والمنفوس. وقال: تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجل». وقد مضى أنّ سند الحديث تامّ.
وما مضى عن عبد اللّه بن سنان أو سليمان في امرأة حضرها الموت وليس عندها إلّا امرأة أتجوز شهادتها؟ فقال: «لا تجوز شهادتها إلّا في المنفوس والعذرة». وقد مضى سقوطه سنداً بتردد الراوي بين عبد اللّه بن سنان وعبد اللّه ابن سليمان.
وما عن محمد بن إسماعيل بن بزيع - بسند تامّ - قال: «سألت الرضا (عليه السلام)عن امرأة ادّعى بعض أهلها أنّها أوصت عند موتها من ثلثها بعتق رقيق لها، أيعتق ذلك وليس على ذلك شاهد إلّا النساء ؟ قال: لا تجوز شهادة النساء في هذا»(1).
الثانية - ما دلّ على نفوذ شهادة النساء في الوصيّة من قبيل ما عن محمد بن
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 40، ص 266 و 267.
', 498), (14, 499, 'book', '
قيس - بسند تامّ - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيّة لم يشهدها إلّا امرأة، فقضى أن تجاز شهادة المرأة في ربع الوصية»(1). وفي نقل آخر مشابه أضاف: (إذا كانت مسلمة غير مريبة في دينها)(2).
وما عن ربعي - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في شهادة امرأة حضرت رجلا يوصي، فقال: «يجوز في ربع ما أوصى بحساب شهادتها»(3). وجاء في نقل آخر: (حضرت رجلا يوصي ليس معها رجل)(4).
وما عن أبان - بسند ضعيف - بعبداللّه بن محمد بن عيسى الملقّب ببنان عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنّه قال في وصية لم يشهدها إلّا امرأة فأجاز شهادتها في الربع من الوصية بحساب شهادتها(5).
وما عن الحلبي - بسند تامّ - قال: «سُئل أبو عبداللّه (عليه السلام) عن امرأة ادّعت أنّه أوصي لها في بلد بالثلث وليس لها بيّنة قال: تصدّق في ربع ما ادّعت»(6) بناءً على تفسير الّلام بمعنى (إلى).
وما عن يحيى بن خالد الصيرفي (أو الحسين بن خالد الصيرفي) عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: «كتبت إليه رجل مات وله اُمّ ولد وقد جعل لها سيّدها شيئاً في حياته ثمّ مات؟ فكتب (عليه السلام): لها ما أثابها به سيّدها في حياته معروف لها
', '(1) نفس الصدر، ح 15، ص 261. و ج 83 باب 22 من الوصايا، ح 4، ص 396.
(2) الوسائل، ج 13، باب 22 من أحكام الوصايا، ح 3، ص 296.
(3) نفس المصدر، ح 16، ص 261 و 262.
(4) الوسائل، ج 13، باب 22 من أحكام الوصايا، ح 1، ص 395.
(5) الوسائل، ج 13، باب 22 من أحكام الوصايا، ح 2، ص 396.
(6) الوسائل، ج 13، باب 22 من أحكام الوصايا، ح 5، ص 396.
', 499), (14, 500, 'book', '
ذلك، تقبل على ذلك شهادة الرجل والمرأة والخدم غير المتهمين»(1). والحديث رواه في الوسائل عن الفقيه باسم يحيى بن خالد الصيرفي، ولكنّه ورد في الكافي(2)والتهذيب(3)باسم الحسين بن خالد الصيرفي، وهو الوارد اسمه في كتب الرجال. وعلى أىّ حال فقد روى عنه الحديث ابن أبي عُمير الّذي لا يروي إلّا عن ثقة، فسند الحديث تامّ، ولا يبعد نظر الحديث إلى الوصيّة لا الهبة بقرينة أنّه عبّر بتعبير: (جعل لها سيّدها) لابتعبير: (وهب لها سيدها).
وقال: صاحب الوسائل بعد هذا الحديث مباشرةً نقلا عن الفقيه: «وفي رواية أُخرى: إن كانت امرأتين تجوز شهادتهما في نصف الميراث، وإن كنّ ثلاث نسوة جازت شهادتهنّ في ثلاثة أرباع الميراث، وإن كنّ أربعاًجازت شهادتهنّ في الميراث كلّه»(4).
وهذا يوهم ورود حديث في نفوذ شهادة النساء في افتراض وارث بشكل عامّ كما ورد في الوصيّة، وفيما ليس للرجال النظر إليه وغير ذلك، بينما الموجود في الفقيه هو ذكر هذه الرواية في ذيل حديث آخر، وذلك بالشكل التالي:
روى الحسن بن محبوب عن عمر بن زيد قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن رجل مات وترك امرأة وهي حامل، فوضعت بعد موته غلاماً، ثمّ مات الغلام بعد ما وقع إلى الأرض، فشهدت المرأة الّتي قبّلتها به أنّه استهل وصاح حين وقع إلى الأرض، ثمّ مات بعد؟ فقال: على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام»،
', '(1) نفس المصدر، ح 47، ص 268.
(2) ج 7، باب الوصيّة لأُمهات الأولاد، ح 2، ص 29.
(3) ج 9، ح 878.
(4) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 48، ص 268.
', 500), (14, 501, 'book', '
وفي رواية أُخرى: «إن كانت امرأتين، يجوز شهادتهما في نصف الميراث، وإن كنّ ثلاث نسوة جازت شهادتهنّ في ثلاثة أرباع الميراث، وإن كنّ أربعاً، جازت شهادتهنّ في الميراث كلّه»(1).
وبهذا يتّضح أنّ الحديث لم يكن وارداً في الميراث بشكل مطلق، وإنّما هو وارد في استهلال الغلام، أي في مورد لايمكن للرجال النظر. وعلى أىّ حال فالحديث ساقط بالإرسال.
ولنرجع الآن إلى ما كنّا فيه من روايات الوصيّة:
الثالثه - ما دلّ على التفصيل بين ما إذا كان معهنّ رجل فتنفذ ومااذا لم يكن معهنّ رجل فلا تنفذ، وهو ما عن إبراهيم بن محمد الهمداني، قال: «كتب أحمد بن هلال إلى أبي الحسن (عليه السلام):امرأة شهدت على وصيّة رجل لم يشهدّها غيرها، وفي الورثة من يصدّقها، و فيهم من يتّهمها؟ فكتب لا، إلّا أن يكون رجل وامرأتان، وليس بواجب أن تنفذ شهادتها»(2). وإبراهيم بن محمد الهمداني لم تثبت وثاقته، وإن كان وكيلا للناحية.
ويمكن الجمع بين هذه الروايات بوجوه - إلّا أنّ شيئاً منها لايستوعب كلّ الروايات -:
منها - جعل الرواية الأخيرة - بعد فرض تصحيحها سنداً لكون إبراهيم بن محمد الهمداني وكيلا للناحية مثلا - شاهد جمع بين الطائفتين الاُوليين بتقييد ما دلّ على عدم نفوذ الشهادة بما إذا لم يكن معهنّ رجل و ما دل على النفوذ بما إذا كان
', '(1) الفقيه، ج 3، ح 101 و 102.
(2) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 34، ص 265. وج 13، باب 22 من أحكام الوصايا، ح 8، ص 397.
', 501), (14, 502, 'book', '
معهنّ رجل.
وهذا الجمع - لو تمّ سند رواية إبراهيم بن محمد الهمداني - لايستوعب كلّ الروايات؛ لأنّ في الروايات الدالّة على النفوذ ما هو وارد في المرأة وحدها، وهي الرواية الأُولى والثانية منها.
ومنها - أنّه بعد إسقاط رواية إبراهيم بن محمد الهمداني بضعف السند تبقى الطائفتان الاُوليان، ونقيّد الأُولى بالثانية؛ لأنّ الأُولى مطلقة، والثانية خاصّة بالوصيّة في المال، فإنّها بين ما ذكر في السؤال فيها فرضُ المال كما في الرواية الأخيرة، وبين ما يحمل على المال بقرينة ما ذكره الإمام (عليه السلام) من التنفيذ في الرابع كما في باقي الروايات، فتختصّ الطائفة الأُولى الدالّة على عدم النفوذ بالوصيّة في غيرالمال.
وهذا الجمع أيضاً لايستوعب كلّ الروايات؛ لأنّ في الروايات الدالّة على عدم النفوذ ما هو وارد في الوصيّة في المال كرواية ابن بزيع، بل لعلّ هذا الجمع غير عرفىّ بلحاظ جميع روايات عدم النفوذ؛ لأنّ تخصيصها بوصيّة راجعة إلى غير المال كالوصيّة بالدفن في مكان معيّن مثلا - لو قيل بنفوذها - تخصيص بفرد نادر، والوصيّة بالولاية لاتتصور في المرأة؛ إذ لاولاية لها.
ومنها - أن نحمل الطائفة الأُولى الدالة على عدم النفوذ على معنى عدم نفوذ شهادة المرأة بقدر نفوذ شهادة الرجل بقرينة روايات النفوذ الّتي دلّت على نفوذ شهادة المرأة بمقدار نصف شهادة الرجل.
وهذا الجمع أيضاً لايستوعب رواية ابن بزيع الّتي فرضت أنّ الميّت امرأة ماتت ضمن نساء. وحملها على خصوص فرض كون النساء أقلّ من أربعة وإرادة عدم النفوذ في كلّ الوصيّة؛ لأنّ المرأة نصف الرجل غير عرفي، بل إنّ هذا الحمل لايتمّ حتى في الروايات السابقة على رواية بن بزيع الدالّة
', '', 502), (14, 503, 'book', 'على حصر قبول شهادة النساء في العذرة والمنفوس، بناءً على أنّ قبول شهادة النساء في العذرة والمنفوس لا يعني كون شهادة المرأة فيها كشهادة الرجل، إنّما يعني قبول شهادتها فيها بمعنى أن تكون شهادتها نصف شهادة الرجل؛ إذن فنفي قبول شهادتها في تلك الروايات في الوصيّة يعني نفي قبول شهادتها حتى بمقدار نصف شهادة الرجل.
وإذا استحكم التعارض بين الروايات، وصلت النوبة إلى حمل الطائفة الأُولى والثالثة على التقيّة؛ لأن العامّة بين من يفتي بعدم نفوذ شهادة النساء في الوصيّة مطلقاً و من يفصّل بين ما إذا كان معهنّ رجل وما إذا لم يكن. فالطائفة الثانية هي المخالفة للعامّة، وهي الدالّة على النفوذ. فنفتي بنفوذ شـهادة النسـاء في الوصـيّة في خصـوص المال؛ لأنّ روايات النفوذ واردة فـي المال.
 $
شهادة النساء في الدين:
المورد السابع - شهادة النساء في الدَّين:
فقد دلَّت الآية الكريمة وبعض الروايات على نفوذ شهادة رجل وامرأتين في الدين، قال اللّه - تعالى - في آية الدَّين: ﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشهداء أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأُخرى، ولايأب الشهداء إذا ما دعوا ...﴾ إلى قوله - تعالى -: ﴿ولاتكتُموا الشهادةَ، ومن يكتُمْها فإنَّه آثم قلبُه﴾(1)
$
', '(1) البقرة، الآية 282 - 283.
', 503), (14, 504, 'book', '
وقد مضى حديث الحلبي التامّ سنداً: «تجوز شهادة النساء مع الرجل في الدين؟ قال: نعم»، ومضى - أيضاً - حديث داود بن الحصين: «قلت: فأنّى ذَكَرَ اللّهُ - تعالى - قولَه: ﴿فرجل وامرأتان﴾؟ فقال: ذلك في الدين ...».
بل قد ورد أيضاً ما دلّ على نفوذ شهادة النساء في الدين بلا رجل، وهو ما عن الحلبي - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أجاز شهادة النساء في الدَّين وليس معهنّ رجل»(1). وقد فهم السيّد الخوئي من هذا الحديث الإطلاق لفرض شهادتهنّ بلا يمين المّدعي وشهادتهنّ مع يمينه، ولو تمّ هذا الفهم كان الحديث معارضاً للآية الكريمة التي قيّدت قبول شهادة النّساء بوجود رجل معهنّ، إلّا أنّ السيّد الخوئي قيّد حديث الحلبي بحديث آخر للحلبي تامّ السند أيضاً عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنَّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدَّين يحلف باللّه إنَّ حقّه لحقّ»(2).
والظاهر أنّهما رواية واحدة، فهما معاً واردان عن ابن أبي عُمير عن حمّاد عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله). والمتن واحد باستثناء ذكر قيد اليمين في أحدهما دون الآخر، ولا يخفى أنّ عدم ذكر قيد اليمين لايشكلّ إطلاقاً للحديث، فإنّ الحديث قضيّة في واقعة، فقولُه: -«إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)أجاز شهادة النساء في الدين وليس معهنّ رجل» - نقلٌ لواقعة وقعت، ولايدلّ على أنّه لم يضمّ في تلك الواقعة يمين المدّعي إلى شهادة النساء حتى يقيّد أحد النقلين بالنقل الآخر. نعم، لابدّ - على أىّ حال - من تكميل أحد النقلين بالنقل الآخر لمعرفة تمام المقصود.
 $
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 20، ص 262. و ح 43، ص 267.
(2) الوسائل، ج 18، باب 15 من كيفية الحكم، ح 3، ص 198.
', 504), (14, 505, 'book', '
 $
شهادة النساء في الرضاع:
المورد الثامن - الرضاع: وإنّما يعتبر هذا مورداً مستقلا بناءً على عدمإدراج ذلك في مالايجوز للرجال النظر إليه بنكتة إمكانية النظر من قبل المحارم، وإلّا فهو مشمول لمطلقات نفوذ شهادة النساء فيما لايجوز للرجال النظر اليه.
وعلى أىّ حال فقد ورد ما يمكن أن يستدلّ به على نفوذ شهادة النساء في الرضاع، وهو ما عن ابن بكير عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في امرأة أرضعت غلاماً وجارية؟ «يعلم ذلك غيرها؟ قال: لا. قال: فقال: لا تُصدَّق إن لم يكن غيرها»(1)؛إذ يمكن القول: إنّها تدلّ بمفهومها على أنّها تُصَّدق إن كان معها غيرها، إلّا أنّ الرواية ساقطة سنداً.
فالصحيح: أنّنا إن لم ندخل الرضاع تحت عنوان مالايجوز للرجال النظر إليه، فلا دليل على نفوذ شهادة النساء فيه.
كماأنّنا لو أدخلنا الرضاع تحت ذاك العنوان، فلا دليل على استثنائه من إطلاقات نفوذ شهادة النساء فيما لا يجوز للرجال النظر إليه.
نعم، ورد في شهادة المرأة الواحدة على الرضاع ما دلّ على عدم نفوذها، وهذا - كما ترى - لايدلّ على عدم نفوذ شهادة النساء في الرضاع، وذلك من قبيل نفس الرواية الماضية - اى مرسلة ابن بكير - ومن قبيل رواية صالح بن عبداللّه الخثعمي: كتبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) أسأله
', '(1) الوسائل، ج 14، باب 12 مما يحرم بالرضاع، ح 3، ص 304.
', 505), (14, 506, 'book', '
عن اُمَّ ولد لي ذكرت أنّها أرضعت لي جارية ؟ قال: «لاتقبَلْ قولَها ولاتُصدِّقْها»(1). وسند الحديث غير تامّ، صالح بن عبداللّه الخثعمي لم تثبت وثاقته. نعم، وردت رواية ابن أبي عُمير عن صالح بن عبداللّه، ولكن لم نعلم كونه هو، ونفس الحديث ورد بسند غير تامّ - أيضاً - بعنوان «سألت أبا الحسن» بما يقاربه في المضمون(2). وعدم تماميّة السند يكون بصالح بن عبداللّه الخثعمي - أيضاً - وبغيره.
وعن الحلبي - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن امرأة تزعم أنّها أرضعت المرأة والغلام، ثمّ تنكر بعد ذلك؟ فقال: تصدّق إذا أنكرت ذلك. قلت فإنّها قالت، وادّعت بعدُ: بأنّي قد أرضعتها؟ قال: لا تصدَّق، ولاتنعم»(3).
وعدم قبول شهادتها في مورد هذا الحديث طبيعي - حتى بناءً علىدخول الرضاع في عنوان ما لا يجوز للرجال النظر إليه -:
أوّلا - لأنّها تناقضت في كلام، فقد يسقطها ذلك عن العدالة.
وثانياً - لأنّها امرأة واحدة.
وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه أنّ روايات باب الرضاع لا تفيدنا شيئاً لانفياً ولا إثباتاً، فالميزان إنّما هو دخوله تحت عنوان ما لا يجوز للرجال النظر إليه أو عدم دخوله تحت هذا العنوان.
 $
$
', '(1) الوسائل، ج 14، باب 12 ممّا يحرم بالرضاع، ح 4، ص 304.
(2) نفس المصدر، ح 2.
(3) نفس المصدر، ح 1، ص 303.
', 506), (14, 507, 'book', '
 $
التعدّي في الحكم إلى الرجل في بعض الفروع:
وفي ختام البحث عن الموارد الخاصّة الّتي عرفت ورود روايات خاصّةبشأن شهادة النساء فيها لا بأس بالإشارة إلى أنّه قد ورد في ثلاثة موارد من هذه الموارد الخاصّة ما دلّ على التبعيض في المشهود به بنسبة قيمة شهادة المرأة، فبشهادة امرأة واحدة يثبت الربع مثلا، وتلك الموارد هي: مورد القتل، ومورد الإرث في استهلال، الطفل، ومورد الوصيّة في المال.
ويقع الكلام في أنّه هل يمكن التعدّي من المرأة إلى الرجل بأن يثبت النصف بشهادة رجل واحد أو الربع على الأقل؛ بدعوى: أنّ عدم احتمال كون شهادة الرجل أضعف من شهادة المرأة يجعل العرف يتعدّى من المرأة إلى الرجل، أو لا يمكن التعدّي؟ .
بالإمكان أن يقال في مورد الاستهلال: إنّ أكثر روايات الباب إنّما دلّت على نفوذ شهادة القابلة، ولم تدلّ على نفوذ شهادة المرأة بشكل مطلق؛ كي يقال بتعدّي العرف إلى شهادة الرجل، ومن المحتمل فرض خصوصيّة للقابلة التي شغلها وعملها الإشراف على وضع الولادة والولد.
ومثل قوله - في ما مضى عن محمد بن مسلم -: «سألته تجوز شهادة النساء وحدهنّ؟ قال: نعم، في العذرة والنفساء» وإن كان يشمل غير القابلة، لكنّه لم يدلّ على نفوذ شهادة امرأة واحدة في الربع، وإنّما دلّ على أصل نفوذ شهادة النساء وحدهنّ. أمّا الروايات الدالّة على نفوذ شهادة امرأة واحدة، فهي تختصّ غالباً بالقابلة، وهي كما يلي:
1 - ما مضى من حديث عمر بن يزيد التامّ سنداً قال: «سألت أبا عبداللّه
', '', 507), (14, 508, 'book', '(عليه السلام) عن رجل مات، وترك امرأته وهي حامل، فوضعت بعد موته غلاماً، ثمّ مات الغلام بعد ما وقع إلى الارض، فشهدت المرأة التي قبلتها أنّه استهل وصاح حين وقع إلى الارض، ثمّ مات، قال: على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام». وفي رواية أُخرى: «إن كانت امرأتين يجوز شهادتهما في نصف الميراث، وإن كنّ ثلاث نسوة جازت شهادتهن في ثلاثة أرباع الميراث، وإن كنّ أربعاً جازت شهادتهنّ في الميراث كلّه. وذيل الحديث ساقط سنداً، ولو تمّ كان المحتمل فيه فرض تعدد القابلة.
2 - ما مضى من حديث عبداللّه بن سنان التامّ سنداً: (... وتجوز شهادة القابلة وحدها في المنفوس)، وإن قيل: إنّ المفهوم من إطلاق هذا الحديث هو نفوذ شهادة القابلة في كلّ الميراث، قيّد بما دلّ على أنّ نفوذها يكون بقدر الربع.
3 - ما عن سماعة - بسند تامّ - قال: «قال: القابلة تجوز شهادتها في الولد على قدر شهادة امرأة واحدة»(1).
4 - ما عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «شهادة القابلة جائزة على أنّه استهلّ، أو برزميّتاً إذا سئل عنها، فعدّلت»(2).
5 - ما عن عبداللّه بن سنان - بسند تامّ - قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام)يقول: تجوز شهادة القابلة في المولود إذا استهلّ وصاح في الميراث، ويُورَّث الربعَ من الميراث بقدر شهادة امرأة واحدة. قلت: فإن كانت امرأتين؟ قال: تجوز شهادتهما في النصف من الميراث»(3). ويحتمل كون المقصود من قوله: «فإن كانت
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 24 من الشهادات، ح 23، ص 263.
(2) نفس المصدر، ح 38، ص 266.
(3) نفس المصدر، ح 45، ص 268.
', 508), (14, 509, 'book', '
امرأتين» فرض قابلتين.
6 - ما عن عبداللّه بن عليّ الحلبي - بسند تامّ - أنّه سأل أبا عبداللّه (عليه السلام)عن شهادة القابلة في الولادة؟ قال: «تجوز شهادة الواحدة وشهادة النساء في المنفوس والعذرة»(1). والظاهر أنّ هذا الحديث في واقعه جزء من حديث الحلبي الذي مضى ذكره في أحاديث شهادة النساء في النكاح. وعلى أيّ حال فقد يقال: إنّ قوله: «تجوز شهادة الواحدة» - يدلّ بالإطلاق على نفوذ شهادة الواحدة في الولادة وإن لم تكن هي القابلة، وكون السؤال عن القابلة لايضرّ بالإطلاق؛ لأنّ المورد لا يخصِّص الوارد.
ولكنّ الصحيح أنّ المورد لا يمنع عن إطلاق الوارد أو عمومه بعد تماميّة مقتضي الإطلاق أو العموم، لكن حينما لا يوجد عموم، ولا توجد نكتة عرفيّة تدلّ على أوسعيّة الوارد من المورد يكون المورد صالحاً للقرينية على عدم الاطلاق، والعدول عن كلمة القابلة إلى كلمة الواحدة ليس قرينة على أوسعيّة الوارد من المورد؛ لاحتمال كونه بنكتة إرادة التنصيص على نفوذ شاهد واحد. نعم، لو قلنا: إنّ أصل افتراض اختصاص الحكم بالقابلة غير عرفي، فهمنا الإطلاق من كلّ روايات الباب.
7 - ما مضى من مرسلة (تحف العقول): «وأمّا شهادة المرأة وحدها الّتي جازت فهي القابلة، جازت شهادتها مع الرضا، فإن لم يكن رضا، فلا أقلّ من امرأتين...» وهذه ضعيفة سنداً ودلالةً؛ إذ ربط نفوذ شهادة الواحدة بالرضا يكون أدلّ على عدم النفوذ منه على النفوذ.
8 - ما مضى عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال: تجوز شهادة
', '(1) نفس المصدر، ح 46.
', 509), (14, 510, 'book', '
امرأتين في استهلال». والسند ضعيف بيزيد بن إسحاق.
وهاتان الروايتان الأخيرتان واضحتان في عدم الاختصاص بالقابلة في فرض كون الشاهد عبارة عن امرأتين. وقد يقول قائل: إنّه لو ورد الحديث في امرأة واحدة، تعدّينا بالأولويّة إلى رجل واحد بقدر الربع، ولكن لوورد الحديث في امرأتين لا نتعدّى إلى رجل واحد لعدم العلم بالأولويّة أو المساواة، وعلى أيّ حال فقد عرفت أنّهما ضعيفتان سنداً.
9 - ما مضى عن محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام) «... فلذلك لا تجوز شهادتهنّ إلّا في موضع ضرورة مثل شهادة القابلة وما لا يجوز للرجال أن ينظروا إليه...».
وقوله: «إلّا في موضع ضرورة»، وكذلك قوله: «... وما لا يجوز للرجال أن ينظروا إليه» وإن كانا لا يختصّان بالقابلة فيدلّ الحديث على نفوذ شهادة النساء غير القوابل في الجملة، لكنّ كلامنا فعلا في خصوصيّة نفوذ شهادة امرأة واحدة، وعدم الحاجة إلى التعدّد في إثبات الربع، ولم يدلّ شيء في هذا الحديث على ذلك إلّا قوله: «مثل شهادة القابلة»، وهذا خاصّ بالقابلة.
لا يقال: إنّ ظهور الكلام في كون علّة نفوذ شهادة القابلة هي الضرورة - لعدم وجدان الرجال - يعمِّم الحكم لغير القابلة.
فإنّه يقال: إنَّ الضرورة إنّما هي علّة للانتقال إلى القابلة كامرأة، أي علّة للانتقال من الرجال إلى النساء. وأمّا عدم الحاجة إلى التعدّد في إثبات الربع، فهذا لا يعلّل بالضرورة التي تعني عدم وجدان الرجال.
هذا تمام الكلام في النكتة التي أردنا إبرازها لعدم التعدّي إلى الرجال في روايات الاستهلال، وهو اختصاص روايات ثبوت الربع بالقابلة، فصحيح أنّ الاستهلال يثبت بشهادة النساء مطلقاً، ولكنّه مشروط بالتعدُّد وكونهن أربع نساء.
', '', 510), (14, 511, 'book', 'أمّا ثبوت الربع أو النصف فلا يكون إلّا بالقابلة، ومع احتمال خصوصيّة في القابلة لايتعدّى إلى الرجال.
وهذه النكتة إن لم تُقبل بدعوى: أنّ العرف لا يفهم اختصاص الحكم بالقابلة - وإن كانت هي المذكورة في الأحاديث - وإنّما يفهم منها نفوذ شهادة امرأة واحدة في الربع، لم يبعد القول - بحسب الفهم العرفي المشوب بالجوّ المتشرّعي - بالتعدّي من المرأة إلى الرجل بإثبات نصف الإرث بشهادة الرجل الواحد، ولو احتملت تماميّة هذه النكتة، كفى في عدم التعدّي.
وأمّا روايات نفوذ شهادة المرأة الواحدة في دية القتل، فقد مضت روايتان:
أُولا هما - تامّة السند، وهي ما عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قضى أميرالمؤمنين (عليه السلام) في غلام شهدت عليه امرأة أنّه دفع غلاماً في بئر فقتله، فأجاز شهادة المرأة بحساب شهادة المرأة».
والثانية - غير تامّة سنداً، وهىّ ما عن عبداللّه بن الحكم: «سألتُ أبا عبداللّه (عليه السلام) عن امرأة شهدت على رجل أنّه دفع صبيّاً في بئر فمات؟ قال: على الرجل ربع دية الصبيّ بشهادة المرأة».
ويمكن هنا - أيضاً - إبداء نكتة لعدم تعدّي العرف من المرأة إلى الرجل، وهي أنّ الرجل ثبت بحقّه نفوذ شهادته مع يمين وليّ الدم المدّعي في تمام الديّة، فلا يلزم من عدم نفوذ شهادته في الربع أو النصف - مثلا - كونه أقلّ شأناً من المرأة أو المرأتين، أي أنّ مجرد كون شهادة الرجل الواحد في معرض النفوذ الكامل بالضم إلى يمين المدّعي لعلّه كاف في أن لايرى العرف التعدّي من نفوذ شهادة امرأة واحدة في الربع إلى نفوذ شهادة الرجل الواحد في الربع أو النصف.
ويمكن أن تثار بوجه هذا الكلام عدّة مناقشات:
الأولى - أنّ نفوذ شاهد واحد مع اليمين لايشمل المقام لاختصاصه بباب
', '', 511), (14, 512, 'book', 'الدَّين، لما عن أبي بصير - بسند تامّ - قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ، وله شاهد واحد؟ قال: فقال: كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحقّ، وذلك في الدين»(1).
وقد اعترف السيّد الخوئي بظهور الحديث في اختصاص الحكم بباب الدين، إلّا أنّه ذكر: اننا نرفع اليد عن هذا الظهور، ونحمله على مجرّد حكاية أنّ فعل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان في الدَّين. أمّا الحكم، فهو يشمل مطلق الحقوق، وذلك بدليل ما عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس. فأمّا ما كان من حقوق اللّه - عزّ وجلّ - أو رؤية الهلال، فلا»(2). وقد اعتبر السيّد الخوئي هذا الحديث صريحاً في الإطلاق، وسيأتي منّا - في محلّه - أنّ هذا ليس عدا إطلاق قابل للتقييد.
والصحيح ما نسب إلى المشهور من أنّ هذا الحكم ليس ثابتاً في مطلق الحقوق، ولا هو خاصّ بباب الدين؛ كي لا يشمل ما نحن فيه، بل هو ثابت في مطلق الحقوق الماليّة.
وقد أورد السيّد الخوئي على هذا الرأي بأنّ الروايات بين مخصِّص للحكم بباب الدَّين ومعمِّم للحكم لمطلق الحقوق، ففرض تخصيصه بالحقوق الماليّة لا وجه له.
وهذا الكلام في غير محله؛ لما مضى من الحديث الوارد في قصّة درع طلحة(3)
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 14 من كيفيّة الحكم، ح 5، ص 193.
(2) الوسائل، ج 18، باب 14 من كيفيّة الحكم، ح 12، ص 195 و 196.
(3) الوسائل، ج 18، باب 14 من كيفيّة الحكم، ح 6، ص 194.
', 512), (14, 513, 'book', '
المشتملة على اعتراض أميرالمؤمنين (عليه السلام) على شريح بنفوذ شاهد واحد مع اليمين، مع أنّ المورد ليس مورد الدين وإنّما هو مورد مالي، فلو أنّ أحداً ناقش في الرواية الدالّة على نفوذ شاهد ويمين في مطلق الحقوق - إما من حيث السند، أو بدعوى كون إطلاقه مقيَّداً بمقيِّد - لم يتحتَّم عليه تخصيص الحكم بباب الدين، بل بإمكانه تعميم الحكم لمطلق الحقوق المالية بقرينة رواية درع طلحة.
بل قد يدّعى: أنّ العرف يتعدّى من تمام روايات نفوذ الشاهد الواحد مع اليمين في الدين(1) إلى مطلق الحقّ المالىّ، لعدم احتماله لخصوصيّة في الدين من بين الحقوق الماليّة.
الثانية - ما يختصّ بالقتل العمدىّ، وهو أنّ نفوذ شاهد واحد مع اليمين خاصّ بالحقوق الماليّة. وهذا لايشمل فرض القتل إذا كان عمديّاً، لأنّ الثابت فيه إنّما هو القصاص لاالدية، ومادلّ على نفوذ شهادة امرأة واحدة في ربع الدية حكم تعبّدىّ، فإن تعدّينا منه إلى الرجل ثبت ربع الدية أو نصفها بشهادة رجل واحد، وإلّا لم تنفذ شهادته مع يمين المدّعي لعدم كون الحق ماليّاً، بل حتى لو قلنا بكون نفوذ شاهد واحد مع اليمين يشمل غير الحقوق الماليّة لا إشكال في أنّه لايشمل القصاص في القتل العمدي؛ لأنّ ثبوت ذلك له نظامه الخاصّ يأتي بيانه في المستقبل - إن شاء اللّه -.
ويمكن الجواب على ذلك بأن يقال: إنّنا نستفيد ممّا دلّ على نفوذ شهادة النساء في القتل لإثبات الدِّيَة دون القَوَد - ولو كان القتل عمديّاً - أنّ الدِّيَة ثابتة في القصاص العمدي كحقّ مالي - ولو في طول عدم إمكانيّة القصاص - وذلك بقرينة أنّ المفهوم عرفاً من دليل نفوذ شهادة النساء هو نفوذ الشهادة كطريق إلى الآثار
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 14 من كيفية الحكم، ح 1 و 3 و 10 و 11.
', 513), (14, 514, 'book', '
الثابتة للمشهود به قبل الشهادة، لاكموضوع لحكم جديد. وهذا يعني أنّ الدية ثابتة بذاتها في القتل العمدي - ولو عند عجز تكوينىّ أو شرعىّ عن القصاص - فلو مات القاتل قبل القصاص مثلا، كان من حق ولىّ الدم أخذ الدية من التركة، ولو شهدت النساء بالقتل - وشهادة النساء لا تثبت القَوَد شرعاً - طالب ولىّ الدم بالدِّيَة.
إذن فشهادة رجل واحد مع اليمين - بعد أن لا دليل على ثبوت القصاص بذلك - تكفي لثبوت الدية؛ لأنّها حقّ مالي يشمله إطلاق دليل ثبوت المال بذلك.
الثالثة - أنّنا لو لم نتعدَّ من شهادة المرأة إلى الرجل بدعوى أنّ شهادة الرجل تنفذ مع يمين المدّعي في تمام الدِّيَة، لزم أن لانفتي في شهادة امرأتين أيضاً بنفوذها في النصف، لأَنّها تنفذ بضمِّها إلى يمين المدّعي في تمام الدِّيَة.
والجواب: أنّنا لو قلنا بنفوذ شهادة امرأتين مع يمين المدّعي في المقام، أمكن الالتزام بالنتيجة، وهي عدم ثبوت النصف بشهادة امرأتين، وأىُّ ضَيْر في ذلك؟! ولو لم نقل بنفوذ ذلك؛ لأنّ ما دلّ على النفوذ بين ما هو غير نقىّ السند(1)وما هو خاصّ بالدَّين(2)؛ إذن نثبت نصف الدِّيَة بشهادة امرأتين، ولعلّ الأوّل أقوى لما أشرنا إليه من تعدّي العرف من الدَّين إلى مطلق الحقّ المالىّ، فكما يثبت الدين بشهادة امرأتين واليمين كذلك تثبت الدية بذلك.
الرابعة - أن يقال: إنّنا نقبل بعدم التعدّي من المرأة إلى الرجل فيما إذا أمكن لولىّ الدم أن يحلف بناءً على دعواه العلم، ولكنّه امتنع عن الحلف، أمّا إذا لم يتمكّن من الحلف لشكّه في الموضوع، فهنا فرض نفوذ شهادة المرأة في الربع وعدم نفوذ
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 15 من كيفية الحكم، ح 1 و 4، ص 198.
(2) نفس المصدر، ح 3.
', 514), (14, 515, 'book', '
شهادة الرجل يعني كون شهادة الرجل أقلّ اعتباراً من شهادة المرأة وهو غير محتمل عرفاً، ففي هذا الفرض نثبت بشهادة الرجل الربع بل النصف وفق فهم العرف المتشرّعي من النصّ الوارد في نفوذ شهادة المرأة الواحدة.
وأمّا روايات نفوذ شهادة المرأة الواحدة في الوصيّة في المال - وقد مضى ذكرها - فقد يقال أيضاً - في مقام إبراز نكتة لعدم تعدّي العرف من المرأة إلى الرجل -: إنّ شهادة الرجل تكون في معرض أن تنضّم إلى يمين الموصى له فتنفذ في الكلّ، فلا يلزم من عدم التعدّي كون شهادة الرجل أقلّ شأناً من شهادة المرأة.
و الإشكالات التي أثرناها في روايات الدِّيَة مع ما أمكن من الجواب عن بعضها تأتي هناما عدا الإشكال الثاني، وهو عدم كون القصاص حقّاً ماليّاً؛ إذا لا إشكال في مورد الوصيّة بالمال في أنّ الحقّ مالىّ.
 $
حضور الشاهد عند القاضي
الشرط الحادي عشر - حضور الشاهد عند القاضي: وهذا الشرط بعنوانهوإن لم يكن مذكوراً عند الأصحاب، وإنّما المبحوث لديهم هو كفاية شهادة الفرع وعدمها، لكن يمكن أن يستدل على هذا الشرط بأنّ المتيقّن من مثل قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» وقوله (صلى الله عليه وآله): «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» هي البيّنة الحاضرة لدى القاضي، وقد مضى فيما سبق عدم الإطلاق الحَكَمي لهذه الروايات لنفي الشروط المحتملة. نعم، لها إطلاق مقامي لنفي كلّ شرط كان منفيّاً في ارتكاز العقلاء، وشرط الحضور ليس منفيّاً ارتكازاً؛ إذ لاإشكال في أقوائية البيّنة الحاضرة من البيّنة غير الحاضرة، فاحتمال الفرق بحجّيّة الأُولى في باب القضاء دون الثانية أمر معقول، ومعه تُنفى حجّيّة البيّنة غير الحاضرة لدى الحاكم بالأصل.
$
', '', 515), (14, 516, 'book', 'ولكنّ الصحيح: أنّ احتمال الفرق بين البيّنة الحاضرة والبيّنة غير الحاضرة لدى الحاكم خلاف المرتكز العقلائي الذي يرى أنّ حجّيّة البيّنة لأجل طريقيّتها وكاشفيّتها، و الحضور ليس دخيلا في الطريقيّة والكشف، وإنّما الفرق بين فرض الحضور وعدمه أنّ هذا الطريق - وهو البيّنة في فرض الحضور - قد ثبت بالحسّ، بينما في فرض عدم الحضور نحتاج إلى طريق آخر لإيصال هذا الطريق، ومن هنا يأتي الضعف، وهذا الضعف ليس في أصل البيّنة وإنّما هو في عدم وصولها بالحس؛ أي أنّ الضعف في الطريق الموصل للبيّنة. فالذي يأتي في المقام إنّما هو احتمال عدم حجّيّة هذا الطريق الموصل للبيّنة الموصل للبيّنة - وهو شهادة الفرع مثلا - لا اشتراط حجّيّة البيّنة الأصليّة بالحضور إلّا بمعنى اشتراط حجّيّة كلّ طريق بوصوله. إذن فشرط الحضور في ذاته بالنسبة للبيّنة منفي بالإطلاق المقامي لعدم مساعدة الارتكاز العقلائي عليه. والأثر العملي بين القول بشرط الحضور والقول بعدم حجّيّة بيّنة الفرع يظهر فيما لو ثبت بيّنة الأصل بمثل التواتر من دون حضور لها لدى الحاكم، فبناءً على شرط الحضور لاحجّيّة لهذه البيّنة، وبناءً على عدم نفوذ بيّنة الفرع مثلا لاإشكال في حجّيّة هذه البيّنة؛ لأنّها بيّنة الأصل.
فالذي ينبغي بحثه ليس هو اشتراط حجّيّة البيّنة بالحضور، وإنّما هو طريق ثبوت البيّنة، وأنّ البيّنة هل تثبت بالعلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ فحسب، أو تثبت أيضاً بخبر الواحد أو العلم الحدسىّ أو بيّنة الفرع؟ فهنا ثلاث مسائل:
 $
إثبات البينة بخبر الواحد:
المسألة الأولى - في أنّه هل تثبت البيّنة بخبر الواحد أوْلا؟
الصحيح عدم ثبوت البيّنة بخبر الواحد حتى بناء على حجّيّته في الموضوعات
', '', 516), (14, 517, 'book', 'في غير باب القضاء، وذلك بأحد وجوه:
1 - أن يدّعى أنّ دليل عدم كفاية خبر الواحد في باب القضاء كقوله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» يدلّ بإطلاقه على عدم كفاية خبر الواحد في كلّ ماله دخل في القضاء، ومنها ثبوت البيّنة. فإن لم يقبل ذلك وقيل إنّ المقصود بقوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» هو البيّنة واليمين على مصبّ النزاع، انتقلنا إلى البيان الثاني.
2 - أن يقال: إنّ دليل اشتراط البيّنة وعدم نفوذ خبر الواحد وحده في باب القضاء في إثبات مصبّ النزاع يدلّ بالأولويّة القطعيّة أو الأولويّة العرفيّة على عدم نفوذ خبر الواحد الدالّ على ثبوت البيّنة القائمة في مصبّ النزاع؛ لأنّ ثبوت مصبّ النزاع بخبر الواحد الدالّ على البيّنة القائمة عليه أضعف من ثبوته بخبر الواحد الدالّ مباشرة عليه. وعلى هذا الأساس نقول في كلّ ما يشترط ثبوته بالبيّنة- ولو في غير محل النزاع كالهلال - إنّ البيّنة القائمة عليه لايمكن إثباتها بخبر الواحد.
3 - التمسّك بالروايات الخاصّة الدالّة على عدم ثبوت الشهادة بخبر الواحد من قبيل ما عن غياث بن إبراهيم - بسند تامّ - عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام): «أنّ عليّاً (عليه السلام) كان لايجيز شهادة رجل على شهادة رجل إلّا شهادة رجلين على شهادة رجل»(1). وما عن طلحة بن زيد - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه عن أبيه عن عليّ (عليه السلام): «أنّه كان لايجيز شهادة رجل على رجل إلّا شهادة رجلين على رجل»(2).
 $
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 44 من الشهادات، ح 4، ص 298.
(2) نفس المصدر، ح 2.
', 517), (14, 518, 'book', '
 $
إثبات البيّنة بالعلم الحدسي:
المسألة الثانية - في أنّه هل تثبت البيّنة في القضاء بالعلم الحدسي غير القريبمن الحسّ أوْلا؟
وهنا يجب أن يبحث أوّلا: عن أنّه هل هناك إطلاق يدلّ على نفوذ البيّنة الثابتة بالعلم الحدْسىّ أوْلا؟
وثانياً: عن أنّه بعد فرض إطلاق من هذا القبيل هل هناك مقيِّد لهذا الإطلاق يدلّ على كون حجيّتها مشروطة بعدم كون العلم بها حدسياً، فيكون سقوط العلم الحدْسىّ المتعلق بالبيّنة عن الاعتبار عبارة عن سقوط العلم الموضوعي، أو لايوجد مقيّد لهذا الإطلاق، فعندئذ يكون العلم الحدسي طريقاً بحتاً لإثبات البيّنة التي هي حجّة، وحجّيّة هذا الطريق ذاتية لا يمكن فرض عدمها لمجرّد كون العلم حدسياً؟
أمّا وجود إطلاق يدلّ على حجيّة البيّنة المعلومة عن حدس، فلعلّه منحصر في أمرين:
1 - ما عن يونس عمّن رواه قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه ...»(1).
فيقال: إنّ مقتضى إطلاق هذا الدليل هو أنّه لا يتنزّل من البيّنة الى اليمين إلّا بعد فقدها على الإطلاق بأن لا نجدها حتى بالعلم الحدسي. إلّا أنّ الحديث ساقط بعدم الانتهاء إلى المعصوم، وعدم معرفة من روى عنه يونس.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 7 من كيفيّة الحكم، ح 4، ص 176.
', 518), (14, 519, 'book', '
2 - روايات: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»، و «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر». وقد مضى فيما سبق: أنّ هذه الروايات لا إطلاقَ حَكَمىَّ لها؛ فالتعبير الأوّل ناظر إلى حصر وسائل الإثبات في القضاء بالبيّنة واليمين، أمّا متى يرجع إلى البيّنة ومتى يرجع إلى اليمين؟ فهذا خارج عن عهدته، والتعبير الثاني ناظر إلى تشخيص من عليه البيّنة ومن عليه اليمين، أمّا ما هي شرائط البيّنة أو اليمين؟ فهذا خارج عن عهدته. نعم يتمّ فيهما الإطلاق المقامي حينما تكون حجّيّة بيّنة مّا ارتكازية، أو يكون المرتكز عدم الفرق بين بيّنة وبيّنة، فيكون التفصيل خلاف الارتكاز العقلائي، وفيما نحن فيه الفرق بين بيّنة معلومة بالحسّ وبيّنة معلومة بالحدس أمر معقول في نظر العقلاء، وارتكاز حجّيّة البيّنة إذا علمت بالحدس غير واضح؛ اذن لايتمّ الإطلاق في المقام.
أمّا الأدّلة الّلبّيّة كالإجماع والضرورة الفقهيّة والارتكاز، فشمولها للبيّنة المعلومة بالحدس أيضاً غير معلوم.
إذن لا دليل على حجّيّة البيّنة المعلومة للقاضي بالعلم الحدسي.
وأمّا وجود المقيِّد - لو تمّ الإطلاق - فيجب الرجوع فيه إلى أدلّة عدم حجّيّة العلم الحدسي للقاضي، لكي نرى هل تشمل ما نحن فيه أوْلا؟
فإن كان الدليل على ذلك التعدّي من روايات عدم نفوذ الشهادة الحدسية، فكما يُتعدّى من ذلك إلى العلم الحدسي للقاضي بالواقعة كذلك يُتعدّى إلى العلم الحدسي له بالبيّنة.
وإن كان الدليل على ذلك عدم ذكر العلم الحدسي للقاضي بالواقعة في روايات مقاييس القضاء كما ذكرت البيّنة واليمين، فالتعدّي إلى العلم الحدسي للقاضي بالبيّنة يتوقف على دعوى الأولويّة القطعيّة.
وإن كان الدليل على ذلك روايات حصر القضاء بالبيّنات والأيمان بأن يقال:
', '', 519), (14, 520, 'book', 'إنّها بهذا الحصر تنفي حجيّة العلم الحدسي، فالتعدّي إلى العلم الحدسي بالبيّنة يكون إمّا بدعوى إطلاق هذه الروايات لمورد البيّنة؛ أي أنّها كما تدلّ على أنّه لايجوز إثبات الواقعة المتنازع فيها بالعلم الحدسي، كذلك تدلّ على أنّه لايجوز إثبات البيّنة على الواقعة المتنازع فيها بالعلم الحدسي، أو بدعوى الأولويّة القطعيّة، أو الاولوية العرفية، فإن تمّت إحدى هذه الدعاوى ثبت عدم حجّيّة العلم الحدسي بالبيّنة. وهو يرجع في روحه إلى تضييق في حجّيّة البيّنة، فالبيّنة التي علمت بالحدس لاتكون حجّة، لاإلى تضييق في حجّيّة العلم الطريقي؛ كي يقال: إنّ هذا غير معقول.
 $
إثبات البيّنة بالبيّنة:
المسألة الثالثة - في ثبوت البيّنة بالبيّنة و عدمها.
مقتضى القاعدة في حقوق الناس هو الثبوت: إمّا بارتكاز العقلاء المقتضي لحجّيّة البيّنة في حقوق الناس والذي لم يرد عليه ردع، أو بدلالة مثل قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان»، وقوله (صلى الله عليه وآله): «البينة على المدّعي»، لابتقريب شمول إطلاقها الحَكَمىّ لبيّنة الفرع؛ كي يورد عليه: ما مضى من عدم تماميّة الإطلاق الحَكَمي فيها، أو يورد عليه: أنّها تنظر إلى البيّنة على الواقعة، لا البيّنة على البيّنة، بل بتقريب أنّ مفاد هذه الروايات ببركة ضمّ الارتكاز هو أنّ القضاء في واقعة مّا يستعين بما هو بيّنة وحجّة في نفسه وَ بِغَضّ النظر عن القضاء في الواقعة، وهذه الحجيّة تتّسع بالاطلاق المقامي لكلّ دائرة الارتكاز، والبيّنة على البيّنة داخلة في دائرة الارتكاز.
وهذا النحو من الاستدلال يمتاز على الاستدلال ابتداءً بالارتكاز بأنّه لو احتملنا في مورد مّا - على أساس رواية ضعيفة السند مثلا - الردع، ولكن لم
', '', 520), (14, 521, 'book', 'يثبت الردع لضعف سند الرواية - مثلا - سقط الاستدلال بالارتكاز؛ لأنّ الاستدلال به فرع القطع بعدم الردع، ولكن لم يسقط الاستدلال بظهور تمّ ببركة الارتكاز، هذا كلّه بلحاظ مقتضى القاعدة.
أما بلحاظ النصوص الخاصّة، فقد وردت عدّة روايات في المقام:
منها - ما يدلّ على نفوذ الشهادة على الشهادة كما عن طلحة بن زيد - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) عن أبيه عن علىّ (عليه السلام) «أنّه كان لايجيز شهادة رجل على رجل إلّا شهادة رجلين على رجل»(1). وما عن غياث بن إبراهيم - بسند تامّ - عن جعفر بن محمّد عن ابيه (عليهما السلام): «أن عليّاً (عليه السلام) كان لايجيز شهادة رجل على شهادة رجل إلّا شهادة رجل إلّا شهادة رجلين على شهادة رجل»(2).
والرواية الثانية رواها الشيخ بشكل آخر، وهو «أنّ عليّاً (عليه السلام) قال: لا أقبل شهادة رجل على رجل حىّ وإن كان باليمين»(3). وهذا التعبير إن كان المقصود به عدم قبول الشهادة ضدّ رجل غائب حىّ، فالرواية أجنبيّة عن المقام، أمّا أنّه هل نفتي بمضمونها من عدم قبول الشهادة على الحىّ الغائب وإن لم يمكن إحضاره، أوْلا؟ فهذا يجب أن ينقّح في محله. وإن كان المقصود به عدم قبول الشهادة على الشهادة إذا كان الشاهد الأصل حيّاً وإن لم يمكن إحضاره، فهذا يدلّ على خلاف المدّعى في المقام، وإن كان المقصود به عدم قبول خبر الواحد لإثبات الشهادة، فذكر قيد الحياة غريب في المقام. وعلى أىّ حال فيحتمل أن تكون هذه الرواية عين الرواية الثانية غاية الأمر أنّها وردت في نقل الصدوق (رحمه الله) بالتعبير الأوّل . وفي نقل الشيخ (رحمه الله)
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 44 من الشهادات، ح 2.
(2) نفس المصدر، ح 4.
(3) نفس المصدر، ح 3.
', 521), (14, 522, 'book', '
بالتعبير الثاني. والشاهد على وحدة الروايتين أنّهما معاً منقولتان عن محمد بن يحيى الخزّاز عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن علىّ (عليه السلام)، فكأنّه حديث واحد نقله واحد نقله الشيخ تارةً مشوَّشاً، والصدوق أُخرى بلا تشويش.
وعلى أىّ حال فإن فرضناهما حديثاً واحداً، فإمّا أنّ نقل الشيخ ينسلب الوثوق عنه بما نحسّ به من تشويش في مقابل نقل الصدوق غير المشوّش، فيبقى نقل الصدوق حجّة، أو أنّ اختلافهما في التعبير يسقط الحديث نهائيّاً بسبب اضطراب المتن، ونرجع إلى حديث طلحة بن زيد الدالّ على المقصود بلا تشويش. وإن فرضناهما حديثين، فحديث الشيخ ساقط بالإجمال، وحديث الصدوق حجّة على المقصود.
ومنها - ما يفصّل بين ما إذا أمكن للشاهد الأصل الحضور، فلا تصل النوبة إلى الفرع، أو لم يمكن ذلك فتنفذ شهادة الفرع، وهو ما ورد عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في الشهادة على شهادة الرجل وهو بالحضرة في البلد قال: «نعم، ولو كان خلف سارية يجوز ذلك إذا كان لايمكنه أن يقيمها هو لعلّة تمنعه عن أن يحضره ويقيمها، فلا بأس بإقامة الشهادة على شهادته»(1). ومضمون هذه الرواية مطابق لفتوى المشهور إلّا أنّ سندها ضعيف.
ومع ضعف السند هل تصل النوبة إلى الإفتاء بنفوذ شهادة الفرع حتى مع إمكان حضور الأصل، أوْلا؟ هذا يتوقف على وجود مرجع نرجع إليه لإثبات النفوذ بعد سقوط سند ما دلّ على عدم النفوذ وعدمه، وما يمكن تصوره مرجعاً تصل النوبة إليه بعد سقوط سند هذا الحديث أحد اُمور:
1 - ما مضى من حديثي طلحة بن زيد وغياث بن إبراهيم، أنّ عليّاً (عليه السلام)
', '(1) نفس المصدر، ح 1، ص 297.
', 522), (14, 523, 'book', '
كان لايجيز شهادة رجل على رجل إلّا شهادة رجلين على رجل، أو كان لا يجيز شهادة رجل على شهادة رجل، إلّا شهادة رجلين على شهادة رجل؛ بدعوى أنّ إطلاقهما في قبول شهادة رجلين على شهادة رجل يشمل فرض إمكان حضور الأصل.
ولكنّ هذا الإطلاق - كما ترى - غير تامّ:
أمّا أوّلا - فلأنّ الظاهر من الحديثين هو أنّ التركيز فيهما بالأصالة إنّما هو على العقد السلبي، وهو عدم كفاية شهادة واحد على الشهادة. أمّا ما هي شروط العقد الإيجابي، وهو نفوذ شهادة رجلين على الشهادة؟ فليس منظوراً في الكلام كي يتمّ الإطلاق.
وأمّا ثانياً - فلأنّ الحديثين إنّما وردا بلسان نقل فعل علىّ (عليه السلام) من أنّه كان يعتمد على شهادة رجلين على الشهادة، ويكفي في مقام صدق النقل قبول شهادتهما في الجملة سنخ نقل قضيّة في واقعة، فلا إطلاق لذلك. ولكن لولا الإشكال الأوّل، لعلّه كان بالإمكان الجواب على هذا الإشكال بأنّ الإمام الصادق (عليه السلام) في نقله لقصّة علىّ (عليه السلام) إنّما هو بصدد إبراز الحكم الشرعي لا مجرّد سرد قصّة، فيجري فيه الإطلاق بملاك ترك التفصيل.
2 - الارتكاز العقلائي الدالّ على نفوذ البيّنة في إحقاق الحقوق بين الناس بشكل مطلق، وذلك بدعوى أنّ رواية محمد بن مسلم - لو تمت سنداً - كانت رَدْعاً عن هذا الارتكاز بالنسبة لشهادة الفرع مع إمكان حضور الأصل، ولكن بما أنّها لم تتمّ سنداً؛ إذن فهذا الارتكاز غير مردوع عنه في المقام، وبذلك يثبت إمضاؤه.
والجواب: أنّه لو شمل الارتكاز نفوذ بيّنة الفرع مع إمكان حضور الأصل، فضعف سند رواية محمد بن مسلم و عدمه لايؤثّران في الأخذ بهذا الارتكاز وعدمه، فإنّ المسألة لو كانت عامّة البلوى - بحيث لم نكن نحتمل ورود الردع عن
', '', 523), (14, 524, 'book', 'نفوذ بيّنة الفرع فيها من دون أن يصلنا الردع ضمن أخبار عديدة - إذن نقطع بعدم الردع سواء صحّ سند رواية محمد بن مسلم، أوْلا، ولكن بما أنّه ليس الأمر كذلك، فاحتمال الردع وارد، وضعف سند الرواية لايعني القطع بعدم الردع، ومع احتماله لايثبت الإمضاء.
3 - روايات «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» و «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» بعد ضمّها إلى الارتكاز.
وتقريب ذلك: أنّ هذه الروايات وإن كانت لاتدلّ ابتداءً بالإطلاق على حجّيّة بيّنة الفرع في المقام، فإنّها ليست بهذا الصدد، إلّا أنّها ببركة الارتكاز العقلائي القائم على حجّيّة البيّنة يفهم منها أنّ المقصود هو الاعتماد في باب القضاء على ما هي بيّنة وحجّة مسبقاً؛ أي إنّ هذا إمضاء للارتكاز العقلائي القائم على حجّية البيّنة، وفي نفس الوقت بيان لكون تلك البيّنة الحجّة مقياساً من مقاييس القضاء، وهذا الإمضاء متحدد بحدود الارتكاز العقلائي، فإذا كان الارتكاز العقلائي شاملا لبيّنة الفرع مع إمكان حضور الأصل ثبت إمضاؤه بهذه الروايات، ويتمسّك به بعد ضعف سند ما دلّ على الردع.
هذا، وبالإمكان دعوى ثبوت النصّ الخاصّ على نفوذ بيّنة الفرع مع إمكان حضور الأصل، وهو عبارة عمّا سيأتي - إن شاء اللّه - من روايات الترجيح بالأعدليّة عند التعارض بين شاهد الفرع وتكذيب شاهد الأصل. و هذا يعني فرض حضور بيّنة الأصل، وبالتالي يعني عدم اشتراط نفوذ بيّنة الفرع بعدم إمكان حضور الأصل، اللّهم إلّا إذا احتمل كون المقياس هو عدم إمكان حضور الأصل عند أداء الفرع الشهادة، لاعدم إمكانه حدوثاً وبقاءً إلى حين حكم الحاكم، وتلك الروايات لم تدلّ على فرض إمكان حضور الأصل حين أداء الفرع الشهادة.
ومنها-ما دلّ على عدم نفوذ الفرع الثاني- أي الشهادة على الشهادة على
', '', 524), (14, 525, 'book', 'الشهادة - وهو ما عن عمرو بن جميع عن أبي عبداللّه عن أبيه (عليهما السلام) قال: «أَشهِدْ على شهادتك من ينصحُك. قالوا كيف يزيد وينقص؟ قال: لا، ولكن من يحفظها عليك، ولاتجوز شهادة على شهادة على شهادة»(1).
وسند الحديث عبارة عن سند الصدوق (رحمه الله) إلى عمرو بن جميع، وهو أبوه عن أحمد بن إدريس عن محمد بن أحمد عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي عن الحسن بن علي بن يوسف عن معاذ الجوهري عن عمرو بن جميع. ومعاذ الجوهري وعمرو بن جميع نثبت وثاقتهما برواية ابن أبي عُمير عنهما، وباقي رجال السند ثقات، ماعدا الحسن بن الحسين اللؤلؤي الذي يكون توثيق النجاشي إيّاه معارضاً باستثناء ابن الوليد من روايات محمد بن أحمد بن يحيى ما ينفرد به الحسن بن الحسين اللؤلؤي. فإذا سقط سند الحديث، كان المرجع في إثبات نفوذ شهادة الفرع الثاني ما أشرنا إليه من روايات حجّيّة البيّنة في القضاء بعد تتميم دلالتها بالارتكاز.
ومنها - ما دلّ على عدم نفوذ شهادة الفرع في الحدود، وهو ما ورد عن طلحة ابن يزيد - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه عن أبيه عن علىّ (عليهم السلام): «أنّه كان لايجيز شهادة على شهادة في حدّ»(2). وماعن غياث بن إبراهيم - بسند تامّ - عن جعفر عن أبيه قال: «قال (عليه السلام): لاتجوز شهادة على شهادة في حدّ، ولاكفالة في حدّ»(3).
وإذا كان الجرم ممّا يستدعي أمرين، أحدهما الحدّ من قبيل السرقة التي تستدعي استرجاع المال مع قطع اليد، فمقتضى الجمع بين ما دلّ على نفوذ شهادة الفرع و ما دلّ على استثناء الحدود هو التفصيل بين الحدّ والأثر الآخر بثبوت الثاني
', '(1) نفس المصدر، ح 6، ص 298.
(2) الوسائل، ج 18، باب 45 من الشهادات، ح 1، ص 299.
(3) الوسائل، ج 18، باب 45 من الشهادات، ح 2، ص 299.
', 525), (14, 526, 'book', '
دون الأوّل.
ومنها - تكذيب شاهد الأصل شاهد الفرع، وهي:
1 - ما عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام)في رجل شهد على شهادة رجل، فجاء الرجل فقال: إنّي لم أشهد. قال: «تجوز شهادة أعدلهما، وإن كانت عدالتهما واحدة لم تجز شهادته»(1).
2 - ما عن عبدالرحمان - بسند تامّ - قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن رجل شهد شهادة على شهادة آخر، فقال: لم أشهده؟ فقال: تجوز شهادة أعدلهما»(2).
ولعلَّهما رواية واحدة.
3 - ما عن ابن سنان - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجل شهد على شهادة رجل فجاء الرجل فقال: لم أشهده؟ قال: «فقال: تجوز شهادة أعدلهما، ولو كان أعدلهما واحداً، لم تجز شهادته»، ورواه الكليني (رحمه الله) إلّا أنّه قال: «لم تجز شهادته عدالة فيهما»(3). والمقصود بابنِ سنان عبدُاللّه بقرينة نقْله عن الصادق (عليه السلام).
والظاهر من هذه الروايات هو فرض التكذيب من قبل الأصل قبل حكم الحاكم.
أمّا إذا كان التكذيب بعد حكم الحاكم فهو خارج عن مورد النصوص، ويجب أن نفتي فيه بمقتضى القواعد، ومقتضى القواعد هو أنّه حتى لو كان تكذيب الأصل مسقطاًلبيّنة الفرع عن القوّة، فبما أنّ بيّنة الفرع عند الحكم كانت واجدة لشرائط الحجّيّة، وكان الحكم وفق المقاييس فلا معنى لنقض الحكم بسبب تكذيب
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 46 من الشهادات، ح 1، ص 299.
(2) الوسائل ج 18، باب 46 من الشهادات، ح 2، ص 299.
(3) نفس المصدر، ح 30، ص 300.
', 526), (14, 527, 'book', '
الأصل بعد الحكم.
نعم، لو كان هذا التكذيب كاشفاً في نظر الحاكم عن عدم تماميّة شرائط الحجّيّة حين الحكم، كان عليه التراجع عن الحكم. وهذا فرض أمر زائد غير داخل في موضوع بحثنا. أمّا كيف يتّفق أن يكون التكذيب كاشفاً عن عدم تماميّة شرائط الحجية؟ فهو من قبيل ما لو أورث هذا التكذيب العلم الإجمالي بفسق الفرع أو الأصل، لكون أحدهما كاذباً، فعلى كلّ تقدير يسقط الفرع عن الأثر إمّا لفسقه،أو لفسق الأصل الذي شهد الفرع على شهادته. أمّا لو احتملنا الخطأ في أحدهما أو طروّ الفسق على الأصل بعد الشهادة؛ إذن لم ينكشف خطأ الحكم.
وعلى أىّ حال فإذا كان التكذيب قبل حكم الحاكم، فقد نطقت الروايات - كما عرفت - بأنّ بيّنة الفرع تقدّم بالأعدلية، أمّا إذا تساوياً أو كان الأصل أعدل، لم تثبت شهادة الأصل ببيّنة الفرع.
والظاهر من الروايات أنّ بيّنة الفرع المؤتلفة من شاهدين يجب أن يكون كلاهما أعدل من الأصل كي تثبت شهادة الأصل بذلك، إذ لو كان أحدهما مساوياً، أو أقلّ عدالة فقد سقطت شهادته بحكم هذه الروايات، وبالتالي لم تتمّ لنا شهادة شاهدين عدلين.
وهل تقوم مقام أعدليتهما زيادة العدد بأن يشهد شهود أربعة مثلا على شهادة الأصل؟ هذا مشكل؛ لعدم وضوح تعدٍّ عرفىّ بحيث يرجع إلى ظهور لفظي للدليل، وعدم القطع العقلي بعدم الفرق.
وهل تقوم مقام شهادة العدلين على شهادة الأصل شهادة رجل وامرأة عليها، أوْلا؟ الجواب بالنفي؛ ليس فقط لعدم الدليل على نفوذ شهادة المرأة في المقام، بل لدلالة الحصر - أيضاً - الوارد في روايتي طلحة بن زيد وغياث بن إبراهيم الماضيتين على ذلك؛ حيث جاء في الأُولى: «كان لا يجيز شهادة رجل على رجل إلّا
', '', 527), (14, 528, 'book', 'شهادة رجلين على رجل»، وفي الثانية: «كان لايجيز شهادة رجل على شهادة رجل إلّا شهادة رجلين على شهادة رجل». فالمفهوم عرفاً - لأجل إخراج الاستثناء عن كونه منقطعاً - هو أنّ المستثنى منه أمر غير مذكور، وهو معنى عامّ يشمل شهادة رجلين وغيرها، فكأنّه قال: «كان لايجيز شهادة في إثبات شهادة الأصل إلّا شهادة رجلين». وهذا - كما ترى - يدلّ بالحصر على عدم نفوذ شهادة رجل وامرأة.
وهل تقوم شهادة رجل ويمين على شهادة الأصل مقام بيّنة الفرع؟ الجواب بالنفي لا للحصر، فإنّ المستثنى منه غير المذكور كما يحتمل أن يكون عبارة عن مطلق ما يثبت شهادة الأصل، فينفي إذن بالإطلاق ثبوت شهادة الأصل بشهادة رجل واحد مع اليمين، كذلك يحتمل أن يكون عبارة عن خصوص شهادة الفرع، فيدلّ على أنّ شهادة الفرع الكاملة ليست إلّا شهادة رجلين، أمّا شهادة رجل واحد فليست كشهادة الفرع كافية، لكنّ من المحتمل أن تكون نصف شهادة الفرع، ويكون اليمين مؤثّراً أثر النصف الآخر. فنحن نقول بعدم حجّيّة شهادة شخص واحد على شهادة الأصل مع اليمين، لا لأجل إطلاق الحصر، بل لأنّ نفوذ ذلك خلاف الأصل، ولم يدلّ عليه دليل، وكذلك لا دليل على كفاية شهادة رجل واحد على شهادة الأصل منضمّاً إلى يمين المدّعي على أصل الدعوى.
 $
وحدة مصبّ الشهادة
الشرط الثاني عشر - وحدة مصبّ الشهادة:
فلو شهد أحدهما على إقراض زيد لعمرو مبلغاً قدره كذا ... وشهد الآخر على إقرار عمرو بذلك لم تتمّ البيّنة؛ لأنّهما لم يشهدا بشيء واحد، وكذلك لو شهد أحدهما على سرقة دينار، والآخر على سرقة درهم، أو شهد أحدهما بأنّه باعه في
', '', 528), (14, 529, 'book', 'شهر كذا والآخر على أنّه باعه في شهر آخر، أو شهد أحدهما بأنّه باعه بدينار والآخربأنّه باعه بدرهم، وما إلى ذلك.
نعم، لو كانت الخصوصيّة المختلف فيها غير مقوّمة للقدر المشترك بين الشهادتين الذي هو محلّ الأثر، لم يضرّ الخلاف بينهما في الخصوصيّة بثبوت القدر المشترك، كما لو شهدا بأنّه سرق ثوباً بعينه، واختلفا في أنّ القيمة السوقيّة لهذا الثوب هل هو دينار أو ديناران، فهنا تثبت أصل سرقة هذا الثوب بلا إشكال.
وتفصيل الكلام في ذلك: أنّ اختلافهما في الخصوصيّة يتصور على أنحاء:
الأوّل - أن لا تكون الخصوصيّة مُحصِّصة للقدر المشترك بين الشهادتين، بل تكون من المقارنات. وهنا لا إشكال في ثبوت القدر المشترك، وذلك كما في المثال الذي مضى من الاختلاف في قيمة الثوب المعيّن الذي شهدا بأنّه قد سرقه، فإنّ كون قيمة هذا الثوب بهذا المقدار أوْلا إنّما هو أمر مقارن لسرقته، ولا يحصّص سرقة هذا الثوب إلى فعلين كما هو واضح.
الثاني - أن تكون الخصوصيّة مُحَصِّصة للقدر المشترك، ويكون الأثر المطلوب مترتّباً على الحصّة، لا على الجامع بحدّه الجامعي. وهنا لا إشكال في عدم نفوذ البيّنة حتى لو غضّ النظر عمّا سيأتي، وذلك لأنّ المفروض أنّ الأثر ليس مترتّباً على الجامع بما هو جامع، وإنمّا هو مترتّب على الحصّة، وكلّ من الحصّتين لم تقم عليها بيّنة، ومثاله مامضى من شهادة أحدهما بإقراض زيد لعمرو، وشهادة الآخر بإقرار عمرو بذلك. فالأثرهنا مترتّب على الحصّة؛ إذ الأثر إمّا هو الوجوب الواقعي للأداء، وهو مترتّب على الإقراض، أو هو نفوذ الإقرار ظاهراً، وهو مترتب على الإقرار، والجامع بينهما بحدّه الجامعي لا أثرله.
الثالث - أن تكون الخصوصيّة مُحصِّصة للقدر المشترك أيضاً، ويكون الجامع بحّده الجامعي ذا أثر في المقام،ولكن يكون هذا التحصيص مؤدّياً إلى التكاذب بين
', '', 529), (14, 530, 'book', 'الشاهدين،كمالو شهد أحد هما على أنّه باع هذه الدار في الساعة الفلانيّة بألف دينار، وشهد الآخر على أنّه باعها في نفس الساعة بألف درهم. وهنا لاينبغي الإشكال في عدم نفوذ البيّنة حتى لو غضّ النظر عمّا سيأتي - إن شاء الله - في الفرض الرابع، وذلك لأنّ التكاذب بين الشاهدين وإن كان على الخصوصيّة وليس على الجامع، ولكن بما أنّ الشهادة بالجامع إنّما هي شهادة به في ضمن الحصّة، ولم تكن الخصوصيّة المختلف فيها من المقارنات البحتة. فهنا لا إشكال في أنّ الشهادة بالجامع تُضعَّف داخليّاً، أي أنّ البيّنة ضَعَّفت نفسها بنفسها، فهنا إمّا أن نقول: إنّ إطلاق دليل حجّيّة البيّنة منصرف بمناسبات الحكم والموضوع عن مثل هذا الفرض، أو نقول: إنّ دليل حجّيّة البيّنة - على ما مضى منّاسابقاً - لم يتمّ له إطلاق إلّا بحدود الارتكاز العقلائي، ولم يثبت ارتكاز عقلائي على الحجّيّة عند وجود تكاذب من هذا القبيل بينهما.
الرابع - أن تكون الخصوصيّة مُحصِّصة للقدر المشترك، ويكون الجامع بحدّه الجامعي ذا أثر، ولايكون التحصيص مؤدّياً إلى التكاذب، كما لو شهد أحدهما بأنّه أتلف ديناراً من أموال زيد، والآخر بأنّه أتلف عشرة دراهم من تلك الأموال، واحتملنا صدقهما معاً بأن يكون قد أتلف ديناراً وعشرة دارهم، فهنا لا يرد شيء من الإشكالين السابقين - من عدم الأثر أو التكاذب - كما هو واضح، ولكن مع ذلك لا ينبغي الإشكال في عدم نفوذ هذه البيّنة، وذلك لأنّ شهادة كلّ منهما على الجامع لم تكن شهادة عليه بحدّه الجامعي، بل كانت شهادة عليه في ضمن الحصّة. وهذا لا يحقّق وحدة مفاد الشهادتين بالمعنى المأخوذ عرفاً و متشرّعيّاً في مفهوم كلمة البيّنة، هذا مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الإطلاق في أدلّة حجّيّة البيّنة لم يتمّ بأكثر ممّا يثبت بالارتكاز، ولا ارتكاز، ولا ارتكاز على حجّيّة مثل هذه البيّنّة.
ولعلّ السرّ في عدم استقرار ارتكاز العقلاء على حجّيّة مثل هذا - وعدم
', '', 530), (14, 531, 'book', 'اكتفائهم بهذا المقدار من الوحدة في الوحدة المأخوذة عندهم في مفهوم البينة - هو الفرق الموجود بحساب الاحتمالات بين شهادة شاهدين على شيء واحد، وهو سرقة الدينار مثلا، وشهادة كلّ منهما على شيء غير ما شهد الآخر به رغم وجود جامع بينهما، كشهادة أحدهما على سرقة الدينار، وشهادة الأخر على سرقة الدارهم، فالأوّل أقوى من الثاني لما نقّحه أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في بحث حساب الاحتمال من أنّه كلّما اشتدّ التماثل بين الشهادات، قوي المضعِّف الكيفي الذي يبعّد احتمال الكذب والخطأ. وهذا الحساب بشكله الدقيق وإن لم يكن موجوداً في أذهان الناس الاعتياديين، لكن النتيجة على الإجمال واضحة عندهم بالفطرة.
ولا يبعد أن تستثنى عرفاً من الفرض الثالث والرابع حالتان:
الاولى - ما إذا كانت مساحة الخلاف بينهما بالقياس إلى مساحة الوفاق بمقدار بحيث يُطمأنّ عرفاً بأنّهما - على تقدير كونهما صادقين - ينظران الى واقعة واحدة، وإن وقع الاشتباه من أحدهما في الخصوصيّة، فعندئذ يكون المقدار الثابت من الوحدة كافياً في صدق ثبوت البيّنة عرفاً على المقدار الجامع، وكان الارتكاز العقلائي ثابتاً في المقام، والدليل غير منصرف عنه، فمثلا: لو استُنطِق الشاهدان في تمام الخصوصيّات فاتّفقا عليها ما عدا وجود فارق في تعيين الحادثة بمقدار ربع ساعة مثلا، فهذا الفارق وإن كان بالدقّة محصِّصاً وقد يوجب التكاذب، ولكنه قد يكون عرفاً غير مضرّ بالبيّنة، فقد يقال عرفاً: إنّ البيّنة قد تمّت على الحادثة الفلانيّة وإن اختلفا اشتباهاً في وقت الحادثة؛ لعدم ضبط أحدهما الوقت بالدقّة الكاملة.
والثانية -ما لو شهد أحدهما بأنّ مصبّ شهادته هو عين مصبّ شهادة الآخر وأنّ صاحبه قد أخطأ في الخصوصيّة، فهذا المقدار كاف في انصباب الشهادتين على مصبٍّ واحد هو الجامع وتماميّة الارتكاز في المقام، وذلك كما لو شهدا بالبيع، واختلفا في أنّه كان في اللّيل أو في النهار، وشهد أحدهما بأنّ البيع الذي يشهد به هو عين البيع
', '', 531), (14, 532, 'book', 'الذي حضره الآخر إلّا أنّه أخطأ في زمانه.
ولا يسري هذان الاستثناءان إلى ما لو كان الأثر مترتّباً على الخصوصيّتين لا على الجامع، كما لو شهد أحدهما بالبيع، والآخر بالصلح - والأثر وهو الملكيّة يترتب على واقع العقود لا على الجامع بين العقدين - وقال أحدهما: إنّي أشهد بنفس الواقعة التي حضرها الآخر إلّا أنّه أخطأ فيما تخيّله من أنّ العقد الذي حضره كان بيعاً مثلا، بل كان صلحاً. فمثل هذا الكلام لاينفع في تصحيح البيّنة؛ إذلو قصد بذلك إثبات أحد العقدين بالخصوص، فمن الواضح أنّه لا اتّفاق عليه في الشهادتين، ولو قصد بذلك إثبات الجامع، فالجامع لا أثرله، ولو قصد بذلك إثبات النتيجة - وهي الملكيّة - بدعوى أنّهما متوافقان على الشهادة بالملكيّة، قلنا: إنّ الملكيّة أثر اعتباري وليست عيناً خارجية تفرض شهادتهما بها مع الاختلاف في خصوصيّة ما، ومن الواضح أنّ الملكيّة الناشئة من البيع فرد اعتباري آخر غير الملكيّة الناشئة من الصلح، وليست هناك قطعة عينيّة خارجاً متّفق عليها كي يستطيع أن يقول أحدهما: إنّ مصبّ شهادتي هو عين مصبّ شهادة الآخر.
 $
علاج الخلاف بضم اليمين:
ثمّ في المورد الذي لا تتمّ البيّنة لأجل الخلاف الموجود بين الشهادتين لوأنضمّت إحدى الشهادتين بيمين المدّعي في باب الأموال، قالوا بنفوذ ذلك من باب نفوذ شهادة شاهد واحد في الأموال مع يمين المدّعي.
نعم، قد يشكل الأمر في فرض التكاذب، وقال في الجواهر: «نسب الاجتزاء باليمين في صورة التكاذب في الدروس إلى القليل مشعراً بتمريضه، لكنّه في غير محّله؛ لأنّ التكاذب المقتضي للتعارض - الذي يفزع فيه للترجيح وغيره - إنّما يكون بين
', '', 532), (14, 533, 'book', 'البيّنتين الكاملتين، لا بين الشاهدين كما هو واضح»(1).
أقول: هذا الكلام إنّما يتمّ إذا وجدنا إطلاقاً في دليل حجّيّة شهادة الواحد منضّمة إلى اليمين يشمل فرض المقام، وإلّا فاحتمال الفرق ثبوتاً بين فرض ابتلاء الشهادة بمكذّب وعدمه وارد لا محاله، والظاهر وجود إطلاق من هذا القبيل في المقام، فإنّ روايات حجّيّة شهادة الواحد مع اليمين - وإن كان بعضها بلسان قضيّة في واقعة - من قبيل أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قضى بشهادة واحد مع اليمين(2)، ولكنّ بعضها يتمتّع بالإطلاق من قبيل ما عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس ...»(3) وما عن البزنطي بسند تامّ قال: «سمعت الرضا (عليه السلام)يقول: قال: أبو حنيفة لأبي عبداللّه (عليه السلام): تجيزون شهادة واحد ويمين؟ قال: نعم، قضى به رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وقضى به علىّ (عليه السلام) بين أظهركم بشاهد ويمين. فتعجّب أبوحنيفة، فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): أتعجب من هذا!! إنّكم تقضون بشاهد واحد في مائة شاهد، فقال له: لا نفعل، قال: بلى، تبعثون رجلا واحداً فيسأل عن مائة شاهد، فتجيزون شهادتهم بقوله، وإنّما هو رجل واحد»(4).
نعم، هذه الروايات لا تدلّ بالإطلاق على استغناء هذا الشاهد الواحد عن الشروط المشروطة في البيّنة، فإنّ هذه الروايات إنَّما وردت لإحلال اليمين محلّ أحد الشاهدين، لا لإغناء الشاهد الآخر عن تلك الشروط، أمّا لو احتملنا وجود شرط
', '(1) جواهر الكلام ج 41، ص 212.
(2) جملة من روايات الباب 14 من كيفيّة الحكم من الجزء 18 من الوسائل.
(3) الوسائل ج 18، باب 14 من كيفيّة الحكم، ح 12، ص 196.
(4) نفس المصدر، ح 17، ص 197.
', 533), (14, 534, 'book', '
زائد على شروط البيّنة بالنسبة للرجل الواحد فهو منفىّ بالإطلاق، وشرط عدم تكذيبه من قبل شخص واحد شرط زائد على شروط البيّنة؛ لأنّ البيّنة لا تسقط بتكذيب رجل واحدلها خاصّة إذا كان التكذيب راجعاً إلى الخصوصيّة والأثر المطلوب كان أثراً للجامع.
 $
الشهادة على الجامع وعدم ذكر الخلاف:
بقي الكلام في شيء واحد، وهو أنّه هل يصحّ للشاهدين المختلفين فيما بينهما فيبعض الخصوصيات أن يتركا ذكر نقطة الخلاف، ويقتصرا على ذكر القدر المتّفق عليه فيما بينهما، وبذلك تكتمل البينة حقّاً، ويصحّ للقاضي الحكم بالقدر المتفق عليه بينهما، أوْلا؟.
ذكر صاحب الجواهر (رحمه الله) - بعد بيان أنّ توارد شهادة الشاهدين على شيء واحد شرط في القبول - ما نصّه: «نعم، للشاهدين في غير مقام التدليس تصحيح الشهادة على وجه تكون مثمرة عند الحاكم، كما أشارت إليه النصوص بعد أنْ تكون على حقّ، فيشهد شاهد البيع والصلح - مثلا - على الملك من دون ذكر السبب، وهكذا ... »(1).
وكأنّه (رحمه الله) يرى أنّ هذا ثابت وفق القاعدة، وتشير إليه النصوص أيضاً. والوجه في ثبوت ذلك وفق القاعدة: أنّ مصبّ الشهادتين بعد حذف مورد الخلاف أصبح واحداً، فلا مبرِّر لعدم نفوذ الشهادة.
أقول: إنّ الشهادة اللّفظيّة طريق إلى واقع الشهادة الموجود في النفس، ومن
', '(1) الجواهر، ج 41، ص 211 و 212.
', 534), (14, 535, 'book', '
المستحيل أن يتبدّل وضع مصبّ الشهادتين في النفس من التعدّد إلى التوحّد بحذف مورد الخلاف عن اللّفظ، ولاقيمة للشهادة اللّفظية عدا مالها من كشف عن مفاد الشهادة في النفس، فإن كان الخلاف الموجود غير مضرّ بوحدة الشهادتين، كما هو الحال في بعض الموارد - كما شرحناه - فلا ضير في اشتمال اللّفظ عليه، وإن كان مضرّاً بها فحذف الخلاف من اللّفظ ليس له أثر عدا أنّ الحاكم قد ينخدع ويتخيّل وحدة الشهادتين، فيقضي وفق ما فهمه من اللّفظ.
وأمّا الروايات فهي تماماً ضعيفة السند - ثمّ إنها لاتدلّ على المدّعى في المقام، وهي كمايلي:
1 - عن داود بن الحصين قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام)يقول: إذا أُشهِدتَ على شهادة فأردتَ أن تقيمها فغيّرها كيف شئت، ورتّبها وصحّحها بما استطعت حتى يصحّ الشيء لصاحب الحقّ بعد أن لا تكون تشهد إلّا بحقه، ولا تزيد في نفس الحقّ ماليس بحقّ، فإنّما الشاهد يبطل الحقّ، ويحقّ الحقّ، وبالشاهد يوجب الحقّ، وبالشاهد يعطى، وإنّ للشاهد في إقامة الشهادة - بتصحيحها بكلّ ما يجد إليه السبيل من زيادة الألفاظ والمعاني والتفسير في الشهادة ما به يثبت الحقّ ويصحّحه ولا يؤخذ به زيادةً على الحقّ - مثلَ أجرِ الصائم القائم المجاهد بسيفه في سبيل الله»(1).
وقوله: «بكلّ ما يجد إليه السبيل من زيادة الألفاظ و المعاني والتفسير في الشهادة» يدلّ على النظر إلى التغيير الحقيقي للشهادة أمام الحاكم الجائر مادامت النتيجة هي وصول الحقّ إلى ذي الحقّ، وذلك عندما يكون هذا الحاكم غير مستعدّ لتنفيذ الشهادة إذا أدّاها بوجهها الحقيقي، وهذا أجنبىّ عن ما نحن فيه من تغيير
', '(1) الوسائل ج 18، باب 4 من الشهادات، ح 1، ص 230.
', 535), (14, 536, 'book', '
الألفاظ بمثل حذف مورد الخلاف مع بقاء الشهادة على كونها شهادة بالواقع حقيقة، وذلك أمام حاكم العدل.
وأوضح منه في ما شرحناه نقل السرائر للحديث عن داود بن الحصين وهو كمايلي:
2 - نقل صاحب السرائر عن جامع البزنطي عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحصين قال: «سمعت من سأل أبا عبداللّه (عليه السلام) وأنا حاضر عن الرجل يكون عنده الشهادة، وهؤلاء القضاة لا يقبلون الشهادات إلّا على تصحيح ما يرون فيه من مذهبهم، وإنّي إذا أقمت الشهادة احتجتُ إلى أن أُغيِّرها بخلاف ما أُشهِدتُ عليه وأزيد في الألفاظ ما لم أُشهد عليه، وإلا لم يصحَّ في قضائهم لصاحب الحقّ ما أُشهدتُ عليه، أفيحلّ لي ذلك؟ فقال: إي واللّه، ولك أفضل الأجر والثواب، فصحِّحْها بكلّ ما قدرتَ عليه ممّا يرون التصحيح في قضائهم»(1). فهذا - كما ترى - ظاهر في إضافة ما لم يشهد عليه أمام حاكم الجور الذي لا يقبل بتنفيذ الشهادة بوجهها الواقعي، وهو غيرما نحن فيه.
3 - ما عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قلت له: تكون للرجل من إخواني عندي الشهادة ليس كلّها تجيزها القضاة عندنا؟ قال: إذا علمت أنّها حقّ فصحّحها بكلّ وجه حتى يصحّ له الحقّ»(2). وهذا - كما ترى - ناظر إلى تصحيح الشهادة أمام قاضي الجور، فإنّه المشار إليه بقوله: «القضاة عندنا» فلا يدلّ على جواز التصحيح بالمعنى المقصود في المقام أمام قاضي العدل:
فكأنّ هذه الروايات تنظر إلى جواز التزوير في الشهادة أمام قاضي الجور ما
', '(1) نفس المصدر، ح 2.
(2) نفس المصدر، ح 3، ص 231.
', 536), (14, 537, 'book', '
لم تكن النتيجة إلّا وفق الحقّ، فهي تشبه رواية الحكم أخي أبي عقيل الدالّة على جواز شهادة الزور لدفع الباطل الذي حمّله الخصم بشهادة الزور، قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): إنّ خصماً يستكثر علىّ بشهود الزور، وقد كرهت مكافأته، مع أنّي لا أدري يصلح لي ذلك، أمْ لا؟ فقال: أما بلغك عن أمير المؤمنين (عليه السلام)أنّه كان يقول: لا توسروا أنفسكم وأموالكم بشهادات الزور، فما على أمريء من وَكَف في دينه و لامأثم من ربّه أن يدفع ذلك عنه، كما أنّه لو دفع بشهادته عن فرج حرام، أو سفك دم حرام، كان ذلك خيراً له»(1). والحديث ضعيف السند.
وهناك رواية تدلّ على حرمة شهادة الزور حتى أمام قاضي الجور لإحياء الحقّ، وهي ضعيفة السند بالإرسال، وهي ما رواها يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن الرجل يكون له على الرجل الحقّ فيجحده حقّه، ويحلف أنّه ليس له عليه شيء و ليس لصاحب الحقّ على حقّه بيّنة، يجوز لنا إحياء حقّه بشهادة الزور إذا خشي ذهابه؟ فقال: لا يجوز ذلك، لعلّة التدليس»(2). هكذا في نسخة الكافي(3) والتهذيب(4)، وفي نسخة الفقيه(5): (... يجوز له إحياء حقّه...)، فبناءً على النسخة الأُولى يظهر منها أنّ الشهود يعلمون بأصل الحقّ فيصطنعون شهادة زور لإحياء ذاك الحقّ، وقد نهى عنه الإمام (عليه السلام)، وبناءً على النسخة الثانية
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 18 من الشهادات، ح 2، ص 247 و 248.
(2) نفس المصدر، ح 1، ص 247.
(3) ج 7، باب في الشهادة لأهل الدين، ح 1، ص 388.
(4) ج 6، ح 694.
(5) ج 3، ح 148.
', 537), (14, 538, 'book', '
قد يقال: إنّ الشهود لا يعلمون حتى بأصل الحقّ، وإنما صاحب الحقّ هو الذي يعلم بالحقّ، فقد وقع السؤال عن أنّه هل يجوز له إقامة شهود زور لإحقاق حقّه، أوْ لا ؟ ومن هنا قد يتأتّى احتمال أنّ حرمة الشهادة أو حرمة الاستشهاد نشأت هنا من عدم علم الشهود بأصل الحقّ، فلا تنافي بين النهي في هذا الحديث عن شهادة الزور والرخصة فيها عند علم الشهود بأصل الحقّ في سائر الروايات، إلّا أنّ التعليل الوارد في هذا الحديث لا ينسجم مع هذا التفسير، وهو التعليل بالتدليس، فإنّ التدليس يتقوّم بكون الشهادة زوراً سواء علم الشاهد بأصل الحقّ، أوْ لا.
وعلى أىّ حال فقد عرفت أنّ الروايات كلّها ضعيفة السند، وعرفت أنّها جميعاً أجنبيّة عن المقام.
 $
شهادة الزور في محاكم الجور:
وبهذه المناسبة لا بأس بالإشارة إلى ما تقتضيه القاعدة في شهادة الزور بهدف إحقاق الحقّ في محكمة الجور، فهل نقول بجوازها ما دامت المحكمة محكمة جور، أوْ لا؟
الظاهر عدم الجواز لحرمة التدليس والكذب، إلّا إذا زاحمت هذه الحرمة واجباً أهمّ كحفظ النفس أو العرض.
 $
 $
 $
$
', '', 538), (14, 539, 'book', ' $
البيّنة وشروطها لدى الفقه الوضعي
وفي ختام البحث عن شرائط البيّنة لا بأس بالتعرّض شيئاًمّا لوجهة نظر الفقهالوضعي بشأن البيّنة وشروطها.
 $
تحفّظ الفقه الوضعي تجاه البيّنة:
إنّ الفقه الوضعي ينظر إلى البيّنة بتحفّظ، ولديه نقطتان أساسيّتان فيكيفيّة التحفّظ:
الأولى - أنّه جعل نفوذ البيّنة في ميدان التصرّفات القانونيّة المدنيّة محدوداً بما لا تزيد قيمته على عشرة جنيهات فرنسية أو عشرين جنيهاً مصرياً. نعم، نفوذها في الوقائع القانونيّة الماديّة وفي التصرّفات القانونيّة التجاريّة غير محدود، وللقاعدة بكلا طرفيها استثناءاتها.
والمقصود بالتصرف القانوني ما يؤثّر بواسطة الإرادة أثراً قانونيّاً كعقد البيع، والمقصود بالوقائع القانونية ما يؤثّر أثراً قانونيّاً بلا توسيط الإرادة، والتصرّف القانوني ينقسم إلى المدنىّ والتجاري: فالتجاري ما يكون بروح المتاجرة، والمدني غيره، وقد يكون تصرف واحد بلحاظ أحد المتعاقدين تجاريّاً وبلحاظ المتعاقد الآخر مدنيّاً، كما لوباع التاجر سلعته للمستهلك، فهو بلحاظ البائع تصرف تجارىّ وبلحاظ المستهلك تصرف مدنىّ، وكما لوباع المزارع جزء من محصوله من التاجر، فهو بلحاظ البائع مدنىّ وبلحاظ المشتري تجارىّ.
وعندئذ فنفوذ البيّنة لصالح التاجر غير محدود، ونفوذها لصالح الطرف الآخر محدود. وقد مضى منّا في أوّل بحثنا عن طرق الإثبات تعليل هذا التحديد في
', '', 539), (14, 540, 'book', 'التصرف القانونيّ المدنىّ وعدم التحديد في غيره ببعض النكات نقلا عن الدكتور عبدالرزاق السنهوري، فراجع.
والثانية - أنّ البيّنة في مورد نفوذها - سواء كان نفوذها لأجل كون القيمة لا تزيد على المبلغ المحدَّد، أو لكون نفوذها غير مشروط بمبلغ محدَّد، كما في الواقعة القانونيّة أو التصرُّف القانونىّ التجارىّ - يترك أمر الاقتناع بها وعدمه إلى القاضي، فهو الذي يقدّر قيمة البيّنة وأنّها مُقنعة أو غير مُقنعة.
كلّ هذه التحفّظات تجاه البيّنة - وجعلُ الأولويّة في الإثبات للكتابة - نشأت من دقّة الكتابة وضبطها وقوّتها، وضعف البيّنة واحتمال الخيانة أو الخطأ فيها. ويُعتقَد أنّ الصدارة في الإثبات إنمّا كانت قديماً للبيّنة باعتبار انتشار الأُمّيّة وعدم تعارف الكتابة، فإذا ما انتشرت الكتابة وسهلت على الناس تقلّصت قيمة البيّنة.
وبلحاظ التحفُّظ الأوّل جاء في الوسيط ما خلاصته: أنّه أوجب في القانون الفرنسي في سنة (1566) تدوين المعاملات التي تزيد قيمتها على مائة جنيه فرنسي؛ نظراً للشكوى التي ترددت من عيوب الإثبات بالشهادة، وكانت تساوي المائة جنيه نحواً من ألفين من الفرنكات، وبعد ردح من الزمن نزل نصاب البيّنة إلى مائة وخمسين فرنكاً؛ نظراً لزيادة انتشار الكتابة، ثم نقصت قيمة الفرنك، فرفع نصاب البيّنة إلى خمسمائة فرنك، ثم هبطت قيمة الفرنك بعد ذلك هبوطاً جسمياً، فرفع النصاب مرّةً أُخرى إلى خمسة آلاف من الفرنكات. وفي مصر قرّر نصاب البيّنة منذ التقنين المدني السابق بعشرة جنيهات، ولم يتغيّر هذا النصاب في التقنين الجديد وإن كانت قيمة العملة قد نزلت نزولا كبيراً للمعادلة ما بين هذا النزول الكبير وزيادة انتشار الكتابة(1).
$
', '(1) راجع الوسيط، ج 2، الفقرة 189.
', 540), (14, 541, 'book', '
وبلحاظ التحفظ الثاني قال في الوسيط ما نصّه:
«ثمّ إنّ القاضي إذا رأى الإثبات بالبيّنة مستساغاً وقدّر أنّ الوقائع المراد إثباتها متعلّقه بالحقّ المدَّعى به، ومنتجة في الإثبات، وسمع الشهود في هذه الواقعة، فإنّ له بعد ذلك كلّه سلطة واسعة في تقدير ما إذا كانت شهادة هؤلاء الشهود كافية في إثبات هذه الوقائع، وهو في ذلك لا يتقيّد بعدد الشهود، ولابجنسهم، ولا بسنّهم، فقد يقنعه شاهد واحد، ولا يقنعه شاهدان أو أكثر، وقد يصدّق المرأة، ولا يصدّق الرجل، وقد تكون شهادة صبىّ صغير أبلغ في إقناعه من شهادة رجل كبير. وقد كان للشهادة في القديم نصاب محدّد: رجلان، أو رجل وامرأتان، أو شهود أربعة، أو نحو ذلك، فزال هذا النصاب لا في المسائل الجنائيّة فحسب، بل أيضاً في المسائل المدنيّة والتجاريّة، و كذلك زالت ضرورة تزكية الشهود، فلم يعد الشاهد يزكيّه شاهد آخر، بل الذي يزكيّه هو مبلغ ما يبعثه في نفس القاضي من الاطمئنان إلى دقّته والثقة في أمانته»(1).
وما يظهر من هذه العبارة من قبول شهادة الصبىّ قدلا يفترض صحيحاً في الفقه الوضعي، كما يفهم ذلك من كتاب رسالة الإثبات لأحمد نشأت؛ حيث قال: «ولا يصحّ الأخذ بشهادة من لايبلغ عمره خمس عشرة سنة كاملة، وتسمع أقواله على سبيل الاستدلال فقط بغير يمين .... وكانت السن (14) سنة في قانون المرافعات السابق، ومفاد ذلك أنّه لايصحّ أن يبني القاضي حكمه على شهادته أو أقواله وحدها، وله فقط أن يسترشدبها لتعزيز شهادة شاهد بالغ أو أىّ دليل قانوني آخر»(2).
$
', '(1) الوسيط، ج 2، الفقرة: 168.
(2) رسالة الإثبات لأحمد نشأت، ج 1، الفقرة: 379 مكرّر (ك)، الطبعة السابعة.
', 541), (14, 542, 'book', '
وحاصل الكلام بالنسبة للصغير أنّه لا يجوز فرضه شاهداً بأن يكتفى بكلامه مع يمينه - فإنّهم يشترطون مع البيّنة اليمين، أي يمين الشاهد -. نعم، يجوز فرضه قرينة من القرائن ولو لم يحلف، وقد يضمّ إلى قرائن أُخرى إلى أن توجب القناعة في نفس القاضي، فيأخذ بشهادته لا كبيّنة، بل كقرينة من القرائن. ولعلّ هذا هو مقصود صاحب الوسيط من افتراض جواز قبول شهادة الصغير.
وعلى أىّ حال فالدكتور عبدالرزاق السنهوري يرى في كتابه (الوسيط) أنّ القرآن قد أتى بأرقى مبادىء الإثبات في العصر الحديث، وهو الكتابة على ما نصّ به في آية التداين، ولكن لمّا كانت حضارة العصر تقصر دون ذلك لغلبة الأُمّيّة لم يستطع الفقهاء إلّا أن يسايروا حضارة عصرهم، فإذا بالفقه الإسلامي يرتفع بالشهادة إلى مقام تنزل عنه الكتابة نزولا بيّناً. قال: «ومن العجب أنّ عصر التقليد في الفقه الإسلامي لم يدرك العوامل التي كانت وراء تقديم الشهادة على الكتابة، فظلّ يردّد ما قاله الفقهاء الأوّلون في تقديم الشهادة ...»(1).
أقول: إنّ الآية المباركة لا دلالة فيها على كون الكتابة مصدراً للإثبات في القضاء عند المرافعة، وأنّ البيّنة مصدر ثانوىّ للإثبات، وإنّما الآية أكّدت على ضرورة الكتابة، وقد يكون ذلك للتذكير والمنع عن النزاع.
ثمّ الكتابة حينما تفيد العلم خصوصاً القريب من الحسّ فإغفالها إنّما هو صادق بشأن الفقه السنّي. أمّا الفقه الشيعي، فقد اعترف بحجّيّة علم القاضي وتقدّمه على البيّنة. وحينما لا تفيد العلم، فالعلم الحسّي للبيّنة كان أقرب إلى الواقع من ظنّ القاضي الناشىء من الكتابة لدى الشارع حتى لو أخذ بعين الاعتبار احتمال خطأ القاضي في فهم البيّنة.
$
', '(1) الوسيط، ج 2،بهامش الفقرة: 189.
', 542), (14, 543, 'book', '
والوجهان اللذان علّل بهما السنهوري شرط الكتابة في إثبات التصرف القانوني المدني - وقد تقدّم نقلهما عنه في أوّل بحثنا عن طرق الإثبات: من كون التعبير في ذلك عن إرادة تتّجه لإحداث أثر قانوني أمراً دقيقاً قد يغمّ على الشهود، ومن سهولة تهيئة الدليل الكتابي عليه وقت وقوعه - لا يصلحان نكتتين لا شتراط الإثبات بالكتابة؛ بحيث
لو قصّر في الكتابة لا نسدّ باب الإثبات ولم تفد البيّنة فيما تزيد قيمته على عشرة جنيهات، وإنّما يصلحان نكتتين للإلزام بالكتابة أو الحثّ عليها، كما صنعته الشريعة الإسلامية مع الاحتفاظ بحقّ الإثبات بالبيّنة على تقدير التقصير في الكتابة.
وبعد فعدم شرط العدالة في البيّنة حسب مدرسة الفقه الوضعي له أثره البالغ في فرض تحفظات تجاه البيّنة، بينما الشريعة الإسلامية في نظر الفقه الشيعي منزّهة عن إغفال شرط العدالة.
 $
جملة من شرائط البينة في الفقه الوضعي:
ومن شرائط البيّنة لديهم الحلف، ولو بدّلوه بشرط العدالة لكان أقوىوأشرف لهم: أما كونه أقوى فلأنّ غير العادل ما أكثر إقدامه على الحلف الكاذب، والعادل يتحرّز عادةً عن الكذب حتى من غير حلف، وأمّا كونه أشرف لهم فلأنّ الدافع الحقيقي لعدم شرط العدالة عندهم واضح، وهو أصل كون العدالة - حسب مالديهم من نظرة مادّيّة وانهماك في الشهوات - أمراً أقرب إلى الخيال الطوبائي أقرب منه إلى الحقيقية والواقع.
ومن شرائط البيّنة لديهم العلم الحسّي، ويستثنون فرض موت الشاهد المباشر أو العجز عن الوصول إليه. وهذا في الحقيقة عبارة عن تقييد نفوذ الشهادة
', '', 543), (14, 544, 'book', 'على الشاهد بالعجز عن تحصيل الشاهد المباشر.
وقالوا: يجب أن تؤدّى الشهادة شفهاً أمام المحكمة أو القاضي مباشرةً وجهاً لوجه؛ لأنّه إذا كذب اللّسان أو سكت حيث يجب الكلام، فإنّ هيئة المرء و حالته وطريقة شهادته قد تنمّ عن الحقيقة، أو تساعد على اكتشافها، أو تساعد على تقدير الشهادة (المادة 90 إثبات). ويجب أيضاً أن لا يعتمد الشاهد في شهادته إلّا على ذاكرته، ولا يصحّ أن يسمع له بتلاوة شهادته من ورقة مكتوبة أو يستعين بأيّة مذكّرة إلّا إذا كانت شهادته منصبّة على أمر معقّد أو لمعرفة أرقام وتواريخ مثلا بعد إذن المحكمة أو القاضي حيث تسوغ ذلك طبيعة الدعوى (المادة 90 إثبات). والأصل في التحقيق وسماع الشهود أن يكون بمعرفة هيئة المحكمة؛ إنّما يجوز لها طبقاً للمادة(72 إثبات) - عند الاقتضاء - أنّ تندب أحد قضاتها لإجرائه(1).
وقالوا: يجب أداء الشهادة في حضور الخصوم فسحاً لباب السؤال والمناقشة، ويؤدّي كلّ شاهد شهادته على انفراد من باقي الشهود(2).
والخصم هو الذي يعيّن الشهود، ولو سمعت المحكمة شاهداً، ولم يعترض الخصم كفى، وإذا اعتراض الخصم أمام المحكمة بالدرجة الأولى، ثمّ سكت عنه أمام المحكمة بالدرجة الثانية، لم يكن له التمسّك به أمام محكمة النقض. هذا حينما يكون الإثبات من قبل الخصم، أمّا إذا أمرت المحكمة بالإثبات - متى رأت في ذلك فائدة للحقيقة - فلها أن تستدعي للشهادة من تريد(3).
ولا تقبل شهادة الصغير ولا المحكوم عليه بعقوبة جنائيّة مدّة العقوبة؛ لأنّه
', '(1) رسالة الإثبات، ج 1، الفقرة: 379 مكرّر، ص 548 و 549 من الطبعة السابعة.
(2) راجع رسالة الإثبات، الطبعة السابعة، الفقرة: 379 مكرّرأ.
(3) نفس المصدر، الفقرة: 379 ح و 379 ط.
', 544), (14, 545, 'book', '
يستلزم حرمان المحكوم عليه من الحقوق والمزايا(1).
نعم تسمع شهادة المحكوم عليه بعنوان القرينة كشهادة الصغير، قال أحمد نشأت: «ويسمع على سبيل الاستدلال أيضاً المحكوم عليه بعقوبة جنائيّة مدّة العقوبة طبقاًللمادة (25) من قانون العقوبات التي نصّت على أنّ (كلّ حكم بعقوبة جنائيّة يستلزم حتماً حرمان المحكوم عليه من الحقوق والمزايا الآتية .... ثالثاً - الشهادة أمام المحاكم مدّة العقوبة إلّا على سبيل الاستدلال)».
وظاهر من هذا النصّ:
أوّلا - أنّه لا يكفي أن يكون المحكوم عليه ارتكب جناية، بل يجب أن يكون محكوماً عليه بعقوبة جنائيّة ... .
ثانياً - أن يكون عدم تحليفه مقصوراً على مدّة العقوبة، فإذا أوفى مدّة العقوبة، أو صدر عفو عن العقوبة كلّها أو بعضها، وكان قد وفّى البعض الآخر، أو صدر عفو عن الجريمة، وجب تحليفه اليمين. وممّا هو جدير بالملاحظة أنّه يؤخذ من نصّ المادة (25) من قانون العقوبات أنّ الشارع اعتبر الشهادة حقّاً أو مزيّة كالقبول في خدمة الحكومة، أو التحلّي برتبة أو نيشان المنصوص عليهما في (أوّلا) و (ثانياً) مع أنّ الشهادة واجب والامتناع عنها معاقب عليه بمقتضى المادة 78 من قانون الإثبات (201 قانون المرافعات السابق)، فالأمر على حقيقته لا يتعدّى عدم الثقة بمجرم حكم عليه بعقوبة جنائيّة ... هذا وإذا تتبّعنا النصّ الحرفىّ لمادة (25) من قانون العقوبات وقولها: إنّ المحكوم عليه يحرم من الشهادة مدّة العقوبة لترتّب على ذلك نتيجة غير معقولة بالنسبة للمحكوم عليه بالإعدام الذي لا تستغرق مدّة عقوبته بضعة ثوان يستحيل أن يشهد في أثنائها. وهذه النتيجة غير المعقولة هي أنّه
', '(1) نفس المصدر، الفقرة: 379 مكرّر (ك) و مكرّر (ل).
', 545), (14, 546, 'book', '
يستطيع أن يشهد ويستطيع أن يحلف في المّدة التي تمضي بين الحكم وبين التنفيذ - أي مدّة العقوبة - بالرغم من الحكم عليه بأشدّ عقوبات الجناية. إذن لا مفرّ من اعتبار مدّة إيداعه في السجن من وقت الحكم حتى التنفيذ مدّة عقوبة؛ لأنّ هذه المدّة ليست إلّا توطئة لتنفيذ العقوبة، فلا شكّ أنّه يصحّ اعتبارها مدّة عقوبة. وعلى أىّ حال مثل هذا الشخص يكون غالباً في حالة لا يصحّ فيها الاعتماد على أقواله سواء حلف أو لم يحلف(1).
أقول: إنّ نفوذ شهادة الجاني قبل مدّة الحكم عليه وبعد نهايتها لا يمكن تبريره من حيث فلسفة التشريع إلّا بافتراض أنّ الشهادة حقّ من الحقوق سلب في مدّة المحكوميّة، بينما من الواضح أنّ الشهادة لا ينبغي إلّا أن تفرض واجباً من الواجبات، وكم فرق بين هذا القانون الوضعي وقانون الشريعة الإسلاميّة الغرّاء الذي لا يقبل شهادة الفاسق إلّا بعد التوبة ورجوع الملكة لو زالت.
أمّا النقض بمسألة الإعدام فبإمكانهم أن يجيبوا عليه بأنّ الجاني يسلب عنه حقّ الشهادة ليس مدّة تنفيذ الحكم عليه فقط، بل مدّة محكوميته، فهو من حيث صدور الحكم بالقتل مشمول لقانون سلب حقّ الشهادة عنه.
وأمّاما قالوا: من أنّ المحكمة لها أن تأمر بالإثبات متى رأت في ذلك فائدة للحقيقة فلها عندئذ أن تستدعي للشهادة من تريد. فالرأي الصواب في فقهنا الإسلامي هو أنّ المدّعي له الحقّ في رفع اليد عن القضاء بشهادة أي شاهد لا يريده، والاكتفاء بتحليف المنكر. نعم، حينما تكون القضية مشتملة على أمر آخر غير المرافعة كقضيّة أمنيّة من حقّ حاكم الشرع متابعتها، فهنا من حقّ الحاكم أن يأمر بالإثبات وأن يستدعي من يريد من الشهود.
$
', '(1) نفس المصدر، الماده: 379 مكرّر (ل).
', 546), (14, 547, 'book', '
وأمّا شرط التفريق بين الشهود أو الشهادة شفهاً وجهاً لوجه، أو عدم الاعتماد إلّا على ذاكرته أو الأداء عند حضور الخصوم أو نحو ذلك من الأُمور، فهي في وجه نظر الفقه الإسلامي ليست شروطاً بمعنى عدم نفوذ شهادة الشاهد بدونها، وهي احتياطات اتّخذها الفقه الوضعي بعد إغفال شرط العدالة، ولكن لايبعد القول بأنّ من حقّ الحاكم فرض أمر من هذا القبيل أو غيره مقدّمة للحكم لأجل تقصىّ الحقيقة ممّا هو ليس واجباً بحدّ ذاته في نفوذ الحكم، كما قد يستفاد ذلك من أقضية أمير المؤمنين (عليه السلام) التي لعلّها مستفيضة إجمالا، والمشتملة على إعمال نكات زائدة على أصل القانون القضائي الواجب من البيّنة واليمين، والتي قد يستظهر منها إعمال ولاية قضائية لا إعمال ولاية الإمامة، ولو حملت على إعمال ولاية الإمامة، نتعدّى إلى الفقيه بمبدأ ولاية الفقيه.
وقال فقهاء الفقه الوضعي أيضاً باشتراط التمييز، فلو لم يوجد التمييز لهرم أو حداثة أو مرض أو لأيّ سبب آخر، لم تنفذ الشهادة(1).
وقالوا أيضاً: لا يجوز الجمع بين صفتي الشاهد والقاضي، ولابين صفتي الشاهد وكاتب الجلسة، ولا بين صفتي الشاهد والمترجم، فإذا حصل الجمع لم تنفذ الشهادة وبطل الحكم(2).
أمّا الجمع بين صفتي الشاهد والقاضي، فيعني في لغتهم نفوذ علم القاضي، وقد مضى الحديث عنه مفصَّلا، وأمّا الجمع بين صفتي الشاهد والكاتب أو المترجم، فقد عُللّ ذلك بتأثّره بشهادته ممّا قد تؤثّر على كتابته أو ترجمته(3). و في الشريعة
', '(1) راجع رسالة الإثبات، ج 1، الفقرة 379 مكرّر (ك)، الطبعة السابعة.
(2) راجع رسالة الإثبات، ج 1، الفقرة 379 مكرّر (ط)، الطبعة السابعة.
(3) راجع نفس المصدر.
', 547), (14, 548, 'book', '
الإسلامية لا تمنع الكتابة أو الترجمة عن نفوذ الشهادة. نعم بناءً على مامضى من استظهار جواز إلزام القاضي بما هو غير لازم يجوز إلزامه بالفصل بين الشهادة والكتابة أو الترجمة، لا بمعنى المنع عن الشهادة أو نفوذها، بل بمعنى منعه عن الكتابة أو الترجمة والإتيان بكاتب أو مترجم آخر لدى الحاجة.
وقالوا: لايصحّ الجمع بين صفتي الشاهد وخصم في الدعوى يقرّر أمراً لمصلحة الخصم الأصلي ما لم تكن المحكمة هي التي أحالت الدعوى إلى التحقيق ولم تعلنه كشاهد(1).
وقد مضى تعليقنا على إحالة الحاكم الدعوى إلى التحقيق، ولو صحّ ذلك لم يكن مبرّراً عندنا لقبول شهادة من هو داخل في الخصومة.
ونكتفي بهذا المقدار عن نقل مطالب أصحاب القانون والتعليق عليها، والراغب في متابعة الموضوع بإمكانه مراجعة وكتبهم المفصّلة في ذلك، وأخصّ بالذكر كتاب (الوسيط) للسنهوري و(رسالة الإثبات) لأحمد نشأت، وبإمكانه التعليق عليها على نسق ما مضى.
$
', '(1) راجع المصدر السابق، الفقرة: 379 مكرّر (ق).
', 548), (14, 549, 'book', '
 $
$
', '', 549), (14, 550, 'book', ' $
$
', '', 550), (14, 551, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
 $
البحث الثالث - في أنّه هل يوجد مورد مستثنىً عن القاعدة المعروفة، وهي قاعدة (أنّ البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر) بأن يكون الحكم على العكس من ذلك؛ أي أنّ البيّنة على من أنكر، واليمين على المدّعي، أوْلا؟
 $
في مورد القتل
قد دلّت بعض الروايات على أنّ القتل مستثنىً من هذه القاعدة، فالبيّنة فيهعلى المنكر، واليمين على المدّعي من قبيل:
ماورد - بسند تامّ - عن أبي بصير عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إن اللّه حكم في دمائكم بغيرما حكم به في أموالكم، حكم في أموالكم على أنّ البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه، وحكم في دمائكم أنّ البيّنة على من ادّعي عليه، واليمين على من ادّعى؛ لئلاّ يبطل دم امرىء مسلم(1).
$
', '(1) الوسائل ج 18، باب 3 من كيفيّه الحكم، ح 3، ص 1720 وج 19، باب 9 من دعوى القتل ومايثبت به، ح4، ص 115.
', 551), (14, 552, 'book', '
وما ورد عن محمد بن سنان عن الرضا (عليه السلام) فيما كتب إليه من جواب مسألة في العلل: «والعلّة في أنّ البيّنة في جميع الحقوق على المدّعي واليمين على المدّعى عليه ما خلا الدم؛ لأنّ المدّعى عليه جاحد، ولايمكنه إقامة البييّنة على الجحود لأنّه مجهول، وصارت البيّنة في الدم على المدّعى عليه واليمين على المدّعي؛ لأنّه حوط يحتاط به المسلمون لئلاّ يبطل دم امرىء مسلم، وليكون ذلك زاجراً وناهياً للقاتل لشدّة إقامة البيّنة على الجحود عليه؛ لأنّ من يشهد على أنّه لم يفعل قليل. وأمّا علّة القَسَامة أن جعلت خمسين رجلا، فلما في ذلك من التغليظ والتشديد والاحتياط؛ لئلا يهدر دم امريء مسلم»(1). والسند ضعيف.
وما ورد - بسند تامّ - عن بريد بن معاوية عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن القَسَامة فقال: الحقوق كلّها: البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه إلّا في الدم خاصّة، فإنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بينما هو بخيبر إذ فقدت الأنصار رجلا منهم فوجدوه قتيلا، فقالت الأنصار: إنّ فلان اليهودي قتل صاحبنا، فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) للطالبين: أقيموا رجلين عدلين من غيركم أقيده (أقده - خ ل -) برمّته، فإن لم تجدوا شاهدين فأقيموا قسامة خمسين رجلا أقيده برمّته، فقالوا: يا رسول اللّه ما عندنا شاهدان من غيرنا، وإنا لنكره أن نقسم على ما لم نره، فودّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله)وقال: إنمّا حقن دماء المسلمين بالقَسامة، لكي إذا رأى الفاجر الفاسق فرصة (من عدّوه) حجزه مخافة القسامة أن يقتل به، فكفّ عن قتله، وإلّا حلف المدّعى عليه قسامة خمسين رجلا ما قتلنا، ولا علمنا قاتلا، وإلّا أغرموا الدية إذا وجدوا قتيلا بين أظهرهم إذا لم يقسم
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 3 من كيفيّة الحكم، ح 6، ص 171 و 172.
', 552), (14, 553, 'book', '
المدّعون»(1). ويفهم من هذا الحديث:
أوّلا - أنّ المدّعي له طريقان لإثبات مدّعاه: البيّنة وتهيئة خمسين قسامة. ولعلّ شرط رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليهم كون البيّنة عدلين من غيرهم كان بنكتة أنّ المقصود بالطالبين في قوله: «فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)للطالبين» هم أولياء الدم، أو بنكتة أنّ كلّ من يطالب بالدم - ولو لغيره بأن لم يكن هو الولىّ الشرعي - يعتبر خصماً، فيجب أن يكون الشهود غيره. والاحتمال الأوّل هو الموافق للقاعدة.
وثانياً - أنّ المتّهم بإمكانه أن يبرّىء نفسه بالقسم خمسين مرّة إن لم يمتلك المدّعي أحد الطريقين المثبتين لدعواه، فإذا أضفنا هذا إلى قبول البيّنة من المنكر كما يستفاد من الحديثين الأوّلين، كان للمتّهم أيضاً طريقان للتبرئة: البيّنة والقسم خمسين مرّة.
وثالثاً - أنّه لو لم يمتلك المدّعي شيئاً من الطريقين لإثبات مدّعاه، ولم يستعدّ المتّهم الفاقد للبيّنة للقسم خمسين مرّة، ثبت عليه الجُرم ولو بمستوى الإلزام بالدية. فهذه نقاط ثلاث لا ينبغي الإشكال فيها في الجملة، إلّا أنّه مازالت حدود هذه الأحكام الثلاثة مكتنفة بالغموض وبحاجة إلى استئناف البحث.
 $
البينة والقسامة من المدّعي:
ولنبدأ بالنقطة الأُولى - وهي أنّ المدّعي بإمكانه إثبات الدعوى بأحدطريقين: البيّنة وخمسين قسامة: وهذا في الجملة ممّا لا إشكال فيه، ولكن ينبغي البحث في حدوده من عدّة نواحي:
$
', '(1) الوسائل، ج 19، باب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح 3، ص 114 و 115.
', 553), (14, 554, 'book', '
اشتراط اللوث في القسامة:
الأُولى - أنّ إثبات الدعوى بخمسين قسامة هل يختص بفرض اللّوث، وهو فرض وجود أمارات الاتّهام بالنسبة للمدّعى عليه، أوْلا؟ يوجد شِبْهُ إجماع بين الأصحاب - رضوان اللّه عليهم - على شرط اللّوث، ولم ينسب التأمّل أو الخلاف إلّا إلى الأردبيلي (رحمه الله) ولاإشكال في أنّ ثبوت القتل بخمسين قسامة خلاف الأصل، ولابدّ فيه من الاقتصار على القدر المتيقّن. إذن لاسبيل إلى التأمّل في شرط اللّوث إلّا دعوى الإطلاق في بعض الأدلّة، كما لو ادّعي الإطلاق فيما مضى من حديث أبي بصير: (... وحكم في دمائكم أنّ البيّنة على من ادّعي عليه واليمين على من ادّعى ...) بعد تفسير اليمين على من ادّعى بقسامة خمسين بقرينة باقي الروايات.
وذكر السيّد الخوئي: أنّ قيد اللّوث يستفاد من عدّة من روايات الباب:
منها - ما عن زرارة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّما جعلت القسامة ليغلّظ بها في الرجل المعروف بالشرّ المتّهم، فإن شهدوا عليه جازت شهادتهم»(1).
وقد عبّر السيّد الخوئي عن هذا الحديث بمعتبرة زرارة، وسنده كمايلي: رواه الشيخ والصدوق بإسنادهما عن موسى بن بكر عن زرارة، وسند الصدوق إلى موسى بن بكر لا نعرفه، أما سند الشيخ إلى موسى بن بكر، فهو عبارة عن ابن أبي جيد عن ابن الوليد عن الصفّار عن إبراهيم بن هاشم عن ابن أبي عُمير عنه قال: «ورواه صفوان بن يحيى عنه» وابن أبي جيد»، وإن بنى السيد الخوئي على وثاقته لكونه من مشايخ النجاشي، لكنّنا لانبني على ذلك. وهذا لايضرّنا في المقام؛ إذ يكفينا أنّ للشيخ سندين تامّين إلى ابن أبي عُمير لجميع كتبه ورواياته، وله أيضاً سند تامّ إلى ابن الوليد لجميع كتبه ورواياته، ومنه إلى الصفّار لجميع رواياته عدا كتاب
', '(1) الوسائل، ج 19، باب 9 من دعوى القتل ومايثبت به، ح 7، ص 116.
', 554), (14, 555, 'book', '
بصائر الدرجات. إذن فالسند من هذه الناحية يتمّ بالتعويض. ويبقى الكلام في موسى بن بكر الذي لم يوثّق في كتب الرجال، والسيد الخوئي وثّقه على أساس أمرين:
أحدهما - وروده في تفسير علي بن إبراهيم. وهذا الوجه غير تامّ عندنا.
والثاني - ما ورد في الكافي حيث روى الكليني (رحمه الله) عن حميد بن زياد عن الحسن بن محمد بن سماعة قال: «دفع إلىّ صفوان كتاباً لموسى بن بكر، فقال لي: هذاسماعي من موسى بن بكر، وقرأته عليه، فإذا فيه موسى بن بكر عن علىّ بن سعيد عن زرارة قال: هذا ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا عن أبي عبداللّه وعن أبي جعفر - عليهماالسلام - أنّهما سئلا عن امرأة تركت زوجها وأُمّها وابنتيها؟ فقال للزوج الربع وللأُمّ السدس وللابنتين ما بقي؛ لأنّهما لو كانا رجلين لم يكن لهما شيء إلّا ما بقي، ولاتزاد المرأة أبداً عن نصيب الرجل، لو كان مكانها»(1). فالسيّد الخوئي فهم من قوله: «قال: هذا ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا»: أنّ صفوان قال: هذا الكتاب - وهو كتاب موسى بن بكير - ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا، ولكن لاظهور لهذه العبارة في هذا المعنى، بل لعلّ ظاهرها أنّ صفوان يقول: إنّ صدور نصّ من هذا القبيل - أي من قبيل هذه الرواية بالذات - عن الإمام ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا، ولاأقلّ من الإجمال. إذن فهذا ليس دليلا على الوثاقة.
نعم، الصحيح عندنا وثاقة الرجل لرواية بعض الثلاثة عنه، فالنتيجة أنّ سند الحديث تامّ في المقام.
$
', '(1) الكافي، ج 7، كتاب الميراث، باب 19 ميراث الولد مع الزوج و المرأة والأبوين، ح 3، ص 97.
', 555), (14, 556, 'book', '
ومنها - ما مضى من حديث بريد بن معاوية، حيث جاء في ذيله: «إنّما حقن دماء المسلمين بالقسامة؛ لكي إذا رآى الفاجر الفاسق فرصة (من عدّوه) حجزه مخافة القسامة أن يقتل به، فكفّ عن قتله، وإلّا حلف المدّعى عليه قسامة خمسين رجلا ما قتلنا ولاعلمنا قاتلا، وإلّا اُغرموا الدية إذا وجدوا قتيلا بين أظهرهم إذا لم يقسم المدّعون»، فقدفهم السيّد الخوئي من هذا الكلام قيداللّوث، فإن كان نظره إلى قوله: «إذا وجدوا قتيلا بين أظهرهم»، فهذا وإن كان دالّا على قيد اللّوث لكنّه راجع إلى حكم قسم المدّعى عليه، أمّا رجوعه إلى ما يفهم ضمناً أيضاً من الجملة السابقة من قسامة خمسين من قبل المدّعي، فغير معلوم. نعم، إن كان نظره إلى كلمة «الفاجر الفاسق»فقد يكون لذلك وجه بناء على كون هذا التعبير إشارة إلى الاستهتار بالفسق الذي من الواضح عدم دخله في الحكم من غير ناحية اللّوث.
ومنها - ما عن زرارة - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّما جعلت القسامة احتياطاً للناس لكي ما إذا أراد الفاسق أن يقتل رجلا أو يغتال رجلا حيث لا يراه أحد، خاف ذلك، فامتنع من القتل»(1) . فإن كان نظره في الاستدلال بهذا الحديث التمسّك بقوله: «احتياطاً للناس»، فهذا وجه للاستدلال بعدّة روايات سيذكره مستقّلا عن هذا الوجه، وإن كان نظره إلى كلمة «الفاسق» فدلالتها على المشتهر بالفسق الموجب للوث غيرواضحة.
ومنها- ماورد -بسند تامّ - عن ابن سنان قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام)يقول: إنّما وضعت القسامة لعلة الحوط، يحتاط على الناس لكي إذا رآى الفاجر عدّوه، فرّمنه مخافة القصاص»(2). فاستفاد السيّد الخوئي من كلمة الفاجر اللّوث
', '(1) الوسائل، ج 19، باب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح 1، ص 114.
(2) نفس المصدر، ح 9، ص 116.
', 556), (14, 557, 'book', '
والاتّهام بالشرّ.
وهناك وجه آخر ذكره السيّد الخوئي لإثبات شرط اللّوث من الروايات يدخل فيه هذا الحديث والأحاديث السابقة وروايات أُخرى - كالحديث الثاني والثامن من الباب (9) من دعوى القتل وما يثبت به من الوسائل - وهو أنّ المستفاد من هذه الروايات أنّ حكم القسامة جعل حقناً للدماء واحتياطاً فيه، وهذا يناسب شرط اللّوث؛ إذ لو لا هذا الشرط لأوجب هدر الدماء. حيث إنّ للفاسق والفاجر أن يدّعي القتل على أحد ويأتي بالقسامة، فيقتصّ منه، فيذهب دم المسلم هدراً(1).
كما استشهد أيضاًالسيّد الخوئي على شرط اللّوث بكونه أمراً متسالماً عليه.
وبما أنّ الإجماع الصحيح لدنيا هو الإجماع الحدسي فقد يتمّ الحدس رغم وجود المدرك للإجماع.
اشتراط اللوث في البيّنة:
الثانية - أنّ نفوذ بيّنة المدّعي هل يكون مشروطاً باللّوث كما كان نفوذ خمسين قسامة مشروطاً به، أوْ لا؟ لا أظنّ أنّ هناك خلافاً من حيث الفتوى في نفوذ البيّنة ولو لم يكن هناك لوث، ولكن هناك شبهة يمكن طرحها هنا بلحاظ الروايات، وهي أن يقال: أنّ رواية أبي بصير الماضية دلّت على أنّ البيّنة في باب الدم على المنكر واليمين على المدّعي، وهذا يعني فرضاً عدم قبول البيّنة من المدّعي في باب الدم، وهو مطلق لفرض اللّوث وعدمه، خرج من إطلاقه فرض اللّوث وذلك بقرينة رواية بريد الماضية؛ حيث خاطب فيها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)المدّعين بقوله: «أقيموا رجلين عدلين من غيركم»، ولكن هذا وارد في مورد اللّوث، وليس له إطلاق لمورد
', '(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج 2، ص 105.
', 557), (14, 558, 'book', '
عدم اللّوث . إذن فالقدر المتيقّن من التقييد لإطلاق رواية أبي بصير هو فرض اللّوث، ويبقى فرض عدم اللّوث تحت إطلاق الرواية الدالّ فرضاً على عدم قبول البيّنة من المدّعي. وكذلك دلّ حديث مسعدة بن زياد على قبول البيّنة من مدّعي الدم، وهو ما ورد عن مسعدة - بسند تامّ - عن جعفر (عليه السلام) قال: «كان أبي (رضي الله عنه) إذا لم يقم القوم المدّعون البيّنة على قتل قتيلهم ولم يقسموا بأنّ المتّهمين قتلوه، حلّف المتّهمين بالقتل خمسين يميناً باللّه ما قتلناه ولاعلمنا له قاتلا، ثمّ يؤدّي الدية إلى أولياء المقتول. ذلك إذا قتل في حىّ واحد، فأمّا إذا قتل في عسكر أو سوق مدينة، فديته تدفع إلى أوليائه من بيت المال»(1). وهذا أيضاً - كما ترى - لاإطلاق له لفرض عدم اللّوث. إذن فرض عدم اللّوث بقي تحت إطلاق رواية أبي بصير.
وقد يقال: إنّ رواية أبي بصير إنّما دلّت على أنّ البيّنة على المنكر، أي أنّ المنكر هو الذي يطالب بالبينة وأنّه لو لم يمتلك بيّنة، ولا حَلَفَ خمسين مرّة - على ما ظهر من الروايات الأُخرى - ثبت الحقّ إلى جانب المدّعي. وهذا لاينافي نفوذ بيّنة المدّعي لو أقامها، فيتمسّك هنا بإطلاق دليل نفوذ البيّنة.
ولكنّ الظاهر أنّنا لا نمتلك إطلاقاً تامّاً لنفوذ البيّنة من غير نفس روايات أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، فإذا خرج من إطلاقها الدم، لم يكن دليل على قبول البيّنة فيه من المدّعي.
ويمكن التخلص عن هذه الشبهة بوجوه:
الأوّل - أنّ رواية أبي بصير نصّت على أنّ البيّنة في الدماء على المدّعى عليه واليمين على من ادّعى، والجملة الثانية قيّدت ببعض الروايات - على ما مضى - بفرض اللّوث. وهذا يوجب الإجمال في الجملة الأولى بحكم وحدة السياق؛ أي أنّ
', '(1) الوسائل، ج 19، باب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح 3، ص 115.
', 558), (14, 559, 'book', '
إطلاق الجملة الاُولى لفرض عدم اللّوث مع الظهور في وحدة السياق يتعارضان؛ لأنّ المقيّد المنفصل للجملة الثانية دلّ على كذب أحدهما إجمالا، فتصبح الجملة الاُولى بحكم المجمل، فنرجع في غير فرض اللّوث إلى القاعدة العامّة التي تقتضي أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر المستفادة ممّا ورد - بسند تامّ - عن جميل وهشام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه»(1). هذا بناءً على أنّ المقيّد منفصل. وهو بعض الروايات الدالّة على اشتراط قسامة خمسين من طرف المدّعي باللّوث.
أما إذا افترضنا المقيِّد متّصلا، وهو قوله في آخر حديث أبي بصير: «لئلاّ يبطل دم امرىء مسلم» بأن استظهرنا من هذا الاختصاص بفرض اللّوث، فلا يأتي تقريب التعارض بين الإطلاق ووحدة السياق؛ لأنّ المقيِّد المتّصل لو اختصّ بإحدى الجملتين، لا نثلمت وحدة السياق، ولكن لو كان هذا الذيل وهو قوله: «لئلاّ يبطل دم امرىء مسلم»دالّا على قيد اللّوث، فهذا يكون مقيِّداً لكلتا الجملتين، وهما قوله: «البيّنة على من ادّعي عليه، واليمين على من ادّعى»، فالمشكلة محلولة من أساسها، ونرجع في فرض عدم اللّوث إلى القاعدة الأصليّة، وهي أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.
والثاني - أن يقال: إنّ ما ورد من أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، وكذلك ما ورد في خصوص الدم من أنّ البيّنة على من أنكر و اليمين على المدّعي يدلّ - بإيحاء من كلمة البيّنة وارتكازيّة كفاية البيّنة في الاحتجاج مع الخصم وغيره - على أنّ شهادة العدلين بيّنة كافية على الواقع في حدود المرتكزات العقلائيّة، ولاشكّ أنّ نفوذ بيّنة مّدعي الدم بلالوث داخل في الارتكاز العقلائي.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 3 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 170.
', 559), (14, 560, 'book', '
الثالث - أن يقال: إننّا لانحتمل فقهياً أن تكفي يمين واحدة من المنكر، ولاتكون البيّنة على المدّعي، فإمّا إنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، وهذا يعني كفاية يمين واحدة من المنكر، أو إنّ البيّنة على المنكر واليمين على من ادّعى، وفي هذه الحال لا تكفي يمين واحدة من المنكر، فإذا ضممنا هذه المقدمة إلى ما دلّ عليه ذيل رواية بريد من عدم حاجة المنكر في التبرئة إلى أن يحلف خمسين مرّة إذا لم يكن لوث، كانت النتيجة أنّ البينة عند عدم اللّوث علىالمدّعي، وذيل رواية بريد هو هذا: «وإلّا حلف المدّعى عليه قَسَامة خمسين رجلا ما قتلنا، وإلّا اُغرموا الدية إذا وجدوا قتيلا بين أظهرهم إذا لم يقسم المدّعون». فتخصيص الحكم بما إذا وجدوا قتيلا بين أظهرهم يدلّ على تخصيصه بفرض اللوث.
وهذا الوجه الثالث مع الوجه الأوّل يمتازان عن الوجه الثاني بأنّهما يثبتان: أنّ البيّنة عند عدم اللّوث على المدّعي لاعلى المنكر، فلو لم يأتِ المدّعي ببيّنة، كفى المنكَر في البراءة مجرّدُ أن يحلف مرّة واحدة، بينما الوجه الثاني لا يثبت إلّا نفوذ بيّنة المدّعي لو أقامها، أمّا أنّ عليه البيّنة بحيث لو لم يأتِ بها كفى المنكَر أن يحلف مرّة واحدة، فلا يثبت بهذا الوجه.
كيفية قسامة خمسين:
الثالثة - أنّ قَسَامة خمسين من قبل المدّعي هل ينحصر شكلها في إحضار خمسين نفر - ولو بأن يكون أحدهم نفس المدّعي - كلّهم يحلفون باللّه على أنّ فلاناً قتل فلاناً أو بالإمكان الاقتصار على عدد أقلّ مع تكثير عدد القسم إلى أن يتمّ خمسون قسماً، ولو بقي المدّعي وحده حلف خمسين مرّة؟
اُدُّعي الإجماع على الثاني، وذكر أنّه لم يُرَ مخالف في ذلك، ولكن الأمر بالقياس إلى الروايات مشكل، فهناك عدّة روايات صوّرت قَسَامة خمسين بخمسين شخصاً يحلفون على القتل، من قبيل: ما عن عبداللّه بن سنان - بسند تامّ - قال:
', '', 560), (14, 561, 'book', '«قال أبو عبداللّه (عليه السلام): في القَسَامة خمسون رجلا في العمد، وفي الخطأ خمسة و عشرون رجلا، وعليهم أن يحلفوا باللّه»(1). وما عن ابن فضّال ويونس عن الرضا (عليه السلام) فيما أفتى به أمير المؤمنين (عليه السلام) «... والقَسَامة جعل في النفس على العمد خمسين رجلا، وجعل في النفس على الخطأ خمسة وعشرين رجلا ...»(2) وما عن أبي بصير - بسند فيه البطائني - قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن القسامة أين كان بدوها؟ فقال: كان من قبل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لمّا كان بعد فتح خيبر تخلّف رجل من الأنصار عن أصحابه، فرجعوا في طلبه فوجدوه متشحّطاً في دمه قتيلا، فجاءت الأنصار إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فقالوا: يا رسول اللّه قتلت اليهود صاحبنا . فقال: ليقسم منكم خمسون رجلا على أنّهم قتلوه ...»(3)
فهذه الرواية قد تدلّ على عدم كفاية أقلّ من خمسين رجل مع تكثير الحلف عليهم .
وبالإمكان أن يقال في قبال ذلك: إنّ هذه الروايات لاتدلّ على عدم كفاية ذلك، غاية ما هناك أنّها لا تدلّ على الكفاية أيضاً، فلو حصلنا على ما دلّ على كفاية ذلك، لم يكن تعارض بينه وبين هذه الروايات، وذلك لأنّ هذه الروايات أمرت بإحضار خمسين رجلا للحلف، وهذا الأمر كما يناسب عدم كفاية ماهو أقلّ إطلاقاً، كذلك يناسب كون كفاية الأقلّ عدداً مع تكثير عدد الحلف عليهم في طول العجز عن تحصيل العدد المطلوب.
ولايمكن تتميم دلالة هذه الروايات على عدم كفاية العدد الأقلّ مع تكثير
', '(1) الوسائل ج 19، باب 11 من دعوى القتل وما يثبت به، ح 1، ص 119.
(2) نفس المصدر، ح 2، ص 120.
(3) الوسائل، ج 19، باب 10، من دعوى القتل وما يثبت به، ح 5، ص 118.
', 561), (14, 562, 'book', '
الحلف عليهم حتى بعد العجز عن تحصيل العدد المطلوب بأن يقال: إنّه لو جاز الاكتفاء بالعدد الأقلّ لدى حلفهم تمام الخمسين، فجواز ذلك إمّا يفترض على سبيل التخيير بأن يكون المدّعي مخيّراً بين إحضار خمسين رجلا يحلفون و إحضار ما هو أقلّ من ذلك مع تكميل عدد الحلف أو يحلف هو خمسين مرّة، وإمّا أن يفترض على سبيل الترتيب والطوليّة؛ أي لو عجز عن تحصيل العدد المطلوب قسّم الحلف خمسين مرّة على ما هو أقلّ من ذلك ولو انحصر الأمر به حلف خمسين مرّة . أمّا التخيير فهو خلاف ظاهر الروايات المتقدّمة الآمرة بحلف خمسين رجلا. وأمّا الترتب فهو بعيد غاية البعد، إذ يلزم من ذلك أنّ مدّعي القتل لو لم يملك خمسين رجلا يحلفون له فحلف هو خمسين مرّة نفذ حلفه، ولو ملك خمسين رجلا يحلفون له ولكن تكاسل عن إحضارهم واستعدّ هو للحلف خمسين مرّة لم يقبل منه ذلك ولم ينفذ حلفه، بينما احتمال صدقه في الثاني أقوى منه في الأوّل.
ويمكن الجواب على ذلك: بأنّه من المعقول أن يكون السبب في إلزامه بإحضار الخمسين بالدرجة الاُولى كون هذا أكثر إثباتاً للجرم على المجرم وأكبر إقناعاً لأولياء المجرم وأخمد للفتنة، فإن لم يحصل ذلك جاء التنزّل إلى ما هو أقلّ ولو بأن يحلف المدّعي وحده خمسين مرّة.
نعم يبقى الكلام في أنّ غاية ما ثبت حتى الآن هي أنّ هذه الروايات لم تدلّ على عدم كفاية العدد الأقلّ من الرجال مع التحفّظ على عدد الخمسين يميناً، ولكن لم يثبت بها شيء إلّا القَسَامة بمعنى خمسين رجلا يحلفون، وكفاية ما عدا ذلك بحاجة إلى دليل، ولم يصرّح بها في شيء من الروايات، فكيف يمكن إثبات ذلك بالروايات؟
وقد يستدلّ على ذلك - أي تكثير عدد الحلف على العدد الأقلّ إلى أن يتمّ الخمسون يميناً - إضافة إلى الإجماع المدّعى بعدّة وجوه:
$
', '', 562), (14, 563, 'book', 'الأوّل - ما ذكره السيّد الخوئي من أنّه ورد في غير واحد من الروايات: أنّ القَسَامة إنّما جعلت احتياطاً للناس؛ لئلا يغتال الفاسق رجلا فيقتله حيث لا يراه أحد، فإذا كانت علّة جعل القسامة ذلك، فكيف يمكن تعليق القود على حلف خمسين رجلا؟ فإنّه أمر لايتحقق إلّا نادراً، فكيف يمكن أن يكون ذلك موجباً لخوف الفاسق من الاغتيال(1)؟!
أقول: إن كان الحلف مشروطاً بالعلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ صحّ هذا الكلام، ولكن الحلف يكفي فيه مجرّد العلم ولو الحدسي، وهذا كثيراً ما يحصل لأقرباء المدّعي وأصدقائه ببعض القرائن الحدسية المدعمة عندهم بنفس دعوى المدّعي، بل قد يحلفون كاذبين لمجرّد تعاطفهم مع المقتول والمدّعي، والقاضي يحكم وفق حلفهم لعدم علمه بالكذب؛ لأنّه لا تشترط فيهم العدالة كما كانت تشترط في البيّنة كي لا يقبل حلف من يحتمل بشأنهم الكذب لعدم إحراز العدالة، فالفاسق سيخشى من تحقق شيء من هذا القبيل ويمنعه ذلك عن القتل.
أمّا الوجه في نفوذ الحلف - وإن لم يكن عن علم حسّي - فلأنّ وجوه اشتراط الحسّ في الشهادة لاتأتي هنا، فالوجه في اشتراط الحسّ في باب البيّنة: إمّا هو عدم الإطلاق في دليل نفوذ البيّنة، أو الروايات الخاصّة، أو انصراف دليل نفوذ البيّنة عن نفي احتمال الخطأ في الحدس كما هو الحال في دليل حجّيّة خبر الواحد. وكلّ هذا لايأتي في المقام، فدليل نفوذ القَسَامة مطلق، ولم يقيَّد بما إذا كان الحلف عن علم حسّي، وروايات شرط الحسّ خاصّة بباب الشهادة، ولو فرض إطلاقها لباب الحلف باعتبار اقتران الحلف بالشهادة كفانا ما مضى من ضعف تلك الروايات سنداً . والانصراف المدّعى في دليل نفوذ الشهادة وخبر الواحد لايأتي في المقام، بل
', '(1) مباني تكملة المنهاج، ج 2، ص 109.
', 563), (14, 564, 'book', '
المفهوم عرفاًأنّ تكثير عدد الحالفين هنا تعويض عن شروط الشهادة من العدالة والحسّ وغيرهما، بل إنّ مطالبة الرسول (صلى الله عليه وآله) في قصّة من قتل بخيبر - بخمسين رجلا يحلفون مع وضوح عدم الحسّ في تلك القصّة دليل على عدم اشتراط الحسّ، ومن المستبعد أنّه لم يكن يوجد في كلّ الخمسين المفترض حلفهم على قتل اليهود للرجل المسلم شخصان عادلان ولو بحسن الظاهر، فما هو شرط البيّنة المفقود في المقام حتى طلب الرسول (صلى الله عليه وآله) حلف خمسين رجل؟! من الواضح أنّه لايوجد شرط مفقود عدا كون الشهادة عن حسّ.
الثاني - ذيل رواية ابن فضّال ويونس التي مضى صدرها؛ حيث جاء في ذيلها التصريح في باب الدية في الجروح بمضاعفة اليمين على المدّعي إذا فقد من يحلف معه وذلك إلى ستّ مرّات؛ حيث إنّ أكبر عدد للقَسَامة في الجرح قَسَامة ستة رجال(1).
وقد أورد السيّد الخوئي على الاستدلال بهذا الحديث بأنّه مختصّ بباب الدية في الجروح، ولايمكن التعدّي منه إلى القِصاص في النفس(2)، وهذا الإيراد في محلّه.
الثالث - التمسّك بما مضى في رواية بريد من قوله (صلى الله عليه وآله): «أقيموا قسامة خمسين رجلا أقيده برمته»؛ حيث ذكر في الجواهر(3): أنّه يمكن استفادة كفاية الأقلّ مع الحفاظ على عدد الخمسين في القسم من هذه الجملة بناءً على قراءتها بإضافة (قسامة) إلى (خمسين) لا بالتنوين.
أقول: إنْ سُلّم ظهور: «أقيموا قَسَامة خمسين رجلا» في كفاية القسم خمسين
', '(1) راجع الوسائل، ج 19، باب 11 من دعوى القتل وما يثبت به، ح 2، ص 120.
(2) راجع مباني تكملة المنهاج، ح 2، ص 109.
(3) ج 42، ص 246.
', 564), (14, 565, 'book', '
مرّة من دون تقيّد بعدد الحالفين، وفرض الوثوق بأنّ كلمة (قَسَامة) مضافة إلى (خمسين)، وليست منوّنة، إذ لو كانت منوّنة؛ إذ لو كانت منوّنة لكانت كلمة (خمسين رجلا) عطف بيان أو بدلا من كلمة (قسامة)، فكأنّما قال: أقيموا خمسين رجلا يقسمون، مع أنّ هذا الاستعمال يعدّ ركيكاً، فالإقامة بمعنى الأداء تتعدّى إلى القَسم لا إلى المُقسِم - إن سُلّم هذان الامران فمع ذلك هذا الوجه لايتمّ؛ لأنّ هذه القصّة ذكرت في عدّة روايات وجاء التعبير في بعضها بعبارة: «ليقسم منكم خمسون رجلا»(1) وهذا ظاهر في خمسين رجلا حالفين كما هو واضح، فبناءً على الاطمئنان بوحدة القصّة لايتمّ الاستدلال بهذا الوجه
الرابع - التمسّك برواية أبي بصير الماضية؛ حيث جاء فيها: «أنّ اللّه حكم في دمائكم بغيرما حكم به في أموالكم، حكم في أموالكم أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه، وحكم في دمائكم أنّ البيّنة على المدّعى عليه واليمين على من ادّعى». فتفسير قوله: «اليمين على من ادّعى» بمعنى أنّ عليه أن يحقّق اليمين - ولو بأن يكون عليه أن يحضر آخرين يحلفون - خلاف الظاهر، وإنّما ظاهره - خاصّة بالمقابلة مع قاعدة أنّ اليمين على من ادّعي عليه - هو أنّ اليمين بنفسه يكون ثابتاً عليه، وأنّ حلف الآخرين يوجب تخفيف عبء القسم عنه، لا أنّ الحلف بذاته متوجّه إلى غيره. فالنتيجة هي أنّ حلف المدّعي خمسين مرّة أو تقسيم الخمسين على عدد من الرجال أقلّ من خمسين مرّة يكفي عن خمسين رجلا يحلفون، كما يؤيِّد ذلك الإجماع المّدعى في المقام.
$
', '(1) جاء ذلك في رواية أبي بصير، وهي الرواية الخامسة من باب 10 من دعوى القتل وما يثبت به من ج 19 من الوسائل، ص 118، وفي رواية زرارة التامّة سنداً، وهي الرواية الثالثة من نفس الباب ص 117.
', 565), (14, 566, 'book', '
يبقى الكلام في أنّه هل الصحيح هو التخيير من أوّل الأمربين أن يحلف المدّعي خمسين مرّة أو يستعين بآخرين في تخفيف عبء القسم عن نفسه، أو أنّ عليه أوّلا إحضار خمسين حالفاً وإن كان هو أحدهم، فإن عجز عن ذلك، انتقل إلى ما هو أقلّ عدداً مع تكثير الحلف بنحو يفي بخمسين مرّة؟
ظاهر الروايات التي مضى ذكرها المصرّحة بحلف خمسين رجلا هوالثاني، وظاهر رواية أبي بصير التي تقول: «إنّ اليمين على المدّعي»، وكذلك رواية بريد بناءً على دلالة قوله: «أقيموا قَسَامة خمسين رجلا» على إمكان الاكتفاء بأقلّ من خمسين حالفاً مع تكميل الخمسين حلفاً هو الأوّل، ولايبعد أن يكون ظهور روايات لزوم إحضار خمسين رجلا عند الإمكان أقوى، ومع فرض التعارض والتساقط يكون القدر المتيّقن من النفوذ هو إحضار خمسين حالفاً مع الإمكان.
وإذا كان عدد الحالفين أقلّ من الخمسين، فهل يجب تقسيم الخمسين حلفاً عليهم بالسويّة بقدر ما يمكن، أوْلا؟ فإذا كان الحالفون خمسة، فهل على كلّ واحد أن يحلف عشر مرات؟ أو بالإمكان أن يحلف أحدُهم ستاً وأربعين مرّة، ويحلف الآخرون كلّ منهم مرّة واحدة؟
ذهب السيّد الخوئي إلى الأوّل. والوجه في ذلك أنّ دليل جواز الاقتصار على حلف أقلّ من الخمسين لاإطلاق له في نظر السيّد الخوئي؛ لأنّ الدليل عنده منحصر بالإجماع وبما عرفنا من الروايات من أنّ حكمة جعل القَسَامة هي حجز الفاسق عن القتل، وهذا لايتمّ إن قلنا بضرورة وجود خمسين حالفاً، فإذا لم يكن هناك إطلاق في الدليل، لزم الاقتصار في نفوذ الحلف وثبوت القتل على القدر المتيّقن، وهو فرض التسوية في تقسيم الحلف.
أمّا إذا كان دليلنا على ذلك رواية أبي بصير التي تقول: «إنّ اليمين على من ادّعى»، أو رواية بريد التي تقول: «أقيموا قَسَامة خمسين رجلا» فالظاهر تماميّة
', '', 566), (14, 567, 'book', 'الإطلاق وعدم وجوب التسوية.
وذكر السيّد الخوئي (رحمه الله) بعد اشتراطه للتسوية من باب الاحتياط ما نصّه:
«هذا إذا لم يكن المدّعون مختلفين بحسب حصص الإرث، وأمّا إذا كانوا مختلفين في ذلك، فعن الشيخ في المبسوط أنّ التقسيم بحسب الحصص، فلو فرض أنّ الولي ابن وبنت حلف الابن أربعاً وثلاثين، والبنت سبع عشرة، وفي القواعد احتماله.
أقول: إن تمّ الإجماع على خلاف ذلك فهو، وإلّا فالأحوط رعاية كلا الأمرين بأن تحلف البنت خمساً وعشرين يميناً ويحلف الابن أربعاً وثلاثين، وذلك لعدم الدليل على ثبوت الدعوى بغير ذلك»(1). وانتهى كلام السيّد الخوئي (رحمه الله)
أقول: ولاأدري ماذا يصنع السيّد الخوئي فيما إذا كان الحالفون الذين هم أقلّ من خمسين بعضهم ورثة مع اختلاف مقادير الإرث، وبعضهم غير ورثة.
وعلى أىّ حال فلا موضوع لهذا الكلام فيما لو آمنّا بإطلاق من قبيل رواية أبي بصير، أورواية بريد.
ولايبعد أن يشترط في الحالفين غير الورثة الرجولة على ما يظهر من روايات خمسين رجلا، فمقتضى الجمع بين هذه الروايات ورواية أنّ اليمين على المدّعي التي تشمل بإطلاقها ما إذا كان المدّعي امرأة هو أنّ لدينا في المقام قاعدتين: قاعدة الاعتماد على عدد الحالفين، وقاعدة تحليف المدّعي، وفي القاعدة الاُولى تشترط الرجولة، وفي القاعدة الثانية لا تشترط الرجولة.
كما لا يبعد أن يشترط في ما إذا كان الحالفون أقلّ من الخمسين أن يكون أحدهم من أولياء الدم سواء كان دليلنا على كفاية الأقلّ من الخمسين عبارة عن الإجماع، أو كون حكمة القَسَامة ردع القاتل عن القتل، أو رواية أبي بصير، أو رواية
', '(1) مباني تكملة المنهاج، ج 2، ص 110.
', 567), (14, 568, 'book', '
بريد. أمّا الأوّل والثاني، فالعدم الإطلاق فيهما، ولا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن. وأمّا رواية أبي بصير، فلأنّ مصبّها بالأصل هو المدّعي، حيث قال: «اليمين على من ادّعى». وأمّا رواية بريد التي تقول: «أقيموا قَسَامة خمسين رجلا»، فلأنّ المتيقّن من المخاطب بهذا الخطاب هم المدّعون، أي أولياء الدم.
هذا تمام ما أردنا بيانه بلحاظ النقطة الأُولى، أعني وجود طريقين لمدّعي الدم لإثبات دعواه.
 $
البيّنة والقسامة من المنكر:
وأمّا النقطة الثانية - وهي أنّ المنكر بإمكانه تبرئة نفسه بالبيّنة أو بقَسَامةخمسين، فيقع الكلام في ذلك في كيفيّة القَسَامة. وهنا تصوُّران فقهيّان:
أحدهما: أن يكون على المتّهمين القسم خمسين مرّة على براءتهم، فلو زاد عددهم على ذلك، كفى أن يقسم خمسون منهم، ولو نقص عددهم عنه، أكثروا من الحلف إلى أن يتمّ عدد الخمسين .
والثاني: أنّ عليهم أن يحضروا خمسين شخصاً يحلفون على براءة المتهمين، ولو كان الحالفون غير متّهمين، فإن نقص العدد، أكثروا من الحلف إلى أن يتمّ العدد.
وكأن المشهور هو الثاني، بينما الروايات تدلّ على الأوّل، فرواية بريد تقول: «حلف المدّعى عليه قَسَامة خمسين رجلا ما قتلنا، ولاعلمنا قاتلا»(1). والمدّعى عليه هو المتّهم، ورواية مسعدة بن زياد تقول: «حلّف المتّهمين بالقتل خمسين
', '(1) الوسائل، ج 19، باب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح 3 ص 115.
', 568), (14, 569, 'book', '
يميناًباللّه ما قتلنا، ولا علمناله قاتلا»(1). ورواية أبي بصير تقول: «فإنّ على الذين ادُّعِىَ عليهم أن يحلف منهم خمسون ما قتلنا، ولاعلمنا له قاتلا»(2). وسند الروايتين الاُوليين تامّ، وسند الأخيرة فيه علىّ بن أبي حمزة البطائني الذي وثّقة الشيخ في العدّة وروى عنه الثلاثة، إلّا أنّ الكشي ينقل عن ابن مسعود عن علىّ بن الحسن بن فضّال أنّه كذّاب متّهم، ومقتضى الاعتماد على هذا النقل أن نحمل رواية الثلاثة عنه على ما قبل انحرافه، ونقول: إنّ اتّصافه بصفة الكذب كان من بعد انحرافه عن خطّ أهل البيت (عليهم السلام)، فمتى ما نقل أحد الثلاثة عنه اعتمدنا على روايته، وإلّا لم نعتمد على روايته؛ لأننّا لا نعرف تاريخ نقله لها. وعليه فالرواية التي وردت عنه هنالا يمكن الاعتماد عليها.
والذي يمكن الاستدلال به على جواز الاعتماد على حلف غير المتّهمين على براءة المتّهم هوما ورد من قصّة الأنصاري الذي وجد قتيلا بين أظهر اليهود؛ حيث جاء في جملة من روايات هذه القصّة اتّهام اليهود من قبل أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله)بقتله، واقترح الرسول (صلى الله عليه وآله) عليهم تحليف اليهود(3)، ولكن جاء في رواية بريد(4): «قالت الأنصار: إنّ فلان اليهودي قتل صاحبنا». وبعد فرض وحدة القصّة يقال: إن رواية بريد دلّت على أنّ المتّهم كان واحداً، فنحمل ما جاء في بعض الروايات من نسبة الاتّهام إلى اليهود على ما تعارف من نسبة جرم الواحد من قبيلة إلى تلك القبيلة. وعليه فاقتراح الرسول (صلى الله عليه وآله) تحليف اليهود يعني تحليف أُناس غير متّهمين
', '(1) الوسائل، ج 19، باب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح 6 ص 115.
(2) الوسائل، ج 19، باب 10 من دعوى القتل وما يثبت به، ح 5، ص 118.
(3) راجع بهذا الصدد: الوسائل، ج 19، باب 10 من دعوى القتل، ح 1 و 2 و 5 و 7.
(4) وهي الرواية الثالثة من باب 9 من تلك الأبواب ص 114 .
', 569), (14, 570, 'book', '
بالقتل؛ إذ المتّهم منهم واحد فحسب.
والجواب: أنّ من المحتمل اختلاف درجات الاتّهام. فكان اليهود متّهمين بالقتل، وكان فلان اليهودي أشدّ اتّهاماً: أو أنّ بعض الصحابة اتّهم اليهود، وبعضهم اتّهم فلان اليهودي، فلو لم يكن هذا أقرب في مقام الجمع بين تلك الروايات، فلا أقلّ من تساوي احتماله لاحتمال كون المتّهم واحداً.
فالظاهر أنّ الصحيح هو اختصاص القسم بالمتّهمين، فلو كانوا أقلّ من الخمسين حلفوا بقدر الخمسين، ولو كانوا خمسين حلفوا جميعاً، ولو كانوا أكثر من الخمسين، حلف خمسون منهم. نعم لو قصد بهذا حلف خمسين منهم على براءة أنفسهم فحسب دون براءة باقي المتّهمين، فهذا ممنوع. فإنّ الظاهر من الروايات حاجة كلّ منهم في تبرئته إلى حلف خمسين، فالمفروض بالخمسين أن يحلفوا على براءة الكلّ.
وقد يقال: إنّ حلف قسم من المتّهمين على براءة قسم آخر ليس إلّا كحلف غير المتّهمين على براءة المتّهمين، فإذا جاز الأوّل جاز الثاني إلّا أنّ هذا إنّما يتمّ قطعنا بعدم الفرق، وإلّا فالنتيجة هي ما ذكرناه من أنّه يجب توجيه الحلف إلى المتّهمين.
ومقتضى إطلاق الروايات أنّه لاحاجة إلى تقسيم الحلف عليهم بالسويّة.
ويحتمل أن يقال فيما إذا كان المتّهمون أكثر من خمسين: إنّ عليهم جميعاً أن يحلفوا وإن استلزم ذلك زيادة عدد الحلف على الخمسين، وذلك لرواية علىّ بن الفضيل عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وجد رجل مقتول في قبيلة قوم، حلفوا جميعاً ما قتلوه، ولايعلمون له قاتلا، فإن أبوا أن يحلفوا، اُغرموا الدية فيما بينهم سواء بين جميع القبيلة من الرجال المدركين»(1) فمقتضى إطلاق هذا الحديث أنّه حتى لو كانوا
', '(1) الوسائل، ج 19، باب 9 من دعوى القتل، ح 5، ص 115.
', 570), (14, 571, 'book', '
أكثر من خمسين وجب أن يحلفوا جميعاً، ورواية أبي بصير الماضية لو تمّت سنداً، لكانت صالحة لتقييد هذا الطلاق؛ إذ تقول: «فإنّ على الذين ادُّعِي عليهم أن يحلف منهم خمسون ...».
وهناك روايتان أُخريان يعارض إطلاقهما إطلاق رواية علىّ بن الفضيل، وهما مامضى من رواية بريد حيث ورد فيها: «وإلّا حلف المدّعى عليه قَسَامة خمسين رجلا ما قتلنا، ولا علمنا قاتلا»، ورواية مسعدة حيث ورد فيها: «حلّف المتّهمين بالقتل خمسين يميناً باللّه ما قتلناه، ولا علمنا له قاتلا»، فمقتضى إطلاقهما كفاية خمسين قسماً. ولو كان المتّهمون أكثر من خمسين، فإمّا أن تحمل رواية علىّ بن الفضيل على ما إذا لم يكونوا أكثر من خمسين، أو تحمل هاتان الروايتان على ما إذا يكونوا أكثر من خمسين، ومع عدم الترجيح لا يبقى دليل على لزوم الحلف أكثر من خمسين. والذي يهوّن الخطب أنّ رواية علىّ بن الفضيل غير تامّة سنداً لعدم ثبوت وثاقة علىّ بن الفضيل؛ إذن فالصحيح كفاية حلف خمسين من المتّهمين على براءة الكلّ ولو كان المتهمون أكثر من خمسين.
 $
الترتيب بين البينة والقسامة منهما:
يبقى الكلام في أنّه ما هي النسبة بين ما يثبت دعوى المدّعي من البيّنة وقَسَامةخمسين، وما يثبت براءة المتّهم من البيّنة وقَسَامة خمسين؟ هل هناك تقدّم لأحدهما على الآخر؟ وهل هناك تقدّم للبيّنة على القسامة أو العكس، أوْلا؟ وهذا البحث يمكن تنقيحه ضمن عدّة بنود:
البند الأوّل - هل هناك ترتّب بين بيّنة المدّعي وقسامته، أوأنّهما في عرض واحد، فهو مخيّر بينهما؟
$
', '', 571), (14, 572, 'book', 'قد يتصور أنّ رواية بريد تدلّ على أنّ البيّنة مقدّمة على القَسَامة؛ إذ جاء فيها: «فإن لم تجدوا شاهدين، فأقيموا قَسَامة خمسين رجلا»، ولكنّ الترتيب بينهما بعيد؛ إذ هذا يعني أنّ من لايمتلك البيّنة ويأتي بالقسامة، تثبت دعواه، ومن يمتلك البيّنة، ولكن لا يقيمها لصعوبة في الحضور على البيّنة مثلا وأسهليّة القَسَامة فيأتي بالقَسَامة لا تثبت دعواه، بينما الثاني أقرب إلى الصدق من الأوّل. هذا مضافاً إلى أنّ تعيّن إقامة البيّنة على المدّعي مع الإمكان، وعدم وصول النوبة إلى القَسَامة عند إمكانيّة إقامة البيّنة خلاف صريح ما ورد من أنّ المدّعي في باب الدم عليه القسم لا البيّنة. فالصحيح هو التخيير، وحمل رواية بريد على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) طالب المدّعين أوّلا بأحد فردَيْ التخيير في مقام إثبات الدعوى، ثمّ بعِدله الآخر.
البند الثاني - هل هناك ترتيب بين بيّنة المتّهمين و قسامتهم، فليس لهم الاكتفاء بالحلف مع إمكانيّة إقامة البيّنة، أوهم مخيّرون بينهما؟ المفهوم من الجمع بين روايات قَسَامة المتّهمين ورواية أنّ البيّنة في الدم على المتّهم هو أنّهمافي عرض واحد، على أنّ الطولية مستبعدة بالنكتة التي شرحناها في البند الأوّل.
البند الثالث - يفهم من الروايات أنّ حلف المتّهمين يكون في الرتبة المتأخّرة عن بيّنة وحلف المدّعي، كما هو واضح من رواية مسعدة: «كان أبي (رضي الله عنه) إذا لم يقم القوم المدّعون البيّنة على قتل قتيلهم، ولم يقسموا بأنّ المتهمين قتلوه، حلّف المتهمين...»
ولاينا في ذلك ما في بعض نُقول(1)قصّة الأنصاري الذي قتل بين أظهر اليهود من اقتراح الرسول (صلى الله عليه وآله) أوّلا تحليف اليهود، وبعد امتناع الأصحاب عن ذلك لكونهم كفّاراً لا يتحرّزون عن الحلف الكاذب ضدّهم طالبهم بالحلف، فلو كان
', '1 - الوسائل، ج 19، باب 10 من دعوى القتل، ح 1 و 2.
', 572), (14, 573, 'book', '
الصحيح هذا النقل وليس العكس الوارد في باقي النقول(1)، قلنا: إنّ هذا لاينا في ما قلناه بل يدعمه؛ إذ لو لا كون حلف المدّعين - لو استعدّوا - رافعاً لحقّ الحلف للمتّهمين، لما استجاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لا متناعهم عن تحليف اليهود، ولما أعطاهم حقّ الحلف.
البند الرابع - بيّنة المتّهم تقدّم على حلف المدّعي. فإنّ هذا هو المفهوم من قوله: «البيّنة على المدّعى عليه و اليمين على المنكر»، فإنّ المرتكز عرفاً أنّ البيّنة هي التي تبيّن الواقع، والحلف فيه جنبة إيكال القضيّة إلى مسؤوليّة الحالف وإلى ضميره ووجدانه، فالذي يفهم من مثل هذا الكلام عرفاً بضميمة المناسبات الارتكازيّة هو تقديم بيّنة المنكر على يمين المدّعي.
البند الخامس - لو تعارضت بينة المدّعي وبيّنة المنكر، فقد يقال بتقديم بيّنة المنكر؛ لما دلّ على أنّ البيّنة على المنكر دون المدّعي، ولكن دليل كون البيّنة على المنكر إنّما دلّ على أنّ الذي يطالب بالبيّنة هو المنكر دون المدّعي، أمّا عدم قابليّة بيّنة المدّعي للمعارضة مع بيّنه المنكر، وأنّه لايحقّ للمدّعي تقديم البيّنة مالم يمتنع المنكر عن تقديمها، فهذا مطلب زائد على مفاد ذاك الدليل.
وقد يقال بتقديم بيّنه المنكر من باب أنّه لا دليل على نفوذ بيّنة المدعي عند وجود البيّنة للمنكر، فبيّنه المنكر تمتلك الدليل على النفوذ، وهو ما دلّ على أنّ البيّنه على المنكر، أمّا بيّنة المدّعي فالذي يدلّ على نفوذها إنّما هو رواية بريد الدالّة على مطالبة الرسول (صلى الله عليه وآله) للأنصار بالبيّنة على قتل اليهود لصاحبهم، ولكنها قضيّه في واقعة، ولا إطلاق لها لفرض امتلاك المنكر البيّنه.
ولكنّنا لو بنينا على وجود إطلاق لحجّيّة البيّنة بشكل عامّ، وهو نفس
', '(1) الوسائل، ج 19، باب 10 من دعوى القتل، ح 3 و 5 و 7 .
', 573), (14, 574, 'book', '
روايات البيّنة على المدّعي واليمين على من انكر في سائر الموارد، وروايات البيّنة على المنكر واليمين على المدّعي في مورد الدم بتقريب أنّ كلمة البيّنة تشير إلى ما يبيّن الواقع في نظر العقلاء، وهذا يدلّ على إمضاء ما هو ثابت في مرتكز العقلاء من كونها بيّنة على الواقع ومثبتة له، فيتم الإطلاق المقامىّ لحجّيّة البيّنة بحدود ما يساعد عليه الارتكاز العقلائي. إذن فالنتيجة في المقام حجّيّة بيّنة المدّعي أيضاً، فإنّ بيّنة مدّعي الدم لاشكّ أنّها مشمولة لارتكاز الحجّيّة عند العقلاء، غاية ما هناك أنّه ثبت بالنصّ في باب الدم دعم إضافي لجانب المدّعي، وهو قبول القَسَامة منه، ومحكوميّة المنكر بمجرّد أن لا يمتلك بيّنة ولايستعدّ للقَسَامة. أمّا الحقّ الأصلي الثابت للمدّعي عقلائيّاً - وهو إثبات مدّعاه بالبيّنة - فلم يرد ما ينفيه. وعليه فعند تعارض البيّنتين تكون كلّ واحدة منهما بذاتها حجّة، فتتعارضان وتتساقطان.
وقد يقال: إنّ قوله: «البيّنة على من ادّعى»، أوقوله: «البيّنة على من ادُّعي عليه» إنّما هو إشارة إلى ما هي بيّنة في حدّ ذاتها على الواقع، ويقول: إنّ تلك البيّنة التي هي في حدّ ذاتها بيّنة على الواقع وكاشفة عنه تكون على المدّعي، أو تكون على المدعى عليه. فهذا الكلام إنّما يدلّ بدلالة المقام على الحجّيّة الذاتيّة للبيّنة على الإطلاق لا الحجّيّة القضائيّة. إذن فلا طريق لإثبات الحجّيّة القضائيّة لبيّنة المدّعي في باب اللّوث عندما يمتلك المنكر بيّنة، فإنّ الدليل على حجّيّتها القضائيّة إن كان هو رواية بريد، فلا إطلاق لها لفرض امتلاك المنكر للبيّنة، وإن كان هو دلالة المقام لرواية البيّنة على المدّعي أو البيّنة على المدّعى عليه، فدلالة المقام لهما لاتدلّ على أكثر من الحجّيّة الذاتيّة دون القضائية، وإن كان هو ارتكاز العقلاء القائل بالحّجّية القضائية لبيّنة المدّعي في اللّوث، فهذا الارتكاز مردوع عنه بما دلّ في باب اللّوث من أنّ على المدّعي اليمين، فإنّ إطلاقه يشمل فرض امتلاكه للبيّنة. وهذا يعني أنّه حتى لو أقام بيّنة، فعليه اليمين. وهذا يدلّ على عدم حجّيّة بيّنته قضائيّاً، خرج من
', '', 574), (14, 575, 'book', 'ذلك ما إذا لم تُعارَضْ بيّنتُه ببيّنة المنكر، وذلك برواية بريد، وبَقِيتْ بيّنته عند التعارض غير حجّة قضائياً، فتكون بيّنة المنكر هي الحجّة.
والجواب: أوّلا - أنّ رواية «البيّنة على من ادّعي عليه واليمين على المدّعي» لاتصلح للردع عن ذاك الارتكاز العقلائي؛ لأنّ المفهوم منها أنّها جاءت لتسهيل الأمر على المدّعي وإضافة طُرق له للوصول إلى مرامه لا لسلب ما كان له من طريق في المرافعات الأُخرى.
وثانياً: أنّه لو فرضنا دلالة قوله: «اليمين على المدّعي» على عدم حجّيّة بيّنته حجّيّة قضائية، فقد عرفنا - بضرورة الفقه - أنّ الحكم هو خلاف ذلك؛ لقبول بيّنته فيما إذا لم تكن للمنكر بيّنة بلا إشكال، كما ورد ذلك في رواية بريد، وعندئذ فجعل هذا ردعاً عن بيّنة المدّعي في خصوص ما إذا كان المنكر يمتلك بيّنة ليس أمراً مفهوماً عرفاً، فلا يصلح لرادعيّة من هذا القبيل.
وثالثاً: لو فرضنا الردع عن الحجّيّة القضائية لبيّنة المدّعي، كفتنا الحجّيّة الذاتيّة في معارضتها لبيّنة المنكر، وسقوط بيّنة المنكر معها - بالتعارض - عن الحجّيّة الذاتية، وبالتالي تسقط بيّنة المنكر عن الحجّيّة القضائية أيضاً؛ إذ المفهوم بدلالة المقام من دليل حجّيّة البيّنة قضائياً أنّها بما هي حجّة ذاتيّة صارت موضوعاً للحجّيّة القضائيّة، فإذا تساقطت مع بيّنة المدّعي، فقد سقطت عن الحجّيّة القضائية أيضاً. وبعد التساقط نرجع إلى قَسَامة المدّعي التي مضى في البند الرابع أنّها متأخّرة رتبة عن بيّنة المنكر، فإن لم يمتلك قَسَامة، وصلت النوبة إلى قَسَامة المنكر التي مضى في البند الثالث أنّها متأخّرة رتبة عن بيّنة المدّعي وقَسَامته.
لايقال: إنّ دليل القسامة لا إطلاق له لفرض تعارض البيّنتين وتساقطهما، وإنّما ثبتت القسامة للمدّعي عند ما لا يمتلك المنكر البيّنة، والمفروض في المقام أنّ المنكر قد أقام البيّنة. وكذلك إنّما ثبتت القسامة للمنكر عند ما لا يمتلك المدّعي البيّنة،
', '', 575), (14, 576, 'book', 'والمفروض في المقام أنّ المدّعي قد أقام البيّنة، ورواية عليّ بن الفضيل: - «إذا وجد رجل مقتول في قبيلة قوم، حلفوا جميعاً ما قتلوه، ولايعلمون له قاتلا»(1) التي قد يقال: إنّها تشمل بالإطلاق فرضَ تعارض البيّنتين وتساقطهما - ساقطة سنداً؛ لعدم ثبوت وثاقة عليّ بن الفضيل.
فإنّه يقال: المفهوم عرفاً من أدلّة القَسَامة أنّه التجاء إلى تحكيم اليمين عند عدم تماميّة البيّنة التي تبيّن الواقع، ولايحتمل العرف الفرق بين ما إذا كان عدم تماميّة البيّنة بعدم وجودها أو عدم اكتمال شرائطها أو بسبب التعارض والتساقط.
 $
مدى ثبوت الدم بالنكول:
وأمّا النقطة الثالثة - وهي أنّ المنكر لو لم يمتلك البيّنة ولم يحلف قسامةخمسين، ثبت عليه الدم، فجهة الغموض فيها أنّه هل يثبت عليه الدم بذلك بمستوى الدية فحسب، أو يثبت عليه القِصاص أيضاً؟.
لعلّ المفهوم من الأصحاب القائلين بثبوت الدعوى عليه ثبوت القِصاص أيضاً في موارد القِصاص، ولكنّه روائيّاً مشكل؛ لأنّ جميع روايات الباب(2) إنمّا أثبتت الدية بذلك لا القِصاص. نعم، موردها مورد عدم تعيّن القاتل في شخص معيّن، ومن الطبيعي في مثل ذلك الانتقال إلى الدِّيَة حتى لو آمنّا بأنّ النكول عن اليمين يثبت حقّ القِصاص، ولكنّي أقول: إنّه لم يرد في الروايات ما يثبت القِصاص عند نكول المنكر عن اليمين؛ لأنّها جميعاً إنّما تعرضت للدِّيَة لا للقصاص.
$
', '(1) الوسائل، ج 19، باب 9 من دعوى القتل، ح 5، ص 115.
(2) راجع الوسائل، ج 19، باب 8 و 9 و 10 من دعوى القتل.
', 576), (14, 577, 'book', '
وقد يُقال: إنّ نفس ما ورد من إثبات البيّنة والقَسَامة على المنكر تدلّ على أنّه لو لم يقدِّم شيئاً منهما ثبتت عليه الدعوى. وهذا يعني ثبوت الدِّيَة عندما لم نعلم بكون القتل عمديّاً، وثبوت القِصاص عندما علمنا بكون القتل - على تقدير وقوعه منه - عمدياً.
ولكنّي أقول: إنّه يكفي مبرِّراً لمطالبة المنكر بالبيّنة أو القَسَامة أنّه لو لم يقدّم شيئاً منهما لثبتت عليه الدية، وعليه فلو ثبت إجماع كاشف في المقام فهو، وإلّا فإثبات حقّ القِصاص بمجرّد النكول مشكل. نعم، لا إشكال في ثبوت القِصاص بالبيّنة إذا قامت على العمد، كما لا ينبغي الإشكال أيضاً في ثبوت القِصاص بالقَسَامة إذا حلفوا على العمد، كما يدلّ على ذلك ما وَرَدَ من أنّه جعلت القَسَامة كي يخاف القاتل أن يقتل بها، فيكفّ عن القتل، فلو لم تكن القسامة تثبت العمد لأمكن للقاتل أن يتخلّص من القتل بدعوى الخطأ، فيكتفي بِدِيَة العاقلة.
 $
عدم اشتراط الجزم في دعوى القتل:
وفي ختام البحث عن اللّوث في الدماء نقول: لا يشترط في ثبوت الدم بالبيِّنةأو القَسَامة أو النكول كون وليّ الدم مدّعياً للقتل على المتّهم دعوى جزميّة، وذلك لأحد وجوه:
الأوّل - خاصّ بالبيّنة، وهو دعوى الإطلاق في دليل حجّيّة البيّنة بناء على أنّ روايات (البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر) أو العكس تشير إلى حجّيّة البيّنة في حدود الارتكاز العقلائي، وأنّ تطبيقها على مورد الدعوى تطبيق للقاعدة العامّة لحجّيّتها، وليس المقصود بها تشريع حجّيّتها في خصوص مورد الدعوى كي يقال: لا دليل على صحّة إقامة الدعوى غير الجزميّة.
والثاني - خاصّ بالبيّنة والقَسَامة ولا يشمل النكول، وهو ما ورد في بعض
', '', 577), (14, 578, 'book', 'الروايات من قصّة الأنصاري، فإنّ امتناع الأنصار عن الحلف بحجّة أنّهم لم يروا القتل دليل على أنّهم لم يكونوا جازمين بالدعوى، والرسول (صلى الله عليه وآله) استعدّ لإثبات الجرم بالبيّنة والقَسَامة إلّا أنّه قد يقال: لعلّ امتناعهم عن القسم كان تورُّعاً عن القسم على العلم غير الحسّي.
والثالث - التمسُّك بظاهر روايات تحميل الدِّيَة على المتّهمين من دون تعرُّض إلى فرض وجود مدّع بدعوى جزميّة، فإنّ عدم التعرض لذلك ظاهر عرفاً في عدم دخله في الحكم من قبيل ماورد - بسند تامّ - عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن الرجل يوجد قتيلا في القرية أو بين قريتين؟ قال: يقاس ما بينهما، فأيّهما كانت أقرب ضمنت»(1) وما ورد - بسند تامّ - عن محمد بن قيس قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل قتل في قرية، أو قريب من قرية أن يغرّم أهل تلك القرية إن لم توجد بيّنة على أهل تلك القرية أنّهم ما قتلوه»(2).
إلّا أنّ إثبات القِصاص بمجرَّد النكول الذي قلنا - فيما سبق - إنّه مُشكِل يصبح بإضافة فرض عدم مدّع بالادّعاء الجزمي للقتل أكثر إشكالا، فإنّ الروايات لم تدلّ على أكثر من الدِّيَة، وصحيح أنّ في موردها لم يكن يمكن شيء غير الدية باعتبار عدم تعيُّن القاتل، ولكن المقصود أنّ الدليل لم يرد إلّا في الديّة، فإثبات القِصاص مُشكِل.
هذا تمام ما أردنا بيانه في المورد المستثنى من قاعدة (أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر)، وهو مورد اللّوث في الدم.
$
', '(1) الوسائل، ج 19، باب 8 من دعوى القتل، ح 4، ص 112.
(2) الوسائل، ج 19، باب 8 من دعوى القتل، ح 5، ص 112.
', 578), (14, 579, 'book', '
 $
في مورد اتهام العامل:
وهناك مورد آخر قد يخطر بدواً في البال خروجه عن القاعدة بثبوت البيّنةعلى المنكر، وهو مورد اتّهام العامل كالقصّار والغسّال والصبّاغ بالخيانة أو الإتلاف. وذلك لما ورد عن الحلبي - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال في الصائغ والقصّار: «ما سرق منهم من شيء فلم يخرج منه على أمربيّن أنّه قد سرق، فكلّ قليل له أو كثير فهو ضامن، وإن فعل فليس عليه شيء، وإن لم يقم البيّنة، وزعم أنّه قد ذهب الذي ادُّعي عليه فقد ضمنه، إلّا أن يكون له على قوله بيّنة»(1).
وما ورد عن أبي بصير - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن القصّار دفعت إليه ثوباً، فزعم أنّه سرق من بين متاعه قال: فعليه أن يقيم البيّنة أنّه سرق من بين متاعه، وليس عليه شيء، فإن سرق متاعه كلّه فليس عليه شيء»(2).
وجه الاستدلال أنّ العامل هنا منكر؛ لأنّه باعتباره أميناً لايضمن التلف إلّا بتفريط منه أو إتلاف، وهو ينكر ذلك، ومع ذلك دلّت الروايتان على أن عليه البيّنة.
وفي حديث آخر جاء ذكر البيّنة والحلف معاً، وهو ما عن أبي بصير - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا يضمن الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلّا أن يكونوا متّهمين، فيخوّف بالبيّنة ويستحلف؛ لعله يستخرج منه شيئاً»(3). وجملة
', '(1) الوسائل، ج 12، باب 29 من أحكام الإجارة، ح 2، ص 272. وقد أخذنا المتن من التهذيب، ج 7، ح 952.
(2) نفس المصدر، ح 5.
(3) نفس المصدر، ح 11، ص 274.
', 579), (14, 580, 'book', '
«فيخوّف بالبيّنة» واردة في التهذيب(1)، وأمّا في الفقيه فجاء بدلا عنها: «فيجيئون بالبيّنة»(2).
وفي حديث آخر جاء ذكر الحلف فقط، وهو ما عن بكر بن حبيب قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) أعطيتُ جبّة إلى القصّار، فذهبت بزعمه؟ قال: إن اتّهمته فاستحلفه، وإن لم تتّهمه فليس عليه شيء»(3). وسند الحديث غير تامّ؛ لأنّ بكر بن حبيب لم تثبت وثاقته.
ولهذه الروايات عدة محامل:
الأوّل - أن يقال: إنّ مقتضى الجمع بينها هو أنّ هذا العامل إمّا أن يأتي ببيّنة أو يحلف؛ إذ الحلف أيضاً قد ورد في بعض هذه الروايات، وهذا غير فرض أن تكون عليه البيّنة، ولعلّ الاكتفاء بالبيّنة منه - رغم أنّ المنكر لايُكتفى منه بالبيّنة بناءً على أنّ على المنكر الحلف - كان بسبب أنّ المدّعي ليس هنا جازماً بالدعوى؛ إذلا جزم بخيانة العامل أو إتلافه، ولهذا جعل السيّد الخوئي مورد اتّهام العامل مستثنىً من قاعدة أنّ المدّعي يجب أن يكون جازماً في دعواه. وهنا لايتصوّر - أصلا - إلزام العامل بالبيّنة إلّا بمعنىً يجعله أشدّ حالا من المدّعي في الموارد الأُخرى؛ إذ معنى إلزام المدّعي بالبيّنة أنّه لو لم يأتِ بها، فصاحبه يأخذ بالحقّ بيمينة، أمّا هنا فهذا المنكر لو لم يأتِ بالبيّنة، لم يكن بإمكان صاحبه أن يأخذ بالحقّ بيمينه؛ لأنّه غير جازم ببطلان ما يقوله العامل، فإلزام العامل بالبيّنة من دون فسح المجال له للحلف يعني أنّه لو لم يمتلك البيّنة ثبت الحقّ لصاحبه من دون يمينه، وهذا معنى ما قلنا من أنّه
', '(1) ج 7، ح 951.
(2) الفقيه، ج 3، ح 715.
(3) الوسائل، ج 13، باب 29 من أحكام الإجارة، ح 16، ص 275.
', 580), (14, 581, 'book', '
لزم من ذلك كون المنكر هنا أشدّ حالا من المدّعي في سائر الموارد.
الثاني - أن يقال: إنّ اتّهام العامل جُعل هنا أمارة شرعيّة على خيانته أو إتلافه، فأصبح كلامه خلاف الحجّة، إذن هو مدّع، وليس منكراً، وعليه البيّنة، فإن لم يمتلك تصل النوبة إلى حلفه؛ لأنّ المنكر هنا ينكل عن القسم لعدم الجزم.
ولو تمّ هذا الاحتمال، لكان لازمه أنّ من حقّ المنكر شرعاً أن يعمل وفق إنكاره قبل المرافعة وقبل أن يطالبه ببيّنة أو يمين، وذلك بأن يقتصّ منه بأخذ شيء من ماله قهراً عليه، كما هو الحال في كلّ منكر، فإنّه يجوزله أن يجري في عمله وفق إنكاره إلى أن يلزم بحكم القاضي في صالح المدّعي، فعندئذ يجب عليه التنازل عن رأيه رغم علمه بصحّة رأيه. وهذه - كما ترى - مؤونة زائدة لم تدلّ عليه هذه الروايات.
الثالث - أن يقال: إنّ فرض كون العامل منكراً إنّما يكون في ما إذا علم بالتلف وشكّ في إتلاف العامل إيّاه، ولكن لا إشارة في هذه الروايات إلى العلم بالتلف، فلا يبعد أن يكون المقصود هو أنّ من المحتمل بقاء العين، وعليه فالعامل الذي يدّعي التلف يكون مدّعياً - وليس منكراً - وعليه البيّنة، فإن لم تكن له البيّنة وصلت النوبة إلى يمين المنكر، وبما أنّ المنكر ينكُل عن اليمين لعدم جزمه يردّ اليمين على المدّعي. وعليه فجعل السيّد الخوئي لهذا المورد استثناء عن قاعدة لزوم كون المدّعي جازماً في دعواه غير صحيح.
 $
$
', '', 581), (14, 582, 'book', ' $
$
', '', 582), (14, 583, 'book', ' $
$
', '', 583), (14, 584, 'book', ' $
$
', '', 584), (14, 585, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
 $
البحث الرابع - في مدى قبول البيّنة من المنكر وعدمه:
نُسِب إلى المشهور أنّ البيّنة لا تقبل من المنكر، وإنّما تقبل البيّنة من المدّعي، فمع تعارض البيّنتين ترجّح بيّنة الخارج.
 $
مقتضى قاعدة (البيّنة على المدعي ...):
وقد تفسّر رواية «البيّنة على المدّعي واليمين على من ادّعي عليه»(1) بمعنى أنّالمدّعى عليه إنّما يقبل منه اليمين ولا تُقبل منه البيّنة.
إلّا أنّ هذا التفسير مُشكل؛ لأنّ الرواية إنّما دلّت على أنّ المدّعي هو الذي يطالب بالبيّنة، وأنّ المنكر هو الذي يطالب باليمين، أمّا أنّه لو قدّم المنكر البيّنة فلا قيمة إطلاقاً لبيّنة، فهذا مطلب آخر لم يتعرض له الحديث.
كما أنّه ليس من الصحيح أيضاً تفسير الرواية بأنّه لا قيمة لبيّنة المنكر في عرض بيّنة المدّعي بأن يقال: لو أقام المدّعي البيّنة، حكم الحاكم وفق بيّنته وإن كان
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 3 من كيفيّة الحكم، ح 1 و 2 و 3 و 6، ص 170 إلى 172.
', 585), (14, 586, 'book', '
المنكر أيضاً يمتلك البيّنة، أمّا لو لم يُقِم المدّعي البيّنة، فلو قيل بنفوذ بيّنة المنكر لم يكن هذا مخالفاً لما يفهم من هذه الرواية، فإنّ هذا التفسير يرد عليه: أنّ قوله (عليه السلام): «اليمين على المدّعى عليه» لو دلّ على سقوط بيّنة المنكر عن الاعتبار، فهذه الدلالة لا تختصّ بفرض امتلاك المدّعي للبيّنة، بل إنما جعل قاعدة (اليمين على المدّعى عليه) لكيْ تصل النوبة إلى يمين المنكر بعد عجز المدّعي عن إثبات مُدَّعاه بالبيّنة ولو لم يدلّ على سقوط بيّنة المنكر عن الاعتبار؛ إذن لامبرّر لهذا التفسير.
والمحتملات بدواً في قوله (عليه السلام): «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه»ثلاثة:
الأوّل - أن يكون قوله (عليه السلام): «اليمين على المدّعى عليه» إشارة إلى رفض البيّنة من المنكر، وأنّه ليس عليه إلّا اليمين، ولايقبل منه إلّا اليمين، وعليه فالرواية تدلّ على مقالة المشهور.
إلّا أنّ هذا يرد عليه ما قلناه: من أنّ الحديث إنما يدلّ على أنّ المنكر ليس عليه إلّا اليمين، أمّا دلالته على أنّه لاتقبل منه البيّنة بأيّ درجة من درجات القبول، فهذا ممّا لم نعرف الدالّ عليه.
الثاني - أن يقال: إنّ الرواية إنّما دلّت على أنّ المدّعي هو الذي يطالَب بالبيّنة، والمنكر هو الذي يطالَب باليمين، أمّا عدم نفوذ بيّنة المنكر، فلم تدلّ عليه الرواية. إذن فنحن نتمسّك بإطلاق دليل نفوذ البيّنة لإثبات نفوذ بيّنة المنكر، وليكن ذاك الإطلاق هو نفس قوله «البيّنة على المدّعي» المشير حسب دلالة المقام إلى ما هو بيّنة على الواقع، و كاشفٌ عنه عقلائيّاً قبل مرحلة القضاء.
والنتيجة أنّه لو لم يمتلك المدّعي البيّنة، وأقام المنكر البيّنة قبلت منه، ولم تكن هناك حاجة إلى يمينه، ولو أقاما معاً البيّنة تعارضتا وتساقطتا، ووصلت النوبة إلى يمين المنكر.
$
', '', 586), (14, 587, 'book', 'ويرد عليه: أنّ قوله: «اليمين على من ادّعي عليه» قد دلّ بإطلاقه على أنّ المنكر عليه اليمين - سواء أقام بيّنة أو لا - وهذا يدلّ لامحالة على عدم كفاية البيّنة لإثبات ما يريده المنكر؛ إذ لو كفت لما احتجنا إلى يمين المنكر. نعم هذا لايعني سقوط بيّنته عن الاعتبار نهائياً بأن لا تصلح لمعارضة بيّنة المدّعي؛ كي يكون هذا رجوعاً إلى الاحتمال الأوّل، ولكنه يعني أنّ بيّنته ليست كبيّنة المدّعي كافيةً وحدها لإثبات المطلوب.
أمّا دلالة المقام لجملة (البيّنة على المدعي) فلو تمّت على الحجّيّة القضائيّة للبيّنة - لا الذاتيّه فحسب - فإنّما تتمّ لو لا قوله: «اليمين على من ادّعي عليه» فإنّ هذا منعٌ - لامحالة - عن الحجّيّة القضائيّة لبيّنة المنكر، وإنّما ارتكاز العقلاء على حجّيّة البيّنة، فلو تمّ على الحجّيّة القضائيّة بالنسبة للمنكر فهو مردوع عنه بقوله: «اليمين على من ادّعي عليه».
الثالث - ما هو مقتضى التحقيق في المقام، وهو أن يقال: إنّ بيّنة المنكر ليست ساقطة عن الاعتبار نهائياً كما هو الحال على الاحتمال الأوَّل، ولاهي حجّة قضائيّاً كما هو الحال على الاحتمال الثاني، وإنّما هي حجّةٌ حجّيّةً ذاتيّة، أي بالحجّيّة الثابتة قبل القضاء، والحجّيّة الذاتيّة غير الحجّيّة القضائيّة، فربّ شيءً يكون حجّة ذاتاً، وليس حجّة قضاءً كاليد، وربّ شيء يكون حجّة قضاءً وليس حجّة ذاتاً كاليمين، والرواية دلّت بإشارة المقام على أنّ البيّنة التي هي حجّة ذاتاً عند العقلاء وكاشفة عن الواقع بحدّ ذاتها تكون في باب القضاء على المدّعي، ففي الرواية إمضاء للحجّيّة العقلائيّة الذاتيّة للبيّنة بالحدود التي يؤمن بها العقلاء، ولاإشكال في أنّ البيّنة بحدّ ذاتها حجّة على الواقع سواء قامت على الإثبات أو الإنكار.
والنتيجة: أنّه لو لم تكن للمدّعي بيّنة وقدّم المنكر البيّنة، لم تُغنِهِ البيّنة عن اليمين؛ إذ لم تثبت لها حجّيّة قضائيّة، وقد دلّت الرواية على أنّ المنكر عليه اليمين، ولو
', '', 587), (14, 588, 'book', 'كانا معاً يمتلكان البيّنة، فالبيّنتان تتعارضان في مرحلة الحجّية الذاتيّة، وتتساقطان، والحجّيّة القضائيّة المعطاة لبيّنة المدّعي كان موضوعها وفق دلالة المقام تلك البيّنة التي تمتلك الحجّيّة الذاتيّة العقلائيّة. إذن فبعد أن سقطت بيّنة المدعي بالتعارض عن الحجّيّة الذاتيّة سقطت عن الحجّيّة القضائيّة، ووصلت النوبة إلى يمين المنكر.
هذا كلّه لو بقينا نحن وقاعدة (البيّنة على المدّعيواليمين على المدّعى عليه).
 $
مقتضى الروايات الخاصة:
وأمّا الروايات الخاصّة في المقام: فهناك روايتان تدلاّن على مقالة المشهورإلّا أنّهما ضعيفتان سنداً، ومبنى الانجبار بعمل الأصحاب غير صحيح عندنا على أنّه لم يعلم كون استناد الأصحاب إليهما، فلعلّهم استفادوا ذلك من رواية «أنّ البيّنة على المدعي و اليمين على من أنكر». وعلى أىّ حال فالروايتان هما مايلي:
الأُولى - مرسلة دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «أنّه قضى في البيّنتين تختلفان في الشيء الواحد يدّعيه الرجلان أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بيّنة كلّ واحد منهما وليس في أيديهما، فأمّا إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان، وإن كان في يدي أحدهما فإنّما البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه»(1).
والثانية - رواية منصور قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): رجل في يده شاة فجاء رجل فادّعاها فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده، ولم يهب ولم يبع، وجاء الذي في يده البيّنة مثلهم عدول أنّها ولدت عنده، لم يبع ولم يهب؟ فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): حقّها للمدّعي، ولا أقبل من الذي في يده بيّنة؛ لأنّ اللّه - عزّوجلّ -
', '(1) مستدرك الوسائل، ج 3، باب 10 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 199.
', 588), (14, 589, 'book', '
إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي، فإن كانت له بيّنة، وإلّا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللّه - عزّوجلّ -»(1).
والسند ضعيف بمحمّد بن حفص.
وهناك روايتان وردتا في فرض تعارض البيّنتين دلّت إحداهما على أنّه يحكم للمنكر، ودلّت الأُخرى على أنّه يحكم للمنكر بعد يمينه:
الأُولى - رواية غياث بن إبراهيم التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دابّة، وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للذي في يده وقال: لو لم تكن في يده، جعلتهابينهما نصْفين»(2). ولعلّه تلحق بهذه الرواية رواية عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «... كان علىّ (عليه السلام)إذا اختصم إليه الخصمان في جارية، فزعم أحدهما أنّه اشتراها، وزعم الآخر أنّه أنتجها، فكانا إذا أقاما البيّنة جميعاً قضى بها للذي أَنتجت عنده»(3) بناءً على أنّ المقصود بذلك أنّه قضى بها للذي يدّعي أنّها أنتجت عنده، ولا زالت هي في يده في مقابل من يدّعي الملكيّة الطارئة بالشراء، والجارية بعدُ لم تسلّم إليه.
وسند الحديث غير تامّ لوجود محمّد بن أحمد العلوي فيه، ولم تثبت وثاقته.
والثانية - رواية إسحاق بن عمّار التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابّة في أيديهما وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، فأحلفهما علىّ (عليه السلام)، فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما، وأقاما البيّنة؟ فقال: اُحلّفهما،
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 14، ص 186.
(2) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 3، ص 182.
(3) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 15، ص 186.
', 589), (14, 590, 'book', '
فأيُّهما حلف، ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فإن كانت في يد أحدهما، وأقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده»(1). وجمع السيّدالخوئي بينهما بتقييد الأُولى بالثانية(2).
والنتيجة هي أنّ بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر حينما تتعارضان يكون الحقّ للمنكر مع حلفه. وهذا يناسب الاحتمالين الثاني والثالث من الاحتمالات الثلاثة التي أبديناها في رواية: «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه»، وينافي الاحتمال الأوّل، وهو سقوط بيّنة المنكر نهائيّاً. فلو ضَمَمْنا الإشكال - الذي بيّناه هناك على الاحتمال الثاني - إلى هاتين الروايتين اللّتين تبطلان الاحتمال الأوّل، ثبت أيضاً ما اخترناه هناك من الاحتمال الثالث.
والنتيجة هي ما مضى من أنّه لو قدّم المنكر فقط البيّنة لم تُغنِهِ البيّنة عن اليمين، ولو قدّم المدّعي والمنكر كلاهما البيّنة وصلت النوبة إلى يمين المنكر. هذا إذا تساوت البيّنتان.
 $
مدى إمكان الترجيح بالعدد:
أمّا إذا كانت إحدى البيّتين أكثر عدداً من الأُخرى، فمقتضى إطلاق ما عرفتهمن القاعدة والروايات عدم كون الأكثريّة مؤثّرة في الحساب.
نعم، توجد هنا صورة واحدة من تعارض بيّنتي المدّعي والمنكر شبيهة بتعارض بيّنتي المتداعيين، دلّ النصّ فيها على أنّ اليمين يكون على من يمتلك البيّنة
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 2، ص 182.
(2) مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 50.
', 590), (14, 591, 'book', '
الأكثر عدداً، وتلك الصورة هي ما لو كان المنكر لا ينكر ما يدّعيه المدّعي، أي لا تكاذب منطقي بينهما، وإنّما يدّعي ما يمكن أن يجتمع مع صحّة دعوى المدّعي، ولكن في نفس الوقت احتمال التنافي بين واقع الأمرين موجود، وذلك كما لو ادّعى المدّعي الملكيّة، وقال ذو اليد: إنّي ورثته من أبي، و لاأدري كيف كان أمره، فهنا يكون المنكر شبيهاً بمن لا ينكر مدّعى الخصم وإنما يدّعي الإرث؛ إذ لاتكاذب منطقي بينهما لإمكان الجمع بينهما بأن يكون هذا ملكاً للمدّعي قد غصبه أبو المنكر - مثلا - والمنكر وَرِثه من أبيه، وفي نفس الوقت احتمال التنافي بين ما يقوله المدّعي لو كان صادقاً وما يقوله المنكر موجود، بأن لايكون الأب هو الذي غصبه؛ إذ ملكيّة المدّعي تساوق عندئذ غاصبيّة المنكر مثلا، واليد - طبعاً - أمارة على خلاف ذلك. ومن هنا نقول: إنّ هذا منكر، ولكنّه في نفس الوقت شبيه بالمدّعي. أمّا لو صرّح المدّعي بأنّ أبا هذا الرجل هو الذي غصب المال منّي مثلا، فقد انتفى كلّ احتمالات التنافي بين الأمرين، وهنا تنفذ بيّنة المدّعي، و لاتنافي بين البيّنتين ولو على مستوى الاحتمال بالمعنى الذي عرفت. وعلى أىّ حال ففي الفرض الأوّل الشبيه بباب التداعي - وهو فرض ما لو قال المدّعي: إنّ هذا ملكي، وقال ذو اليد: إنّي ورثته من أبي ولا أدري كيف كان أمره، ولم يستحكم التكاذب بينهما لعدم دعوى المدّعي كون المال مسروقاً من قِبَل نفس ذي اليد مثلا - قد دلّ النصّ على أنّه لو كان أحدهما أكثر بيّنة يوجّه الحلف إليه، وهو ماورد عن أبي بصير - بسند تامّ - قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الرجل يأتي القوم، فيدّعي داراً في أيديهم ويقيم البيّنة، ويقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه، ولايدري كيف كان أمرها؟ قال: أكثرهم بيّنة يُستحلف وتدفع إليه، وذكر أنّ عليّاً (عليه السلام) أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مذودهم ولم يبيعوا ولم يهبوا، وقامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك، فقضى (عليه السلام) بها لأكثرهم بيّنة واستحلفهم. قال: فسألته حينئذ، فقلت: أرأيت
', '', 591), (14, 592, 'book', 'إن كان الذي ادّعى الدار قال: إنّ أبا هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، ولم يقم الذي هوفيها بيّنة أنّه ورثها عن أبيه؟ قال: إذا كان الأمر هكذا فهي للذي إدّعاها، وأقام البيّنة عليها»(1).
وقال الشيخ الصدوق (رحمه الله) بعد روايته لصدر هذا الحديث ما نصّه: «لو قال الذي في يده الدار: إنّها لي و هي ملكي، وأقام على ذلك بيّنة، وأقام المدّعي على دعواه بيّنة، كان الحقّ أن يحكم بها للمدّعي؛ لأنّ اللّه - عزّ وجلّ - إنّما أوجب البيّنة على المدّعي، ولم يوجبها على المدّعى عليه، ولكنّ هذا المدّعى عليه ذكر أنّه ورثها عن أبيه، و لايدري كيف كان أمرها، فلهذا أوجب الحكم باستحلاف أكثرهم بيّنة، ودفع الدار إليه»، ثمّ استرسل في الكلام، وذكر بعض الأُمور، ثمّ قال: «هكذا ذكره أبي (رضي الله عنه) في رسالته إلىّ»(2). ولاندري أنّ المقطع الأوّل من الكلام - وهو الذي نقلناه - هل هو أيضاً كلام أبيه أو كلامه هو - رحمة اللّه عليهما -؟
وعلى أىّ حال فإن كان مقصوده إرجاع المسألة إلى باب التداعي لنكتة أنّ المنكر ذكر السبب وهو الإرث، و بذكره للسبب تحوّل من كونه منكراً إلى كونه مدّعياً، فهذا مخالف لما مضى من حديثي إسحاق بن عمّار وغياث بن إبراهيم؛ حيث فرض فيهما أنّ الحقّ يعطى للذي بيده، وهذا يعني أنّه فرضه منكراً مع أنّه ذكر السبب أيضاً وهو أنّ الدابّة نتجت عنده، إلّا أن يفرّق بين ما لو ذكرا معاً السبب فلا ينقلب المنكر مدّعياً ومالو ذكر المنكر فقط السبب فينقلب إلى المدّعي، ولانعرف لهذا الفرق نكتة مفهومة عرفاً، كما أنه مخالف أيضاً لما هو المفهوم عرفاً من عنوان المدّعي والمنكر، فإنّ المنكر يكون غالباً مطّلعاً على سبب ما يقوله، فمجرّد اختلاف
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفية الحكم، ح 1، ص 181 و 182.
(2) الفقيه، ج 3، ذيل الحديث 130، ص 39.
', 592), (14, 593, 'book', '
حاله من كونه منكراً إلى كونه مدّعياً وبالعكس لمجرد فرق لفظي - و هو ذكر السبب وعدمه - ليس عرفياً. هذا وقد شرحنا فيما سبق أنّ المقياس لمعنى المدّعي والمنكر عرفاً هو مخالفة كلامه للحجّة وعدمها، وأنّ هذا لايخالف بالنظر إلى مصبّ الدعوى أو النتيجة.
وإن كان مقصوده إرجاع المسألة إلى باب التداعي لنكتة أنّ المنكر لم يذكر الملكيّة التي تكون اليد دليلا عليها، وإنّما ذكر الإرث، واليد ليست دليلا على الإرث، قلنا: إنّه لو غضّ النظر عن دعوى أنّ ذكر السبب يقلب المنكر مدّعياً فهذا لامحالة يدّعي الملكيّة الظاهريّة، واليد أمارة على الملكيّة، فيكون منكراً.
وإن كان مقصوده دعوى حكم تعبّدي في منكر يشبه المدّعي باعتبار عدم إنكاره لما يدّعيه المدّعي، ودعواه إرثاً في المقام مع احتمال التنافي بين ما يقوله هو وما يقوله المدّعي لو كان صادقاً، فهذا يرجع إلى التفسير الذي نحن فسّرنا به الحديث، وهو تامّ، وحاصله الحاق مثل هذا المنكر بالمدّعي حكماً.
وإن كان مقصوده استفادة مجرد حكم تعبّدي بحت، وهو أنّ الحلف كان على الأكثر بيّنة؛ لأنّ المنكر ذكر السبب، وبما أنّ هذا الحكم تعبّدي بحت، فيمكن تقييده بما إذا لم يذكر المدّعي أيضاً السبب، فلا يقع تناف بين هذا الحديث وحديثي إسحاق بن عمّار وغياث بن إبراهيم، فهذا أمر غير مفهوم عرفاً من الحديث، فمجرد ذكر السبب - لو لا التفسير الذي نحن شرحناه - يحمل عرفاً على المثالية البحتة ولاخصوصية لذكر السبب.
وقد تلخّص ممّا ذكرناه: أنّ بيّنة المنكر إن لم تُعارَضْ ببيّنة المدّعي لاأثرلها، وإن عورضت ببيّنة المدّعي وصلت النوبة إلى يمين المنكر، وإن كانت إحدى البيّنتين أكثر عدداً ففي حالة واحدة يكون اليمين على صاحب البيّنة الأكثر عدداً، وهي الحالة التي شرحناها.
$
', '', 593), (14, 594, 'book', ' $
توهم كون اليمين على البيّنة:
وقد ورد ما قد يُوهِم أنّ الحلف يكون على عاتق البيّنة، لا على عاتق المنكر،وتُعيّن البيّنة التي عليها الحلف بالقرعة، وذلك ما رواه زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)قال: «قلت له رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهماً، وجاء آخران، فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم كلّهم شهدوا في موقف؟ قال: اُقرع بينهم، ثمّ استحلف الذين أصابهم القرع باللّه: أنّهم بشهدون بالحق»(1)؛ حيث يقال: إنّ هذا مرجعه إلى الاتّفاق على خمسين درهماً والاختلاف على خمسين درهماً آخر، فهنا بدلا عن تحليف المنكر جعل الحلف على البيّنة مع تعيين البيّنة التي عليها الحلف بالقرعة.
وقد يقال: إنّ مفاد الحديث أجنبىّ عن المقام، فليس بابه باب إمكانيّة تحليف المدّعي أو المنكر أصلا، وإنّما بابه باب دين ثبت بالبيّنة مع اختلاف البيّنتين في مقدار الدين، وقد يكون الدائن والمدين كلاهما شاكّين في المبلغ.
وعلى أىّ حال فالحديث ساقط سنداً بالإرسال في أثناء السند.
ثمّ إنّ ما ورد في باب تعارض البيّنات من الإحالة على القرعة تارةً، وعلى التقسيم أُخرى، وعلى تحليف الطرفين ثالثة، إن كان لها إطلاق يشمل باب المدّعي والمنكر فالإطلاق يخصَّص بما عرفت وروده في خصوص باب المدّعي والمنكر، وتلك الروايات بعد التخصيص تخصّص بباب التداعي.
 $
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 7، ص 184.
', 594), (14, 595, 'book', '
 $
$
', '', 595), (14, 596, 'book', ' $
$
', '', 596), (14, 597, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
 $
البحث الخامس - في تعارض البيّنتين .
وقد عرفت في البحث السابق حكم تعارض بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر، كما أنّه مضى فيما سبق في بحث شرط العدالة في الشهود حكم تعارض البيّنات في الشهادة على العدالة، ومضى أيضاً في بحث شهادة الفرع حكم التعارض بين شهادة الفرع وشهادة الأصل، فالمقصود بالبحث هنا إنّما هو فرض تعارض البيّنتين في باب التداعي، وكذلك فرض تعارضهما في الشهادة لإثبات الحقّ لطرف واحد، كمالو شهدت إحدى: البيّنتين: بأنّ للدائن على المدين ألف درهم، وشهدت الأُخرى: بأنّ له عليه مائة دينار، وليس ألف درهم. فهنا فرضان لتعارض البيّنتين لابدّلنا من البحث عنهما:
 $
 $
 $
 $
 $
 $
$
', '', 597), (14, 598, 'book', ' $
تعارض البيّنة عند التداعي
الفرض الأوّل - تعارضُ بيّنتي المتداعيين. والروايات في باب تعارضالبيّنتين للمتداعيين على طوائف:
روايات الباب:
منها - ما دلّ على التحالف، كما عن إسحاق بن عمّار - بسند تامّ - عن أبيعبداللّه (عليه السلام) «أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابّة في أيديهما، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت(1) عنده، فأحلفهما علىٌّ (عليه السلام)، فحلف أحدهما، وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف. فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البيّنة؟ فقال: اُحلِّفهما، فأيُّهما حلف ونَكَل الآخر جعلتُهاللحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فان كانت في يد أحدهما، وأقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده»(2).
ومنها - ما دلّ على استحلاف الأكثر بيّنة، وهو رواية أبي بصير(3) التي مضى ذكرها في اوآخر البحث الرابع، واُشيرَ إلى ذلك أيضاً فيما يأتي من رواية عبدالرحمن ابن أبي عبداللّه ورواية سماعة.
ومنها - ما دلّ على تقسيم المال المتداعى عليه، كما ورد عن غياث بن إبراهيم - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اختصم إليه رجلان في
', '(1) بمعنى ولدت .
(2) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 2، ص 182.
(3) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفية الحكم، ح 1، ص 181.
', 598), (14, 599, 'book', '
دابّه وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها(1)،فقضى بها للذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين»(2).
وما عن تميم بن طرفة: «أنّ رجلين ادّعيا بعيراً، فأقام كلّ واحد منهما بيّنة، فجعله أمير المؤمنين (عليه السلام) بينهما»(3). والسند غير تامّ لعدم ثبوت وثاقة تميم بن طرفة، ولامن روى عنه وهو سماك بن حرب. والراوي عن سماك بن حرب هو أبو جميلة الذي قال عنه ابن الغضائري: «ضعيف كذّاب يضع الحديث. حدّثنا أحمد بن عبدالواحد قال: حدّثنا علىّ بن محمد بن الزبير قال: حدّثنا علىّ بن الحسن بن فضّال قال: سمعت معاوية بن حكيم يقول: سمعت أبا جميلة يقول: أنا وضعت رسالة معاوية إلى محمد بن أبي بكر». وقال النجاشي في ترجمة جابر بن يزيد: «روى عنه جماعة غمّز فيهم وضعّفوا، منهم عمرو بن شمر ومفضّل بن صالح» وقد روى عنه الثلاثة الذين لايروون إلّا عن ثقة.
وما عن السكوني بسند فيه النوفلي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجلين ادّعيا بغلة، فأقام أحدهما شاهدين والآخر خمسة، فقضى لصاحب الشهود الخمسة خمسةَ أسهم ولصاحب الشاهدين سهمين»(4). وقد روى الشيخ هذا المضمون بسند تامّ(5).
ومنها - ما دلّ على القرعة لتعيين من عليه الحلف أو لتعيين من له الحقّ، كما
', '(1) أي ولّدها وكان بالنسبة لها بمنزلة القابلة من المرأة .
(2) نفس المصدر، ح 3.
(3) نفس المصدر، ح 4، ص 183.
(4) نفس المصدر، ح 10، ص 185.
(5) التهذيب، ج 6، ح 583.
', 599), (14, 600, 'book', '
عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «كان علىّ (عليه السلام) إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدّتهم سواء و عدالتهم سواء أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين ...»(1).
وما عن داود بن سرحان - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في شاهدين شهدا على أمر واحد، وجاء آخران فشهدا على غير الذي شهد الأوّلان واختلفوا، قال: «يقرع بينهم، فأيّهم قرع عليه اليمين، وهو أولى بالقضاء»(2).
وما عن داود بن أبي يزيد العطّار عن بعض رجاله عن أبي عبداللّه (عليه السلام)في رجل كانت له امرأة، فجاء رجل بشهود أنّ هذه المرأة مرأة فلان، وجاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان، فاعتدال الشهود وعدّلوا، فقال: «يقرع بينهم، فمن خرج سهمه فهو المحقّ، وهو أولى بها»(3).
وما عن الحلبي - بسند تامّ - قال: «سُئل أبو عبداللّه (عليه السلام) عن رجلين شهدا على أمر، وجاء آخران فشهدا على غير ذلك فاختلفوا قال: يقرع بينهم، فأيّهم قرع فعليه اليمين، وهو أولى بالحقّ»(4).
وما عن سماعة - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّ رجلين اختصما إلى علىّ (عليه السلام) في دابّة، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده(5)، وأقام كلّ
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 5، ص 183. وقد أخذنا المتن من الفقيه لصحّة سنده في الفقيه، ج 3، ح 181.
(2) نفس المصدر، ح 6.
(3) نفس المصدر، ح 8، ص 184.
(4) نفس المصدر، ح 11، ص 185.
(5) المذود هو معلف الدابّة.
', 600), (14, 601, 'book', '
واحد منهما بيّنة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة ثمّ قال: «اللّهم ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع وربّ العرش العظيم عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها، فأسألك أن يقرع ويخرج سهمه، فخرج سهم أحدهما، فقضى له بها»(1).
وما عن عبداللّه بن سنان - بسند غير تامّ - قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام)يقول: إنّ رجلين اختصما في دابّة إلى علي (عليه السلام)، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت عنده على مذوده، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثمّ قال: اللّهم ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع وربّ العرش العظيم عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها فأسألك أن تقرع ويخرج اسمه، فخرج اسم أحدهما، فقضى له بها»(2).
ومنها - ما فصّل بين مالو كان المال بيدهما فالتقسيم أو لم يكن بيد أىّ واحد منهما فالقرعة، وهو مرسلة دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «أنّه قضى في البيّنتين تختلفان في الشيء الواحد يدعيه الرجلان أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بيّنة كلّ واحد منهما وليس في أيديهما، فأما إن كان في أيدهما فهو فيما بينهما نصفان، وإن كان في يد أحدهما فإنّما البيّنة على المدعي، واليمين على المدّعى عليه»(3).
هذا، وقد ورد في الباب أيضاً حديث غريب المضمون، وهو ما ورد عن عبدالوهاب بن عبدالحميد الثقفي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سمعته يقول - في رجل
', '(1) نفس المصدر، ح 12.
(2) نفس المصدر، ح 15، ص 186.
(3) مستدرك الوسائل، ج 3، باب 10 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 199.
', 601), (14, 602, 'book', '
ادّعى على امرأة أنّه تزوّجها بولىّ وشهود وأنكرت المرأة ذلك، فاقامت أُخت هذه المرأة على رجل آخر [وفي بعض نسخ الرواية: «على هذا الرجل»] البيّنة أنّه تزوّجها بولي وشهود ولم يوقّتا وقتاً -: إنّ البيّنة بيّنة الزوج، ولاتقبل بيّنة المرأة؛ لأنّ الزوج قد استحقّ بضع هذه المرأة، وتريد أُختها فساد النكاح، فلا تصّدق، ولاتقبل بيّنتها إلّا بوقت قبل وقتها أو دخول بها»(1). والحديث ضعيف سنداً بعليّ بن محمد بن شيرة القاساني وعبدالوهاب بن عبدالحميد الثقفي؛ حيث لم تثبت وثاقتهما، وبالقاسم بن محمد المحتمل انطباقه على القاسم بن محمد الإصفهاني ولم تثبت وثاقته.
وعلى أىّ حال فهذه هي روايات الباب.
أمّا ماهي الوظيفة في المقام لدى تعارض البيّنتين في باب التداعي؟ فنبحث أوّلا عمّا هو مقتضى القواعد في ذلك، وثانياً عن أنّ ما مضت من الروايات هل توجب علينا العدول عن مقتضى القواعد أوْلا؟ وما هي حدود إيجابها للعدول عن مقتضى القواعد لو أوجبت؟
 $
مقتضى القواعد:
أمّا عن مقتضى القواعد لدى تعارض البيّنتين في باب التداعي، فهناتصويران لحقيقة التداعي في مثل توارد اليدين على مال واحد، يختلف حكم مقتضى القواعد فيه باختلاف هذين التصويرين:
التصوير الاوّل - أن يقال: إنّ كلّ واحد منهما مدّع في نصف المال ومنكر في النصف الآخر؛ لأنّ اليد المشتركة لاتنفذ إلّا في جزء المال حسب نسبة اشتراك
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 13، ص 185 و 186.
', 602), (14, 603, 'book', '
الأيدي، فهو بمقدار نصف المال يعتبر منكراً لحجّيّة يده في إثبات ملكيّته له، وبمقدار النصف الآخر يعتبر مدّعياً لعدم حجّيّة يده فيه. فمقتضى القاعدة هو أن يطبّق كلّ واحد في المقام ما اخترناه في باب المدّعي والمنكر.
فمثلا لو قلنا في باب المدّعي والمنكر عند تعارض البينتين بترجيح بيّنة الخارج؛ بحجّة أنّ البيّنة إنّما هي على المدّعي، فلا أثر لبيّنة المنكر إطلاقاً، فالنتيجة في المقام هي تنصيف المال بينهما لترجيح يدكلّ واحد منهما في نصف المال، ولكن مختارنا في باب المدّعي والمنكر لدى تعارض البيّنتين لم يكن ذلك كما مضى.
أمّا لو أردنا الكلام بناءً على ما اخترناه في باب المدّعي والمنكر من تعارض البيّنتين وتساقطهما والرجوع إلى يمين المنكر، فالنتيجة في المقام هي التحالف، فلو حلفا معاً قُسِّم المال بينهما؛ لأنّ كلّ واحد منهما منكر في النصف، فقد نفذ يمينه في النصف، ولو حلف أحدهما ونكل الآخر كان المال كلّه للحالف؛ لأنّ حلفه في النصف كان حقاً له من أوّل الأمر، وقد عاد الحلف في النصف الآخر إليه بنكول صاحبه، فله الحلف على كلّ المال وأخذه، ولو نكلا معا قُسِّم المال بينهما؛ لأنّ كلّ واحد منهما منكر في النصف، فقد استحقّ النصف بعد نكوله ونكول المدّعي عن القسم.
التصوير الثاني - أن يقال: إنّ كلاّ منهما مدّع لتمام المال، وليس مدّعياً في النصف ومنكراً في النصف الآخر.
ويمكن تقريب ذلك بأن يقال: إنّ اليد لاتدلّ على خصوص الملك بقدر سيطرتها على المال، بل تدلّ عقلائيّاً على صحّة مدَّعى ذي اليد ما لم تعارض بيد من يدعي خلافه، فلو أنّ أحدهما ادّعى ملكية تمام المال، والآخر نفى ملكيّة نفسه، فلا شكّ في أنّ يد الأوّل أمارة عرفاً على صحّة ما ادّعاه من ملكيّة تمام المال مادام صاحب اليد الثانية أنكر ملكيّة نفسه. إذن فلو ادّعى كلّ منهما ملكيّة تمام المال، فقد وقع التعارض الكامل بين اليدين، وهما متداعيان في تمام المال، وليس كلّ منهما
', '', 603), (14, 604, 'book', 'مدّعياً في النصف ومنكراً في النصف الآخر.
أمّا ما قد يقال: من أنّ اليدين حينما اجتمعتا فقد أثّر كلّ منهما في النصف من باب تأثير كلّ من السببين المجتمعين في نصف المسبّب عند إمكانيّة ذلك، كما هو الحال في توارد حيازتين على مال واحد. فهذا قياس مع الفارق، فإنّ تأثير السببين العقلائييّن كلّ منهما في النصف إنّما يكون عقلائيّاً في باب الإيجاد العقلائي، لافي باب الكشف، ففي باب الحيازة كانت الحيازة سبباً عقلائيّاً لإيجاد الملكيّة، فإذا تواردت حيازتان على مال واحد دفعة واحدة أثّرت كلّ واحدة منهما في النصف، أمّا في باب الكشف وتعارض الأمارتين فالمرتكز العقلائي هو التساقط، لا كشف كلّ واحدة منهما عن النصف. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ اليد أمارة على الملكيّة وكاشفة عنها، وليست موجدة لها.
وعلى أيّ حال فإن سلّمنا بأنّ كلّ واحد منهما مدّع في تمام المال فالبيّنتان قد تعارضتا وتساقطتا، وبعد تساقط البيّنتين تصل النوبة إلى التحالف، وذلك بأحد وجهين:
الأوّل(1)- أن يقال: إنّ كلّ واحد منهما كما هو مدّع لتمام المال كذلك هو منكر لملكيّة صاحبه، وعلى المنكر اليمين. فلو نفىملكيّة صاحبه باليمين أثّرت يده في إثبات ملكيّة هو.
والثاني - أنْ يتمسّك بإطلاق(2) مثل قوله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات
', '(1) هذا الوجه الأوّل لا يأتي فيما إذا كان المال خارجاً من يدهما.
(2) قد يناقش في إطلاق ذلك: بأنّه لم يعلم من هذا أنّه في فرض التداعي هل يتحالفان، أو يعيّن من عليه الحلف بالقرعة؟
', 604), (14, 605, 'book', '
والأيمان»(1). وقوله في رواية سليمان بن خالد عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «قال في كتاب عليّ (عليه السلام): إنّ نبيّاً من الأنبياء سْكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهدْ؟ قال: أوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(2). خصوصاً إذا افترضنا أنّ قوله: «هذا لمن لم تقمْ له بيّنة» من قول المعصوم كما لعلّه المفهوم من واو العطف، وهذا قرينة على النظر إلى خصوص المدّعي؛ لأنّه هو الذي تتوقع منه البيّنة، كما أنّ أصل الرؤية والشهادة أيضاً تتوقّع عادةً بالنسبة للادّعاء، لا الإنكار الذي هو غالباً نفي بحت.
وعندئذ إمّا أن يحلفا معاً، أو ينكلا معاً، أو يحلف أحدهما وينكل الآخر. فعلى الأخير يعطى المال للحالف، وعلى الأوّلين هل يقسّم المال بينهما، أو يلتجأ إلى القرعة؟
هناك وجهان للتقسيم:
الأوّل - يختصّ بصورة ما إذا حلفا معاً، وهو أن يستظهر من دليل تحليفهما والقضاء بالأيمان أنّه لابدّمن إعمال كلّ واحد من الحلفين ولو في الجملة، وذلك بالتنصيف.
والثاني - يشمل صورة نكولهما، وهو التمسّك بقاعدة العدل والإنصاف - لو ثبتت - بغضّ النظر عن روايات التقسيم في المقام؛ لأنّ كلامَنا الآن وفق القواعد وبغضّ النظر عن روايات الباب. وسيأتي الكلام عن هذه القاعدة - إن شاء اللّه -، والواقع أنّه لا دليل على صحّة القاعدة في مثل المقام.
إذن فمقتضى القاعدة في المقام إمّا هو التقسيم فيما لو حلفا بناءً على قبول الوجه
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 2 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 169.
(2) الوسائل، ج 18، باب 1 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 167.
', 605), (14, 606, 'book', '
الأوّل والقرعة فيما لو نكلا، أو القرعة في كلتا الصورتين بناءً على عدم قبول الوجه الأوّل.
هذا بناءً على دخول المقام في باب التداعي على كلّ المال.
والتحقيق: أنّ المقام داخل في باب الادّعاء في النصف والإنكار في النصف الآخر، وليس تداعياً على تمام المال.
وتوضيح ذلك: أنّ اليد وإن كانت أمارة على ما يدّعيه ذواليد، لكنّها في نفس الوقت أمارة أيضاً على ملكيّة ذي اليد ما لم ينفِ هو الملكيّة عن نفسه، ولذا لو مات أحد، ولم نعرف ما يدّعيه بشأن ما تحت يده من مال، حكمنا بدخوله في التركة. وهذه الأماريّة الثانية تتبعّض بتكاثر الأيدي، ولذا لو مات شخصان وكان هناك مال تحت يدهما ولم نعرف ما يدّعيانه بالنسبة للمال، حكمنا بالشركة فيما بينهما على السواء.
إذن فتتصور لكلّ من اليدين في ما نحن فيه دلالتان:
الأُولى - دلالتها على صحّة مدّعى صاحب اليد، وهو ملكيّته لتمام المال.
والثانية - دلالتها على مالكيّته للنصف.
فـإذا افـترضنا الدلالـتين عرضـيتين، فـقد تعـارضـت الـدلالات الأربـع وتساقطت، ودخل المقام في باب التداعي على تمام المال، ولكن لايبعد أن يقال: إنّ الدلالة الثانيّة مندكّة عند وجود الدلالة الأُولى، ولذا لا يحسّ لدى دعواه الملكيّة بأنّ هناك أمارتين على مالكيّة. إذن فالدلالة الأُولى لكلّ من اليدين ساقطة بالتعارض، وتحيى الدلالة الثانية، وهي الدلالة على ملكيّة النصف، فيدخل المقام في باب الادّعاء في النصف والإنكار في النصف الآخر.
نعم، هذا كلّه فيما إذا كانت لكلّ منهما اليد على المال. وتبقى هنا فرضيّتان في باب التداعي لايمكن إرجاعهما إلى الادّعاء في النصف والإنكار في النصف الآخر:
$
', '', 606), (14, 607, 'book', 'الأُولى - ما إذا كان المال خارجاً عن أيديهما جميعاً. فهذا بابه باب التداعي على كلّ المال لا محالة، فإذا حلفا وصلت النوبة إلى التقسيم إعمالا للحلفين، أو إلى القرعة، وإذا نكلا وصلت النوبة إلى القرعة لا التقسيم؛ إذ لم نؤمن بإطلاق قاعدة العدل والإنصاف، ولا يصدق في المقام كون كلّ واحد منهما مدّعياً في النصف ومنكراً في النصف الآخر.
والثانية - ما إذا كان مصبّ الدعوى غير المال، كما لو تداعيا على الزوجة، فهنا أيضاً لا مجال لفرض الادّعاء في النصف والإنكار في النصف. وهنا لايتصوّر التقسيم أصلا، فينحصر الامر بحسب مقتضى القواعد فيما لو حلفا أو نكلا في القرعة.
ويستخلص من كلّ ما مضى: أنّ الفروع المتصوّرة في باب التداعي مع تعارض البيّنتين ثلاثة:
الأوّل - ما لو كانت لهما اليد على المال. ومقتضى القاعدة في ذلك هو التحالف، فلو حلف أحدهما ونكل الآخر كان المال للحالف، ولو حلفا معاً أو نكلامعاً قُسِّم المال بينهما.
الثاني - ما لو كان المال خارجاً عن أيديهما: ومقتضى القاعدة في ذلك هو التحالف، فلو حلف أحدهما ونكل الآخر كان المال للحالف، ولو حلفا معاً قُسِّم المال بينهما بناءً على إعمال الحلفين، واقترع بينهما بناءً على عدم إعمالهما، ولو نكلا معاً وصلت النوبة إلى القرعة.
الثالث - ما لو كان مصبّ الدعوى غير المال، كما في الزوجة: ومقتضى القاعدة في ذلك هو التحالف، فلو حلف أحدهما دون الآخر كان الحقّ للحالف، ولو حلفا معاً أو نكلا معاً فالقرعة. هذا تمام الكلام بلحاظ القواعد.
 $
$
', '', 607), (14, 608, 'book', ' $
مقتضى الروايات الخاصة:
أمّا بلحاظ الروايات الخاصّة الماضية فنتكلم في هذه الفروع الثلاثة تباعاً:
حالة كون المال في يدهما:
الفرع الأوّل - ما لو كانت لهما اليد على المال وقد تعارضت البيّنتان، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة هو التحالف، فلو حلف أحدهما دون الآخر أخذ الحالف المال، ولو حلفا أو نكلا قُسِّم المال بينهما، أمّا البحث على ضوء روايات الباب فنحن نجعل محور البحث ما مضى من حديث إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللّه (عليه السلام): «أنّ رجلين اختصما إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام) في دابّة في أيديهما، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نَتَجَت عنده، فأحلفهما عليّ (عليه السلام) فحلف أحدهما، وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البيّنة؟ فقال: اُحلِّفهما، فأيُّهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فإن كانت في يد أحدهما وأقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده»(1).
وقد استفاد السيّد الخوئي من هذا الحديث كلّ البنود الثلاثة التي استفدناها من مقتضى القاعدة(2)، وهي:
1 - يتحالفان، ولو حلف أحدهمادون الآخر أخذ المال كلّه . وهذاصريح الرواية .
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 2، ص 182.
(2) مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 53
', 608), (14, 609, 'book', '
2 - ولو حلفا قُسِّم المال بينهما.
3 - ولو نكلا قُسِّم المال بينهما.
وقد استفاد البندين الأخيرين من ضمّ قوله: «فأحْلَفهما علىّ (عليه السلام)» إلى قوله: «فقضى بها للحالف»ولم يشرح كيف استفاد التقسيم عند حلفهما أو نكولهما من ذلك. ولو فرض أنّنا استفدنا من قوله: «قضى بها للحالف» أنّ من يحلف يقضى له بحيث يدلّ على أنّهما لو حلفا قضي لهما، وهذا يعني التقسيم، اقول: لو سلّمنا استفادة التقسيم من هذاالكلام في فرض حلفهما معاً، لانعرف كيف استفاد التقسيم من هذا الكلام في فرض نكولهما معاً.
والواقع أنّنا نستطيع أن نستفيد التقسيم في ما لو حلفا معاً من قوله بعد ذلك: «فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين». صحيح أنّ هذه الفقرة وردت في فرض ما إذا لم يكن المال في يد واحد منهما، ولكن إذا كان المقرّر في هذا الفرض التحالف، ثمّ التقسيم عند مايحلفان معاً، وكان المقرّر في فرض ثبوت اليد لكليهما التحالف، لم يرِدْ عرفاً احتمال عدم التقسيم بعد حلفهما معاً لمجرّد أنّ يدهما كانت على المال، فإنّ ثبوت اليدين على المال - لو لم يساعد على التقسيم بعد الحلف - لايحتمل مانعيّته عن ذلك؛ إذن فالعرف يتعدّى من فرض عدم اليد فرض ثبوت يدهما على المال.
أمّا فرض نكولهما معاً فلم يعرف حكمه من هذا الحديث، فلو بقينا نحن وهذا الحديث تمسّكنا في فرض النكول بما حقّقناه وفق مقتضى القاعدة، وهو التقسيم.
هذا، وصاحب الجواهر (رحمه الله) ناقش في التمسّك برواية إسحاق بن عمّار في المقام بأنّه خبر واحد، وفي سنده ما فيه، والمشهور نقلا وتحصيلا على خلافه، فلا يصلح مقيّداً لما دلّ على التنصيف بدون التحالف.
وقد خرّج (رحمه الله) ما نسبه إلى المشهور من التنصيف بدون التحالف تارةً على مقتضى القاعدة باعتبار توارد اليدين الدالّ على الشركة، فيؤخذ في كلّ نصف ببيّنة
', '', 609), (14, 610, 'book', 'الخارج، وأُخرى على مقتضى النصوص بلحاظ روايات التقسيم. وأبطل الأوّل - وهو التخريج بمقتضى القاعدة - بأنّ يدكلٍّ منهما على الكلّ لاالنصف، وبأنّ الظاهر عدم اندراج بيّنة كلّ منهما تحت ما دلّ على تقديم بيّنة المدّعي؛ لأنّ في كلّ منهما عنوان المدّعى عليه باعتبار اليد، وبأنّ العمل بنصف ما تشهد به بيّنة كلّ منهما ليس عملا ببيّنة الخارج ضرورة كون المشهود به الجميع، ثمّ أمر بالتأمّل(1).
أقول: أمّا سند رواية إسحاق بن عمّار فأظنّ أنّ نقاش صاحب الجواهر فيه ناظر إلى غياث بن كلوب، ولكن يستفاد من كلام الشيخ في العدّة توثيقة. وأمّا إفتاء المشهور بخلافة - حسب ما يقول صاحب الجواهر (رحمه الله) فلا يوجب سقوطه؛ لعدم وضوح كونه لأجل الإعراض عنه بحيث يوجب نفي ثقتنا عن الحديث إلى حدّ يسقط سنداً، فلعلّهم إنّما لم يفتوا به لأنّهم فهموا التعارض بين الأخبار، فرجّحوا غيره، أو رجعوا بعد التساقط إلى مقتضى القاعدة، واعتقدوا أنّ مقتضاها هو التقسيم بعد الحلف. وعليه فحديث إسحاق بن عمّار ليس ساقطاً سنداً.
وأمّا ما أورده من الإشكالات على كون مقتضى القاعدة هو التنصيف بلا تحالف فضعيفة، وقد عرفت منّا أنّ المقام داخل في باب الادّعاء في النصف والإنكار في النصف، فلا محالة تكون بيّنة كلّ منهما بيّنة للخارج بالنسبة لنصف المال. نعم، الصحيح في إبطال كون مقتضى القاعدة هو التنصيف بلا تحالف ما مضى منّا من عدم ترجيح بيّنة الخارج، وأنّ بيّنتي المدّعي والمنكر تتعارضان وتتساقطان، فتصل النوبة إلى الحلف.
وأمّا ما ذكره من أن روايات التقسيم في المقام تقتضي التنصيف بلا تحالف، فالصحيح أنّ تلك الروايات تقيّد برواية إسحاق بن عمّار التي دلّت على التقسيم بعد
', '(1) الجواهر، ج 40، ص 412.
', 610), (14, 611, 'book', '
التحالف. نعم، هناك رواية واحدة من روايات التقسيم لم تدلّ على التنصيف، وإنّما دلّت على التقسيم حسب رؤوس الشهود، وهي ما مضى من رواية السكوني، ولكن لم يعمل بها أحد إطلاقاً ممّا يسلب الوثوق بالحديث إلى حدّ السقوط.
بقيت في المقام روايات القرعة، والصحيح أنّها لا تعارض رواية إسحاق بن عمّار؛ لأنّها تحمل باستثناء رواية سماعة على غير باب الأموال، وذلك تخصيصاً لها برواية إسحاق بن عمّار التي دلّت في باب الأموال على التحالف والتقسيم.
وقد ذكر هذا الحمل السيّد الخوئي بالنسبة لرواية عبدالرحمان بن أبي عبداللّه عن أبى عبداللّه (عليه السلام) قال: «كان علىّ (عليه السلام) إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدّتهم سواء وعدالتهم أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين»، فقد ذكر: أنّ هذه الرواية تحمل على غير باب الأموال تخصيصاً لها برواية إسحاق بن عمّار(1).
ولكن المقتنص من كلماته قبل هذا(2): أنّ رواية عبدالرحمان بن أبي عبداللّه واردة في المورد الذي تكون الأكثريّة العدديّة مرجّحة لإحدى البيّنتين، ففي ذاك المورد لو تمّت الأكثريّة العدديّة كان اليمين على من كانت بيّنة أكثر، ولولم تتمّ الأكثريّة العدديّة بأن تساوتا وصلت النوبة إلى القرعة لتعيين من عليه الحلف، والمورد الذي تكون الأكثريّة العدديّة مرجّحة في نظر السيّد الخوئي - على ما يفهم من مباني تكملة المنهاج - هو مورد المدّعي والمنكر حينما لايكذِّب المنكرُ المدّعي، بل يدّعي الجهل بالحال وأنّ المال انتقل إليه من غيره بإرث ونحوه(3)، وذلك عملا برواية
', '(1) مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 54.
(2) المصدر نفسه ص 52.
(3) المصدر نفسه، ص 50 و 51.
', 611), (14, 612, 'book', '
أبي بصير الماضية(1).
أقول: إنّ رواية عبدالرحمان لم تأخذ في موضوع الحكم بالقرعة مرجّحيّة العدد؛ بحيث يجب علينا مسبقاً أن نعرف ماهي موارد الترجيح بالعدد ثمّ تطبِّق على تلك الموارد قانون القرعة حينما لايوجد ترجيح بالعدد، وإنّما الرواية دلّت بالصراحة على حكم القرعة، وأشارت في عرض هذه الدلالة إلى أنّه مع زيادة إحدى البيّنتين على الأُخرى عدداً لاتصل النوبة إلى القرعة، وعليه فلا بأس بالأخذ بإطلاق الرواية في المتداعيين اللذين وقع التعارض بين بينتيهما، فلا تختصّ القرعة بالمورد الخاصّ من المدّعي و المنكر الذي ذكره السيّد الخوئي، بل مقتضى إطلاق نقل الإمام الصادق (عليه السلام) الناشىء من ترك التفصيل حينما ذكر قضاء علىّ (عليه السلام) بداعي تفهيم الحكم الشرعي عن طريق بيان قصّة قضاء علىّ (عليه السلام) هو ثبوت القرعة في غير ذاك المورد أيضاً، وكذلك رواية أبي بصير وإن كان صدرها دالّا على الترجيح بالأكثريّة العدديّة في مورد خاصّ من موارد المدّعي والمنكر - كما سبق منّا شرحه - ولكنّه ذكر بعد ذلك: «أنّ علياً (عليه السلام) أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مذود هم، ولم يبيعوا، ولم يهبوا، وقامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك، قضى علىّ (عليه السلام) بها لأكثرهم بيّنة، واستحلفهم»، وهذا أيضاً يدلّ بالإطلاق بملاك ترك التفصيل على عدم اختصاص الترجيح بالأكثريّة العدديّة ووقوع اليمين على صاحب البيّنة الأكثر عدداً بما إذا كانت البغلة في يد أحدهما دون الآخر، أو بالمورد الخاصّ من المدّعي والمنكر الذي سبق ذكره في صدر الحديث.
وعلى أىّ حال فرواية عبدالرحمان كباقي روايات القرعة تحمل على غير باب الأموال تخصيصاً لها برواية إسحاق بن عمّار.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 181 و 182.
', 612), (14, 613, 'book', '
والنتيجة هي أنّه في باب الأموال حينما تكون للمتداعين اليد على المال، وتساوت البيّنتان، لابدّ من تحليفهما، فإذا حلفا قُسِّم المال بينهما. وهذا ثابت بمقتضى القواعد، وبمقتضى رواية إسحاق بن عمّار، ولكن لو كانت إحدى البيّنتين أكثر عدداً من الأخرى وجّه اليمين إلى خصوص من يمتلك البيّنة الأكثر عدداً، وذلك عملا برواية أبي بصير. ومن هنا انتهينا إلى أمر يخالف مقتضى القاعدة؛ إذ لم يكن مقتضى القاعدة الترجيح بالأكثر العدديّة.
بقيَ الكلام في رواية سماعة التي دلّت على القرعة في باب الأموال؛ حيث روى عن أبي عبداللّه (عليه السلام): أنّه قال: «إن رجلين اختصما إلى علىّ (عليه السلام) في دابّة، فزعم كلّ واحد منهما أنّها اُنتجت على مذوده، وأقام كلّ واحد منهما بيّنة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثمّ قال: اللّهم ربّ السماوات السبع، وربّ الأرضين السبع، وربّ العرش العظيم، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها، فأسألك أن يُقرع ويَخرُج سهمُه، فخرج سهمُ أحدهما، وقضى له بها»(1).
وهذه الرواية إذا قسناها إلى رواية إسحاق بن عمّار رأينا أنّ رواية إسحاق دلّت على تحليفهما وإعطاء المال للحالف، وتنصيفه بينهما إذا حلفا معاً سواء كانت لهما اليد على المال، كما هو محل الكلام فعلا، أو كان المال خارجاً عن أيديهما، وعليه فتحمل رواية سماعة على فرض نكولهما عن اليمين تقديماً للخاصّ على العام، ولعلّ هذا هو السرّفي أنّ القرعة فرضت في هذا الحديث على تعيين الواقع، لاعلى تعيين من عليه الحلف، وهي الرواية الوحيدة التامّة سنداً الدالّة على الحلف لتعيين الواقع، فالروايات التي دلّت على القرعة لتعيين من عليه الحلف - والتي حملناها على غير
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفية الحكم، ح 12، ص 185.
', 613), (14, 614, 'book', '
باب الأموال - إنّما فرضت القرعة لتعيين الحالف باعتبار أنّه لم يحلّف أحدهما قبل القرعة، وهذه الرواية الواردة في باب الأموال - والمحمولة على فرض نكولهما - إنّما فرضت القرعة لتعيين الواقع، لاتعيين من عليه الحلف باعتبار أنّهما قد حُلّفا ونكلا.
ومن هنا وصلنا إلى نتيجة أُخرى على خلاف مقتضى القاعدة، وهي أنّه بعد نكولهما نلتجىء إلى القرعة، بينما كان مقتضى القاعدة هو التقسيم.
وخلاصة ما وصلنا إليه من النتائج في الفرع الأوّل - وهو مالو كانت لهما اليد على المال وأقاما معاً البيّنة - مايلي:
أوّلا - لوكانت إحدى البيّنتين أكثر عدداً كان صاحب البيّنة الأكثر عدداً بمنزلة المنكر، فيوجّه الحلف إليه، فإن حلف كان له المال، وإن نكل وجّه الحلف إلى الآخر، فإن حلف كان له المال، وإن نكل أعطي المال لصاحب البيّنة الأكثر عدداً.
وثانياً - لو تساوت البيّنتان حُلّفا، فلو حَلَفَ أحدُهما دون الآخر كان المال للحالف، ولو حَلَفا معاً قُسِّم المال بينهما.
وثالثاً - لو تساوت البيّنتان وحُلِّفا ونكلا التجأنا إلى القرعة لتعيين من له المال وهذا ليس تخصيصاً لقاعدة: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»، فإن المفهوم من ذلك ليس هو أنّهما لونكلا توقّف القضاء مثلا، وإنّما المفهوم منهما أنّ القاضي لايتعدّى البيّنة واليمين، أمّا لو انتفيا معاً فوصول الأمر إلى القرعة لاينافي تلك القاعدة.
حالة كون المال خارجاً عن يدهما:
الفرع الثاني - ما لو كان المال خارجاً من أيديهما معاً، وقد تعارضت البيّنتان، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة هو التحالف، فلو حلف أحدهما دون الآخر كان المال له، ولو حلفا أونكلا فالقرعة.
ولكن رواية إسحاق بن عمّار دلّت على أنّه لو حلف أحدهما كان المال له، ولو
', '', 614), (14, 615, 'book', 'حَلَفا قُسّم المال بينهما، ورواية سماعة دلّت في فرض النكول على القرعة، ورواية أبي بصير دلّت على الترجيح بأكثريّة إحدى البيّنتين عدداً - كما مضى شرح كلّ ذلك في الفرع الأوّل - إذن فالفرع الأوّل والثاني وإن اختلف الحكم فيهما بمقتضى القواعد، ولكن اتّحد الحكم فيهما بمقتضى الروايات. فهنا أيضاً نقول:
أوّلا - لو كانت إحدى البيّنتين أكثر عدداً كان صاحبها بمنزلة المنكر، ويتّجه إليه الحلف.
وثانياً - لوتساوتا حُلّفا، فلو حَلف أحدهما كان المال له، ولو حَلفا قُسِّم المال بينهما.
وثالثاً - لونكلا عن اليمين مع تساوي البيّنتين اتّجهنا إلى القرعة.
حالة التداعي في غير المال:
الفرع الثالث - ما لو كان النزاع على غير المال من قبيل الزوجة وقد تعارضت البيّنتان، وقد عرفت أنّ مقتضى القاعدة في ذلك هو التحالف، لالإطلاق: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»، فإنّه لاينفي القرعة على تعيين الحالف، ولا لأنّ كلا منهما ينكر ما يدّعيه الآخر؛ إذ لاقيمة للإنكار مع عدم اليد على المال، فإنّ مجرّد نفي ما يقوله الآخر لايثبت ما يريده، بل لما مضى من حديث سليمان بن خالد: «احكم بينهم بكتابي وأَضِفْهم إلى اسمي، فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1)، بناءً على أنّ العرف يتعدّى من فرض عدم البيّنة إلى فرض سقوطها بالتعارض، فإن حلفا أو نكلا فالقرعة لتعيين من له الحقّ.
ولكن روايات القرعة التي مضى حملها على غير المال قد دلّت على أنّ المرجع في هذا الفرع هو القرعة لتعيين من عليه الحلف. وفي حديث عبدالرحمان بن أبي
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 1 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 167.
', 615), (14, 616, 'book', '
عبداللّه(1) إشارة إلى الترجيح بالأكثريّة العدديّة؛ أي أنّ من كانت بيّنته أكثر عدداً كان بحكم المنكر ويوجّه الحلف إليه. ويدل على ذلك ما مضى من رواية أبي بصير(2)، فإنّها وإن كانت واردة في الأموال، لكن لايحتمل عرفاً كون الترجيح بالأكثريّة العدديّة لتعيين من عليه الحلف ثابتاً في الأموال وغير ثابت في غيرها، فالحكم بتحليفهما معاً الوارد في حديث إسحاق بن عمّار يحتمل اختصاصه بباب الأموال القابلة للتقسيم لو حلفا معاً، ويحتمل عندئذ اختصاص الترجيح بالأكثريّة بغير الأموال؛ إذ لايمكن فيه التقسيم لو حلفا معاً، فلا يرد الترجيح في الأموال، بل يحلّفان ويقسّم المال بينهما، ولكن احتمال العكس غير وارد؛ بأن يرجّح في الأموال صاحب البيّنة الأكثر عدداً لليمين، ولايرجّح في غير باب الأموال؛ وعليه فيتعدّى من مورد رواية أبي بصير إلى ما نحن فيه.
بقي هنا أمران:
الأوّل - أنّ الترجيح بالأكثريّة العدديّة بمعنى توجيه الحلف إلى صاحب البيّنة الأكثر عدداً أُشير إليه في رواية عبدالرحمان بن أبي عبداللّه ورواية سماعة(3). وذُكر بشكل واضح في رواية أبي بصير، أمّا الترجيح بالأعدليّة فلم يرِدْ في حديث غير ما قد تشعربه رواية عبدالرحمان بن أبي عبداللّه؛ حيث جاء فيها: «كان علىّ (عليه السلام) إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود عدّتهم سواء وعدالتهم، أقرع بينهم ...» فقد تشعر كلمة (عدالتهم) بالترجيح بالأعدليّة.
ولكن هذا لايزيد على إشعار، وليس بمستوى الظهور، فإنّ الوصف ليس له
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 5، ص 183.
(2) نفس المصدر، ح 1، ص 182.
(3) نفس المصدر، ح 12، ص 185.
', 616), (14, 617, 'book', '
مفهوم، وذكره وإن كان يدلّ على وجود فائدة ونكتة فيه، ولكن يكفي فائدة ونكتة لذكر ذلك أنّهما لو لم تكونا متساويتين في العدالة بأن لم تثبت عدالة إحداهما وثبتت عدالة الأُخرى، كان الحقّ لمن امتلك البيّنة التي عدّلت، فإذا لم تتمّ دلالة رواية عبدالرحمان على الترجيح بالأعدليّة قلنا: لو صادف أنّ إحدى البيّنتين كانت أعدل من الأُخرى، ولكن الأُخرى كانت أكثر عدداً، رجعنا إلى إطلاق رواية أبي بصير الراجعة إلى باب الأموال التي تعدّينا منها إلى ما نحن فيه لإثبات الترجيح بالأكثريّة العدديّة، فإنّها تشمل بإطلاقها فرض أعدليّة البيّنة الأقلّ عدداً. ولو صادف أنّ إحدى البيّنتين كانت أعدل من الأُخرى وكانتا متساويتين في العدد، رجعنا إلى إطلاق الروايات التي دلّت في تعارض البيّنتين في التخاصم المتساويتين عدداً على الرجوع إلى القرعة في تعيين من عليه الحلف. أمّا ما ورد من الترجيح بالأعدليّه في باب تعارض بيّنة الفرع وبيّنة الأصل(1)، فلا يمكن التعدّي من مورده إلى المقام لاحتمال الفرق بينهما في الحكم.
الثاني - أنّ بعض روايات القرعة دلّت على القرعة لتعيين الواقع لالتعيين من عليه الحلف، ولكنّها لاتعارض الروايات التي تمسّكنا بها في المقام لإثبات القرعة لتعيين من عليه الحلف، فإنّ روايات القرعة لتعيين الواقع في هذا الباب ثلاث:
الأُولى: مامضى من رواية سماعة، وهي واردة في باب الأموال، وقد مضى حملها بالتخصيص على فرض نكول الطرفين؛ إذن لامجال في موردها إلّا للقرعة على تعيين الواقع دون تعيين من عليه الحلف، فهذه الرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه.
والثانية - مرسلة داود بن أبي يزيد العطّار الماضيّة الواردة في النزاع على
', '(1) راجع الوسائل، ج 18، باب 46 من الشهادات، ص 299 و 300.
', 617), (14, 618, 'book', '
الزوجة(1).
والثالثة - رواية عبداللّه بن سنان الماضية الواردة في رجلين اختصما في دابّة(2).
وهاتان الروايتان ساقطتان سنداً، على أن الرواية الثالثة لو تمّت سنداً لحملت أيضاً بقرينة رواية إسحاق بن عمّار على فرض نكولهما عن الحلف في باب الأموال، واحتمال الفرق بين باب الأموال وغير باب الأموال وارد، بان تكون الوظيفة في باب الأموال تحليفهما، فلو حلفا قُسّم المال بينهما، ولو يحلفا لم يبق مجال لتعيين من عليه الحلف بالقرعة، فتكون القرعة لامحالة لتعيين الحقّ، وأمّا في غير باب الأموال فلا يمكن التقسيم لدى حلفهما معاً، فلعلّ هذا هو السبب في أنّه يعيّن من عليه الحلف بالقرعة.
والرواية الثانية لو تمّت سنداً لأمكن تقييدها بما دلّ على أنّ القرعة لتعيين من عليه الحلف، وذلك لأنّ الرواية قالت: «فمن خرج سهمه فهو المحقّ، وهو أولى بها» وهذا مطلق يشمل فرض الحلف وفرض عدم الحلف، فيمكن أن يقيّد الإطلاق بأن يقال: «فمن خرج سهمه فهو المحقّ، وهو أولى بها لو حلف».
ولايخفى أنّه لو عمل بظاهر هذه الرواية من أنّ القرعة تكون على تعيين من له الحقّ بلا حلف، فهي ليست معارضة لروايات القرعة على الحلف فحسب، بل تعارض أيضاً رواية: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(3)، وكما يمكن تقييد تلك بهذه فيقال في خصوص ما نحن فيه بأنّ القضاء بالقرعة، لابالبيّنة واليمين، كذلك يمكن
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 8، ص 184.
(2) نفس المصدر، ح 15، ص 186.
(3) الوسائل، ج 18، باب 2 من كيفية الحكم، ح 1، ص 161.
', 618), (14, 619, 'book', '
تقييد هذه بتلك بأن يقال: إنّ القرعة إنّما هي لتعيين من عليه اليمين، ومع فرض التعارض والتساقط نرجع إلى الروايات التي دلّت على القرعة على الحلف.
وقد تحمل رواية سماعة ورواية عبداللّه بن سنان على أنّ القرعة بما أنّها كانت من قبل الإمام المعصوم، ولاتخطأ صحّت القرعة على الواقع؛ لأنّها تزيل الشكّ نهائيّاً، وهذا لاينافي كون وظيفةِ القاضي - بما هو قاض غير معصوم - القرعةَ على تعيين من عليه الحلف.
إلّا أن حمل عمل الإمام على جوانب غيبيّة ومخصوصة بالإمام (عليه السلام) غير عرفي، بالأخصّ أنّ الإمام المعصوم هو الراوي للقصّة عن إمام معصوم آخر، وظاهر نقله للقصّة عن الإمام المعصوم أنّه بصدد بيان المقياس القضائي والوظيفة القضائيّة بهذا النقل لابصدد مجرّد نقل القصّة.
ولو فرض العجز عن الجمع بين الروايات بالوجوه السابقة فقد يجمع بينها بالتخيير بين الاقتراع على اليمين والاقتراع على الواقع.
وعلى أىّ حال فقد عرفت أنّ روايتي داود بن أبي يزيد العطّار وعبداللّه بن سنان ساقطتان سنداً، ورواية سماعة تامّة سنداً، لكنّها واردة في باب الأموال ومحمولة على ما بعد النكول، بينما روايات القرعة على اليمين لاعلاقة لها بفرض النكول ومحمولة على غير باب الأموال، فلا تضارب بينهما أصلا.
والنتيجة المستخلصة من بحثنا في الفرع الثالث وهو تعارض البيّنتين في الترافع على غير المال هي:
أوّلا - لو كانت إحدى البيّنتين أكثر عدداً اعتبر صاحبها بمنزلة المنكر، فيوجّه الحلف إليه، وبعد النكول يوجّه الحلف إلى خصمه، وبعد نكوله يحكم لصالح من كانت بيّنته أكثر عدداً.
وثانياً - لو تساوت البينتان عيّن من عليه الحلف بالقرعة، فلو حلف كان
', '', 619), (14, 620, 'book', 'الحقّ له، ولو نكل رجع الحلف إلى خصمه، ولو نكل الخصم ثبت الحقّ للاوّل.
هذا تمام الكلام في الفروع الثلاثة لتعارض البيّنتين في باب التداعي، وقد تحصّل من ذلك أنّه عندما كانت إحداهما أكثر عدداً وجّه الحلف إلى صاحب البيّنة الأكثر عدداً، وعند التساوي يحلّفان في باب الأموال، وبعد النكول يعيّن الحقّ بالقرعة، وفي غير باب الأموال يعيّن من عليه الحلف بالقرعة.
ولا بأس بأن نلحق بذلك بحثين:
البحث الاول: في التداعي مع تعارض البيّنتين تعارضاً غير مستحكم .
البحث الثاني - في التداعي من دون تعارض بين البيّنتين، فإنّ هذا وان كان خروجاً عن المقام لكن بما أنّ جذور البحث فيه هي نفس الجذور التي بحثناها تحت عنوان تعارض البيّنتين في التداعي فلا بأس بتتميم الفائدة بتفريع فروع التداعي، ولو أجّلنا هذا البحث لمناسبة أُخرى لاحتجنا إلى استذكار جذور البحث التي بحثناها هنا، فالأولى أن نبحثه هنا رغم خروجه عن المقام:
 $
حكم التعارض غير المستحكم:
أمّا البحث الأوّل - فنقصد بالتعارض غير المستحكم ما إذا أمكن الجمع بينمفاد البيّنتين، ولكن في نفس الوقت لو خُلّينا نحن وكلّ واحدة منها لكانت النتيجة العملّية التي تتطلب كلٌّ من البيّنتين مخالفة للنتيجة التي تتطلبها الأُخرى، من قبيل ما لو ادّعى أحدهما أنّ هذه الدار له وأقام على ذلك البيّنة، وادّعى الآخر أنّه ورثها من أبيه ولايدري كيف كان أمرها وأقام على ذلك البيّنة، فالنتيجة العملّية التي تتطلبها البيّنة الأُولى هي أنّ الدار للأول، كما أنّ النتيجة العملّية التي تتطلبها البيّنة الثانية هي أنّ الدار ظاهراً للثاني، وفي نفس الوقت لم يستحكم التعارض بين البيّنتين لاحتمال
', '', 620), (14, 621, 'book', 'صدقهما معاً بأن يكون أبو الثاني هو الذي غصب الدار من الأوّل.
وقد مضى فيما سبق عند الكلام في التعارض بين بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر: أنّه لو كانت الدار في يد مدّعي الإرث، فمدّعي الإرث وإن كان منكراً في الحقيقة؛ لأنّه له اليد على المال، لكنه يشبه المدّعي؛ لأنّه لم يكذّب مدّعي الملكيّة، وادّعى الإرث من أبيه، ومضى هناك: أنّ النصّ الخاصّ دلّ في مثل المقام:
أوّلا - على أن أكثرهم بيّنة يُستحلَف.
وثانياً - على أنّه لو وقع التصريح بما ينفي التعارض المحتمل بأن قال مدّعي الملكية: إنّ أبا هذا الذي يدّعي الإرث هو الذي غصب الدار منّي مثلا، نفذت بيّنة المدّعي وكانت الدار له.
وكان النصّ الخاصّ عبارة عن رواية أبي بصير قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام)عن الرجل يأتي القوم فيدّعي داراً في أيديهم ويقيم البيّنة، ويقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه، ولايدري كيف كان أمرها؟ قال: أكثرهم بيّنة يُستحلَف وتُدفَع إليه ... قال: فسألته حينئذ فقلت: أرأيت إن كان الذي ادّعى الدار قال: إنّ أبا هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، ولم يقم الذي هو فيها بيّنة، إلّا أنّه ورثها عن أبيه؟ قال: إذا كان الأمر هكذا فهي للذي ادّعاها، وأقام البيّنة عليها»(1).
أقول: وأضيف هنا أمراً ثالثاً وهو أنّه لو تساوت البيّنتان ولم يقع التصريح بما ينفي التعارض المحتمل فلا يبعد القول بأن المرجع هو تحليفهما، فلو حلف أحدهما أخذ الدار، ولو حلفا معاً قُسِّمت بينهما، ولو نكلا معاً عُيِّن الواقع بالقرعة.
والوجه في ذلك: أنّ ما ورد في رواية أبي بصير من قوله: «أكثرهم بيّنة يُستحلَف» وإن كان وارداً في خصوص ما إذا كانت إحدى البيّنتين أكثر عدداً،
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 181 و 182.
', 621), (14, 622, 'book', '
ولكن لايبعد أن يكون المفهوم من ذلك عرفاً: أنّ ذاليد المدّعي للإرث اعتبر في المقام كأنه مدّع، وليس منكراً؛ أي أنّ المورد كأنّه مورد التداعي، لامورد المدّعي والمنكر، ذلك لأنّ المركوز متشرعياً أنّ الحلف في باب المدّعي والمنكر إنّما هو على المنكر، فلو تشخّص المنكر من المدّعي فالحلف عليه، ولو كانا على حدّ سواء في الادّعاء والإنكار فهو الذي قد ورد فيه ما يدلّ على أنّ الأكثريّة العدديّة للبيّنة تجعله بمنزلة المنكر، فمعنى قوله: «أكثرهم بيّنة يستحلف» هو أنّ مدّعي الإرث لايعتبر في المقام منكراًرغم أنّه صاحب اليد، بل هو كالمدّعي، ولهذا نلتجيء إلى الترجيح بالأكثريّة العدديّة لتشخيص من عليه الحلف، فلو تمّ هذا الاستظهار كان المفهوم من الحديث عرفاً: أنّ هذا المورد ملحق بباب التداعي سواء كانت هناك أكثريّة عدديّة، أو لم تكن، وسواء كانت هناك بيّنة، أو لم تكن، وكون الأكثر بيّنة هو الذي يعتبر بمنزلة المنكر ويستحلف إنّما هو نتيجة أنّ المورد دخل في باب التداعي، لاأنّ إلحاقه بباب التداعي خاصّ بخصوص فرض الأكثريّة العدديّة في البيّنة، أو أنّه اُلحق به في خصوص الترجيح بالعدد لاغير.
وبكلمة أُخرى: أنّ موضوع روايات تحليفهما و التقسيم والقرعة مركب من ثلاثة أجزاء:
أحـدها - اختـلاف البيّـنات والتـخاصم، ويكـفي في صـدق ذلـك حـرفيّاً الاختلافُ الواقع في المقام بينهما في النتيجة العمليّة.
والثاني - كون المورد مورد التدّاعي، لاالمدّعي والمنكر لاختصاص بعضها من أوّل الأمر بذلك، وتخصيص البعض الآخر - وهي بعض روايات القرعة - بما دلّ في المدّعي والمنكر على غير ذلك، ورواية أبي بصير تكفّلت - بحسب الفهم العرفي - لإدخال المقام - ولو تعبداً وتنزيلا - في باب التداعي، أو يقال في إطلاق روايات القرعة: إنّه لم يخرج منها من أوّل الأمر بالتخصيص إلّا المدّعي والمنكر الصريحين في
', '', 622), (14, 623, 'book', 'التكاذب، أي غير الشبيهين بباب التداعي.
والثالث - أنْ لايكون مجال في نظام القضاء للجمع بين البيّنتين وخصم النزاع بذلك، إذ لو كان مجال لذلك فالعرف يرى بارتكازه تقدم ذلك على أدلّة أحكام البيّنتين المختلفتين، وفي المقام رواية أبي بصير دلّت على أنّه لا مجال لذلك، وإن كان لولا رواية أبي بصير لأمكن لقائل أن يقول: نحن نجمع بين البيّنتين ونصدّق الشهادة على أنّ هذا ورث من أبيه، ولايدري كيف كان أمر الدار، ونصدّق أيضاً الشهادة على أنّ الآخر هو المالك للدار، وبالتالي نخصم النزاع بالحكم في صالح مدّعي الملك، ولكن رواية أبي بصير دلّت على المقارعة بين البيّنتين، وبهذا تمّ موضوع روايات التحليف والتقسيم والقرعة لتعيين الواقع. أمّا لو بقينا مُصّرين على أنّ رواية تحليفهما والتقسيم إنّما وردت في المتداعيين الحقيقيين، وأنّ رواية أبي بصير لم تجعل مدّعي الإرث بمنزلة المدّعي كي يلحق المورد حكماً بتلك الروايات، وإنّما دلّت تعبُّداً على أنّ البيّنتين تتقارعان في المقام، وأنّ الأكثريّة مرجّحة، فعندئذ نقول: إنّ العرف لايتعقّل اختصاص التقارع بخصوص فرض وجود الأكثريّة؛ إذن ففي فرض التساوي يكون المرجع هو روايات تعيين القرعة لمن عليه الحلف، فإنّنا وإن خصصناها فيما سبق بغير باب الأموال، لكن هذا التخصيص إنّما كان بروايتي إسحاق وغياث(1). ورواية غياث وصدر رواية إسحاق أخرجا المتداعيين في باب الأموال، وذيل رواية إسحاق أخرج المدّعي والمنكر في باب الأموال اللذين هما متكاذبان صريحاً، لا أنْ يكون أحدهما يدّعي الملك والآخر يدّعي الإرث، فهذا بعد فرض عدم إلحاقه بالمتداعيين المتكاذبين يبقى تحت إطلاق روايات القرعة لتعيين من عليه الحلف.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 2 و 3، ص 182.
', 623), (14, 624, 'book', '
ولكن الظاهر أنّ استظهارنا الأوّل أقوى من هذا، فالصحيح هو ما قلناه من تحليفهما وإعطاء المال لمن حلف، والتقسيم لو حَلَفا، والقرعة لتعيين الواقع لو نَكَلا.
هذا كلّه ما أردنا إضافته هنا في حكم فرض تساوي البيّنتين مع عدم التصريح بما ينفي التعارض المحتمل بأن لايقول: كان أبوه هو الذي أخذ المال منّي بلا ثمن، وإلّا فقد عرفت أنّ الحكم هو الأخذ ببيّنة من يدّعي الملك.
ونضيف هنا أيضاً: أنّه لو انعكس الأمر بأن كانت الدار في يد مدّعي الملكيّة لا في يد مدّعي الإرث: فهنا من الواضح أنّ مدّعي الملكيّة يعتبر منكراً ويوجّه الحلف إليه بمقتضى القاعدة، وبيّنة مدّعي الإرث لاتصنع شيئاً؛ لارتكاز أنّ بيّنة المدّعي الذي يصرّح بمعارضة المنكر في الدّعوى - لو كانت - تتساقط مع بيّنة المنكر، وتصل النوبة إلى يمين المنكر - كما عرفت فيما مضى - فلا تمنع بيّنة عن يمين المنكر، فعدم منعها عن ذلك فيما نحن فيه بطريق أولى؛ لأنّ المدّعي لايكذّب المنكر صريحاً، بل يقول: ورثتها من أبي، ولا أدري كيف كان أمرها. ولا فرق في هذه المسألة بين ما لو صرّح مدّعي الملكيّة بما ينفي التعارض المحتمل، كما لو قال: إنّ أبا هذا الذي يدّعي الإرث هو الذي غصب الدار منّي، أو لم يصرّح بذلك.
والآن نبدأ بما أردنا بحثه من فرض التداعي مع تعارض البيّنتين تعارضاً غير مستحكم، ونذكر تحت هذا العنوان فروعاً ثلاثة:
حالة كون المال في يدهما:
الفرع الأوّل - لو كانت الدار في يدهما معاً، وأقام أحدهما البيّنة على الملك، والآخر على الإرث ولايدري كيف كان أمرها. وهنا لو صرّح مدّعي الملكيّة بما يرفع التعارض بين البيّنتين بأن قال: إنّ أبا هذا هو الذي أخذ الدار منّي بلا ثمن، فلا إشكال في أنّه يؤخذ ببيّنة مدّعي الملك عملا بالقاعدة مع تحليفه؛ لأنّه يعتبر في نصف الدار منكراً، ولم يصرّح بذلك. فهنا نقول: لئن كانت بيّنة الإرث تعتبر معارضة لبيّنة
', '', 624), (14, 625, 'book', 'الملك حينما لم تكن لمدّعي الملك يد على المال كما هو مورد الحديث، فالعرف لايحتمل أنّ مجرّد اشتراك مدّعي الملك في اليد يرفع المعارضة بين البيّنتين، فإنّ العرف لايتعقّل دخل ثبوت اليد وعدمه في معارضة البيّنتين وعدمها، فإذا ثبت التعارض بين البيّنتين هنا، ولهما اليد على المال دخل المورد في روايات الترجيح وتحليفهما والتقسيم والقرعة، فالنتيجة هي أنّ أكثرهما بيّنة يُستحلف، ومع التساوي يحلّفان، فلو حلف أحدهما أخذ المال، ولو حلفا معاً قُسّم المال، ولو نكلا معاً فالقرعة لتعيين الواقع. وصحيح أنّ روايات التحليف والتقسيم وردت في فرض التكاذب الصريح، لكن لا يحتمل عرفاً الفرق بين ذاك المورد وهذا المورد بعد أن أثبتت رواية أبي بصير تقارع البيّنتين.
حالة كون المال خارجاً عن يدهما:
الفرع الثاني - لو لم تكن لأحدهما يد على المال أصلا وأقام أحدهما البيّنة على الملك، والآخر على الإرث: وهنا نقول: لئن كانت بيّنة الإرث تقارع بيّنة الملك حينما كان مدّعي الإرث منكراً في واقعه لكونه ذا اليد، لا يحتمل عرفاً زوال التقارع حينما أصبح مدّعياً حقيقة لعدم اليد؛ إذ لايتعقّل العرف دخلا لثبوت اليد وعدمه في كون البيّنتين متعارضتين وعدمه. وعندئذ يأتي في هذا الفرع مع عدم التصريح بما ينفي التعارض المحتمل عين ما ذكرناه في الفرع الأوّل، فنقول: إنّ أكثرهما بيّنة يستحلف، ومع التساوي يحلّفان، ويعطى المال للحالف، ولو حلفا قسّم المال بينهما، ولو نَكَلا عُيِّن الواقع بالقرعة، ولو صرّح - مثلا - بأنّ أبا هذا الذي في يده المال أخذه منّي بلا ثمن نفذت بيّنة مدّعي الملك على القاعدة، وهنا لاحاجة إلى اليمين.
حالة التداعي في غير المال:
الفرع الثالث -لو كان النزاع على غيرالمال كالزوجيّة، فأحدهما ادّعى الزوجية الواقعيّة، وأقام البيّنة عليها، والآخر ادّعى الزوجيّة الظاهريّة، وأقام البيّنة
', '', 625), (14, 626, 'book', 'عليها.
فهنا - أيضاً - لايبعد أن يقال: إنّه لو صرّح مدّعي الزوجيّة الواقعيّة بما يرفع التعارض المحتمل بين البيّنتين، فمقتضى القاعدة أنّ هذا يرفع موضوع البيّنة الأُخرى، ولو لم يكن تصريح من هذا القبيل قلنا: إنّ رواية أبي بصير الدالّة على تقارع البيّنتين في مثل المقام وإن وردت في باب الاموال، لكنّا نتعدّى عرفاً من ذلك إلى غير باب الأموال، وبذلك يثبت في المقام حكم البيّنتين المتعارضتين في المتداعيين في غير باب الأموال ممّا نقّحناه سابقاً من توجيه اليمين إلى أكثرها بينة، ومع التساوي إلى من تعيّنه القرعة.
وخلاصة الكلام في كلّ هذه الفروع: أنّنا نستفيد من رواية أبي بصير أنّ الذي لايكذّب المدّعي، بل يدّعي ما ينتهي إلى حكم ظاهري على خلاف ما يريده المدّعي يعتبر مدّعياً ولو حُكماً، وأنّ بيّنتيهما تتعارضان وتتقارعان ما لم يكن تصريح بما ينفي التنافي المحتمل، أمّا مع التصريح بذلك فيفترض عدم التنافي بينهما نهائياً، ونلغي خصوصيّة مورد رواية أبي بصير، فإنّ العرف لايتعقّل دخل وجود البيّنة، أوأكثريته، أومجرّد كون القضيّة ماليّة في عدّ الشخص مدّعياً أو منكراً، وكذلك لايتعقّل دخل ذلك، أو دخل ثبوت اليد أو عدمه في عدّ البيّنتين متعارضتين أو غير متعارضتين.
حكم التداعي من دون تعارض البيّنة:
وأمّا البحث الثاني - وهو التداعي من دون تعارض بين البيّنتين. فنذكر تحتهذا العنوان فروعاً:
حالة كون المال في يدهما:
الفرع الأوّل - لو كانت لهما معاً اليد على المال وهما يدّعيان الملكيّة من دون
', '', 626), (14, 627, 'book', 'تعارض في البيّنات، فإمّا أن نفترض أنّ أحدهما يمتلك البيّنة دون الآخر، أو نفترض أنّه لا بيّنة في المقام.
أمّا إذا كان أحدهما يمتلك البيّنة، فبناءً على أنّ كلّ واحد منهما مدّع ومنكر في تمام المال كان المال له ببيّنته. وبناءً على ما اخترناه من أنّ كلّ واحد منهما مدّع في النصف ومنكر في النصف يثبت نصف المال له بالبيّنة والنصف الآخر باليمين. فلو نكل حلف صاحبه، وأخذ النصف، ولو نكل صاحبه أيضاً رجع المال إليه. ولا يخفى أنّ صاحب البيّنة لو أراد أن يحلف ليأخذ تمام المال كان عليه أن يحلف على ملكيّته لتمام المال، ولايكفي حلفه على ملكيّته لنصف المال، لإمكان انطباق هذا النصف على النصف الذي يعتبر بلحاظه مدّعياً والذي ثبتت بالبيّنة ملكيته له، ولو نكل وأراد الشخص الآخر الحلف ليأخذ نصف المال كان عليه أيضاً أن يحلف على ملكيّته لتمام المال، ولايكفيه الحلف على النصف؛ إذ لو حلف على النصف لأمكن انطباقه على النصف الذي يعتبر هو منكراً بالنسبة إليه، والذي قد امتلكه صاحبه بالبيّنة.
وأمّا إذا لم تكن بيّنة في المقام: فإن بنينا على أنّ كلاّ منهما مدّع ومنكر في تمام المال. فمقتضى القاعدة تحليفهما معاً، فلو حلف أحدهما ونكل الآخر ملك الحالف تمام المال، ولو نكلا معاً فمقتضى القاعدة الرجوع إلى القرعة بعد عدم الإيمان بقاعدة العدل والإنصاف على إطلاقها، ولو حلفا معاً، فلو استفدنا من دليل توجيه الحلف إليهما ودليل القضاء بالحلف تنفيذ كلا الحلفين بمعنى التقسيم، ثبت التقسيم، وإلّا فالقرعة.
وإن بنينا على ما اخترناه من أن كلاّ منهما مدع في النصف ومنكر في النصف، فمقتضى القاعدة أيضاً تحليفهما معاً، فلو حلف أحدهما ونكل الآخر ملك الحالف نصف المال بالحلف والنصف الآخر بنكول صاحبه، ولو حلفا معاً ملك كلّ واحد منهما النصف الذي كان منكراً فيه بحلفه، ولو نكلا معاً ملك كلّ واحد منهما النصف
', '', 627), (14, 628, 'book', 'الذي كان مدّعياً فيه بنكول صاحبه. هذا كلّه بحسب مقتضى القواعد.
أمّا بلحاظ النصوص الخاصِّة: فلم يردْ نص خاص في هذا الفرع، وإنّما النصوص كانت في فرض تعارض البيّنتين، وقد عرفت أنّ مقتضاها بعد سقوط البيّنتين هو التحالف وإعطاء المال إلى من حلف، وتقسيمه بينهما لو حلفا معاً، والقرعة لو نَكَلا معاً، فبناءً على التعدّي من مورد تعارض البيّنتين وتساقطهما إلى مورد عدم البيّنة بدعوى عدم احتمال الفرق عرفاً يثبت في المقام نفس الحكم.
حالة كون المال خارجاً عن يدهما:
الفرع الثاني - لو لم تكن لأحدهما اليد على المال وهما يدّعيان الملكيّة، وهنا أيضاً إمّا أن يمتلك أحدهما البيّنة، أو لا، فإن امتلك أحدهما البيّنة أخذ المال ببينته، وإن لم يمتلك أحدهما البيّنة فمقتضى القاعدة تحليفهما، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر أخذ الحالف المال، ولو نكلا فمقتضى القاعدة هو القرعة، ولو حلفا، فلو استفدنا من دليل توجيه الحلف إليهما ودليل القضاء بالحلف تنفيذ كلا الحلفين بمعنى التقسيم، ثبت التقسيم، وإلّا فالقرعة.
هذا كلّه على القواعد، أمّا النصّ الخاصّ: فهنا أيضاً بناءً على التعدّي من مورد تعارض البيّنتين وتساقطهما إلى مورد عدم البيّنة تكون النتيجة هي التحالف وإعطاء المال للحالف، وتقسيمه بينهما لو حلفا، والقرعة لدى النكول.
حالة التداعي في غير المال:
الفرع الثالث - لو تنازعا في غير المال كالزوجيّة، فإن كانت لأحدهما بيّنة ثبت الحقّ له، وإلّا فمقتضى القاعدة التحالف وإعطاء الحقّ للحالف، ولو حلفا أو نَكَلا فالقرعة، و لكنّنا هنا - أيضاً - نتعدّى عن مورد النصوص الواردة في فرض تعارض البينتين وتساقطهما، ونثبت بذلك القرعة لتعيين من عليه الحلف.
 $
$
', '', 628), (14, 629, 'book', 'حالة النزاع بغير علم:
الفرع الرابع - لو تنازعا في المال أو غيره مع جهلهما معاً بالواقع، كما لودار أمر المال أو الولد بينهما وهما أيضاً غير عالمين بالحقيقة، فهذا ليس من المرافعة المتعارفة، ولايوجد مدع ومنكر بالمعنى المصطلح، ولاعلاقة لذلك بمثل قوله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»، وعندئذ إن كان المورد ممّا يمكن اطّلاع بيّنة مّا فيه على الواقع - وإن جهل الطرفان الواقع - فقامت صدفة بيّنة لصالح أحدهما ثبت الحقّ لمن شهدت البيّنة له، فإن اعترفا بصلاحيّة البيّنة تمّت الحجّة عليهما قبل حكم الحاكم، وإن لم يعترفا بصلاحيتها لكن الحاكم وآها صالحة، خصم النزاع بينهما بالحكم، وأمّا إن لم يكن المورد قابلا لقيام البيّنة أو لم تقم البيّنة صدفة، فمقتضى مطلقات القرعة هو الرجوع إلى القرعة لتعيين الواقع سواء كان في الأموال أو في غيرها.
أما بلحاظ النصوص الخاصّة ففي غير الأموال ورد ما دلّ على القرعة، وفي الأموال ورد ما دلّ على التقسيم إضافة إلى ما قد يُدّعى من السيرة العقلائيّة.
أمّا ما دلّ على القرعة في غير الأموال، فهو عبارة عن روايات القرعة في تعيين من له الولد من قبيل حديث أبي بصير التامّ سنداً عن أبي جعفر (عليه السلام): «أنّ عليّاً (عليه السلام) قضى في قوم تبايعوا جارية، فوطأها جميعهم في طهر واحد، فولدت غلاماً، فاحتجّوا فيه كلّهم يدعيه، فأسهم بينهم فجعله للذي خرج سهمه وضمّنه نصيبهم»(1)، ونحوه أحاديث أُخرى سيأتي ذكرها قريباً، ومضى ذكرها أيضاً في بحث القرعة.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 13 من كيفيّة الحكم، ح 6، ص 188، وج 14 باب 57 من نكاح العبيد والإماء، ح 4، ص 567 .
', 629), (14, 630, 'book', '
وأمّا ما دلّ على التقسيم في باب الأموال فهو بعض الروايات إضافة إلى ما قد يدّعى من السيرة العقلائيّة على قاعدة العدل والإنصاف.
وقد أفاد أُستاذنا الشهيد - رضوان اللّه عليه -(1): أنّ الاستدلال بالسيرة العقلائيّة على قاعدة العدل والإنصاف غير صحيح سواء أُريد بذلك دعوى السيرة على القاعدة في نفسها وبغضّ النظر عن باب الخصومة والقضاء، أو أُريد به دعوى السيرة عليها في خصوص باب الخصومة والقضاء:
فلو أُريد الأوّل ورد عليه منع وجود سيرة من هذا القبيل، فلو تمّت سيرة على قاعدة العدل والإنصاف فإنّما هي في باب الخصومة بنكتة فصل الخصومة ورفعها والتنصيف يصلح لذلك، وليست على الإطلاق.
ولو أُريد الثاني ورد عليه: أنّه إن ثبتت السيرة في باب القضاء فهي مردوعة بإطلاق الأخبار الدالة على أنّ القضاء إنّما هو بالبيّنات والأيمان، إذن فلا يجوز فصل الخصومة بقاعدة العدل والإنصاف إلّا بنصّ خاصّ. وعلى أىّ حال فلا حاجة لنا في فصل الخصومة إلى هذه السيرة لدلالة النصّ الخاصّ على قاعدة العدل والإنصاف فيه؛ حيث ورد - في فرض تعارض البيّنتين وعدم مرجّح لإحداهُما على الأُخرى - الحكم بالتنصيف، ونتعدّى من فرض تعارض البيّنتين المتساويتين إلى ما لم تكن هناك بيّنة أصلا؛ لأنّ الظاهر عرفاً من الكلام أنّ الحكم بالتنصيف يكون بنكتة أنّ البيّنتين بعد التعارض وعدم المرجّح كالعدم، فتتجه هذه القاعدة في مقام فصل الخصومة حتى مع عدم وجود البيّنة. انتهى ما أردنا نقله عن أُستاذنا الشهيد (رحمه الله).
$
', '(1) في بحث القطع في فرع الودعي من الفروع التي ينقض بها على عدم إمكانية الترخيص في مخالفة القطع.
', 630), (14, 631, 'book', '
أقول: إنّ المفهوم عرفاً بمناسبات باب القضاء من قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» إنّما هو عدم تجاوز البيّنات والأيمان في القضاء، ولايفهم منه إيقاف القضاء حينما ينفد تأثير البيّنات والأيمان كما لو لم تكن بينة، أو سقطت بالتعارض، ونكلا عن اليمين، أو لم يمكن تحليفهما لجهلهما بالواقع، والسيرة على قاعدة العدل والإنصاف في باب القضاء - لو كانت - فهي لاتكون في مقابل البيّنات والأيمان وفي عرضها، وإنّما تكون بعد نفاد تأثير البيّنات والأيمان.
وعلى أىّ حال فثبوت السيرة على القاعدة حتى في باب القضاء غير واضح، فلعلّهم يرجعون إلى القرعة.
وأمّا ما أفاده - رضوان اللّه عليه - من دلالة النصّ في باب تعارض البيّنات المتكافئة على قاعدة العدل والإنصاف فهذا أيضاً غير صحيح، فإنّ النصوص بين ما ورد في التنصيف بعد تحالفهما كحديث إسحاق بن عمّار(1)وبين ما هو محمول على ذلك بالتقييد كحديث غياث بن إبراهيم(2) الذي لم يكن مقيّداً بالتحليف لكننّا نحمله على ذلك جمعاً بينه و بين حديث إسحاق بن عمّار. وعليه فمن المحتمل أن يكون التقسيم نتيجةً لحلفهما لالقاعدة العدل والإنصاف، ولايمكن التعدّي إلى غير موارد الحلف.
وقد يقال: يكفي في الجمع بينهما حمل حديث غياث على فرض التحليف مع إبقاء إطلاقه لفرض نكولهما عند التحليف.
ولكن يتّضح الجواب على ذلك بالتدقيق في متن رواية غياث - التي هي عمدة روايات التقسيم - ورواية إسحاق التي نقيّدبها رواية غياث.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 2، ص 182.
(2) نفس المصدر، ح 3.
', 631), (14, 632, 'book', '
فمتن رواية غياث مايلي:
«عن أبي عبداللّه (عليه السلام): أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اختصم إليه رجلان في دابّة وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلته بينهما نصفين».
فقوله: «قضى بها للذي في يده» يقتضي بإطلاقه الثابت بملاك ترك ذكر أنّه حلّفه أولا (وهو شبيه بملاك ترك الاستفصال) أنّه يُقضى للمنكر بلا حاجة إلى يمينه، لكنّ هذا الإطلاق مقيّد برواية إسحاق، وهي مايلي:
«عن أبي عبداللّه (عليه السلام) أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) في دابّة في أيديهما وأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، فاحلفهما علىّ (عليه السلام) فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما وأقاما البيّنة؟ فقال: اُحلّفهما فأيّهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فإن كانت في يد أحدهما وأقاما جميعاً البينة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هو في يده».
فقوله: في ذيل الحديث: «أقضي بها للحالف الذي هو في يده يقيّد إطلاق رواية غياث، وبذلك يثبت: أنّ المقصود بقوله في رواية غياث: «قضى بها للذي في يده» أنّه قضى بها له بعد تحليفه، وبها أنّها قضيّة في واقعة فهو منصرف إلى ما هو المألوف من حلف ذي اليد - عند تحليفه - دون نكوله، وبما أنّ الضمير في قوله: «لو لم تكن في يده جعلته بينهما نصفين» راجع إلى نفس هذا الشخص في هذه القصّة بفرق فرض عدم اليد ... لا ينعقد له إطلاق لفرض النكول.
على أنّنا لو عملنا بروايات التقسيم لدى تعارض البينات جاء فيها احتمال كون التقسيم فيها نوع عمل بالبيّنات المتعارضة لاعملا بقاعدة العدل والانصاف كقاعدة مستقلّة في ذاتها حتّى يتعدّى إلى فرض عدم البيّنة.
$
', '', 632), (14, 633, 'book', 'ويمكن الاستدلال على قاعدة العدل والإنصاف في فصل الخصومة بروايات اُخرى من قبيل:
1 - ما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن علىّ (عليهم السلام) في رجل أقرّ عند موته لفلان وفلان: لأحدهما عندي ألف درهم، ثمّ مات على تلك الحال؟ فقال علىّ (عليه السلام)«أيّهما أقام بيّنة فله المال، وإن لم يقم واحد منهما البينة فالمال بينهما نصفان»(1). إلّا أنّ سند الحديث ضعيف بالنوفلي.
2 - ما رواه السكوني أيضاً عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه في رجل استودع رجلا دينارين، فاستودعه آخر ديناراً، فضاع دينار منها. قال: «يعطى صاحب الدينارين ديناراً، ويقسّم الآخر بينهما نصفين»(2). وهذا الحديث أيضاً ضعيف بالنوفلي كما أشار إليه أُستاذنا الشهيد (رحمه الله)(3). ولو تمّ سند هذا الحديث لأقتصرنا على ما يكون من قبيل مورده من عدم إمكانية الحلف لجهلهما ولم نتعدَّ إلى فرض نكولهما.
3 - الحديث المرسل: «أنّ رجلين تنازعا في دابّة ليس لأحدهما بيّنة، فجعلها النبىّ (صلى الله عليه وآله) بينهما»(4). وهذا الحديث ساقط سنداً، ولو تمّ قُيِّد بما مضى من حديث إسحاق بن عمّار، واختصّ بصورة تحليفهما، وجاء احتمال كون التقسيم بنكتة إعمال الحلفين لا بنكتة قاعدة العدل والإنصاف.
4 - رواية عبداللّه بن المغيرة، وقد وردت بسند الصدوق التامّ عن عبداللّه
', '(1) الوسائل، ج 13، باب 25 من أحكام الوصايا، ص 400.
(2) الوسائل، ج 13، باب 12 من أحكام الصلح، ص 171.
(3) في فرع الودعي من مبحث القطع.
(4) سنن البيهقي، ج 10، ص 255.
', 633), (14, 634, 'book', '
بن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك، فقال: «أمّا الذي قال: هما بيني وبينك، فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له وأنّه لصاحبه، ويقسّم الآخر بينهما». ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علىّ بن محبوب عن عبداللّه بن المغيرة عن بعض أصحابنا، وروي نحو الحديث أيضاً عن محمد بن أبي حمزة - بسند تامّ - عمّن ذكره، عن أبي عبداللّه (عليه السلام)(1). والسند الثاني والثالث وإن كانا ساقطين بالإرسال، ولكن بالإمكان تتميم السند الأوّل بأن يقال: إنّ التعبير بـــ (غير واحد من أصحابنا) الذي قد يؤدّي معنى ما يزيد على الاثنين - على الأقلّ - حينما يصدر من مثل عبداللّه بن المغيرة الذي قيل عنه: «أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه» يورث الاطمئنان بحساب الاحتمالات بأنّ أحدهم - على الأقلّ - كان ثقة، أو أنّ نقلهم جميعاً لعبداللّه بن المغيرة كان يوجب الاطمئنان بالصدور.
وبالإمكان أن يقال: إنّ هذا الحديث لايدلّ على نفي التحليف؛ بأن يكون التقسيم بنفسه نظاماً للحكم في باب القضاء عند التداعي من دون التحليف خروجاً عن قاعدة (إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان)، وذلك لأنّ الظاهر أنّ الحديث وارد بصدد الردّ على شبهة حصلت في ذهن السائل، وهي احتمال أن يقال: إنّ اليدين دليل على الشركة، فمن قال: «هما بيني وبينك» هو المنكر؛ لمطابقة قوله الأمارة وهي اليدان، ومن قال: «الدرهمان لي» هو المدّعي؛ لمخالفة قوله الأمارة وهي اليدان، فقد وضّح الإمام (عليه السلام): أنّ أماريّة إحدى اليدين بالنسبة لأحد الدرهمين سقطت نهائياً باعترافه، فهما إنّما يكونان على قدم سواء بالنسبة للدرهم الثاني، أمّا الدرهم الأوّل فلمن توافقا على أنّه له، فالدرهم الثاني هو الذي يقسّم بينهما لامجموع الدرهمين، أمّا
', '(1) الوسائل، ج 13، باب 9 من أحكام الصلح، ح 1، ص 169.
', 634), (14, 635, 'book', '
أنّه متى يقسّم قبل التحليف أو بعده؟ فلا إطلاق للحديث يشمل فرض عدم التحليف؛ لأنّه وارد مورد بيان أمر آخر. ومن هنا يظهر أيضاً أنّه لا إطلاق للحديث لفرض نكولهما معاً؛ لما قلنا من أنّه وارد مورد بيان أمر آخر وهو كون التقسيم وارداً على درهم واحد لا على الدرهمين، ويكفي احتمال هذا المعنى على وجه يوجب الإجمال في الإطلاق.
وعليه فالحديث لايدلّ على قاعدة العدل والإنصاف؛ لاحتمال كون التقسيم بنكتة إعمال الحلفين.
أما لو لم نقبل هذا التفسير - الذي شرحناه - للحديث، وقلنا: إنّ الحديث دلّ على التقسيم مطلقاً، فعندئذ نقول بما مضى في الحديث السابق من تقييده برواية إسحاق بن عمّار، فيختصّ بعد التقييد بما لو تحالفا وجاء عندئذ احتمال كون التقسيم بنكتة الحلف، لابنكتة قاعدة العدل والإنصاف.
5 - ما مضى من حديث أبي بصير التامّ سنداً عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «بعث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) إلى اليمن، فقال له حين قدم: حدّثني بأعجب ما ورد عليك، فقال: يا رسول اللّه أتاني قوم قدتبايعوا جارية فوطِئها جميعهم في طهرواحد فولدت غلاماً فاحتجوا فيه كلهم يدّعيه، فأسهمت بينهم فجعلته للذي خرج سهمه وضمّنته نصيبهم، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): ليس من قوم تقارعوا، ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلّا خرج سهم المحقّ»(1). فقد يقال: إنّ هذا الحديث بقرينة قوله: «وضمّنته نصيبهم»دلّ على أنّ الأصل في تردّد الشيء بين شخصين هو قاعدة العدل
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 13 من كيفيّة الحكم، ح 6، ص 188. و ج 14، باب 57، من نكاح العبيد والإماء، ح 4، ص 567، ونحوه في الدلالة مرسلة المفيد المذكورة في نفس الباب من ج 14، ح 5.
', 635), (14, 636, 'book', '
و الإنصاف حتى في مثل الوليد فضلا عن الأموال. ولكن بما أنّ تطبيق قاعدة العدل والإنصاف بشكل كامل على الولد لم يكن ممكناً تنزّل إلى تطبيقها بأن يأخذ أحدهم الولد ويضمن للباقي نصيبهم، فوقع الكلام في أنّه من الذي يأخذ الولد ويضمن للباقي نصيبهم؟ فعيّن ذلك بالقرعة على تعيين الأب.
إلّا أنّه لو تمّ الاستدلال بهذا الحديث على قاعدة العدل والإنصاف، فلا بدّ من الاقتصار في الاستدلال به على ما يكون من قبيل مورده من الجهل من قبل الطرفين بالحال، فلا يُتعدّى إلى فرض نكولهما عن القسم.
والصحيح عدم تمامية الاستدلال بهذا الحديث على قاعدة العدل والإنصاف، وتوضيح ذلك: أنّ هذا الحديث دلّ على تعيين الولد لأحدهم بالقرعة، وأمّا تضمينه لنصيب الآخرين بالمال فلم يعلم كونه بنكتة أنّه كان الأصل هو تقسيم الولد بينهم، وبما أنّ هذا غير ممكن انتقل الأمر إلى تضمينه لحصّة الآخرين عملا بقاعدة العدل والإنصاف بقدر الإمكان، بل الظاهر أنّ النكتة في ذلك هي أنّ من وطِىء جارية غيره فأولدها كان الولد أو قيمته لصاحب الجارية، كما دلّت على ذلك جملة من الروايات(1)، فبعد أن ثبت بالقرعة أنّ هذا الولد ولد فلان انطبقت عليه هذه القاعدة؛ إذ أنّه وطيء جارية مملوكة لهم بالشركة، فضمن للآخرين حصصهم من قيمة الولد، فهذا الحديث حاله حال ما ورد - بسند تامّ - عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إذا وطيء رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد فولدت، فادّعوه جميعاً أقرع الوالي بينهم، فمن قرع كان الولد ولده، ويردّ قيمة الولد على صاحب الجارية. قال: فإن اشترى رجل جارية، وجاء رجل فاستحقّها وقد ولدت
', '(1) راجع الوسائل، ج 14، أبواب نكاح العبيد والإماء، خاصّةً الباب 57 و 61 و 67 و 88، وج 17، باب 6 من كتاب الغصب.
', 636), (14, 637, 'book', '
من المشتري، ردّ الجارية عليه، وكان له ولدها بقيمته»(1).
6 - ما ورد - بسند تامّ - عن سليمان بن خالد عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قضى علىّ (عليه السلام) في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، وذلك في الجاهلية قبل أن يظهر الإسلام، فأقرع بينهم، فجعل الولد للذي قرع، وجعل عليه ثلثي الدية للآخرين، فضحك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) حتى بدت نواجده. قال: وقال: ما أعلم فيها شيئاً إلّا ما قضى علىّ (عليه السلام)»(2). وهذا الحديث أقوى من سابقة في الدلالة؛ إذ لايأتي فيه النقاش الذي بيّناه في سابقه من كون المقصود ضمان قيمة الولد للمَوالي من قبل الواطيء، فإنّ المفروض في هذا الحديث هو حرّية المرأة، وضمّنه ثلثي الدية للآخَريْنِ اللذَيْنِ وطئاها، ولم يضمّنه الدية للزوج، فهذا الضمان لايتصور أن يكون إلّا بنكتة تطبيق قاعدة العدل والإنصاف على الولد بقدر الإمكان، فيأتي في هذا الحديث التقريب الذي ذكرناه للاستدلال في الحديث السابق من دون أن يَرِد ما أوردناه عليه في الحديث السابق. وبهذا الحديث المصرّح بالضمان يُقيّد إطلاق ما قد يدلُّ بسكوته عن ذلك على عدم الضمان؛ من قبيل ما عن الحلبي ومحمّد بن مسلم - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وقع الحرّ والعبد والمشرك بامرأة في طهر واحد، فادّعوا الولد، أُقرع بينهم، فكان الولد للذي يخرج سهمه»(3)، وما عن الحلبي - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وقع المسلم واليهودي والنصراني على المرأة في طهر واحد أُقرع بينهم، فكان الولد للذي تصيبه
', '(1) الوسائل، ج 14، باب 57 من نكاح العبيد والإماء، ح 1، ص 566.
(2) نفس المصدر، ح 2، ص 566، و ص 567.
(3) نفس المصدر، ح 3، ص 567. ورواه عن الحلبي في ج 18، باب 13 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 187.
', 637), (14, 638, 'book', '
القرعة»(1)، فإن دلّ هذان الحديثان بالسكوت على عدم الضمان قُيِّدا بالحديث الأوّل، بل يقال: إنّ الحديثين الأخيرين إنّما لم يذكرا الضمان؛ لأنّ المتعارف من موردهما هو الزنا الذي لاحرمة للولد فيه شرعاً، وإنّما حكم فيهما بالقرعة لمجرّد خصم النزاع بينهم في تعيين الأب التكويني للولد، بينما الحديث الأوّل ورد في واقعة وقعت في زمان الجاهلية، ففرض علىّ (عليه السلام) حرمة للولد قبل نزول الإسلام بأحكام الزنا، فلا تعارض بين الروايات حتى بالإطلاق والتقييد.
فإن قيل: إنّ تطبيق علىّ (عليه السلام) لقاعدة العدل والإنصاف في زمان الجاهليّة لايثبت صحّتها في الإسلام.
قلنا: إنّ نقل الإمام الصادق (عليه السلام) لهذه القصّة له ظهور عرفي في إمضاء هذا الحكم في الإسلام.
وبهذا تمّ الاستدلال بهذا الحديث على قاعدة العدل والإنصاف، إلّا أنّه لابدّهنا أيضاً من الاقتصار في الاستدلال على ما يكون من قبيل مورد الحديث من فرض الجهل بالحال من قبل الطرفين، فلا يتعدّى إلى فرض دعوى كلّ منهما العلم مع نُكولهما عن القسم مثلا.
وقد تحصّل من ذلك: أنّ الصحيح في هذا الفرع الرابع في باب الأموال هو التقسيم بقاعدة العدل والإنصاف التي ثبّتناها في موارد جهل الطرفين، وفي غير باب الأموال هو القرعة.
هذا تمام الكلام في الفرض الأوّل من تعارض البيّنتين، وهو تعارض بيّنتي المتداعيين مع ما ألحقنابه من فروع أُخرى.
 $
$
', '(1) الوسائل، ج 17، باب 10 من ميراث ولد الملاعنه، ص 571.
', 638), (14, 639, 'book', '
 $
اختلاف البيّنة في حقّ طرف واحد
الفرض الثاني - هو فرض تعارض البيّنتين اللتين هما معاً في صالح إثباتالحقّ لطرف واحد مع اختلافهما في تشخيص الحقّ أو تشخيص سبب الحقّ، كما لو قالت إحداهما: باع العين من عمرو بدينار، وقالت الأُخرى: باعها منه بدرهم، أو قالت إحداهما: باعها منه صباحاً، وقالت الأُخرى: باعها منه عصراً، أو قالت إحداهما: باع منه الكتاب الفلاني، وقالت الأُخرى: باع منه الكتاب الآخر، وما إلى ذلك من الأمثلة.
وقد جاء في الشرائع فيما لو شهد اثنان على سرقة شيء معيّن في وقت، وآخران على سرقته في وقت آخر على وجه يتحقق التعارض بينهما بأن لايمكن سرقته مرتين: سقط القطع للشبهة، ولم يسقط الغرم، وكتب في الجواهر بعد ذكر قول المصنف (رحمه الله): «ولم يسقط الغرم» يقول: «وفي محكىّ المبسوط: تعارضت البيّنتان وتساقطتا، وعندنا: تستعمل القرعة، وفي كشف اللثام: أنّه لافائدة للقرعة هنا. قلت: إنّ كلام كشف اللثام إنّما يتّجه لو قلنا بأنّه يجوز للحاكم الحكم بالغرم استناداً إلى كلتا البيّنتين فيما اتّفقتا عليه من سرقة الثـوب وإن اختلفتا في وقت السرقة، فعندئذ لاتبقى فائدة في القرعة، ولكن لعلّ مبنى كلام الشيخ على وجوب استناد الحكم إلى إحدى البيّنتين لعدم صلاحيّتها بعد التعارض لأنْ تكونا معاً مستنداً للحكم، ولايمكن تعيين البيّنة التي يستند إليها إلّا بالقرعة، والفائدة تظهر في الأحكام التي تلحق الشاهد من قبيل مالو رجع الشاهد عن شهادته، فلو رجعت إحدى البيّنتين عن شهادتها وكانت هي التي استند الحاكم في حكمه إليها، دخلت المسألة في رجوع الشاهد عن شهادته، ولو لم تكن هي التي استند الحاكم في حكمه إليها، لم يكن
', '', 639), (14, 640, 'book', 'للرجوع أىّ أثر»(1). انتهى كلام صاحب الجواهر في المقام، وقد نقلناه بالمعنى لاباللّفظ، ثمّ أمر بالتأمّل جيداً.
أقول: أمّا ما في الشرائع من التفصيل بين الحدّ والتغريم من سقوط الأوّل بالشبهة وثبوت الثاني، فيرد عليه: أنّه لو سرى التعارض إلى أصل الشهادة بالسرقة، لم يثبت الغرم، وإلّا ثبت الحدّ؛ لأنّ أصل الشهادة بالسرقة لاشبهة فيها، فلا مبرّر لدرء الحدّ.
وأمّا فرض تعيين البيّنة التي يستند الحكم إليها بالقرعة، فهذا أمر لادليل عليه، وإنّما القرعة - كما عرفت من رواياتها - تستعمل في باب القضاء: تارةً لتعيين من له الحقّ، وأُخرى لتعيين من عليه الحلف، أمّا القرعة لتعيين من تنفذ بيّنته فلم يرِدْ ما يدلّ عليها.
وتحقيق الحال في أمثال هذه المسألة هو: أنّه لو كان الأثر مترتّباً على جهة الاختلاف، كما لو شهدت إحدى البيّنتين بالصلح والأُخرى بالبيع، والملكيّةُ تترتّب على واقع الصلح وعلى واقع البيع، لا على الجامع بينهما، لم يثبت الأثر لتعارض البيّنتين و تساقطهما.
ولو كان الأثر مترتّباً على جهة الاتّفاق، كما لو شهدت إحداهما بالإقراض في ساعة كذا، والأخرى بالإقراض في ساعة كذا، والمدعي معترف بعدم وجود إقراضين، فهل يقال: إنّ جهة الاتّفاق تثبت، ويترتب الأثر، وتلغو جهة الاختلاف، أو يقال: إنّ كلّ فرد من فرديّ الجامع قد اختلفت البيّنتان فيه، فتتساقطان، ولايثبت شيء؟ لايبعد القول بالتفصيل بين فروض:
الفرض الأوّل - أن تكون جهة الخلاف بنحو يقطع أو يطمئنّ العرف بأنّ
', '(1) راجع الجواهر، ج 41، ص 213 و 214.
', 640), (14, 641, 'book', '
البيّنتين لو كانتا صادقتين فهماناظرتان إلى واقعة واحدة؛ لعدم إمكان التكرار، كما في الشهادة بإقراضين لعين واحدة في ساعة واحدة في مكانين، أو لاستبعاده في مدّة قصيرة - مثلا - إلى حدّ الاطمئنان بالعدم، كفاصل خمس دقائق مثلا، فهنا لايبعد القول عرفاً بأنّ أصل الإقراض - مثلا - قد ثبت بالبيّنتين وإن اختلفتا في الزمان أو المكان، فإنّ الفارق الموجود في كلام البيّنتين وإن كان مفرّداً للجامع فلسفياً، لكن العرف في مثل هذه الحالة يفترض أنّ هناك واقعة واحدة ثبتت بالبيّنتين، وأنّ الخلاف في الخصوصيّة لم يسرِ إلى أصل الواقعة.
هذا على شرط أن لايكون الخلاف بنحو يشكلّ قرينة عقلائيّة على كذب إحدى البينتين، أو خطائها بحيث يوجب سقوط البيّنة بالاتّهام.
الفرض الثاني - أن تصرّح إحدى البيّنتين بأنّها تنظر إلى نفس الواقعة التي شهدتها البيّنة الأُخرى، لأنّهما كانتا حاضرتين أمام واقعة واحدة وإن اشتبهت إحداهما في خصوصيّة الزمان أو المكان، فالكلام في هذا الفرض أيضاً هو عين الكلام في الفرض الأوّل.
الفرض الثالث - أن لايكون قطع أو اطمئنان عرفي على وحدة الواقعة المشهود بها على تقدير الصدق، ولاتدّعي البيّنة ذلك أيضاً، غاية ما هناك أنّ المدّعي معترف بعدم تكرر الواقعة. فهنا لايبعد القول بأنّ كلّ فرد من فردي الجامع قد تعارضت فيه البيّنتان و تساقطت، وبالتالي لم يثبت شيء بالبيّنة.
وقد يقال في المقام بترجيح إحدى البيّنتين بالأكثريّة أو بالقرعة تعدّياً من مورد الروايات الماضية.
والجواب: أنّه قد عرفت فيما سبق أنّ ترجيح إحدى البيّنتين بالأكثريّة أو القرعة إنّما كان بمعنى تعيين من عليه الحلف، وفي المقام ليس الكلام فيمن عليه الحلف فإنّه معيّن وهو المنكر.
$
', '', 641), (14, 642, 'book', 'كما أنّ الترجيح بالأعدليّة الوارد في تعارض بيّنة الأصل وبيّنة الفرع لايمكن إجراؤه في المقام؛ لعدم الجزم بنفي الخصوصيّة، فالتعدّي يكون قياساً.
وبالإمكان أن يدّعى الترجيح بالقرعة مع تحليف البيّنة التي خرجت القرعة باسمها، وذلك تمسّكاً بما ورد عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قلت له: رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهماً، وجاء آخران فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم كلّهم شهدوا في موقف قال: أَقرِعْ بينهم، ثم استحلِفِ الذين أصابَهمُ القَرَعُ باللّه أنّهم يشهدون بالحقّ»(1).
والظاهر بقرينة القُرعة وتحليف البيّنة أنّ المقصود بشهادة البيّنة الأُولى على الخمسين هو الخمسون مع نفي الزائد، وإلّا لم يكن تعارض بين البيّنتين.
ولايخفى أنّ الأمر إذا دار بين الزائد والناقص فالشهادة منحلّة في الحقيقة إلى شهادتين، فالبينتان متّفقتان على الشهادة على الخمسين ومختلفتان بالنفي والإثبات فى الزائد، فلو فرض أن الرجلين أحدهما يدّعي الزائد والآخر ينكره، فهذا بابه باب المدّعي والمنكر مع اختلاف البيّنتين في النفي والإثبات فقط، لافي إثبات كلّ منهما غير ما تثبت الأُخرى، ولعلّ هناك وضوحاً فقهياً في عدم تحليف البيّنة في هذا الفرض، وإنّما الوجوه المطروحة فقهياً في ذلك ثلاثة: إما ترجيح بينة المدعي؛ لأنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، أو ترجيح بيّنة المنكر لدعمها بالأصل، أو تساقطهما ويمين المنكر.
وعليه فقد تحمل الرواية على فرض ما إذا كان الرجلان جاهلين بالواقع، ولايدّعي أحدهما الزائد، ولاينكر الآخر. وعليه فتخرج الرواية عمّا نحن فيه.
وعلى أىّ حال فقد تقدّم أنّ الحديث ساقط سنداً بالإرسال.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 7، ص 184.
', 642), (14, 643, 'book', '
بقي الكلام فيما يمكن أن يدّعى فيما نحن فيه من أنّه إذا دار أمر الحقّ بين شيئين عيّن أحدهما بالقرعة، فالقرعة هنا ليست لتعيين من عليه الحلف؛ كي يقال: إنّ دليل ذلك وارد في غير المقام، وإنّ من عليه الحلف هنا متعيّن، وإنّما القرعة لتعيين الواقع.
والجواب: أنّ أصل الحقّ غير معترف به من قبل كلا الطرفين؛ كي يقع الكلام في تعيينه بالقرعة.
فلم يبق في المقام عداتساقط البيّنتين وتحليف المنكر.
نعم لو نكل المنكر، وكان المدّعي مردّداً بين الحقّين، فحلف على الجامع بينهما، لايبعد القول بانتهاء الأمر إلى القرعة لتعيين أحد الحقّين.
وقد يخطر بالبال أن يحلّل الأمر إلى قضيتين، فيقال بالنسبة لكلّ واحد من الحقين: إنّ هذا مردّد بين شخصين، فتطبّق عليه قاعدة العدل والإنصاف في تقسيم الماليّة إن أمكن.
ولكن الصحيح: أنّ قاعدة العدل والإنصاف ليس لها دليل مطلق يتمسّك بإطلاقه، والروايات التي مضت - سواء ما تمّ منها دلالة وسنداً وما لم يتمّ - كانت في مورد مال مردّد بين شخصين من دون ثبوت جامع بين المالين لأحدهما بالخصوص، واحتمال الفرق وارد؛ إذن فالصحيح هو الرجوع إلى القرعة.
ومن هنا اتّضح أيضاً حكم ما لو اعترفا معاً بأنّ الحقّ لزيد، وتردّد الحقّ لديهما بين مالين، فالمرجع عندئذ هو القرعة التي هي لكلّ أمر مشكل.
أمّا لو اعترفا معاً بأنّ الحقّ لزيد، واختلفا في أنّه هل هو عبارة عن هذا المال أو ذاك؟ فزيد ادّعى أحدَهما، والآخر عيّن مالا آخر غير ما ادّعاه زيد، فالظاهر أنّ هذا منحلّ إلى خلافين: أحدهما الخلاف في المال الذي يدّعي كلّ واحد منهما أنّه له، و الثاني الخلاف في المال الذي يدّعي كلّ واحد منهما أنّه لصاحبه.
$
', '', 643), (14, 644, 'book', 'والخلاف الأوّل هو الذي يفصله القاضي بينهما وفق قوانين المدّعي والمنكر إن كان أحدهما مدّعياً والآخر منكراً، ووفق قوانين التداعي إن كانا متداعيين كمالو كان المال خارجاً من ايديهما.
أمّا الخلاف الثاني فلا يفصله القاضي بينهما؛ إذ ليس نزاعاً ومرافعة بالمعنى المألوف في باب القضاء، وإنما هو من قبيل أىّ مال يختلف عليه اثنان، كل منهما يقول للآخر: إن المال لك. وهذا كما ترى ليس دعوى بين شخصين ترفع إلى القاضي، بل هما إمّا أن يتصالحا فيما بينهما، أو أنّ أحدهما يرفع يده عن حقّه على تقدير كون الحقّ له كما يزعم صاحبه؛ كي يجوز لصاحبه التصرّف في المال، أو أن يترك كلٌّ منهما المالُ للآخر، وبالتالي لايجوز لأحدهما التصرّف في المال.
وبالنسبة للخلاف الأوّل لو أنّهما لم يترافعا إلى القاضي، ولم يفصل القاضي بينهما، واستولى أحدهما على المال المتنازع فيه على أساس علمه بأنّه له، جاز للآخر أن يأخذ من المال الثاني بمقدار التقاصّ.
 $
موقف الفقه الوضعي من تعارض البيّنتين
وفي ختام الكلام عن تعارض البيّنتين لابأس بالإشارة إلى موقف الفقهالوضعي من ذلك:
ويتحدّد موقف الفقه الوضعي من تعارض البيّنتين في ثلاث نقاط:
الأُولى: أنّ بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر في عرض واحد، ولايوجد لديهم فرق بين بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر في درجة الحجّيّة، وإنّما الفرق في الحكم بين المدّعي والمنكر هو أنّ البيّنة على الأوّل واليمين على الثاني، أمّا لو أقام المنكر بيّنة مُقنعة أخذ القاضي بها، كما أنّ المدّعي لو أقام بيّنة مُقنعة أخذ القاضي بها، فالفرق بينهما إنّما هو
', '', 644), (14, 645, 'book', 'أنّ عبء الإثبات على الأوّل دون الثاني، وبإمكان الثاني عند عجز الأوّل عن الإثبات أن يكتفي باليمين، وهذا غير عدم الاجتزاء بالبيّنة من المنكر لو أتى بها، وهم يقصدون بالبيّنة التي هي على المدّعي مطلق الدليل، لا البيّنة بمعناها الفقهي لدينا من شهادة شاهدين، وعلى أي حال فلا يبقى - بناءً على مبناهم - أساس لترجيح بيّنة الخارج أو بيّنة الداخل عند التعارض.
الثانية - أنّه لامجال عندهم لوصول النوبة إلى القرعة بعد تعارض البيّنتين لتعيين الواقع، أو لتعيين من عليه اليمين، وذلك ناتج عن أصل عدم إيمانهم بالقرعة في باب القضاء إطلاقاً. وأمّا كون أكثريّة العدد في إحدى البيّنتين مؤثّرة في توجيه الحلف إلى صاحب البيّنة الأُخرى، فأيضاً لامجال له عندهم، وإنّما تدخل الأكثريّة ضمن ما سنذكره من النقطة الثالثة.
الثالثة - أنّ أمر تقدير البيّنة وتقييمها ومدى قبولها وعدم قبولها في الموارد التي تسمح قوانينهم بقبول البيّنة متروك أساساً إلى القاضي، وبهذا تنحلّ مشكلة تعارض البيّنتين، فإنّ القاضي هو الذي يقدّر مدى إمكانيّة الاعتماد على البيّنة، فإن رآى أنّهما تعارضتا في الكشف وتساوتا - وبالتالي زال الكشف وانتفت القرينيّة - فقد تساقطت البيّنتان، وإن رأى أرجحيّة إحداهما - سواء بالأكثريّة العدديّة أو بأىّ نكتة أُخرى؛ بحيث بقيت لتلك البيّنة رغم التعارض درجة من الكشف قابلة للاعتماد - اعتمد عليها وأسقط الاُخرى.
أقول: إنّ النقطة الأُولى من هذه النقاط وهي قبول البيّنة من المنكر كقبولها من المدّعي هو أحد الاتّجاهات الموجودة في فقهنا أيضاً بالنسبة للبيّنة بمعناها الفقهي عندنا من شهادة شاهدين، وإن كان مختارنا - كما مضى - غير ذلك.
والنقطة الثانية - وهي عدم قبول القرعة، كأنّها ناتجة عن عدم وجود أيّ درجة من درجات الكشف والأماريّة في القرعة.
$
', '', 645), (14, 646, 'book', 'أمّا قبول الإسلام بالقرعة في باب القضاء فلعلّه ناتج عن مجموع نكتتين:
إحداهما - أنّ القرعة جعلت بعد فرض العجز عن الحلول الأُخرى، وعند ذلك لايضرّ عدم كاشفيّتها، فهي جعلت لخصم الدعوى لالكشف الحقيقة.
والثانية - أنّ إنكار الكاشفيّة على الإطلاق محلّ منع، فإنّ هذا وإن كان متّجهاً في فقه وضعىّ مبتنّ على غضّ النظر إطلاقاً عن افتراض وجود إله للعالمين، لكنّه غير متّجه في فقه يؤمن بربّ العالمين. ويعتقد أنّ تفويض الأمر إلى اللّه في القرعة يوجب تأثير القرعة من ترجيح أحد الطرفين ولو بمستوىً من مستويات الترجيح.
وأمّا النقطة الثالثة - فقد عرفت أنّ نظر الإسلام يختلف فيها عن نظرهم، فالاسلام وضع ضوابط موضوعيّة كاملة لتقسيم البينة، ولم يترك الأمر إلى القاضي وذوقة. وبهذا المقدار نكتفي في الكلام عن البينة، وكان هذا هو الطريق الثاني من طرق الإثبات في باب القضاء.
 $
$
', '', 646), (14, 647, 'book', ' $
$
', '', 647), (14, 648, 'book', ' $
$
', '', 648), (14, 649, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
 $
الطريق الثالث - هو اليمين.
ونعقد تحت هذا العنوان عدة أبحاث:
الأوّل - كيف يدار اليمين بين المدّعي والمنكر؟
الثاني - كيفيّة الإحلاف؟
الرابع - متى يكفي شاهد واحد مع اليمين؟
الخامس - متى تحتاج البيّنة إلى ضمّ اليمين إليها؟
اليمين بين المدّعي والمنكر
البحث الأوّل - كيف يدار اليمين بين المدّعي والمنكر؟ نذكر بدواً هنا: أنّ اليمينيوجّه أوّلا إلى المنكر عندما لا يمتلك المدّعي البيّنة، فإنْ رَدَّ على المدّعي وُجّه اليمين إلى المدّعي، فإنْ نَكَل سقطت الدعوى.
أمّا تفصيل الكلام في ذلك:
فلا إشكال - بضرورة من الفقه - أنّ اليمين يأتي بعد فرض عدم إقامة المدّعي البيّنة، وكذلك لا إشكال في أنّه يوجّه اليمين ابتداءً إلى المنكر كما هو واضح، وهو مفاد ما ورد من أنّ البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر.
$
', '', 649), (14, 650, 'book', ' $
لمن حقّ التحليف؟
ولكن يقع الكلام في أنّ اليمين هل يوجّهها الحاكم إلى المنكر من تلقاء نفسه، أوبطلب من المدّعي؟ أُدّعي الإجماع على الثاني، ويمكن أن يقال بالأوّل.
وقد يذكر للأوّل - وهو أن يكون التحليف من حقّ الحاكم - وجوه ثلاثة:
الأوّل(1) - أنّ الحاكم مأمور بقطع الخصومة بين المتخاصمين، فثبوت حقّ إبقاء الخصومة للمدّعي بتمكينه من عدم تحليف المنكر أمر لامعنى له، وعلى الحاكم أن يحلّفه لأجل إنهاء الخصومة، شاء المدّعي أم أبى.
والثاني(2) - التمسّك بإطلاق: (البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر)، فكون اليمين عليه غير مشروط بطلب المدّعي؛ لأنّ هذا قيد زائد لم يذكر في الحديث.
والثالث - ما عن سليمان بن خالد - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «في كتاب علىّ (عليه السلام): أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟ قال: فأوحى اللّهُ إليه: اُحكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به. وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(3) ونحوه روايتان أُخريان غير تامتين سنداً(4). فقد يقال: إنّ قوله: «حلّفهم به» يدلّ على أنّ التحليف وظيفة القاضي، ولا علاقة له بالمدّعي.
وكلّ هذه الوجوه تقبل المناقشة:
أمّا الأوّل - فقد يناقش بأنّ وجوب قطع المخاصمة على الحاكم حتى في
', '(1) و (2) راجع الجواهر، ج 40، ص 170.
(3) الوسائل، ج 18، باب 1 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 167.
(4) نفس المصدر، ح 2 و 3، ص 167 و 168.
', 650), (14, 651, 'book', '
مورد استعدّ المدّعي لغضّ النظر عن حقّه الذي استولى عليه المنكر لفترة من الزمن، ثمّ استئناف المخاصمة بعد ذلك أمرٌ لادليل عليه، فقد يتعلق غرض المدّعي بتأجيل المخاصمة بأمل حصوله على البيّنة، أو على إقرار المنكر، أو على ارتداعه من اليمين الفاجرة، أو غير ذلك، ولا دليل على أن يكون للحاكم حقّ إجبار المدّعي على عدم تأجيل المخاصمة بعد رفعِها إليه.
وأمّا الثاني - فلوضوح أنّ قوله: «البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر» بصدد بيان من يقع على عاتقه عبء البيّنة، ومن يقع على عاتقه. عبء اليمين، أمّا بعد أن اتّضح أنّ من عليه اليمين هو المنكر، هل الّذي يطالب باليمين هو الحاكم ابتداءً، أو المدّعي، ويكون الحاكم منفّذاً لطلب المدّعي؟ فهذا مطلب آخر لاعلاقة له بمفاد الحديث.
وأمّا الثالث - فلأنّ قوله: «حلّفهم به» تعليم للقاضي بطريق القضاء الثابت له بعد فقد البيّنة، وبيان لعدم انسداد طريق القضاء بمجرّد فقدان البيّنة، أمّا أنّه كيف يُعمِل القاضي هذا الطريق؟ هل من تلقاء نفسه أو بطلب من المدّعي؟ فهذا لاعلاقة له بالحديث.
وقد يذكر للثاني وهو ضرورة كون التحليف بطلب المدّعي وجهان:(1)
الأوّل - مقتضى القاعدة. لأنّ التحليف - على حدّ تعبير صاحب الشرائع(رحمه الله)حقّ للمدّعي، فيتوقّف استيفاؤه على المطالبة.
وأورد عليه صاحب الجواهر (رحمه الله): بأنّ كون الحقّ للمدّعي لايقتضي أكثر من ضرورة كون تحليف المنكر برضاالمدّعي الذي قد يستكشف بشاهد الحال. أمّا ضرورة كون ذلك بمطالبة المدّعي فلا يدلّ عليها هذا الوجه.
$
', '(1) راجع الجواهر، ج 40، ص 170.
', 651), (14, 652, 'book', '
أقول: إنّ هذا الإشكال إنّما يرد على كلام صاحب الشرائع (رحمه الله) لو كان مقصوده من قوله: «فيتوقف استيفاؤه على المطالبة» أنّ استيفاء حقّ المدّعي من دون مطالبته ظلم له؛ إذ تتعلّق مصلحته بترك المطالبة - كما لو أراد تأجيل تحليف المنكر لاحتمال حصوله في المستقبل على البيّنة، أو لأىّ سبب آخر، فلا مبرِّر لإجباره على الرضوخ ليمين المنكر - فهذا يرد عليه ما قاله صاحب الجواهر (رحمه الله) من أنّه يكفي دفعاً لهذا الاعتراض استكشاف رضا ذي الحقّ ولو بشاهد الحال، أمّا اشتراط مطالبته فهذا لا يدلّ عليه.
ولكن أكبر الظنّ أنّ مقصود صاحب الشرائع (رحمه الله) ليس هذا، وإنّما مقصوده أنّ إجبار الحاكم للمنكر على اليمين، أو الرضوخ للحكم بصالح المدّعي إنّما يكون بملاك مطالبة ذي الحقّ وهو المدعي، فلو كان ذو الحقّ غير مطالب بذلك فإرغام الحاكم للمنكر على ذلك بحاجة إلى دليل، وهذا - كما ترى - لا يرد عليه إشكال صاحب الجواهر (رحمه الله).
نعم هناك نقاش آخر يمكن أن يناقش به هذا الوجه: وهو أنّه ما المقصود بكون الحلف حقّاً للمدعي؟
هل المقصود بذلك أنّ أمر التحليف وجوداً وعدماً بيد المدّعي؟ فهذه مصادرة على المطلوب، فإنّ كلامنا الآن في أنّ التحليف هل هو من حقّ الحاكم مباشرةً، أو المدّعي هو الذي يجب أن يطالب به كي يتمّ التحليف؟
أو المقصود بذلك أنّ الحلف أمر وضع على المنكر تضييقاً عليه لصالح المدّعي في عالم القضاء، كما أن البيّنة أمر وضع على المدّعي تضييقاً عليه لصالح المنكر في عالم القضاء؟ فهذا الكلام صحيح، ولكن لادلالة له على المدّعى، فإنّ مجرّد كون شيء وضع لصالح طرف في عالم مقاييس القضاء لايدلّ على أنّه يجب أن يكون أمر ذاك الشيء بيده وبمطالبته.
$
', '', 652), (14, 653, 'book', 'أو المقصود بذلك أنّ تحليف المنكر يكون لأجل حقّ يريد المدّعي استنفاذه، وهو حقّه في العين التي استولى عليها المنكر مثلا، فلو استعدّ المدّعي - ولو موقّتاً - لعدم استنقاذ حقّه وعدم إحراج المنكر بمطالبته باليمين برجاء تحصيل البيّنة، أو بأىّ سبب آخر، فلا مبرّر لتدخّل الحاكم بالتحليف؛ لأنّ دليل القضاء لاإطلاق له لفرض استعداد المدّعي لرفع اليد عن حقّه الذي يدّعيه ولو موقّتاً.
ويرد عليه: أنّه كما قد يتّفق أنّ المنكر هو المستولي على الحقّ، فيراد إحراج المنكر باليمين كي يحلف أو يسلّم الحقّ إلى أهله، كذلك قد ينعكس الأمر فيكون المدّعي هو المستولي على الحقّ ويريد المنكر أن يحلف كي يستنقذ بذلك حقّه، كما لو اعترف من بيده المال بأنّه أخذه من صاحبه قهراً عليه اعتقاداً منه أنّه هو المالك لاصاحبه، فهنا قد أصبح ذو اليد مدّعياً وصاحبه منكراً، فقد يصرّ المدّعي هنا على تأجيل التحليف وإيقاف المرافعة؛ كي يستمرّ هو في الاستيلاء على المال، ويكون المنكر هو المطالب بالحقّ؛ كي يحلف ويأخذ حقّه، وكما لو كان المدّعي يدّعي أداء الدين والمنكر ينكر ذلك.
الثاني - الروايات وهي على قسمين:
القسم الأوّل - ما دلّ على أنّ المدّعي لو استحلف المنكر سقط حقّه من قبيل:
1 - ما عن أبي يعفور عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه، فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعي، فلا دعوى له. قلت له: وإن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم، وإن أقام بعدما استحلفه باللّه خمسين قَسامة ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه»(1). وسند الحديث تامّ.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 9 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 179.
', 653), (14, 654, 'book', '
2 - ما عن خضر النخعي - ولم تثبت وثاقته - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، قال: «إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً، وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه»(1).
3 - ما عن عبداللّه بن وضّاح - بسند ضعيف على الأقلّ بأبي عبداللّه الجاموراني - قال: «كانت بيني وبين رجل من اليهود معاملة، فخانني بألف درهم، فقدّمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، وقد علمت أنّه حلف يميناً فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة، فأردت أن أقتصّ الألف درهم التي كانت عنده لي وأحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف، وقد وقع لي عنده مال، فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت، فكتب: لاتأخذ منه شيئاً، إن كان ظلمك فلا تظلمْه، ولولا أنّك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، ولكنّك رضيت بيمينه، وقد ذهبت اليمين بما فيها. فلم آخذْ منه شيئاً، وانتهيت إلى كتاب أبي الحسن (عليه السلام)»(2).
ووجه الاستدلال بهذه الروايات أنّها علّقت سقوط حقّ المدّعي باستحلافه للمنكر، أي طلبه لليمين، فهذا دليل على أنّه لابدّ أن يكون تحليف المنكر بطلب من المدّعي.
ويمكن الإيراد على ذلك بإشكالين:
الإشكال الاوّل - أنّ الرواية الأُولى وهي التامّة سنداً إنّما دلّت على أنّ استحلاف المدّعي للمنكر يسقط حقّه، ولا دلالة لها بالمفهوم على أنّ استحلاف
', '(1) نفس المصدر، باب 10 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 179. وأيضاً ج 16، باب 48 من الأيمان، ح 1، ص 179.
(2) الوسائل، ج 18، باب 10 من كيفيّة الحكم، ح 2، ص 180.
', 654), (14, 655, 'book', '
الحاكم له من تلقاء نفسه لايسقط حق المدّعي حتى مع الإيمان بمفهوم الشرط؛ بناءً على أنّ مفهوم الشرط يختصّ بحرف الشرط، ولايأتي في أسماء الشرط من قبيل (إذا).
نعم الحديث الثاني لايرد عليه هذا الإشكال بعد فرض الإيمان بمفهوم الشرط في حرف الشرط؛ إذ جاء فيه حرف (إن) لاكلمة (إذا)، بل قد يقال: لا حاجة فيه إلى مفهوم الشرط أصلا؛ لأنّه صرّح بالمفهوم بقوله: «وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه»، فهذا يعني حصر ما يسقط الحقّ في استحلاف المدّعي، ولكن هذا الحديث ساقط سنداً.
وأمّا الحديث الثالث فإضافةً إلى سقوطه سنداً، إنّما دلّ على حكم في فرض فرضه السائل، وهو فرض استحلاف المدّعي، ولم يرد في كلام الإمام ربط الحكم بفرض استحلاف المدّعي حتى تفرض دلالته بالمفهوم - مثلا - على انتفاء الحكم عند ما يكون الاستحلاف من قبل الحاكم.
وبالإمكان دفع الإشكال عن الاستدلال بالحديث الأوّل بأحدوجهين:
الأوّل - ضمّ هذا الحديث إلى ما ورد - بسند تامّ - عن أبي بكر، قال: «قلت له: رجل لي عليه دراهم، فجحدني وحلف عليها، أيجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال: فقال: نعم، ولكن لهذا كلام. قلت: وما هو؟ قال: تقول: اللّهم إنّي لا آخذه ظلماً ولا خيانة، وإنّما أخذته مكان مالي الذي أُخِذَ منّي لم أزدد عليه شيئاً»(1). فإذا قيّد إطلاق هذا الحديث بمنطوق حديث ابن أبي يعفور الوارد في استحلاف المدّعي، كانت النتيجة أنّ الذي يسقط حقّ المدّعي إنّما هو استحلافه للمنكر دون حلف المنكر عن غير طريق استحلاف المدّعي إيّاه، ولو كان بتحليف
', '(1) الوسائل، ج 12، باب 83 ممّا يكتسب به، ح 4، ص 203.
', 655), (14, 656, 'book', '
الحاكم إيّاه. ولكن الظاهر أنّه بعد فرض إخراج استحلاف المدّعي للمنكر في مورد القضاء من إطلاق هذا الحديث لايبقى له بحسب الفهم العرفي إطلاق لفرض تحليف الحاكم إيّاه، وإنّما ينصرف إلى حلف المنكر من تلقاء نفسه.
والثاني - مبنيّ على أن يستظهر من مثل هذه الأحاديث الواردة في يمين المنكر، أو بيّنة المدّعي، أو ما شابه ذلك أنّها تنظر إلى باب القضاء وإلى محضر الحاكم، وعندئذ يقال - بناءً على أنّ الحاكم هو الذي يحلّف المنكر -: إنّ كون التحليف من قبل الحاكم لا إشكال فيه، إنّما الكلام في شرط طلب المدّعي، وقد جاء في منطوق الحديث قيد استحلاف المدّعي، فلو فرض نفوذ تحليف الحاكم بلا طلب من المدّعي لغا العنوان المأخوذ في المنطوق؛ إذن فلا نحتاج في مقام استفادة المقصود إلى التمسُّك بمفهوم الشرط، بل تكفينا دلالة المنطوق على أنّ عنوان تحليف المدّعي - الذي هو شيء زائد على أصل تحليف الحاكم ويقصد به طلب المدّعي للحلف - دخيل في الحكم، نقيّد بذلك إطلاق ما دلّ على كفاية مطلق حلف المنكر - ولو لم يكن بطلب المدّعي - في سقوط حقّ المدّعي، وهو ما عن عبدالحميد عن بعض أصحابنا في الرجل يكون له على الرجل المال، فيجحده إيّاه، فيحلف يمين صبر أن ليس له عليه شيء، قال: «ليس له أن يطلب منه، وكذلك إن احتسبه عنداللّه فليس له أن يطلب منه»(1). على أنّ هذا الحديث ساقط سنداً.
ومعنى احتسابه عنداللّه - بناءً على استظهار كون ذلك في مورد القضاء - هو إسقاطه لدعواه، وبناءً على استظهار عدم إرادة خصوص فرض القضاء هو إسقاطه لحقّه المالي، والثاني - أيضاً - محتمل لو قصد خصوص فرض القضاء. وعلى أيّ حال فهذا الوجه إنّما يتمّ لو فرضنا أنّ الأمر دائر بين أن يكون التحليف بيد الحاكم أو
', '(1) الوسائل، ج 16، باب 48 من الأيمان، ح 2 ص 179.
', 656), (14, 657, 'book', '
بطلب من المدّعي، فيقال: إنّ أصل كون التحليف من الحاكم لا إشكال فيه، فلو أُلغي قيد طلب المدّعي لزمت لغويّة القيد المأخوذ في المنطوق. ولكن سيأتي - إن شاء اللّه - أنّه يمكن المصير إلى رأي آخر، وهو أنّ تحليف الحاكم يجب أن يكون على أساس طلب أحد المتنازعين - إمّا المدّعي، وإمّا المنكر - والمذكور في هذا الحديث هو طلب المدّعي، ونفي طلب المنكر لايكون إلّا بالمفهوم.
الإشكال الثاني - أنّ غاية ما دلّت عليه هذه الروايات أو بعضها هي أنّ سقوط حقّ المدّعي بالحلف إنّما يكون إذا كان الحلف بطلب من المدّعي، ولكن كلامنا الآن ليس في ذلك، وإنما كلامنا في أنّ حكم الحاكم هل يتوقف على كون حلف المنكر بطلب من المدّعي، أو ينفذ حكمه عندما يطالبه هو من تلقاء نفسه بالحلف من دون طلب المدّعي؟ وهذا مطلب آخر لاعلاقه لهذه الروايات به. أمّا حمل هذه الروايات على معنى سقوط حقّ المدّعي بعد حكم الحاكم المترتب على تحليف المدّعي، فهذا أخْذٌ لقيد زائد وهو صدور الحكم بلا مبرّر، وإنّما المنظور لهذه الروايات هو سقوط حقّه بمجرد تحليفه إيّاة، أي لايحقّ له بعد ذلك أن يقيم البيّنة كي يجعل الحاكم يحكم وفق البيّنة؛ لأنّ اليمين ذهبت بحقّه.
ويمكن الجواب على هذا الإشكال بأنّ المفهوم عرفاً من هذه الروايات أنّها تشير إلى الحلف الذي يصحّ للحاكم الاعتماد عليه في الحكم، فإذا دلّت هذه الروايات على أنّ الحلف الذي يُسقط حقّ المدّعي هو الحلف الذي يكون بطلب من المدّعي؛ إذن فقد دلّت على أنّ ما يصحّ للحاكم الاعتماد عليه من الحلف إنّما هو الحلف الذي يكون بطلب من المدّعي.
القسم الثاني - ما ورد في الوظيفة بعد عدم امتلاك المدّعي للبيّنة، وجعل الوظيفة هي استحلاف المدّعي، وهو ما عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - عن أحدهما (عليهما السلام) في الرجل يدّعي ولابيّنة له، قال: «يستحلفه، فإن ردّ اليمين على
', '', 657), (14, 658, 'book', 'صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له»(1). فيقال: إنّ هذا الحديث شخّص الوظيفة في استحلاف المدّعي، وهذا يعني أنّ استحلاف الحاكم من تلقاء نفسه لا أثر له، وبه يقيّد ما قد يستفاد منه الإطلاق من قبيل:
1 - ما عن عبيد بن زرارة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الرجل يُدَّعى عليه الحقّ ولابينة للمدّعي قال: «يُستحلف، أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له»(2).
2 - ما عن يونس عمّن رواه قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعي عليه ...»(3).
3 - ما عن أبان عن رجل عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الرجل يُدّعى عليه الحقّ وليس لصاحب الحقّ بيّنة، قال: يُستحلف المدّعى عليه ...»(4).
فقد يدّعى أنّ هذه الروايات تدلّ بسكوتها عن قيد طلب المدّعي ليمين المنكر على عدم اشتراط هذا القيد، فلو تمّت هذه الدعوى قيّدت هذه الإطلاقات بالحديث الأوّل على أنّ تماميّة هذه الإطلاقات محلّ نظر؛ لإمكان القول بأنّ هذه الروايات إنّما بيّنت ما يأتي بعد عجز المدّعي عن البيّنة، وهو يمين المنكر، أمّا أنّ هذا اليمين هل يوّجه إليه من قبل الحاكم ابتداءً، أوبطلب المدعي؟ فهذا مطلب آخر لا علاقة له بهذه الروايات، فهذه الروايات وِزانها وِزان أصل الروايات التي تبيِّن أنّ مقياس
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 7 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 176.
(2) الوسائل، ج 18، باب 7 من كيفيّة الحكم، ح 2، ص 176.
(3) نفس المصدر السابق، ح 4.
(4) نفس المصدر السابق، ح 5، ص 177.
', 658), (14, 659, 'book', '
القضاء هو البيّنة واليمين، أو هو بيّنة المدّعي ويمين المنكر، لاعلاقة لها بنفي شرط طلب المدّعي أو إثباته، على أنّ هذه الروايات كلّها ضعيفة سنداً. وأيضاً لو تمّت دلالة ما ورد في أمر نبىّ من الأنبياء بالتحليف، فإنّما ذلك بالإطلاق، ويقيّد برواية محمد بن مسلم، ويكون المفاد بعد التقييد أنّ القاضي يحلّف بعد طلب المدعي.
إلّا أنّ الصحيح: أنّ دلالة رواية محمد بن مسلم - على شرط كون طلب الحلف من المدّعي - أيضاً قابلة للنقاش، فإنّ السؤال فيه عن الرجل يدّعي ولابيّنة له قال: «يستحلفه»، فلا يبعد أن يكون هذا بصدد تعليم المدّعي كيفيّة تصدّيه لعلاج مشكلته، وهو أن يطلب حلف المنكر، أمّا لو لم يتصدَّ هو للعلاج فهل يجوز للحاكم أن يستقلّ بالعلاج، أوْلا؟ فهذا مطلب آخر.
وتحقيق الحال في المقام أن يقال: إنّه تارةً يفترض أنّ الحقّ المتنازع عليه يكون تحت سلطة المنكر، وأُخرى يفترض أنّه تحت سلطة المدّعي.
فإن كان تحت سلطة المنكر لايحلّف المنكر إلّا بطلب المدّعي، فلو رضي المدّعي بإيقاف النزاع - ولو موقّتاً - وعدم مطالبته بحقّه، فلا دليل على نفوذ تحليف الحاكم للمنكر، ودليل كون وظيفةِ الحاكم خصمَ النزاع لاإطلاقَ له لفرض استعداد المدّعي لإيقاف النزاع ولو موقّتاً.
وإن كان تحت سلطة المدّعي - كما لو كانت العين بيده معترفاً بأنّه أخذها من صاحبه قهراً عليه؛ لعلمه بأنّها له - فهنا لايحلّف المنكر إلّا بطلب المنكر؛ بمعنى أنّه لو رضي المنكر برفع اليد عن المطالبة بحقّه ولو موقّتاً، فلا دليل على نفوذ تحليف الحاكم إيّاه ولو بطلب من المدعي؛ لأنّ دليل كون وظيفة الحاكم خصم النزاع لا إطلاق له لفرض استعداد صاحب النزاع لرفع اليد عن النزاع ولو موقّتاً، وهنا صاحب النزاع هو المنكر؛ أي أنّه المحروم عن الحقّ المتنازع فيه، ولو طلب المنكر الحلف حلّفه الحاكم ولو رغماً على المدّعي؛ لأنّ وظيفة الحاكم خصم النزاع.
$
', '', 659), (14, 660, 'book', 'فالمقياس في باب التحليف هو طلب من كان محروماً عن الحقّ المتنازع فيه سواء كان مدّعياً أو منكراً، ويكفي في ثبوت الطلب دلالة شاهد الحال على ذلك بلاحاجة إلى التصريح.
ولو أراد من بيده الحقّ المتنازع فيه تأجيل النزاع وعدم وقوع التحليف، فعليه أن يسلّم الحقّ بيد الآخر كي ينتقل حقّ طلب الحلف إليه.
فمثلا لوكان المدّعي هو المسيطر على الحقّ المتنازع فيه، ولكنّه يطلب تأجيل الحلف؛ لأنّه يمتلك بيّنة ستأتي بعد فترة ملحوظة من الزمن، فعليه أن يسلّم الحقّ إلى المنكر، ثمّ ينتظر البيّنة، وإلّا فوظيفة الحاكم هي إنهاء النزاع بتحليف المنكر.
وما قلنا من أنّ من ليس بيده الحقّ المتنازع فيه يجوز له تأجيل الحلف نقصد بذلك تأجيله بتأجيل المطالبة بالحقّ، لاأن يؤجّل الحلف، ثمّ يؤذي صاحبه باستمرار المطالبة، وإلّا خيّره الحاكم بين عدم تأجيل الحلف وترك المطالبة.
ولعلّ المُجمعين على اشتراط الحلف بطلب المدّعي كانوا ينظرون إلى ما هو الغالب من أنّ المسيطر على الحقّ المتنازع فيه هو المنكر، ولو فرض الإطلاق فيما قصدوه فالإجماع مدركي لاأثرله، ولم يثبت في المقام إجماع تعبّدي.
يبقى الكلام هنا في فرعين:
سقوط حق المدّعي بيمين المنكر:
الفرع الأول - متى يُسقط الحلفُ حقَّ المدّعي في الدعوى وإقامة البيّنةوالتقاصّ؟ فيه ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأوّل - أنّ سقوط حقّ المدّعي إنّما يكون بحكم الحاكم
', '', 660), (14, 661, 'book', 'لصالح المنكر بعد يمينه، أمّا مجّرد اليمين من المنكر - ولـو بـطلب الـحاكم وبمطالبة المدّعي - فلا يسقط حقّه في الدعوى، وإلّا فأىّ حاجة إلى القضاء والحكم بعد ذلك؟! ولماذا يقول الرسول (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان» ؟!
والجواب: أنّ الحاجة إلى القضاء واضحة؛ إذ المـدّعي قـد لا يـعتـرف - اجتهاداً، أو تقليداً، أو عناداً، أو جهلا - بسقوط حقّه، فالحاكم هو الذي يحكم بسقوط الحقّ وإنهاء المرافعة.
الاحتمال الثاني - أنّ سقوط حقّ المدّعي يكون قبل حكم الحاكم تمسكاً بإطلاق الروايات، فبعد يمين المنكر لا يحقّ للمدّعي أن يقيم البيّنة - مثلا - على مدّعاه قبل تماميّة الحكم، ولكن سقوط حقّ المدّعي مشروط بكون اليمين بلحاظ قانون المحكمة، وذلك لانصراف الأخبار الواردة في مثل اليمين والبيّنة إلى باب القضاء، فلو أنّ المدّعي حلّف المنكر بتوافق فيما بينهُما على التحليف لاعن طريق القضاء، فلا قيمة لهذا التحليف.
الاحتمال الثالث - أنّ تحليف المدّعي للمنكر - ولو بتوافق بينهما لا عن طريق القضاء - يسقط حقّه فضلا عمّا إذا كان في المحكمة وبطريق القضاء، وذلك لأننّا لو لم نؤمن بإطلاق روايات الباب، وقلنا بانصرافها إلى مسألة القضاء، فهناك رواية واحدة تدلّ على سقوط حقّ المدّعي بالتحليف ولو عن غير طريق القضاء، وهي ما تقدّم من رواية عبداللّه بن وضّاح(1) الواردة في الحلف عند الوالي، ويقصد به والي الجور، ونحن نعلم أنّ المرافعة إلى والي الجور ليست إلّا أمراً صورياً بهدف استنقاذ الحقّ عند العجز عن المرافعة لدى حاكم الشرع، أمّا حكم الوالي فلا قيمة له شرعاً؛
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 10 من كيفيّة الحكم، ح 2، ص 180.
', 661), (14, 662, 'book', '
إذن فحلف المنكر كأنّما لم يكن بطريق القضاء؛ لأن القضاء لم يكن شرعيّاً، فكأنّه تحليف من قبل المدّعي مباشرةً للمنكر، ومع ذلك حكم الإمام (عليه السلام) بسقوط حقّ المدّعي، فهذا يعني أنّ مجرّد تحليف المدّعي للمنكر يسقط حقّه ولو لم يكن عن طريق القضاء. نعم مجرّد تبرّع المنكر بالحلف من تلقاء نفسه لاقيمة له. ولكن قد مضى فيما سبق ضعف سند الرواية.
وقد يقال: إنّ تحليف المدّعي للمنكر - ولو عن غير طريق القضاء - يسقط حقّ المدّعي بمقتضى القاعدة بلا حاجة إلى نصّ خاصّ؛ لأنّ معنى تحليفه تعهّده بالاكتفاء بالحلف عن إدامة المرافعة والنزاع، ويجب الوفاء بالعهد.
وفيه: أنّه لو رجع هذا إلى التعهّد، فهذا تعهّدٌ في طول ظلم الظالم إيّاه حسب ما يعتقد، ودفعٌ لظلمه، وهذا النحو من التعهّد لا قيمه له لا عقلائيّاً ولاشرعاً.
وقد تحصّل بهذا العرض أنّ أقوى الوجوه هو الاحتمال الثاني.
والتحليف - حتى لو اشترطنا فيه أن يكون بمطالبة المدّعي - يجب أن يكون من قبل الحاكم، فلو حلّفه المدعي أمام الحاكم فلا قيمة لهذا الحلف، فإنّ الثابت بالنصّ إنّما هو تحليف الحاكم، كما ورد في حديث سليمان بن خالد: «وأضفهم إلى اسمي، وحلّفهم به»، أمّا التحليف عن طريق المدّعي مباشرة أمام الحاكم فلا دليل على نفوذه.
والتحليف من قبل الحاكم في مورد لم نشترط في مشروعيّته طلب المدّعي أورضاه يكفي في سقوط حقّ المدّعي وإن لم يكن بطلب المدّعي أورضاه، وذلك لأنّ روايات إسقاط الحلف لحقّ المدّعي وإن كانت كلّها بلسان استحلاف المدّعى ولكن بعد ما عرفت من أنهّا ليست بنكتة التعهّد من قبل المدّعي عقلائياً يكون المفهوم منها عرفاً الإشارة إلى الحلف المشروع في باب القضاء الذي يكفي لحكم الحاكم، فلو كان ذلك أوسع من الحلف الذي يكون بطلب من المدّعي فسقوط حقّ المدّعي أيضاً
', '', 662), (14, 663, 'book', 'يتّسع لتمام موارد مشروعيّة حلف المنكر.
 $
حكم اليمين إذا أعقبه الإقرار:
الفرع الثاني - هل يُسقِط تحليفُ المنكر حقَّ المدّعي حتى بعد إقرار المنكر؟فلو تاب المنكر بعد أن حلف، وأقرّ بالحقّ للمدّعي وقدّم المال إليه - مثلا - لم يجز للمدّعي أن يأخذ حقّه؛ لأنّه قد سقط حقّه بيمين المنكر، أوْلا؟ الظاهر: أنّ الإقرار يُعطي للمدّعي حقَّ أَخْذِ مالِهِ ولو كان قد حلف المنكر، وحكم الحاكم لصالحه بسبب الحلف، فحلفه لا يمنع المدّعي عن أخذ حقّه بعد الإقرار، وليس الإقرار كالبيّنة التي لو أتت بعد الحلف لم تكن لها قيمة للمدّعي، والوجه في ذلك اُمور:
الأوّل - أنّ روايات سقوط حقّ المدّعي بيمين المنكر تنصرف بمناسبات الحكم والموضوع إلى سقوط حقّه بوصفه مخاصماً في قاموس القضاء، وفي مقابل خصمه الآخر، أمّا إذا سلّم المنكر بالحقّ فقد انتهى التخاصم والتكاذب في قاموس القضاء، ويكون المرجع عندئذ مقتضى دليل سلطنة الناس على أموالهم مثلا، فمن حقّه أخذ ماله.
الثاني - أنّه لو لم يجز للمدّعي أخذ ماله مثلا، فلا يخلو الأمر من أحد فرضين:
1 - أن يفترض أنّ الملكيّة الواقعيّة انتقلت إلى المنكر، وهذا يعني أن الظالم انتقل المال إليه واقعاً بسبب إصراره على ظلمه إلى حدّ الحلف، وهذا غير محتمل ارتكازاً، فيكون فهم هذا المعنى من دليل سقوط حقّ المدّعي خلاف الظاهر، بل قد ورد النصّ على خلافه، وهو ما عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) من قوله: «فأيّما رجل قطعت له
', '', 663), (14, 664, 'book', 'من مال أخيه شيئاً، فإنّماقطعت له به قطعة من النار»(1).
2 - أن يفترض أنّ المنكر وظيفته تقديم المال إلى المالك خروجاً من الغصب لأنّه مازال في ملكه، والمالك وظيفته رفض المال، فهذا يسلّم مال المالك إليه، وذاك لايستلم، وهذا أيضاً خلاف المرتكز، فيكون حمل دليل سقوط حقّ المدّعي على ذلك خلاف الظاهر، فيتعيّن ما قلناه من أنّ له أخذ حقّه.
الثالث - النصّ الدالّ على جواز أخذ المدّعي حقّه بعد اعتراف المنكر له رغم يمينه، وهو ما عن مسمع أبي سيّار - بسند تامّ - قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) إنّي كنت استودعت رجلا مالا، فجحدنيه وحلف لي عليه، ثمّ إنّه جاء في بعد ذلك بسنتين بالمال الذي أودعته إيّاه، فقال: هذا مالك فخذه، وهذه أربعة آلآف درهم ربحتها، فهي لك مع مالك واجعلني في حلّ، فأخذت منه المال وأبيت أن آخذ الربح منه، ووقفت المال الذي كنت استودعته وأبيت أخذه حتى أستطلع رأيك، فما ترى؟ فقال: خذ نصف الربح وأعطه النصف، فإنّ هذا رجل تائب، واللّه يُحبّ التوّابين»(2)بناءً على حمل الحديث على الحلف لدى القضاء.
وقد يناقش في دلالة الحديث بعد تسليم حمله على فرض المرافعة عند الحاكم أنّ القضيّة الخارجيّة المذكورة في هذا الحديث تنصرف إلى ما كان متعارفاً وقتئذ من المرافعة لدى والي الجور، وقضاء الجائر ليس شرعيّاً، فلعلّ هذا هو السرّفي جواز أخذ ماله لا الإقرار.
وذكر في الجواهر(3): أنّ دليل نفوذ الإقرار يعارض دليل سقوط حقّ المدّعي
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 2 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 169.
(2) الوسائل، ج 16، باب 48 من الأيمان، ح 3، ص 179.
(3) ج 40، ص 174.
', 664), (14, 665, 'book', '
بيمين المنكر بالعموم من وجه في مورد الإقرار بعد اليمين، ويرجّح عليه بالإجماع على جواز أخذ الحقّ للمدّعي بعد إقرار المنكر، وبحديث مسمع أبي سيّار.
أقول: لو تمّ حديث مسمع أبي سيّار أو الإجماع دليلا على جواز أخذ الحقّ عند الإقرار رغم اليمين، فهو دليل مستقلّ، وليس مرجّحاً لدليل حجّيّة الإقرار، وإلّا فلا قيمة له ولايرجّح أيضاً دليل حجّيّة الإقرار، على أنّ إطلاقاً لفظيّاً تامّ السند في باب الإقرار نرجع إليه في مثل المقام غير موجود، ولو سلّمنا وجوده وتعارض بالعموم من وجه مع دليل سقوط حقّ المدّعي بيمين المنكر، فهذا الدليل يقدّم على دليل الإقرار بالحكومة؛ لأنّه ناظر إلى كلّ ما يفرض - بغضّ النظر عن اليمين - من حقّ للمدّعي بمافيه حق نفوذ إقرار المنكر.
والعمدة في إثبات جواز أخذ المدّعي لحقّه بعد إقرار المنكر رغم اليمين ماعرفته من الوجهين الأوّلين من الوجوه الثلاثة التي ذكرناها.
هذا إذا أقرّ المنكر، واستعدّ لتقديم المال إلى المدّعي، أمّا لو أقرّ المنكر من دون استعداده لتقديم العين التي أقرّبها، كما لو كان إقراره بعنوان التحدّي؛ كأن يقول له: إنّ المال مالك، ولكنّي استطعت أن أغصبه منك وأتغلّب عليك في المحكمة باليمين، فهل يجوز للمدّعي أن يأخذ منه المال قهراً، أوْلا؟
الظاهر التفصيل بين ما إذا وقع ذلك في غياب القاضي، وما إذا وقع بمسمع من القاضي صدفةً، ففي الأوّل لايجوز للمدّعي أخذ ماله قهراً على المنكر، إذ لا يأتي فيه شيء من الوجوه الثلاثة التي ذكرناها، أمّا حديث أبي سيّار فواضح؛ إذ مورده فرض التوبة، وأمّا الثاني فلأنّه لم ينته الأمر إلى أن هذا يسلّم المال والآخر يجب عليه الرفض الذي قلنا: إنّه خلاف الارتكاز، وأمّا الأوّل فلأنّ التخاصم والتكاذب في قاموس القضاء لم ينته.
وفي الثاني وهو ما إذا وقع الإقرار بمسمع من القاضي صدفةً، فالتخاصم
', '', 665), (14, 666, 'book', 'والتكاذب في قاموس القضاء قد انتهى بذلك؛ لأنّ القاضي بنفسه سمع نفي التكذيب من المنكر، فينتقض حكمه، ويُلزِمُه بردّ المال عملا بقاعدة نفوذ الإقرار، ويتمّ في المقام الوجه الأوّل من الوجوه الثلاثة دون الوجهين الآخرين.
هذا تمام الكلام في يمين المنكر الذي به يحكم الحاكم لصالحه.
أما لو رفض المنكر اليمين، فإمّا أن يردّها على المدّعي، أو ينكل عن اليمين من دون ردّها عليه.
 $
ردّ اليمين على المدّعي:
أمّا لو ردّ اليمين على المدّعي فلا إشكال في أنّ المدّعي يحلف ويأخذ الحقّ، أوينكل فيكون الحقّ للمنكر. وتدلّ على ذلك الروايات من قبيل:
1 - ما عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - عن أحدهما (عليهما السلام) في الرجل يدّعي ولابيّنة له قال: «يستحلفه، فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له»(1).
2 - وما عن جميل - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا أقام المدّعي البيّنة فليس عليه يمين، وإن لم يقم البيّنة فردّ عليه الذيادّعى عليه اليمين فأبى فلا حقّ له»(2).
 $
 $
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 7 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 176.
(2) نفس المصدر، ح 6، ص 177.
', 666), (14, 667, 'book', '
 $
نكول المنكر لليمين:
وأمّا لو نكل فلم يحلف، ولم يردّ اليمين إلى المدّعي، ففيه قولان:
القول الأوّل - أنّ الحاكم يحكم لصالح المدّعي بمجرّد نكول المنكر بلا حاجة إلى تحليف المدّعي، ويشهد لذلك بعض الروايات وهي:
1 - ما عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه قال: «قلت للشيخ خبّرني عن الرجل يدّعي قِبلَ الرجل الحقَّ فلم تكن له بيّنة بماله، قال: فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حقّ له، وإن لم يحلف فعليه - إلى أن قال -: فإن ادّعى بلا بيّنة (يعنيعلى الميّت) فلا حقّ له؛ لأنّ المدّعى عليه ليس بحىّ، ولو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه ...»(1).
ومحلّ الشاهد من الحديث فقرتان:
الأُولى - قوله: «وإن لم يحلف فعليه»، إلّا أنّ هذا إنّما ورد في نسخة الكافي(2)والتهذيب(3)، ولكن في الفقيه(4) بدلا عن قوله «وإن لم يحلف فعليه» جاء: «وإن ردّ اليمين على المدّعى، فلم يحلف، فلا حقّ له». واختلاف النسخ يسقط الاستدلال.
والثانية - قوله: «ولو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه»، فقد يقال: إنّ هذا قد جعل القسيم ليمين المنكر وردّه لليمين على المدّعي ثبوت الحقّ على المنكر،
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 4 من كيفيّة الحكم، الحديث الوحيد في الباب ص 173
(2) ج 7، كتاب القضاء، باب من ادّعى على الميّت، الحديث الوحيد في الباب، ص 416.
(3) ج 6، ح 555، ص 229.
(4) ج 3، ح 128، ص 38.
', 667), (14, 668, 'book', '
وهذا يعني أنّه لو لم يحلف ولم يردّ الحلف على المدّعي ثبت الحقّ عليه.
إلّا أنّ هذا فرع قراءة قوله: «يردّ اليمين» بصيغة المعلوم، وهذا غير ثابت، فلو قرىء بصيغة المجهول لم يعرف أنّ الرادّ هو المنكر، فلعلّه الحاكم، ولعلّ قوله: «أو الحقّ» يقصد به فرض اعترافه بالحقّ للمدّعي. وعلى أيّ حال فسند الحديث ضعيف بياسين الضرير.
2 - ما عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الأخرس كيف يحلف إذا ادّعي عليه دين وأنكر، ولم يكن للمدّعي البيّنة؟ فقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) اُتيَ بأخرس فادُّعي عليه دين، ولم يكن للمدّعي بيّنة ...» إلى أن قال: «ثمّ كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) واللّه الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضارّ النافع المهلك المدرك الذي يعلم السرّ والعلانية أنّ فلان بن فلان المدّعي ليس له قبل فلان بن فلان - أعني الأخرس - حقّ ولاطلبة بوجه من الوجوه، ولابسبب من الأسباب، ثمّ غسله، وأمر الأخرس أن يشربه، فامتنع، فألزمه الدين»(1).
ووجه الاستدلال بالحديث دعوى أنّ سكوت الحديث عن تحليف المدّعي يدلّ على أنّ الإمام (عليه السلام) حكم على المنكر من دون تحليف المدّعي، وذلك بالنكول.
ويرد عليه: أوّلا - أنّ المنكر لئن كان نكوله من دون ردّ كافياً في الحكم عليه فلا أقلّ من أنّ من حقّه ردّ اليمين على المدّعي، كما هو صريح ما مضى من بعض الروايات، وليس المفروض بالقاضي - وخاصّة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) - أن يُغفِله، ويحكم عليه من دون إلفاته إلى ماله من حقّ الردّ، ولم يكن هذا الاخرس - على الأكثر - إنساناً مطّلعاً على دقائق باب القضاء، فكان المفروض تنبيهه على
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 33 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 222.
', 668), (14, 669, 'book', '
حقّه؛ إذن توجد في القصّة حلقة محذوفة في المقام، لانعرف هل هي عبارة عن أنّه «حُلّف المدّعي، فلم يحلف»، أو عبارة عن «أنّ المنكر امتنع من ردّ الحلف على المدّعي» وتعيين الثاني في قبال الاوّل ترجيح بلا مرجّح، فالرواية تصبح مجملة.
وثانياً - أنّ السؤال في الرواية وقع عن كيفيّة تحليف الأخرس، والجواب جواب على ذلك، فليس في مقام البيان من ناحية حكم آخر وهو أنّ لو نكل، ولم يقبل بالحلف ولابالردّ، فهل يحكم عليه بسبب النكول، أوْلا؟ فالسكوت عن مسألة تحليف المدّعي لايدلّ على شيء.
3 - ما عن عبيد بن زرارة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في الرجل يُدّعى عليه الحقّ ولابيّنة للمدّعي، قال: «يستحلف، أو يردّ اليمين على صاحب الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له»(1) بناءً على دعوى الاطمئنان بأنّ كلمة (يردّ) مبنىّ للفاعل، وذلك بقرينة سياق الكلام؛ لأنّ السؤال في الرواية وقع عن المدّعى عليه لا عن المدّعي، فيكون مرجع الضمير في قوله: «فإن لم يفعل فلا حقّ له» هو المدّعى عليه. وسند الحديث ضعيف بالقاسم بن سليمان الذي لا دليل على وثاقته عدا وقوعه في أسانيد تفسير القمّي وكامل الزيارات.
والسيد الخوئي بناءً على إيمانه بوثاقة من وقع في أسانيد تفسير القمّي أو كامل الزيارات بنى على تماميّة الحديث سنداً، ولكنّه أسقط الحديث بالمعارضة مع ما ورد عن هشام - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «تردّ اليمين على المدّعي»(2)، فهذا يقتضي بإطلاقه أنّ اليمين تردّ على المدّعي سواء ردّها المنكر عليه أو نكل، وذاك يقتضي بإطلاقه أن المنكر إن لم يحلف، ولم يردّ اليمين على صاحب الحقّ فلا حقّ
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 7 من كيفيّة الحكم، ح 2، ص 176.
(2) نفس المصدر،ح 3.
', 669), (14, 670, 'book', '
له، سواء حلف المدّعي أوْلا، ويتساقطان بالتعارض.
أقول: إنّ حديث عبيد بن زرارة لو تمّ سنداً ودلالة تقدّم على حديث هشام؛ لأنّ حديث هشام قابل للتقييد بحديث عبيد بن زرارة بخلاف العكس، فإنّ تقييد حديث عبيد بن زرارة يعني أنّه إن امتنع المنكر عن اليمين والردّ، فلا حقّ له بشرط أن يحلف المدّعي، وهذا - كما ترى - يعني إسقاط العنوان المأخوذ في الحديث، وهو امتناع المنكر عن اليمين والردّ عن الأثر لاتقييده، فإنّ حلف المدّعي كاف في سقوط حقّ المنكر حتى في فرض ردّ المنكر لليمين عليه، فالأثر استند إلى حلف المدّعي لانكول المنكر، وهذا خلاف قانون التقييد.
وقد يخطر بالبال الاستدلال على كفاية نكول المنكر للحكم عليه بما مضى في حديث محمد بن مسلم من قوله:
«فإن ردّ اليمين على صاحب الحقّ، فلم يحلف، فلا حقّ له»، ومامضى في حديث جميل من قوله: «وإن لم يقم البيّنة، فرّد عليه الذي ادّعى عليه اليمين، فأبى، حقّ له»، وذلك تمسّكاً بمفهوم الشرط؛ حيث أخذ قيد الردّ في شرط الحكم بنفي الحقّ للمدّعي، ومفهومه أنّه لدى نكول المنكر عن اليمين والردّ يثبت الحقّ للمدّعي.
وفيه: أنّه لاأقلَّ من احتمال أنَّ الشرط كان هو نكول المدّعي، وأنّ ردّ اليمين كان موضوعاً للقضيَّة الشرطيّة، وكان ذكره تمهيداً لذكر قبول اليمين، أو النكول عنها من قبل المدّعي، فيكون معنى الحديث: أنّه في حالة ردّ المنكر لليمين على المدّعي لو لم يحلف المدّعي، فلا حقّ له، ولو حلف أخذ الحقّ.
وقد يستدلّ أيضاً على كفاية نكول المنكر للحكم في صالح المدّعي بما ورد من «أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من ادّعي عليه» بدعوى أنّ التفصيل قاطع للشركة، وأنّ هذا دلّ على حصر من عليه اليمين بالمنكر، فالمدّعي ليس عليه الحلف خرج من ذلك فرض ردّ اليمين من قبل المنكر، أمّا فرض عدم ردّه فهو باق تحت
', '', 670), (14, 671, 'book', 'الإطلاق، وعدم توجّه الحلف إلى المدّعي يعني أنّ الحكم لصالحه سيكون بدون تحليفه، وهو معنى كفاية نكول المنكر في الحكم لصالح المدّعي.
إلّا أنّ هذا قابل للنقاش، فإنّ الظاهر أو المحتمل من قوله (صلى الله عليه وآله): «البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر» هو بيان ما على كلّ واحد منهما بالطبع الأوّلي مع السكوت عمّا هي الوظيفة بعد النكول.
وبالإمكان أيضاً أن يستدل على كفاية نكول المنكر في الحكم عليه بأنّه لو لم يكفِ ذلك للحكم عليه لكان معنى ذلك أنّه يجوز للحاكم ردّ اليمين على المدّعي، فالمهمّ هو الردّ، أمّا خصوصيّة كون الردّ بطلب من المنكر فلا أثرلها في الحكم، وهذا خلاف ظاهر أخذ قيد ردّ المدّعى عليه في الموضوع في روايتي محمّد بن مسلم وجميل.
والجواب: أنّ ذكر هذا قد يكون وارداً مورد الغالب، باعتبار أنّ المنكر إذا امتنع عن التحليف فسيردّ عادة الحلف على المدّعي، فإن ردّ الحلف على المدّعي أصلح له من الحكم للمدّعي من دون تحليفه؛ إذ مع تحليفه يحتمل نكول المدّعي الذي هو في صالح المنكر.
القول الثاني - أن نكول المنكر يوجب توجيه الحاكم لليمين إلى المدّعي، فإن حلف أخذ الحقّ، وإلّا حكم لصالح المنكر، ولايحكم لصالح المدّعي بمجرد نكول المنكر، ويمكن الاستدلال على ذلك بأُمور:
الأوّل - إطلاق ما مضى من حديث هشام: «تردّ اليمين على المدّعي»(1).
الثاني - ما جاء في مباني تكملة المنهاج(2) من الاستدلال بروايات أنّ
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 7 من كيفيّة الحكم، ح 3، ص 176.
(2) ج 1، ص 16.
', 671), (14, 672, 'book', '
القضاء إنّما يكون بالبيّنات والأيمان، وهذا يعني بإطلاقه أنّه لو لم يحلف المنكر ولم يمتلك المدّعي البيّنة وصلت النوبة إلى يمين المدّعي.
ويمكن الإيراد على ذلك:
أوّلا - بأنّ روايات القضاء بالبيّنة والأيمان قد فسّرت بروايات البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، فلنفرض أنّ قوله (صلى الله عليه وآله): «البيّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر»لم يدلّ على كفاية نكول المنكر في الحكم للمدّعي بلاحاجة إلى يمينه، لكنّه قد دلّ على أنّ البيِّنات والأيمان - المذكورتين في روايات القضاء بالبيّنة والأيمان - اُولاهما على المدّعي، والثانية على المنكر، فإثبات اليمين على المدعي بعد نكول المنكر بروايات القضاء بالبيّنة واليمين والأيمان في غير محلّة.
إلّا أنّ هذا الإيراد يتوقف على أن تكون روايات البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ناظرة إلى تفسير روايات القضاء بالبيّنة والأيمان، أو دالّة على حصر اليمين بالمنكر من باب أنّ التفصيل قاطع للشركة، أمّا لو لم تقبل النظر ولم تقبل الدلالة على الحصر بلحاظ ما بعد النكول - كما مضى - ففي ما بعد النكول نعود مرّة أُخرى إلى إطلاق قوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان».
وعلى أىّ حال فهذا الإيراد من الواضح عدم وروده على مثل رواية سليمان بن خالد عن الصادق (عليه السلام) عن علىّ (عليه السلام): «أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟ قال: فأوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1). فإن هذا ظاهر في النظر إلى المدّعي الذي لايمتلك البيّنة.
وثانياً - بأنّ روايات القضاء بالبيّنة والأيمان لاتدلّ على حصر وسائل
', '(1) الوسائل، ج 18،باب 1 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 167.
', 672), (14, 673, 'book', '
القضاء بشكل مطلق بالبيّنة واليمين؛ بحيث يكون القضاء بالقرعة أو بقاعدة العدل والإنصاف أو نحو ذلك تخصيصاً لها، وإنّما المفهوم منها عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع أنّ القاضي لا يتجاوز هاتين الوسيلتين إلى غير هما في عرضهما، أمّا لو انتفت الوسيلتان فليس المفهوم عرفاً من هذه الروايات إيقاف القضاء، وفيما نحن فيه قد انتفت البيّنة لعدم امتلاك المدّعي للبيّنة، وانتفت اليمين بنكول المنكر، فإذا حكم القاضي بالنكول لصالح المدّعي لم يكن تخصيصاً لروايات القضاء بالبيّنات والأيمان.
ويمكن الجواب على ذلك بأنّ اليمين لم تنتف بعدُ، لإمكان عرضها على المدّعي.
وعلى أىّ حال فمن الواضح عدم ورود هذا الإشكال أيضاً على مثل ما عرفته من رواية سليمان بن خالد الناظرة إلى يمين المدّعي عند عدم وجدانه للبيّنة.
وثالثاً - بأنّ الحكم بمجرّد نكول المنكر لاينا في قاعدة كون القضاء بالبيّنات والأيمان، فإنّ هذا أيضاً قضاء باليمين؛ لأنّ القاضي قد وجّه اليمين إلى المنكر حسب الفرض، ولكنّه نكل عن اليمين، فالقضاء بالنكول قضاء باليمين نكولا.
إلّا أنّ الواقع أنّ هذا خلاف الظاهر، فإنّ ظاهر القضاء باليمين هو القضاء استناداً إلى ذات اليمين لاالنكول عنها.
الثالث - ما جاء أيضاً في مباني تكملة المنهاج(1) من أنّ الأصل يقتضي عدم جواز الحكم بمجرّد النكول.
ويمكن أن يورد على ذلك بأنّ المدّعي لو حلف بعد نكول المنكر فلا إشكال في أنّ الحقّ للمدّعي: إمّا بنكول المنكر، أو بحلف المدّعي، أمّا لو نكل هو أيضاً فقد دار الأمر بين الحكم بنكول المنكر والحكم بنكول المدّعي،والروايات الدالّة على الحكم بنكول المدّعي إنّما كانت واردة في ردّ اليمين من قبل المنكر على المدّعي، والمفروض
', '(1) ج 1، ص 16 و 17.
', 673), (14, 674, 'book', '
الآن عدم الردّ من قبله، فإذا كان الحكم بنكول المنكر هنا خلاف الأصل فالحكم بنكول المدّعي أيضاً خلاف الأصل.
ولكن من المحتمل أن يكون مقصود السيّد الخوئي بالأصل فيما يفترضه من أنّ الحكم بنكول المنكر خلاف الأصل هو الأصل الذي يكون دائماً في جانب المنكر، حيث إنّ المنكر هو من وافق قوله الأصل فكأنّه يقول: إنّ الأصل الذي هو في جانب المنكر حجّة للحاكم، وإنّما سقط عن الحجّيّة يقيناً حينما توجد للمدّعي البيّنة، أو حلف المدّعي، أمّا إذا نكل المدّعي والمنكر معاً فلا دليل على سقوط أصل المنكر عن الحجّيّة، فيحكم الحاكم اعتماداً على أصل المنكر، وهذا يعني أنّ مجرد نكول لايكفي للحكم ضدّه، بل لابدّ من توجيه الحاكم للحلف إلى المدّعي.
وبعبارة أُخرى يمكن أن يكون المقصود بالأصل هو أصالة عدم نفوذ حكم الحاكم بمجرد نكول المنكر، ولاتعارض بأصالة عدم نفوذ حكم الحاكم بنكول المدّعي بعد نكول المنكر؛ لأنّ كون الأصل الذي هو في جانب المنكر دليلا على حقانيّة كلامه منضمّاً إلى ما دلّ على القضاء بالحقّ، يكون كاسراً لأصالة عدم نفوذ حكم الحاكم .
وقد اتّضح بمجموع ما ذكرناه أنّ الأقوى أنّ نكول المدّعي لايكفي للحكم عليه، بل يردّ الحاكم اليمين على المدّعي، فإن حلف أخذ الحقّ، وإلّا ثبت الحقّ للمنكر.
وهذا لا يعني ما ينافي بحثنا السابق حيث أثبتنا هناك أنّ الحاكم لا يستبدّ بالتحليف، وإنّما التحْليف يكون بموافقة من هو المحروم فعلا من الحقّ المتنازع عليه، فنحن مازلنا على هذا الكلام، فلو أنّ المنكر كان هو المحروم فعلا من الحقّ المتنازع فيه، فأراد أن لا يحلف ولا يردّ الحلف، بل يؤجّل الدعوى من دون أن يأخذ الحقّ من المدّعي، كان له ذلك، أمّا لو ما يكن هو المحروم من الحقّ المتنازع فيه أو لم
', '', 674), (14, 675, 'book', 'يوافق على التأجيل وقد نكل عن الحلف، فهنا يردّ الحاكم اليمين على المدّعي.
ولو رُدّ اليمينُ على المدّعي فحلف ثمّ أقام المنكر البيّنة، فبناء على رأينا من أنّ المنكر لا يكتفي بالبيّنة، من الواضح أنّ الحكم سوف يكون وفقاً ليمين المدّعي، أمّا بناء على أنّ بيّنة المنكر كبيّنة المدّعي تكفي للحكم على طبقها قديقال: إنّ بيّنة المنكر تُلغي يمين المدّعي؛ لأنّها تثبت الحقّ، والحاكم يجب أن يحكم بالحقّ، والمتفاهم عرفاً بمناسبات الحكم والموضوع أنَّ اليمين إنّما جعل على المدّعي بعد العجز عمّا يثبت الحقّ.
وقد يقال: إنّ الحكم سيكون وفق يمين المدّعي لا بيّنة المنكر، إمّا بدعوى أنّ المفهوم عرفاً من دليل ردّ اليمين على المدّعي هو ردّ يمين المنكر بكلّ خصائصها عليه، ومن خصائصها إسقاط حقّ الخصم بحيث ليست له بعد ذلك إقامة البيّنة، وإمّا بدعوى أنَّ دليل حجّيّة البيّنة لا إطلاق له إلّا بمعونة الارتكاز العرفي، ولئن سلّمنا موافقة الارتكاز العرفي لسماع البيّنة من المنكر لا نسلّم بها بعد تحليف المدّعي.
ثمّ إنّ المنكر لو ردّ اليمين أو نكل، ثمّ بذل اليمين قبل حلف المدّعي، حكم الحاكم وفق يمينه لشمول إطلاقات أدلّة يمين المنكر لذلك.
 $
عدم تمكّن المدّعي من الحلف:
بقي الكلام في أنّه لو لم يمكن للمدّعي الحلف فماذا سيكون حكم الردّ عليه؟
وقد ذُكر لذلك تصويران:
الأوّل - أن يكون المدّعي غير جازم بالدعوى، كما لو قلنا بجواز رفع الدعوى رغم عدم الجزم.
والثاني - أن يكون المدّعي مدّعياً لغيره كوليّ اليتيم الذي يدّعي مالا لليتيم؛ حيث قد يقال: لا ينفذ حلفه بشأن اليتيم، وإنَّ حَلْفَ كلِّ شخص إنّما ينفذ بشأنه هو
', '', 675), (14, 676, 'book', 'دون غيره. فقد يقال: إنّ المنكر يتخيّر هنا بين الحلف والنكول لعدم إمكان الردّ.
وقد يقال: إنّ للمنكر الردّ تمسّكاً بإطلاق دليل ردّ الحلف على المدّعي وإن كان المدّعي مجبوراً على النكول، فبالتالي يثبت الحقّ للمنكر.
وقد يقال في الفرع الثاني: إنّ كون المال لغيره لا يمنع عن الحلف ما دام جازماً.
وقد يقال ردّاً على الكلام الثاني: إنّ دليل الردّ منصرف إلى فرض إمكان تقبُّل الردّ من قبل المدّعي بأن يحلف هو، والمفروض في المقام أنّه لا يستطيع الحلف، فليس المورد مشمولا لدليل الردّ.
وتحقيق الحال: تارةً يقع في الفرع الأوّل، وأُخرى في الفرع الثاني:
أمّا الفرع الأوّل - وهو فرض عدم الجزم بالدعوى فالمرافعة مع عدم الجزم بالدعوى تكون بأحد وجوه ثلاثة:
1 - في باب الاتّهام بالقتل، والقضاء في ذلك له نظامه الخاصّ مضى بحثه فيما سبق، وتبيّن أنّه لو لم يمتلكا البيّنة ولا قسامة خمسين بَرِئت ساحة المتّهم.
2 - فيما إذا كانت القضيّة مشكوكة للطرفين، كما في الولد المردّد بين شخصين واقعا امرأة في طُهر واحد، أو في المال الذي أوصى الميّت به لأحدهما ولم يُعرف لأيّهما أوصى، ونحو ذلك، وقد مضى البحث في هذا، وأنّه متى تصل النوبة إلى القرعة؟ ومتى تصل النوبة إلى قاعدة العدل والإنصاف؟ وأنّ هذا ليس من باب المدّعي والمنكر أو التداعي بالمعنى المألوف، ولا موضوع هنا لردّ اليمين على المنكر.
3 - في رفع الدعوى بالمعنى المتعارف بغير الاتّهام بالقتل. والصحيح عدم إمكانيّة رفع الدعوى؛ لأنّ الأصل الذي يكون إلى جانب المنكر يكون حجّة على المدّعي الذي لا يمتلك البيّنة، أمّا لو امتلك بيّنة لم يمكنه إحضارها، فعلية دعوى الملكيّة الظاهريّة، وهو جازم بالدعوى وبإمكانه الحلف عليها.
$
', '', 676), (14, 677, 'book', 'والحاصل أنّه مع ثبوت نقيض الدعوى شرعاً على المدّعي باعترافه بعدم الجزم لا دليل على صحّة إقامة الدعوى ونفوذ القضاء.
ولو تنزّلنا عن ذلك ورفع الدعوى إلى القاضي بلا جزم ولا بيّنة، جاز للمنكر ردّ اليمين عليه؛ لأنّ عدم قدرته على الحلف لا علاقة له بوظيفة المنكر، ومقتضى إطلاق دليل الردّ أنّ له الردّ، ولو ردّ لاضطرّ المدّعي إلى النكول وحكم الحاكم لصالح المنكر.
وأمّا الفرع الثاني - وهو ما لو ادّعى للغير الغائب أو الميّت أو الصغير مثلا، فلا يبعد أن يقال بالتفصيل بين ما إذا كان وليّاً على المدّعى له وما إذا لم يكن وليّاً عليه، ففي الثاني لا يعتبر هذا مدّعياً وإنّما يعتبر شاهداً للغير، فلو ضمّ إليه شاهد آخر حكم القاضي للمدّعى له بسبب البيّنة - لو قلنا بحجّيّتها في مقابل أصل المنكر أو يده رغم عدم وجودمدّعفي المقام، كما لا تبعد مساعدة الارتكاز العقلائي على ذلك - ولو لم يضمّ إليه شاهد آخر فلا مبرّر لتحليف المنكر أصلا لعدم وجود مدّع في المقام.
وفي الأوّل يعتبر هذا مدّعياً بالولاية، وبإمكانه الحلف لو ردّ اليمين عليه؛ لأنّه جازم بدعواه.
 $
رفع الدعوى من قبل الصبي المميّز:
وبهذه المناسبة لا بأس بأن نتعرّض لمسألة ما إذا كان الصبيّ مميّزاً، وتبنّى هورفع الدعوى لا وليّه، فلو أقام بيّنة نفذت وإن كان أحد فرديها هو الوليّ، وإلّا فلو حلف المنكر نفذ حلفه، وإن ردّ عليه الحلف وكان الحقّ المتنازع فيه في يد المنكر، أُجّلت الدعوى إلى حين البلوغ كي تكون يمينه شرعيّة، أو تبنّى الوليّ الدعوى كي
', '', 677), (14, 678, 'book', 'يستطيع الحلف، وإن كان الحقّ المتنازع فيه في يد الطفل تبنّى الوليّ الدعوى، أو يسلّم الحقّ موقّتاً إلى المنكر إلى أن يبلغ الطفل، ولو لم يسلّمه الطفل أجبره الوليّ على ذلك، ولو لم يوافق الوليّ على إجبار الطفل ولا على تبنّي الدعوى، أعمل السلطان ولا يته في أخذ الحقّ وتسليمه موقّتاً إلى المنكر.
 $
سكوت المنكر عن أصل الإنكار:
وفي ختام البحث عن كيفيّة دوران اليمين بين المدّعي والمنكر لا بأسبالتعرض لمسألة فرض سكوت المنكر عن أصل الإنكار فضلا عن اليمين، وإنّ بقي - عملا - كالمنكر باعتبار عدم استسلامه عملا لدعوى المدّعي، فهل ترجع اليمين عندئذ إلى المدّعي أوْلا؟
مثاله: ما لو ادّعى زيد على عمرو أنّ له عليه ديناً قد أقرضه إيّاه، فكان موقف عمرو هو السكوت المطلق، فقد يقال بإجباره على الجواب، فإن عاند يسجن إلى أن يجيب ويكسر السكوت، وقد يقال بضربه تعزيراً؛ لأنّ الجواب واجب عليه، وخير ما يمكن أن يكون دليلا على شيء من هذا القبيل ما جاء في حديث عبدالرحمان بن أبي عبداللّه: «... ولو كان حيّاً لاُلزم اليمين، أو الحقّ، أو يردّ اليمين إليه»(1). بدعوى أنّ هذا يدلّ على أنّه يجب على المنكر أحد الأُمور الثلاثة: اليمين، أو الاستسلام للحقّ الذي يدعيه المدّعي، أو ردّ اليمين إلى المدّعي. والسكوت يعني مخالفة هذا الجواب، فيجبر على كسر السكوت، أو يضرب تعزيراً مثلا. إلّا أنّ هذا ضعيف سنداً بياسين الضرير، وغير تامّ دلالة أيضاً؛ إذ من المحتمل كون صيغة
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 4 من كيفيّة الحكم، الحديث الوحيد في الباب، ص 173.
', 678), (14, 679, 'book', '
(يردّ) مبنية للمفعول، أي تردّ اليمين إلى المدّعي ولو من قبل الحاكم، وعندئذ فالحديث لم يدلّ على وجوب الجامع بين الأُمور الثلاثة على المنكر. وبعد تسليم كون (يردّ) بصيغة المبنيّ للفاعل نقول: من المحتمل كون المقصود بقوله: «الحقّ» أنّ الحاكم يحكم - على تقدير نكوله عن اليمين بلا ردّ - بكون الحقّ للمدّعي، لا أنّ المنكر هو يستسلم للحقّ، فأيضاً لم يدلّ الحديث على وجوب الجامع بين الأُمور الثلاثة عليه.
والحاصل أنّه لا دليل على وجوب الجواب على المنكر، وكون سكوته حراماً يجبر على كسره بحبس أو بضرب أو غير ذلك.
نعم قد يقال: إنّ إصراره على السكوت يجعله بحكم الناكل، فيلتحق في الحكم بالبحث الماضي، وذلك لأنّ الذي نكل عن اليمين فحسب لئن حكم عليه بإعطاء الحقّ للمدّعي أو بتوجيه الحلف من قبل الحاكم إلى المدّعي، فهذا الذي سكت عن أصل الجواب وعن الحلف يكون أولى بذلك.
وقد يقال في مقابل هذا الكلام: إنّ الأولويّة ممنوعة مادمنا نحتمل أنّه لو تكلّم لخرج عن كونه منكراً، وأصبح مدّعياً لا يمين عليه، كما لو ادّعى عليه زيد: أنّه مدين له بكذا بإقراضه إيّاه، فسكت المدّعى عليه؛ لأنّه كان يعتقد أداءه للدين، فرأى أنّه لو أنكر أصل الدين كان كاذباً، ولو أجاب بدعوى الأداء أصبح مدّعياً، فاختار السكوت، فمع احتمال من هذا القبيل كيف نفترض أنّه أولى من الناكل في حكم النكول؟ !
وبالإمكان أن يقال: إنّنا إمّا أن نبني في باب النكول على الحكم على المنكر بمجرد النكول من دون تحليف الحاكم للمدّعي، أو نبني فيه على تحليف الحاكم للمدّعي:
فإن بنينا على الحكم على المنكر بمجرد النكول؛ لبعض الأدلّة الواردة في باب
', '', 679), (14, 680, 'book', 'النكول التي مضى الكلام عنها، فقياس المقام بباب النكول قياس مع الفارق، ولا أولويّة في المقام؛ لما عرفت من احتمال كون كلامه - لو تكلّم - موجباً لانقلابه إلى المدّعي. إذن فالمرجع هو رواية «أضفهم إلى اسمي»(1)، وبه يثبت أنّ الوظيفة في المورد هي تحليف المدّعي.
نعم، لو فرض عدم تطرّق احتمال كون التكلمّ سيحوّله إلى المدّعي، فلا بأس بإلحاقه بالناكل بدعوى أنّ الساكت إن لم يكن عرفاً بأولى من الناكل في الحكم عليه فلا أقلّ من المساواة.
وإن بنينا على أنّ الحكم في نكول المنكر هو ردّ الحاكم لليمين على المدّعي، فالظاهر أنّ نفس الحكم يثبت في المقام؛ لأنّ أكثر أدلّه ردّ الحاكم لليمين - لدى نكول المنكر - على المدّعي تشمل المورد أيضاً وتدلّ على ردّ اليمين فيه إلى المدّعي، فإنّ عمدة أدلّة ردّ اليمين لدى نكول المنكر ما يلي:
1 - رواية تردّ اليمين على المدّعي(2).
2 - رواية «أضفهم إلى اسمي»(3).
3 - كون الأصل مع المنكر، فالحكم عليه قبل يمين المدّعي خلاف الأصل.
والوجه الثاني والثالث يشملان المورد - كما هو واضح -، والوجه الأوّل أيضاً قد يقال بشمول إطلاقه للمقام وإن كان بالإمكان المناقشة في إطلاقه باعتبار أنّ قوله: «تردّ اليمين إلى المدّعي» يشتمل على محذوف، أي تردّ اليمين على المدّعي في الحالات الفلانيّة، وافتراض أنّ من تلك الحالات فرض سكوت المنكر عن أصل
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 1 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 167.
(2) الوسائل، ج 18، باب 7 من كيفيّة الحكم، ح 3، ص 176.
(3) الوسائل، ج 18، باب 1 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 167.
', 680), (14, 681, 'book', '
الجواب غير واضح؛ لأنّ حذف المتعلّق لا يفيد العموم في فرض وجود مناسبة لانصرافه إلى غير المورد المطلوب، وندرة فرض السكوت كافية لمناسبة من هذا القبيل.
والتحقيق أن يقال: إنّ احتمال تحولّ الساكت إلى المدّعي في نفس النزاع لو نطق غير وارد إطلاقاً، وإنّما الوارد هو احتمال تحوّله إلى المقرّ، واحتمال بقائه منكراً، وتوضيح ذلك: إنّ المدّعي حينما ادّعى عليه الدين كانت دعواه منحلّة في الحقيقة إلى دعويين: الأُولى - دعوى الإقراض - مثلا -. و الثانية - دعوى عدم الأداء. وصاحبه لو أنكر الإقراض لم تصل النوبة إلى البحث عن الأداء: وكان الأوّل مدّعياً والثاني منكراً. ولو أقرّ بالإقراض وادّعى الأداء انتهى النزاع الأوّل، وتركّز النزاع على مسألة الأداء وعدمه، فالأوّل منكر والثاني مدّع، ولو سكت نهائيّاً عن الكلام فعلى الحاكم أن يصفّي أوّلا حساب الإقراض، فان ثبت لديه الإقراض وصلت النوبة إلى تصفية حساب الأداء، وإلّا فلا موضوع للنزاع الثاني، وهذا الساكت بالنسبة للدعوى الأُولى يستحيل تحويله - لو نطق - إلى المدّعي، بل إمّا سيكون منكراً، أو مقرّاً، فصحّ القول بأنّ الساكت كالناكل أو أشدّ، فإن قلنا في الناكل بالحكم عليه من دون تحليف المدّعي قلنا به هنا أيضاً، وإن قلنا بتحليف المدّعي قلنا به هنا أيضاً. هذا لو آمنّا بانحلال دعوى الدين إلى دعوى سبب الدين ودعوى عدم الأداء، أو صرّح المدّعي بالسبب وبعدم الأداء. أمّا لو لم يصرّح بذلك، ولم نقل بالانحلال، فهنا دعوى المدّعي عبارة عن كون المدّعى عليه مديناً له، والمدّعى عليه أيضاً سوف لن يتحوّل بالإجابة على نصّ الدعوى إلى المدّعي، بل إمّا أن يقرّ بالدين أو ينكره، وإنّما يتحوّل إلى المدّعي لو فصّل بأكثر من نصّ الدعوى، فقال: كنت مديناً له ثمّ وفّيت، وهذا أيضاً يعني في الحقيقة تحوّل النزاع من كونه نزاعاً على الدين إلى نزاع جديد، وهو النزاع على الوفاء، لا تحوّلا للمنكر إلى المدّعي في نفس
', '', 681), (14, 682, 'book', 'النزاع الأوّل. إذن فسكوته في النزاع الأوّل كالنكول أو أشدّ؛ إذ كان عليه على تقدير الإجابة أن يقرّ أو ينكر، ويحلف على الإنكار.
وكلّ ما ذكرناه حتى الآن كان في فرض ما إذا لم يكن ظهور عمل الساكت - كإبائه عن أداء الدين مثلا - دالّا عرفاً على إنكاره لما ادّعاه الخصم، وإلّا كان هذا مصداقاً حقيقيّاً للناكل، وَلَحِقَهُ حكمُه بوضوح.
وقد يفترض أنّ المدّعى عليه يصرّح بالإنكار، أو يدلّ ظهور عمله على الإنكار، لكن لم يكن ذلك إنكاراً لما ادّعى عليه المدّعي من إقراضه إيّاه مثلا، وإنّما كان إنكاراً للنتيجة وهي كونه مديناً له، كما لو خشي المدّعى عليه أنّه لو تكلّم حول الإقراض لتحوّل إلى رجل كاذب فيما لو أنكر الإقراض، أو الى المدّعي في النزاع الثاني فيما لو اعترف بالإقراض وادّعى أداء الدين، فرأى أن يقتصر على مجرّد إنكار كونه مديناً له، فهل يلحق هذا بالساكت. لأنّه سكت عن دعوى الإقراض، أو يعتبر منكراً؛ لأنّه أنكر كونه مديناً؟ الظاهر هو الأوّل؛ لأنّ النزاع - كما عرفت - يدور أوّلا حول الإقراض، فلو ثبت الإقراض دار النزاع حول الأداء، وهو بالنسبة للنزاع الأوّل ساكت، وقد عرفت أنّ الساكت حكمه حكم الناكل.
وأمّا لو قال: إنّني غير عالم بالإقراض، وإنّما أنا عالم بأنّي لست مديناً له، وهذا يعني: إمّا أنّه لم يقرضني، أو أنّي قد وفيتُ الدين، فهل يكفيه الحلف على عدم الدين، أو يدخل هذا فيما يأتي - إن شاء اللّه - من مسألة إنكار المنكر للعلم بما يدّعيه المدّعي؟ الظاهر هو الثاني؛ لما عرفت من أنّ النزاع في الأداء إنّما تصل النوبة إليه بعد فرض ثبوت القرض، فالنزاع أوّلا يتركّز على القرض وهو ينكر العلم به.
وعلى أىّ حال فنحن حتى الآن فرضنا أنّ الساكت غير الناكل، فبحثنا عن مدى إلحاق الساكت بالناكل في الحكم إمّا لكون أدّلة حكم الناكل شاملة للساكت، أو للتعدّي إليه بمثل الأولويّة، أو المساواة في الفهم العرفي.
$
', '', 682), (14, 683, 'book', 'والآن نريد أن نقول: إنّ الساكتَ الممتنع عن الحلف وعن ردّ الحلف على المدّعي ناكلٌ حقيقة، فيشمله حكمه جزماً، وذلك لأنّ أدلّة اليمين لم يرد فيها عنوان أنّ اليمين على المنكر؛ حتى يقال: إنّ الساكت ليس منكراً، فلم تثبت عليه اليمين كي يكون ناكلا، وإنّما ورد فيها: أنّ اليمين على المدعى عليه(1)، وهذا الساكت مدّعىً عليه بلا إشكال، فعليه اليمين، فإذا لم يحلف ولم يردّ اليمين كان ناكلا لامحالة، كما أنّ بعض أدلّة الحكم على الناكل بمجرّد نكوله كان قد أُخذ فيه عنوان المدّعى عليه.
 $
اليمين بين المتداعيين
البحث الثاني - كيف يدار اليمين بين المتداعيين؟
قد مضى منّا خلال بحث البيّنة في المتداعيين ذكر مواطن تحليفهما، أو تحليف أحدهما، ففي مواطن تحليفهما لامورد للبحث عن أنّه كيف يدار اليمين بينهما؛ إذ أنَّ المفروض تحليفهما معاً، وفي مواطن تحليف أحدهما الذي يعيّن بالقرعة، أو بأكثريّة عدد البيّنة التي يمتلكها يكون المفهوم عرفاً من دليل توجيه الحلف إليه أنّه بمنزلة المنكر، فيدار اليمين بينه وبين صاحبه بالنحو الذي عرفته من كيفيّة دوران اليمين بينه وبين المنكر.
 $
 $
 $
$
', '(1) راجع الوسائل، ج 18، باب 3 من كيفيّة الحكم.
', 683), (14, 684, 'book', '
 $
كيفية الإحلاف
البحث الثالث - في كيفيّة الإحلاف
ونبحث في ذلك مسائل ثلاثاً:
1 - بأىّ اسم يقع التحليف؟
2 - مدى دخول التوكيل في التحليف أو الحلف .
3 - ما هو متعلّق الحلف؟
 $
بأىّ اسم يقع التحليف؟
المسألة الأُولى: باىّ اسم يقع التحليف؟
لا خلاف - في الجملة - في أنّ التحليف في باب القضاء يجب أن يكون تحليفاً باللّه تعالى .
وقد يستدلّ على ذلك بروايات كثيرة واردة في النهي عن الحلف بغير اللّه من قبيل: ما عن علىّ بن مهزيار - بسند تامّ - قال: «قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام)قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلّى﴾، وقوله عزّ وجلّ: ﴿والنجم إذا هوى﴾، وما أشبه هذا؟ فقال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقسم من خلقه بماشاء، وليس لخلقه أن يقسموا إلّا به عزّ وجلّ»(1)
وما عن محمّد بن مسلم قال: «قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿والليل إذا يغشى﴾، ﴿والنجم إذا هوى﴾، وما أشبه ذلك؟ فقال: إنّ لله عزّ وجلّ
', '(1) الوسائل، ج 16، باب 30 من كتاب الأيمان، ح 1، ص 159.
', 684), (14, 685, 'book', '
أن يقسم من خلقه بما شاء، وليس لخلقه أن يقسموا إلّا به»(1). وغيرهما من الروايات(2).
ووجه الاستدلال بهذه الروايات هو دعوى انصراف أدلّة نفوذ اليمين في القضاء إلى اليمين المشروع و غير المحرَّم، فإذا ضممنا ذلك إلى حرمة الحلف بغير اللّه المستفادة من هذه الروايات ثبت المطلوب.
ولكن هذه الروايات معارضة بروايات أُخرى دلّت على جواز الحلف بغير اللّه من قبيل ما عن أبي جرير القمّي - بسند تامّ - قال: «قلت لأبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك قد عرفت انقطاعي إلى أبيك ثمّ إليك، ثمّ حلفت له وحقّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وحقّ فلان وفلان حتى انتهيت إليه أنّه لا يخرج ماتخبرني به إلى أحد من الناس، وسألته عن أبيه: أحىّ هو أم ميّت؟ قال: قد واللّه مات . إلى أن قال: قلت: فأنت الإمام؟ قال: نعم»(3).
و ما عن علىّ بن مهزيار - بسند تامّ - قال: «قرأت في كتاب أبي جعفر (عليه السلام)إلى داود بن القاسم: أنّي قد جئتك وحياتك»(4) وغيرهما من الروايات(5).
والجمع بينهما بحمل النواهي على عدم نفوذ الحلف في القضاء غير عرفي، خاصّةً بالنسبة لما ورد في المقايسة بين قسم اللّه وقسم مخلوقاته.
والجمع بينهما بحمل النهي على الكراهة أو فرض تعارضهما وتساقطهما يبطل
', '(1) نفس المصدر، ح 3، ص 160.
(2) راجع الوسائل، ج 16، باب 6 و 30 و 31 .
(3) الوسائل، ج 16، باب 30 من كتاب الأيمان، ح 7.
(4) نفس المصدر، ح 14، ص 163.
(5) راجع نفس الباب .
', 685), (14, 686, 'book', '
الاستدلال بروايات النهي على المقصود، كما أنّ بالإمكان إبطال دلالة روايات النهي على الحرمة أيضاً باحتمال اكتنافها بقرينة لبيّة كالمتصل توجب الحمل على الكراهة، وهي ثبوت سيرة المتشرعة وقتئذ كما في يومنا هذا على الحلف للتأكيد على الكلام في غير القضاء بغير اللّه وهذه قرينة يغفل عن ذكرها عادةً، فليس ترك ذكرها خيانة من قِبَلِ الراوي الثقة، ولانؤمن بأصالة عدم القرينة كأصل مستقل. وبهذا يبطل الاستدلال أيضاً بهذه الروايات على عدم نفوذ اليمين بغير اللّه في القضاء.
وهناك طائفة أُخرى من الروايات قد يستدلّ بها على المقصود، وهي روايات النهي عن تحليف الكتابيّين بغير اللّه من قبيل ما عن سليمان بن خالد - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا يحلف اليهودي ولا النصراني ولا المجوسي بغير اللّه؛ إنّ اللّه - عزّ وجلّ - يقول: ﴿فاحكم بينهم بما أنزل اللّه﴾(1).
وما عن الحلبي - بسند تامّ - قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن أهل الملل يُستحلفون؟ فقال: لا تحلّفوهم إلّا باللّه - عزّ و جلّ -»(2)
وما عن سماعة - بسند تامّ - قال: «سألته هل يصلح لأحد أن يحلِّف أحداً من اليهود والنصارى والمجوس بآلهتهم؟ قال: لايصلح لأحد أنّ يحلّف أحداً إلّا باللّه - عزّ وجلّ»(3).
وما عن جراح المدائني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لايحلف بغير اللّه»
', '(1) الوسائل، ج 16، باب 32 من كتاب الأيمان، ح 1، ص 164.
(2)- نفس المصدر، ح 2 و 6 و 14 على اختلاف يسير في العبارة ص 165 و 167.
(3) نفس المصدر، ح 5، ص 165.
', 686), (14, 687, 'book', '
وقال: «اليهودي والنصراني والمجوسي لا تحلّفوهم إلّا باللّه - عزّ وجلّ»(1).
إلّا أنّ هذه الروايات معارضة بما دلّ على جواز تحليف الكتابيّين بما يعتقدون به في الحلف من قبيل:
1 - ما عن السكوني - بسند غير تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) استحلف يهودياً بالتوراة التي أُنزلت على موسى (عليه السلام)»(2).
2 - وما عن محمّد بن مسلم - بسند تامّ - عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «سألته عن الأحكام، فقال: في كلّ دين ما يستحلفون به»(3).
3 - وما عن محمّد بن قيس قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: قضى علىّ (عليه السلام) فيمن أستحلَفَ أهلَ الكتاب بيمين صبر: أن يُستحلف بكتابه وملّته»(4).
4 - و ما عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه أنّ عليّاً (عليه السلام) كان يستحلف اليهود والنصارى بكتابهم ويستحلف المجوس ببيوت نيرانهم(5).
وجمع السيّد الخوئي بين الطائفتين بحمل النهي على التحليف بغير ما جرت عادتهم بالحلف به تقييداً لطائفة النهي بطائفة جواز تحليفهم بما يحلفون به عادة(6)، إلّا أنّ هذا الجمع لا يناسب التعليل الوارد في حديث سليمان بن خالد، بل لا يناسب جميع روايات النهي، فإنها ناظرة عادة إلى ما جرت عادتهم على الحلف به، وحملُها
', '(1) نفس المصدر، ح 2، ص 164.
(2) الوسائل، ج 16، باب 32 من كتاب الأيمان، ح 4، ص 165.
(3) الوسائل، ج 16، باب 32 من كتاب الأيمان، ح 7 = و ح 9، ص 166 مضمراً.
(4) الوسائل، ج 16، باب 32 من كتاب الأيمان، ح 8، ص 166.
(5) الوسائل، ج 16، باب 32 من كتاب الأيمان، ح 12، ص 166.
(6) راجع مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 26.
', 687), (14, 688, 'book', '
على تحليفهم بخصوص ما لم يعتادوا في دينهم الحلفَ به ليس عرفياً.
ثمّ جمع بينهما - بعد فرض التنزُّل عن الجمع الأوّل - بحمل النهي على الكراهة. وهذا أيضاً لا يناسب التعليل الوارد في حديث سليمان بن خالد. ولو تمّ هذا الجمع سقط الاستدلال بروايات النهي على المقصود من عدم صحّة الحلف بغير اللّه. وهذا ليس إشكالا على السيّد الخوئي؛ لأنّه لم يذكر في كتابه الاستدلال بروايات النهي عن تحليف الكتابي بغير اللّه على عدم صحّة الحلف بغير اللّه.
وذكر السيّد الخوئي في مسألة جواز تحليف الكتابي بما يعتقد به في دينه: أنّه لو تعارضت الطائفتان وتساقطتا رجعنا إلى إطلاق أدلّة القضاء بالأيمان.
أقول: احتمال انصراف أدلّة القضاء بالأيمان إلى الحلف باللّه بالارتكاز موجود، وخاصّة بعد وضوح عدم نفوذ الحلف بكلّ شيء. وهذا ليس من القرائن التي يمكن نفيها بأصالة عدم القرينة؛ بناءً على ما هو الحقّ من أنّ أصالة عدم القرينة ترجع في روحها إلى كون حذفها خيانة تُنفى بأمانة الناقل؛ فإنّ ترك نقل الارتكاز لا يعدّ خيانه.
ويمكن الاستدلال على اشتراط كون الحلف في القضاء باللّه برواية السكوني قال: «إذا قال الرجل: أقسمت أو حلفت فليس بشيء حتى يقول: أقسمت باللّه أو حلفت باللّه»(1). بناءً على أنّ قوله: «ليس بشيء» ينفي - ولو بإطلاقه الأثر القضائي، إلّا ان سند الحديث ضعيف بالنوفلي.
والصحيح: أنّ الحلف في القضاء لا بدّ أن يكون باللّه - تعالى -، والدليل على ذلك أمران:
الأوّل - رواية سليمان بن خالد التامّة سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «في
', '(1) الوسائل، ج 16، باب 15 من كتاب الأيمان، ح 3، ص 142.
', 688), (14, 689, 'book', '
كتاب علىّ (عليه السلام): أنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أَرَ ولم أشهد؟ قال: فأوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1).
والثاني - الأصل؛ لأنّ نفوذ الحلف باللّه في القضاء لا شكّ فيه، أمّا نفوذ الحلف بغير اللّه فلو شككنا فيه كان مقتضى الأصل عدم النفوذ.
لايقال: إنّ الأصل في طرف المنكر يقتضي جواز الحلف بغير اللّه؛ لأنّ المنكر كلامه مطابق للأصل، ومقتضى حجّيّة أصل المنكر على الحاكم جواز حكمه لصالح المنكر بلا تحليف أصلا، ولكن ثبت قيد التحليف بالنصّ، وهذا القيد مردّد بين الأقلّ - وهو مطلق التحليف - والأكثر - وهو التحليف باللّه - ومن واضح أنّه متى ما دار الأمر في المقيّد المنفصل بين الأقلّ والأكثر يقتصر على الأقلّ.
فإنّه يقال: إنّ المفهوم عرفاً من دليل تحليف المنكر أنّ الحجّة القضائيّة - في غير مورد النكول على الأقلّ - إنّما هي اليمين، أو أنّ اليمين - على الأقلّ - جزء الحجّة، ولم يعد أصل المنكر وحده حجّة بالحجّيّة القضائيّة، واليمين الحجّة تردّد أمرها بين الحلف باللّه ومطلق الحلف، والقدر المتيقن هو الحلف باللّه، وما عداه مشكوك الحجّيّة والنفوذ، والأصل عدم الحجّيّة والنفوذ، ولم تكن اليمين مجرّد قيد للحجّيّة القضائيّة للأصل حتى ننفي القيد الزائد - وهو خصوص الحلف باللّه - بالإطلاق . هذا كلّه في المسلم.
وأمّا الكتابي فهو باعتبار إيمانه باللّه يكون مشمولا لإطلاق رواية سليمان بن خالد: «أضفهم إلى اسمي، و حلّفهم به»، وكذلك الأصل الذي ذكرناه يقتضي تحليفه باللّه، وروايات تحليفه بغير اللّه قد عرفت ابتلاءها بالمعارض مع عدم تماميّة جمع
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 1 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 167.
', 689), (14, 690, 'book', '
عرفي.
أمّا غير الكتابي فباعتبار عدم مصونيّة دمه وماله لا تصل النوبة إلى القضاء له من قبل قاضي المسلمين في غالب الأحيان، ولكن مع ذلك قد تصل النوبة إلى القضاء في بعض الموارد: منها - ما لو كان في أمان بتعاهد معيّن مع المسلمين في ماله ونفسه، فوقع النزاع بينه وبين مسلم في مال معيّن هل هو له أو للمسلم؟، فتحاكما إلى قاضي المسلمين . أمّا التحاكم على مثل الجرح والقطع أو إتلاف المال مثلا فقد يقال: لامورد للقضاء فيه لعدم مصونيّة له بمعنى يوجب الضمان، غاية ما هناك الحرمة التكليفيّة لأكل ماله أو للجرح أو القطع لكونه في أمان، أو لافتراض أنّ إيذاءه بالجرح والقطع من قبل فرد مسلم غير جائز حتى لو لا الأمان؛ لأنّ عدم مصونيّته في هذه الأُمور يعني عدم ضمان الدية لاجواز الإيذاء تكليفياً، ومجرد الحرمه التكليفية لا تكفي موضوعاً للقضاء إلّا في المال الخارجي الذي يترتب على ملكيّة الكافر له وجوب تسليمه إليه مادام في أمان.
ومنها - ما لو وقع النزاع بينه وبين كافر آخر مثله بناءً على أنّ هدّر دمه أو ماله إنّما هو في مقابل المسلم لا في مقابل كافر آخر مثله وتحاكما عند قاضي المسلمين، والقاضي وإن لم يجب عليه حفظ ماله بالقضاء؛ لأنّه ليس تحت أمان المسلمين، لكن هذا لايحرّم عليه القضاء، فرغب أن يقضي بينهما بالحقّ.
وعلى أىّ حال ففي مورد من هذا القبيل لو وصلت النوبة إلى يمين الكافر ولم يكن مؤمناً باللّه - تعالى - فإحلافه باللّه لاموضوع له؛ إذ لا يشكّل إحراجاً بالنسبة إليه، والمتبادر عرفاً من دليل القضاء باليمين هي اليمين التي من شأنها إحراج الحالف.
ولا يبعد القول هنا بأنّ مقتضى إطلاق دليل القضاء باليمين هو تحليفه بما يعتقد به، ولو لم يعتقد بشيء لا سبيل إلى القضاء له باليمين، وليس ذلك مشكلة في المقام؛
', '', 690), (14, 691, 'book', 'لأنّ القضاء له من قبل القاضي غير واجب، ولو كان في أمان فأمانه لايشمل القضاء له بوجه غير مشروع، فعدم إمكان إثبات حقّه يكون لتقصير منه لامن قاضي المسلمين.
 $
التوكيل في الحلف والتحليف:
المسألة الثانية - مدى دخول التوكيل في الحلف أو التحليف:
لاينبغي الإشكال في عدم قبول الحلف للتوكيل، فإنّ الأدلّة دلّت على تحليف المنكر مثلا، وحلف الوكيل لاينسب إلى الموكّل حقيقة كما في الاعتبار يات من قبيل البيع حيث ينسب بيع الوكيل إلى الموكّل حقيقة، نعم قد يدّعى في مثل القبض أو الإحياء دخول التوكيل فيه رغم عدم انتساب قبض الوكيل أو إحيائه إلى الموكّل حقيقة، وذلك بدعوى قيام السيرة على ذلك، ولكن من الواضح عدم سيرة من هذا القبيل في باب الحلف.
وأمّا التوكيل في باب التحليف فإن قصد به أن يطلب الحاكم من شخص آخر توجيه الحلف إلى المنكر - مثلا - أمام الحاكم، فالظاهر أنّ هذا لاإشكال فيه فإنّ التحليف وإن كان وظيفة الحاكم، لكن لايفهم عرفاً من تحليف الحاكم عدا أن يكون الحلف موجّهاً إلى الحالف بأمر الحاكم وبسماع منه ولو كان الأمر بالواسطة فإن طلب الحاكم من غيره تحليفَ المنكر يعني في الحقيقة طلب الحلف من المنكر من قبل الحاكم من قبيل الأمر بالأمر الذي يكون الهدف الأصلي منه طلب متعلّق الأمر، لا الأمر بالأمر الذي يكون الهدف الأصلي منه طلب ذات الأمر.
وإن قصد به توكيل أحد لتحليفه في غياب الحاكم ومن دون سماعه، فالظاهر أنّ هذا لا يصدق عليه تحليف الحاكم، والقدر المتيقّن نفوذه إنّما هو تحليف الحاكم
', '', 691), (14, 692, 'book', 'المفهوم من قوله: «حلِّفهم به»(1)، فإنّ سماع المحلِّف مقوِّم عرفاً لما يفهم من كلمة التحليف - ولو بمناسبات الحكم والموضوع -.
 $
تحديد متعلّق الحلف:
المسألة الثالثة - في ما هو متعلَّق الحلف:
لا إشكال - في الجملة في أنّ متعلَّق الحلف هو الأمر المتنازع فيه، فالمنكر - مثلا - يحلف على نفيه أو على نفي العلم به، أما لو عُلم أنَّه ورّى في حلفه فلا قيمة لهذا الحلف؛ إذ المفهوم عرفاً من أدلّة تحليف المنكر - مثلا - إنّما هو التحليف على نفس القضيّة المتنازع فيها كما هو واضح.
واستدلّ السيّد الخوئي على سقوط الحلف لو عُلم بالتورية - إضافة إلى ما مضى - بما ورد عن إسماعيل بن سعد الأشعري - بسند تامّ - عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «سألته عن رجل حلف وضميره على غير ما حلف؟ قال: اليمين على الضمير» ورواه الصدوق باسناده عن إسماعيل بن سعد وزاد: (يعني على ضمير المظلوم)(2).
وبما أنّ هذا التفسير قد يجعل الحديث دالّا على عكس المقصود، أو على الأقلّ يجعله غير دالٍّ على المقصود حاول السيّد الخوئي التخلّص منه تارةً باحتمال كون هذا التفسير من الشيخ الصدوق (رحمه الله) ولا حجّيّة فيه، وأُخرى بأنّ سند الصدوق إلى إسماعيل بن سعد مجهول.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 1 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 167.
(2) الوسائل، ج 16، باب 21 من الأَيمان، ح 1، ص 149.
', 692), (14, 693, 'book', '
واستدلّ أيضاً بما عن صفوان بن يحيى - بسند تامّ - قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يحلف وضميره على غير ما حلف عليه؟ قال: «اليمين على الضمير»(1).
أقول: الظاهر أنّ الحديثين أجنبيّان عمّا نحن فيه ولا يدلاّن على المقصود ولا على عكس المقصود، فإنّ عدم ذكر فرض النزاع أو المرافعة أو القضاء في الحديث يجعل المفهوم عرفاً منه كون السؤال عن أنّ الحالف لوجرى على لسانه خطأً الحلفُ على غير ما كان يقصده، فهل ينعقد الحلف على ما كان يقصد أو على ما نطق به؟ وكان الجواب أنّه ينعقد على ما كان يقصد، أمّا فرض النزاع والمرافعة والقضاء فيعتبر بحاجة إلى مؤونة زائدة في البيان.
وأمّا تفسير ذلك في ذيل الحديث الأوّل بأنّه (يعني: على ضمير المظلوم)، فإن كان من الراوي وبياناً لما فهمه ولو بالقرينة من كلام الإمام (عليه السلام) فهذا يجعل الحديث أجنبيّاً عمّا نحن فيه، فلا يمكن حمله على نفي نفوذ الحلف في القضاء لأنّ؛ هذا يكون مضرّاً بالمظلوم لا في صالحه، وهذا لايناسب لهجة: «على ضمير المظلوم». فالظاهر أنّ المقصود هو أنّهما لو ترافعا إلى القاضي وظلمه صاحبه بيمين فاجرة وورّىفي يمينه كي ينجو من إثم اليمين الفاجرة، فهو لم ينج من إثمها؛ لأنّ اليمين تحسب عنداللّه على ضمير المظلوم؛ أي أنّ عليه عقاب اليمين الكاذبة على ما تنازع فيه مع المظلوم، ولو كان هو مظلوماً وترافعا عند حاكم الجور فحلف موريّاً لم يُبتلَ بإثم اليمين الفاجرة؛ لأنّ اليمين على ضمير المظلوم، فهذا نظير ما ورد عن مسعدة بن صدقة قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول - وسئل عمّا يجوز وعمّا لا يجوز من النيّة والإضمار في
', '(1) نفس المصدر ح 2 ص 150 . وكلام السيّد الخوئي في المقام موجود في مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 27، و 28.
', 693), (14, 694, 'book', '
اليمين - فقال: يجوز في موضع، ولايجوز في آخر، فأمّا ما يجوز فإذا كان مظلوماً فما حلف به ونوى اليمين فعلى نيّته، وأمّا إذا كان ظالماً فاليمين على نيّه المظلوم»(1).
وعلى أىّ حال فلا ينبغي الإشكال في أنّ التورية لو عُلمت أوجبت عدم الاعتناء بما وقع من اليمين، وأن اليمين يجب أن تكون على المتنازع فيه.
اليمين على نفي العلم:
ولكن الكلام يقع في أنّ اليمين هل يجب أن تكون على نفي المتنازع فيه أو إثباته مباشرة، أو يجوز أن تكون على نفي العلم بالواقع؟
ولا إشكال في طرف المدّعي حين تردّ عليه اليمين أنّ عليه اليمين على الواقع لا على نفي العلم، فلو قلنا بصحّة رفع الدعوى من دون جزم من قبل المدّعي، فرفع الدعوى وهو شاكّ، وقلنا بجواز ردّ المنكر اليمين عليه، يتعيَّن عليه النكول، ولا يفيده الحلف على نفي العلم؛ لأنَّ نفي العلم لا يثبت الحقّ له كي يحكم الحاكم لصالحه لمجرّد حلفه على نفي العلم كما هو واضح.
فالكلام إنّما يقع في طرف المنكر الذي قد يقال بأنّه يكفيه نفي العلم لأنّ الأصل معه، فهل الصحيح كفاية نفي العلم والحلف عليه، أو لابدّ أن يكون الحلف على نفي الواقع ولو كان شاكاً تعيّن عليه ردّ اليمين أو النكول، أو يفصّل بين ما لو ادّعى العلم فيحلف على نفي الواقع، أو ادّعى الشكّ فيحلف على نفي العلم؟
قد يستدلّ على اشتراط كون الحلف على نفي الواقع ببعض الروايات من قبيل:
1 - رواية محمد بن مسلم التامّة سنداً في الأخرس المشتملة على قصّة كتابة أمير المؤمنين (عليه السلام) الحلف على نفي الواقع وغَسله، وأمر الأخرس بشرب مائه،
', '(1) الوسائل، ج 16، باب 20 من الأيمان، الحديث الوحيد في الباب، ص 149.
', 694), (14, 695, 'book', '
فامتنع، فألزمه الدين(1).
ويرد عليه: أوّلا - أنّه لعلّ الأخرس كان يدّعي الجزم بالواقع، فلا يدلّ الحديث - في صورة ما لو كان المنكر مدّعياً للشكّ - على عدم كفاية الحلف على نفي العلم وضرورة ردّه للقسم أو نكوله.
وثانياً - أنّه حتى في فرض دعوى المنكر الجزم لا يدلّ هذا الحديث على ضرورة كون الحلف على نفي الواقع، فلعلّ هذا أحد فردَيْ التخيير اختاره الامام (عليه السلام) وكان واضحاً أن امتناع الأخرس المدّعي للجزم لم يكن امتناعاً عن خصوص هذا الفرد من فردَيْ التخيير، بل كان امتناعاً عن الحلف بما هو حلف سواء تعلق بنفي الواقع أو بنفي العلم.
2 - ورواية ابن أبي يعفور التامّة سنداً أيضاً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لاحقّ له قِبَلَه ذهبت اليمين بحقّ المدّعي، فلا دعوى له، قلت له: وإن كانت عليه بيّنة؟ قال: نعم، وإن أقام بعد ما استحلفه باللّه خمسين قسامة ما كان له ...»(2)، فهذه الرواية أيضاً فرضت الحلف على نفي الواقع.
ويرد عليه: أوّلا - أنّ هذه الرواية موضوعها فرض الجزم، فإنَّ كلمة المنكر ظاهرة في الجزم بإنكار الواقع، فلا تدلّ على عدم كفاية الحلف على نفي العلم من قبل غير العالم.
وثانياً - أنّنا لانقول بمفهوم الشرط، فالرواية لا تدلّ على عدم العبرة بالحلف بنفي العلم حتى بالنسبة للجازم، فإنّ الجازم بالنفي إن حلف بنفي العلم كان صادقاً.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 33 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 222.
(2) الوسائل، ج 18، باب 9 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 179.
', 695), (14, 696, 'book', '
وثالثاً - قد يقال: إنّ الرواية غاية ما يفترض فيها دلالتها على أنّ اليمين التي تذهب بحقّ المدّعي بحيث لا يبقى له مجال لإقامة البيّنة إنّما هي اليمين على نفي الواقع، وهذا لاينافي افتراض أنّ اليمين على نفي العلم تُجزي لحكم الحاكم وإن كان المدّعي له الحقّ بعد هذه اليمين وقبل حكم الحاكم أن يقيم البيّنة على مدّعاه. إلّا أن يقال بأنّ الرواية ظاهرة في الإشارة إلى اليمين التي تكون على المنكر، وتدلّ على أنّ اليمين التي تكون على المنكر لو حلّف بها سقط حقّ المدّعي، فلو دلّت الرواية أنّ ما تذهب بحقّ المدّعي إنّما هي اليمين على نفي الواقع فقد أصبحت اليمين على نفي العلم لغواً لامحالة.
3 - ورواية عبدالرحمان بن أبي عبداللّه المشتملة على قوله: «وإن كان المطلوب بالحقّ قدمات فاُقيمت عليه البيّنة، فعلى المدّعي اليمين باللّه الذي لا إله إلّا هو لقدمات فلان وأنّ حقّه لعليه ...»(1).
ويرد على الاستدلال بها - مضافاً إلى ضعف السند - أنّ هذه العبارة إنّما هي بشأن المدّعي الجازم، ولاتثبت المقصود بالنسبة للمنكر خصوصاً غير الجازم، واحتمال الفرق وارد، وقد قلنا في ما سبق: إنّ اشتراط كون حلف المدّعي على الواقع واضح، وإنّما الكلام في المنكر.
والصحيح أنّنا لسنا بحاجة إلى روايات خاصّة لإثبات أنّ اليمين على نفي الواقع، بل هذا هو مقتضى القاعدة المستفادة من روايات اليمين على المدّعى عليه(2).
وتوضيح ذلك: أنّه لو كانت الروايات بلسان: «اليمين على المنكر» لأمكن القول بأنّ هذا ظاهره هو اليمين على إنكار ماينكر، فلو أنكر الواقع حلف على نفي الواقع، ولو أنكر العلم حلف على نفي العلم، بل قد يقال: حتى لو أنكر الواقع فهو
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 4 من كيفيّة الحكم، الحديث الوحيد في الباب، ص 173.
(2) راجع الوسائل، ج 18، باب 3 من كيفيّة الحكم.
', 696), (14, 697, 'book', '
منكر للعلم به أيضاً، فبإمكانه أن يعمل وفق هذا الإنكار الثاني، ويحلف على نفي العلم، ولكن الروايات قد وردت بلسان: «اليمين على من ادّعي عليه»، وهذا ظاهر في اليمين على نفي ما ادّعي عليه، وما ادّعي عليه هو الواقع لا العلم، فالمفروض أن يكون اليمين على نفي الواقع، ولو جهل بالواقع فعليه ردّ اليمين أو النكول.
بل وحتى لو كانت الأدلّة بلسان: «اليمين على من أنكر»، لكنّا نستظهر منها اليمين على نفي ما ادّعي عليه من الواقع لا مجرّد نفي العلم، فإنّ الإنكار ظاهر في إنكار ماادّعاه المدّعي.
وأيضاً دليل حصر القضاء بالبيّنة واليمين تفهم منه البيّنة على الواقع المتنازع فيه، وكذلك اليمين على الواقع المتنازع فيه.
نعم، لو طرح المدّعي دعوى علم المنكر بالحال، وأنكر المنكر ذلك، فقد يقال: إنّ علم المنكر أصبح من الواقع المتنازع فيه، فيحلف المنكر على نفي العلم.
وقد ذكر السيّد الخوئي في مباني تكملة المنهاج: «أنّ المدّعى عليه لو ادّعى الجهل بالحال فإنْ لم يكذّبه المدّعي فليس له إحلافه سواء صدّقد أو لم يصدّقه ولم يكذّبه، فإنّ إحلافه على نفي الواقع غير معقول؛ لأنّه يدّعي الشكّ في الواقع، و إحلافه على نفي العلم أيضاً غير صحيح؛ لأنّه لاينازعه في نفي العلم بل صدّقه في ذلك أو كان شاكّاً فيه، بينما يشترط في المدّعي الجزم وعدم الشك، أمّا لو كذّبه المدّعي وادّعى علمه بالحال أحلفه على عدم العلم»(1).
أقول: لم يوضّح السيّد الخوئي في فرض ما إذا لم يكذّبه المدّعي في نفي علمه ولم تكن للمدّعي بيّنة أنه هل تسقط بهذا دعوى المدّعي، أو يعود الحلف عليه؟ ولماذا لانقول بانّ المدّعى عليه يصبح ناكلا لو لم يردّ الحلف على المدّعي؟ ولماذا
', '(1) مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 17.
', 697), (14, 698, 'book', '
يُفترض سقوط دعواه كما هو ظاهر عبارة السيّد الخوئي في مباني التكملة؟
وأمّا ما قاله من أنّ المدّعي لو ادّعى علم المدّعى عليه بالحال جاز له إحلافه على نفيه للعلم فقد يورد عليه: أنّ دعواه لعلم المدّعى عليه بالحال لاقيمة لها؛ إذ لايترتّب عليها أثر شرعي لصالحه، وإنّما الدعوى التي لو ثبتت كان الحكم لصالحه هي دعوى واقع الدَّين - مثلا - لا دعواه لعلم صاحبه بذلك، ولذا لو كان يدّعي علم صاحبه بكونه مديناً له وثبتت صحّة دعواه، ولكن كان هو جازماً بخطأ صاحبه وأنّه ليس في الواقع مديناً له، لم يثبت له شيء، وهذا يعني أنّ الدعوى المثمرة التي ينبغي طرحها أمام القضاء إنّما هي دعواه للواقع، لا دعواه لعلم صاحبه به.
وقد يجاب على ذلك: بأنّ علم المدّعى عليه بالدَّين - مثلا - يترتّب عليه ثمر في صالح المدّعي؛ ذلك لأنّ المدّعى عليه لو كان عالماً بذلك لحرمت عليه الحيلولة بين المدّعي وبين المال، وكان عليه الأداء، وهذا - كما ترى - حكم في صالح المدّعي، فلو ردّ المنكر اليمين على نفي العلم، وحلف المدّعي على كون المنكر عالماً بالحال، أونكل المنكر عن اليمين على نفي العلم وحلف المدّعي، أو حَكمنا بمجرَّد نُكوله، ثبت بذلك علم المنكر بالدَّين وحكم الحاكم به، وبالتالي بقيت دعوى المدّعي للدَّين دعوى بلا منازع فينتهي النزاع؛ إذ على المنكر أن يسلِّم المال عملا بما ثبت عليه من علمه بالدَّين، والمدّعي - طبعاً - يأخذ المال لأنه يرى نفسه مالكاً له، وليس لأحد أن ينازعه في ذلك.
لكن هذا الدفاع عن كلام السيّد الخوئي غير تامّ، ولو تمّ لجاء نفس الكلام أيضاً فيما لو سكت المنكر أو نفى الواقع، فأيضاً يقال: إنّ المدّعي قد يدّعي علم المنكر - رغم سكوته أو نفيه للواقع - بالدَّين، فيطالبه بالحلف على عدم العلم، ولا أدري لماذا خصّ السيّد الخوئي كلامه هذا بفرض دعوى المنكر الجهل بالواقع كما يظهر من عبارته في مباني التكملة؟! وعلى أي حال فهذا الدفاع عنه غير تامّ في نفسه، ولا
', '', 698), (14, 699, 'book', 'يفهم عرفاً من دليل التحليف تحليفه على ما لا ينفعه أصلا؛ إذن فمقتضى القاعدة هو انحصار الحلف الذي يوجّه إلى المدّعى عليه في الحلف على نفي الواقع، فلو شكّ المدّعى عليه في صحّة دعوى المدّعي يرّد اليمين على المدّعي أو ينكل.
هذا فيما إذا لم يخرجه شكّه عن كون الأصل في صالحه كما هو الحال فيمن ادّعي عليه الدين.
أمّا لو أخرجه شكّه عن كون الأصل في صالحه، كما لو شكّ ذواليد في أنّ هذا المال هل أخذه من بيت المدّعي اشتباهاً أو هو له؟ وافترضنا أنّ أماريّة اليد تسقط في مثل هذه الحالة؛ إذن يصبح مدّعي الملكية مدّعياً لا منكراً في قباله، وهذا يخرج عن باب النزاع المتعارف، فلو امتلك المدّعي البيّنة أخذ المال، وإلّا انتهى الأمر إلى القرعة دون قاعدة العدل والإنصاف بناءً على اختصاص قاعدة العدل والإنصاف بفرض شكّهما معاً.
وقد يقال: إنّ المدّعى عليه لو ادّعلى العلم بنفي الواقع حلف على نفي الواقع لا على نفي العلم بالواقع، وذلك تمسّكاً بمقتضى القاعدة الذي شرحناه، ولو ادّعى الشكّ وعدم العلم حلف على عدم العلم، وهذا وإنّ كان خلاف القاعدة، لكنّنا نستفيده من النصّ، وهو عبارة عمّا ورد عن أبي بصير -بسند تامّ- قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام)عن الرجـل يأتي القوم، فيدّعي داراً في أيديهم، ويقيم البيّنة، ويقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه، ولا يدري كيف كان أمرها؟ قال: أكثرهم بيّنة يستحلف وتدفع إليه ...»(1) فيقال: إنّ أكثرهم بيّنة فرض بمنزلة المنكر، ولو كان أكثرهم بينة هو الذي بيده الدار كان هو المنكر فيستحلف . و من الواضح أنّه لا يستحلف على نفي الواقع؛ لأنّه اعترف بأنّه لايدري كيف كان أمرها، فهذا استحلاف
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 181.
', 699), (14, 700, 'book', '
على نفي العلم.
ولو تمّ هذا الاستظهار فقد يتعدّى من مورد شكّ المدّعى عليه إلى مورد علمه بنفي الواقع فيقال: إنّ هذا النصّ دلّ على كفاية دعوى نفي العلم والحلف عليه، واحتمال كون واقع علمه بالحال - ولو لم يدّعِ العلم - مانعاً عن كفاية الحلف على نفي العلم بصحّة ما يقوله المدّعي غير عرفي، فإنّ المقياس في باب القضاء يدور عادة على مقدار الدعاوى، وبإمكان أحدهما أن يقتصر في دعواه على أقلّ ممّا هو يعلم به، فإذا كان واقع العلم بالحال لا يمنع عن كفاية الحلف على نفي العلم بصحّة ما يقوله المدّعي، ففرض كون إبراز هذا العلم مانعاً عن ذلك بعيد أيضاً عن الفهم العرفي، فإنّ من ادّعى شيئاً بإمكانه أن يتنازل بعد ذلك عن جزء من دعواه، ويستبقي للمرافعة جزءً من الدعوى؛ إذن فبإمكان هذا الرجل أن يغضّ النظر عن علمه بالواقع ويقتصر على الحلف على نفي علمه بصحّة كلام المدّعي.
نعم قد يقال: إنّ الحلف على نفي العلم لا يسقط حقّ المدّعي في إقامة البيّنة قبل حكم الحاكم؛ لأنّ الدليل الذي دلّ على اسقاط حلف المدّعى عليه لحقّ المدّعي في إقامة البيّنة، إنّما دلّ على ذلك في الحلف على نفي الواقع، وهو ما مضى قبل صفحات عن ابن أبي يعفور، ولكن مضى هناك: أنّه قد يدّعى أنّ الرواية تشير إلى اليمين التي تكون على المنكر، فلو ثبت أنّ المنكر يجوز له الاكتفاء باليمين على نفي العلم كانت هذه اليمين في جميع الأحكام كاليمين على نفي الواقع.
وعلى أىّ حال فأصل ما ذكرناه من الاستدلال بحديث أبي بصير على كفاية الحلف على نفي العلم غير صحيح بالنسبة للشاكّ فضلا عن مدّعي العلم بالواقع، وذلك لأنّ الظاهر من حديث أبي بصير - كما مضى سابقاً في بحث بيّنة المنكر - أنّه نُزّل المتنازعان في مورد الحديث منزلة المتداعيين، وجعل الحلف في باب المتداعيين على أكثرهما بيّنة، فكأنّ المدّعي الذي يمتلك بيّنة أكثر يكون قوله مطابقاً للدليل
', '', 700), (14, 701, 'book', 'فعليه الحلف كالمنكر، وهو طبعاً يحلف على ما يدّعيه، والذي يدّعيه من بيده الدار في مورد الحديث هو أنّه ورثه من أبيه، والظاهر من الحديث هو حلفه على إرثه من أبيه، ولا علاقة له بالحلف على نفي العلم، فالرواية أجنبيّة عن المقام.
وقد تحصّل من كل ما ذكرناه: أنّ الحلف من قبل المنكر إنّما يكون على نفي الواقع، لا على نفي العلم، وأنه لو جهل بالواقع لم يكن أمامه عدا ردّ الحلف على المدّعي أو النكول.
نعم أبرأ المدّعي ذمّة المنكر على تقدير عدم كونه عالماً أصبح حلف المنكر على عدم العلم هنا أمراً معقولا، فلو ادّعى المدّعي أن المنكر عالم بالدَّين كان له تحليفه على عدم العلم، ونفي العلم هذا مساوق لنفي الدَّين؛ إذ على تقدير عدم العلم قد أصبح غير مدين، ولا فرق في ذلك بين فرض جهل المنكر وفرض علمه بالخلاف، فما دام المدّعي يدّعي علمه بالدَّين - وأنّ الإبراء لم يؤثّر لانتفاء موضوعه - صحّ له تحليفه على نفي العلم. أمّا إذا كان المدّعي شاكّاً في علم المنكر وجهله فلا مورد لتحليفه إيّاه. نعم، لو فرض أنّه بدلا عن الإبراء المقيد بفرض عدم العلم توافق مع المنكر على أنّه لو حلف على عدم العلم أبرأ ذمّته، فحلف على ذلك، ووفى المدّعي بالشرط فأبرأ ذمته، فهذا يصحّ حتى مع فرض شكّ المدّعي في علم المنكر، إلّا أنّ هذا خارج عن باب القضاء، ويكون من قبيل مالو توافقا على إطعام المنكر للمدّعي وجبة من الطعام لقاء إبرائه إيّاه مثلا.
بقي الكلام في افتراض حلف المنكر - في فرض الجهل - على نفي الواقع اعتماداً على مالديه من حكم ظاهري، فهل يجوز له ذلك، ويكفي لحكم القاضي لصالحه أوْلا؟
لاإشكال في أنّ مقتضى القاعدة حرمة الحلف على نفي الواقع لدى الجهل به، بل مقتضى القاعدة حرمة نفس الإخبار عن نفي الواقع بلا حلف
', '', 701), (14, 702, 'book', 'لدى الجهل به؛ لأنّ الإخبار عن شيء إخبار عن العلم به، وهو كذب. مضافاً إلى النصوص الناهية عن الحلف بغير العلم(1)، ولكن قد يتصوّر جواز الحلف على نفي الواقع اعتماداً على الظاهر بدعوى قيام الأمارة أو الأصل مقام العلم الموضوعي.
وهنا لا نقصد البحث عن مدى صحّة قيام الأمارة أو الأصل مقام القطع الموضوعي، ولكنّنا نقول: لو صحّ ذلك فهذا إنّما يعني رفع الحرمة التكليفية عن الحلف على نفي الواقع اعتماداً على الظاهر، وهو أجنبىّ عمّا نحن فيه، فإنّ المقصود فيما نحن فيه هو أنّ الحلف على نفي الواقع اعتماداً على الظاهر الذي جعل المنكر منكراً هل له قيمة أزيد من نفس ذاك الدليل الظاهري الذي يعرفه القاضي قبل أن يحلف المنكر أو ليست له في نظام القضاء قيمة إضافية، وإنّما المنكر يستفيد من جهل القاضي بالحال فيعمّي عليه ويخيّل له أنّ هذا حلف على نفي الواقع اعتماداً على العلم لا اعتماداً على العلم لا اعتماداً على الأصل أو الأمارة؟ وحينما يطرح السؤال بهذا الشكل فالجواب واضح، إذ ليس المفهوم عرفاً من دليل الحلف أن تكون له قيمة إضافيّة على نفس الحكم الظاهري الذي يعرفه القاضي قبل حلف المنكر، أمّا التعمية عليه وحرف القضاء عن مسيره الأصلي فهو حرام طبعاً.
وما قد يتخيّل من دلالة بعض الروايات على صحّة الحلف على نفي الواقع اعتماداً على الظاهر أو على الأمارة غير تامّ، وذلك من قبيل رواية أبي بصير الواردة فيمن ورث الدار من أبيه ولايدري كيف كان أمرها حيث تقول: «أكثرهم بيّنة يستحلف»(2)، فقد يحمل ذلك على حلفه على الواقع اعتماداً على الدلالة الظاهرية ليد أبيه.
ولكن من الواضح لمن يراجع الرواية أنّ المقصود هو الحلف على الإرث
', '(1) راجع الوسائل، ج 16، باب 22 من الأيمان، ص 150.
(2) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 181.
', 702), (14, 703, 'book', '
بمعناه الثابت له بالعلم واليقين، وهو حلف معتمد على العلم لا على الحكم الظاهري.
ومن قبيل رواية حفص بن غياث عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له، فلعلّه لغيره؟ فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): أَفيحلُّ الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبداللّه (عليه السلام): فلعلّه لغيره، فمن أين جازلك أن تشتريه ويصير ملكاً لك، ثمّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه، ولايجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟! ثمّ قال أبو عبداللّه (عليه السلام): لو لم يجز هذا لم يقم للسملين سوق»(1).
وقد مضى البحث عن سند الحديث لدى البحث عن الشهادة اعتماداً على الظاهر، فراجع. كما أنّه يعرف من بحثنا هناك مدى تماميّة دلالة الحديث أيضاً، فالحديث إنّما دلّ على الحلف على الحكم الظاهري وهو معلوم لديه، فهو حلف معتمد على العلم لا على الظاهر، وليس المقصود به الحلف على الملكيّة الواقعيّة اعتماداً على الظاهر، لأنّ الإمام (عليه السلام) بصدد الاحتجاج مع السائل استشهد بجواز الحلف، والمفروض في الاستشهاد إنّما هو الاستشهاد بشيء واضح مسبقاً، والشيء الواضح مسبقاً في المثال المذكور في الحديث إنّما هو الحلف على الملكيّة الظاهريّة، أمّا الحلف على الملكيّة الواقعيّة لقيام الأمارة مقام القطع الموضوعى مثلا فليس أمراً واضحاً صالحاً للاستشهاد به في المقام من قبل الإمام (عليه السلام) في احتجاجه مع حفص بن غياث، ويشهد لذلك قوله (عليه السلام): «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق»، فإنّ الذي أقام سوق المسلمين إنّما هو الملكيّة الظاهريّة لا الملكيّة الواقعيّة.
ولا بأس بأن نشير في نهاية هذا البحث إلى ما قد يفترض من استثناء مما
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 25 من كيفيّة الحكم، ح 2، ص 215.
', 703), (14, 704, 'book', '
قلناه - من أنّ الحلف يجب أن يكون حلفاً على نفي الواقع - وهو ما إذا كان المدعي مدّعياً لغيره كاليتيم لا لنفسه، فعندئذ يمكن أن يقال: إنّ النزاع على الواقع لا معنى له؛ لأنّ المدّعي أجنبىّ عن الواقع؛ إذ ليس الحقّ حقّه حسب الفرض، ورفعه للشكوى إلى الحاكم على المنكر ليس إلّا من قبيل رفع الشكوى على أىّ عاص إلى الحاكم بدافع الحيلولة بينه وبين المعصية على ما هو وظيفة كل مسلم، والمعصية متقوِّمة بالعلم. إذن فالنزاع يكون على العلم وعدمه، فإذا حلف المنكر على نفي العلم ثبت عدم كونه عاصياً، وانتهت الشكوى.
والجواب: أنّ هذا المدّعي إن كان وليّاً للمدّعى له أو وصيّاًله كانت عليه متابعة أمر المولّى عليه أو الموصي مثلا؛ إذن ليس أجنبيّاً عن الواقع، وله متابعة الواقع، فتكون الشكوى على الواقع، لا على علم المنكر به، وإلّا فمجرد رفع تقرير عن معصية شخص إلى الحاكم ليس مرافعة بالمعنى المألوف الذي يكون الحكم فيه بالبيّنة واليمين، ولا مبرِّر لتحليف المنكر أصلا، وإنّما يثبت الجرم عليه بإقراره أو بالبيّنة أو بعلم الحاكم مثلا، أمّا نكوله عن الحلف أو حلف المدّعي بعد نكوله أو ردّه لليمين فلا قيمة له كما هو واضح.
 $
الشاهد الواحد مع اليمين
البحث الرابع - متى يكفي الشاهد الواحد مع اليمين؟.
قد ورد الاكتفاء بشاهد واحد مع يمين المدّعي في حقوق الناس مطلقاً أو في الجملة، أمّا في حقوق اللّه فلم يرد دليل على ذلك، بل ورد ما يدلّ على خلافه(1).
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 14 من كيفيّة الحكم، ح 12، ص 195 و 196.
', 704), (14, 705, 'book', '
ويقع الكلام في أنّ كفاية الشّاهد ويمين المدّعي هل تكون في مطلق حقوق الناس، أو في الأموال كما نسب إلى المشهور وادّعي عليه الإجماع، أو في خصوص الدَّين؟
هناك روايات تدلّ على ثبوت هذا الحكم في مطلق حقوق الناس، أصرحها دلالة ما عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لو كان الامر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق اللّه - عزّ وجلّ - أو رؤية الهلال فلا»(1). وهناك روايات أُخرى تامّة دلالةً وبعضها تامّ سنداً(2).
وهناك روايات خاصّة بباب الدين من دون أن يكون لها مفهوم حتى تقيّد تلك الروايات من قبيل: ما عن محمد بن مسلم - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام)قال: «كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يجيز في الدَّين شهادة رجل واحد ويمين صاحب الدَّين، ولم يجز في الهلال إلّا شاهدي عدل»(3). وغيره من الروايات(4).
وهناك ما قديستفاد منه تخصيص الحكم بالدَّين من قبيل: ما عن ابى بصير - بسند تامّ -: قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ وله شاهد واحد؟ قال: فقال: كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحقّ، وذلك في الدَّين»(5)، فقد يفهم من قوله: «وذلك في الدَّين» تخصيص
', '(1) نفس المصدر.
(2) راجع الوسائل، ج 18، باب 14 و 15 من كيفيّة الحكم.
(3) الوسائل، ج 18، باب 14 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 193.
(4) راجع الوسائل، ج 18، باب 14 و 15 من كيفيّة الحكم.
(5) الوسائل، ج 18، باب 14 من كيفيّة الحكم، ح 5، ص 193.
', 705), (14, 706, 'book', '
الحكم بباب الدين .
وما عن القاسم بن سليمان - ولم تثبت وثاقته - قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام)يقول: قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدَّين وحده»(1).
وقد أورد السيّد الخوئي على ما نسب إلى المشهور - من كون الحكم بشاهد ويمين المدّعي في باب الأموال - بأنّه لو قيّد المطلق بالمقيّد - وهو الدالّ على اختصاص الحكم بالدين - اتّجه القول باختصاص الحكم بالدَّين لا مطلق الأموال، ولو عُمل بالمطلقات وأُبقي الإطلاق على حاله اتّجه القول بثبوت الحكم في مطلق حقوق الناس، فعلى أيّ تقدير لا مبرّر لمقالة المشهور من كون الحكم في باب الأموال دون خصوص الدَّين، ودون مطلق حقوق الناس.
أقول: بإمكان المشهور أن يأخذوابجانب المقيّد فيقيّدوا بذلك إطلاق المطلقات ويتوسّعوا من الدَّين إلى مطلق الأموال بقرينة رواية عبدالرحمان بن الحجّاج الواردة في قصّة درع طلحة(2). فتكون هذه الرواية قرينة على أنّ المنظور من الدَّين في روايات الدَّين هو الدَّين بما هو مال. أمّا ما قد يقال: - من أنّ إشكال عليّ (عليه السلام) على شريح بقبول رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) شاهداً واحداً مع اليمين ليس إشكالا عليه بلحاظ المورد وهو قصة الدرع، وإنّما هو إشكال عليه بلحاظ ما ادّعاه من أنّه لا يُقضى بشاهد واحد وإن كان عمله في المورد صحيحاً - فهو خلاف الظاهر.
وبالإمكان أن يقال أيضاً - دفاعاً عن المشهور بعد فرض العمل بالمقيّد -: إنّ العرف يتعدّى من الدَّين إلى سائر الأموال لعدم تعقُّل العرف الفرْق، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ احتمال الفرق موجود ولو من باب أنّ إقامة البيّنة في الأعيان الخارجيّة
', '(1) نفس المصدر، ح 10، ص 195.
(2) الوسائل، ج 18، باب 14 من كيفيّة الحكم، ح 6، ص 194.
', 706), (14, 707, 'book', '
أسهل منها في الدَّين ما لم يتقيَّد المُقرض بالإقراض أمام البيّنة.
وبالإمكان أن يقال أيضاً - دفاعاً عن المشهور بعد فرض العمل بالمقيَّد -: إنّ عمدة الروايات المقيِّدة هي ما مضى من رواية أبي بصير عن أبي عبداللّه عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ وله شاهد واحد، قال: «فقال: كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب الحقّ، وذلك في الدين»، ولكنّنا نحمل قوله: «وذلك في الدَّين» على الإشارة إلى الواقعة الخارجيّة، وأنّ ما صدر من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان في الدين، أمّا أنّه هل كان ذلك في الدين لأنّه دين، أو كان ذلك في الدين لأنّه مال، أو لأنّه حقّ من حقوق الناس؟ فالظاهر هو الثاني، وذلك لأنّ السؤال كان عن الثاني قال: «عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ» وكلمة (عند الرجل) تعطي عرفاً معنى المال الذي يقبل أن يكون عند أحد لا مثل حقّ الزوجيّة أو حقّ الأُبوّة والبُنوّة أو غير ذلك، ولو كانت العبارة: (يكون له على الرجل الحقّ) لاختصّت بالدَّين، ولكن بما أنّها عبّرت بكلمة (عند) فهي تشمل مطلق المال، ومقتضى أصالة تطابق السؤال والجواب أن يحمل قوله (عليه السلام): «وذلك في الدين» على أنّ النظر إلى الدين بما هو مال من الأموال؛ إذن المقيّد أنّما قصد به مطلق الحقّ المالي، وهذا يطابق رأي المشهور.
إلّا أنّ هذا يمكن الإيراد عليه بأنّ تفسير قوله (عليه السلام): «وذلك في الدين» بالنظر خصوص الدَّين كدين لا يعني عدم مطابقة الجواب للسؤال، فصحيح أنّ السؤال كان عن مطلق المال، ولكن أيّ عيب في أن يفترض أنّ الجواب خصّص نفوذ شاهد واحد مع اليمين بالدَّين؟! فإنّ هذا يعني التفصيل بين باب الدين وغيره، وأنّه في باب الدين يكفي شاهد واحد ويمين، وفي سائر الحقوق الماليّة لا يكفي ذلك، وهذا جواب مطابق للسؤال تماماً.
وبالإمكان أن يقال أيضاً دفاعاً عن المشهور: إنّه لا دليل أصلا على تقييد
', '', 707), (14, 708, 'book', 'المطلقات بخصوص الدين، فعمدة روايات التقييد - وهي رواية أبي بصير التي بحثناها الآن - لا تدلّ على التقييد بذلك؛ إذ كما نحتمل أن يكون قوله (عليه السلام): «وذلك في الدين» بمعنى تقييد الحكم بالدين، كذلك نحتمل أن يكون إشارة إلى الواقعة الخارجيّة، لا لكي يطابق الجواب السؤال حتى يرد عليه ما ذكرناه، بل لأنّ نفس قوله (عليه السلام): «وذلك في الدين» بحدّ ذاته ليس له ظهور في التقييد، فكونه إشارة إلى الواقعة الخارجيّة معقول؛ أيْ أنّ ما صدر من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان في الدين - ولو صدفةً -. نعم لا شك أنّ إلفات النظر - بعد أن بيّن حكم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إلى كون ذلك في الدَّين يفيد أنّ هذا الحكم غير ثابت في مطلق حقوق الناس، وإلّا لم تكن هناك نكتة للاهتمام بإلفات النظر إلى كون حكم الرسول (صلى الله عليه وآله) في خصوص الدين، ولكن يكفي تجاوباً مع هذه النكتة فرض عدم ثبوت هذا الحكم في غير باب الأموال. والجواب: أنّ التعبير في الرواية لو كان بلسان (قضى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)) كان حمله على الإشارة إلى الواقعة الخارجيّة معقولا - أي لم يكن خلاف الظاهر - ولكن بما أنّه عبّرت الرواية بعبارة: «كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يقضي» فحمله على القضيّة الخارجيّة غير عرفي، فالظاهر إرادة بيان حكم عامّ على نهج القضيّة الحقيقيّة مع تخصيصه بباب الدَّين .
وبالإمكان أيضاً الدفاع عن المشهور بعد فرض الأخذ بالمطلقات دون المقيِّدات بدعوى انصراف حقوق الناس إلى الحقّ المالي، أمّا الحقّ غير المالي كالزوجيّة والأُمومة والبُنوّة والأُبوّة وما شا به ذلك فهي أشبه بالحكم الشرعي من الحقّ، أمّا الحقّ فمنصرف إلى المال.
ويرد عليه بعد منع هذا الانصراف: أنّه لو تمّ لم يتمّ في مثل حقّ القِصاص، فهو حقّ كحقّ المال، ولا يشبه الحكم.
ويتأكدّ منع الانصراف فيما مضى من حديث محمد بن مسلم عن أبي
', '', 708), (14, 709, 'book', 'جعفر (عليه السلام) «لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه الخير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق اللّه - عزّ وجلّ - أو رؤية الهلال فلا»، فإنّ ما فيه من فرض المقابلة بين حقوق الناس و حقوق اللّه يبعّد فرض الانصراف إلى خصوص الحقّ المالي، بل الظاهر هو النظر إلى كلّ ما هو في مقابل حقوق اللّه؛ أي حقّ الناس بمعناه العامّ، فمقتضى إطلاقه ثبوت الحكم في جميع حقوق الناس، عدا القِصاص في القتل الّذي يكون لثبوته نظامه الخاصّ به، وقد بحثناه فيما سبق.
والصحيح: أنّ المطلقات دلالتها تامّه على إطلاق الحكم، وأنّ رواية أبي بصير تقيّدها بخصوص الدين، وأنّنا نتعدّى من الدين إلى العين الخارجيّة بقرينة رواية عبدالرحمان بن الحجّاج الواردة في قصّة درع طلحة، فيكون النظر في الدين إلى الدين بما هو مال. وبهذا تتم فتوى المشهور.
إلّا أنّ السيّد الخوئي اختار: أنّ الحكم مطلق يشمل جميع حقوق الناس. وأجاب عن المقيَّد للإطلاق بأنّنا نحمله على أنّ قضاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) كان صدفةً في الدين، لا أنّ الحكم خاصّ بالدين، والقرينة على هذا الحمل حديث محمد بن مسلم الصريح في ثبوت مطلق حقوق الناس بشاهد ويمين(1).
أقول: لعلّه افترض صراحته في ذلك من جهة ما فيه من المقابلة بين حقوق الناس وحقوق اللّه، ولكن الواقع أنّ دلالة حديث محمد بن مسلم رغم تلك المقابلة لا تعد والإطلاق القابل للتقييد، فالمفروض تقديم المقيّد عليه.
وفي الختام لا بأس بالإشارة إلى بعض الفروع:
 $
$
', '(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 35.
', 709), (14, 710, 'book', '
 $
يمين المدّعي لغيره:
الفرع الأوّل - لو أنّ المدّعي لم يكن يدّعي لنفسه، بل كان يدّعي للمولّى عليهبحكم ولايته، فقد نسب إلى المشهور: أنّه ليس لوليّه الحلف بل يؤجّل الحكم إلى حين رشد المولّى عليه إن أمكن ذلك، فهو الذي يتولّى الحلف فيأخذ الحقّ أو لا يحلف فلا يكفيه الشاهد الواحد.
ويمكن الاستدلال على هذا الرأي بأحد وجوه:
الأوّل - ما مضى في بحث سابق من دعوى أنّ غير صاحب الحقّ لا معنى لتحليفه.
وقد مضى الإيراد عليه بأنّه لو لم يكن له حقّ الدعوى فلا دعوى في المقام، وإنّما هو بذاته يصلح كشاهد واحد إن كان عدلا، وبضمّ شاهد آخر إليه يثبت ما شهدا به، وإن قلنا: إنّ الوليّ له حقّ رفع الدعوى بالولاية وكان جازماً بصحّة دعواه فلا مبرّر لعدم قبول يمينه.
والثاني - أنّ ما ورد في روايات الباب(1) من عنوان صاحب الدين أو صاحب الحقّ لا يشمل الولّي؛ لأنّ صاحب الدين أو الحقّ غيره، بل وكذلك عنوان طالب الدين أو الحقّ بناءً على أنّ المفهوم منه عرفاً هو صاحب الدين أو الحقّ.
والجواب: أنّ هناك عناوين أُخرى واردة أيضاً في تلك الروايات تشمل بإطلاقها كلَّ مدّع - وإن كان وليّاً للمدّعى له - من قبيل عنوان المدّعي الوارد في
', '(1) راجع الوسائل، ج 18، باب 14 و 15 من كيفيّة الحكم.
', 710), (14, 711, 'book', '
رواية حماد بن عثمان التامّة سنداً(1)، وفي أحاديث أُخرى غير تامّة سنداً(2). وعنوان الخصم الوارد فيما مضى من حديث محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام).
على أنّنا لو خلّينا وعنوان صاحب الدَّين أو صاحب الحقّ لم يبعد القول بأنّ العرف يتعدّى إلى كلّ من له حقّ رفع الدعوى، ولايرى خصوصيّة في كون الحقّ له لا لغيره، وإنّما المقياس كونه خصماً ومدّعياً.
والثالث - أن يقال: إنّ المدّعي الحقيقي ليس هو الوليّ، وإنّما هو رافع الشكوى بالنيابة عن المولّى عليه، ورفع الشكوى من قبل الولي بالنيابة عن المولّى عليه مقبول عرفاً، وإقامة البيّنة من قبله - رغم أنّه ليس هو المدّعي حقيقة - لا ضير فيها؛ لأنّ البيّنة حجّة على أيّ حال ولو كانت تبرّعية كما مضى بحثه فيما سبق. أمّا اليمين بالنيابة فلا معنى لها عرفاً، والسرّ في عدم قبول اليمين النيابة عرفاً أنّ اليمين لا يقصد بها التأكّد من الواقع مباشرة، بل يقصد بها التأكّد من كون كلام المتكلّم باعتقاد الصدق، ويكون هذا أمارة على الواقع، ومن المعلوم أنّ الولّي يحلف على صدقه هو، ولا يعقل حلفه بهذا المعنى على صدق شخص آخر، وخاّصة أنّ ذاك الشخص الآخر لم يتكلّم أصلا بكلام حتى يفرض صادقاً أو كاذباً، فالولّي لو حلف فإنّما يحلف عن نفسه - لا عن المولّى عليه - في حين أنّه ليس مدّعياً.
وإن شئت فافرض هذا تعميقاً للوجه الأوّل .
والجواب: أنّ من له حقّ رفع الشكوى لكونه وليّاً يعتبر مدّعياً وتشمله عرفاً أدلّة أحكام المدّعي، وقد يشهد لذلك - زائدا على أنّ هذا هو المفهوم عرفا من ادلة احكام المدّعي - ما عن محمد بن يحيى - بسند تامّ - من أنّ الصفّار كتب إلى أبي
', '(1) الوسائل، ج 18، ح 11، باب 14 من أبواب كيفيّة الحكم، ص 195.
(2) راجع الوسائل، ج 18، ح 3 و 18 من باب 14، و ح 2، من باب 15، من كيفيّة الحكم.
', 711), (14, 712, 'book', '
محمد (عليه السلام): هل تقبل شهادة الوصّي للميت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع (عليه السلام): «إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين...»(1)بناءً على أنّ هذا الحديث فرض نفس الوصيّ مدّعياً مع أنّه قد ادّعى لغيره، أمّا لو فرض أنّ المقصود بالمدّعي هو الوارث فالحديث أجنبي عن المقام.
وعلى اى حال فالصحيح: أنّ كلّ من كان له حقّ رفع الدعوى كفاه في الحقوق الماليّة الإتيان بشاهد واحد مع اليمين.
 $
تقديم الشهادة على اليمين:
الفرع الثاني - نسب إلى المشهور اعتبار تقديم الشهادة على اليمين، بل قديقال بتقديم تزكية الشاهد أيضاً على اليمين، ولا مبرّر لذلك إلّا الترتيب اللّفظي الذي في صحاح السند من روايات الباب حيث قدّم فيها الشاهد على اليمين، ومن الواضح أنّ هذا لا يدلّ على شرط الترتيب، ولو دلّ فلا يدلّ على شرط تقديم تزكيته على اليمين.
وقد يقال: إنّ الترتيب الذِكْري بين الشاهد واليمين وإن كان لا يدلّ على ضرورة تقديم الشاهد على اليمين لكنّه يضرّ بالإطلاق لصلاحيّته للقرينيّة، فإن لم يتمّ الإطلاق اقتصرنا فيما خالف القاعدة الأوليّة على القدر المتيقّن، والقاعدة الأوّلية إنّما هي الاعتماد على البيّنة، فإنّما نعتمد على شاهد واحد ويمين المدّعي فيما هو القدر المتيقّن، وهو فرض تقديم الشاهد على اليمين أو تقديم الشاهد وتزكيته عليه.
ولكنّك ترى أنّ صلاحيّة الترتيب الذكري للقرينيّة أيضاً ممنوعة، فالإطلاق تامّ في المقام.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 28 من الشهادات، الحديث الوحيد في الباب، ص 273.
', 712), (14, 713, 'book', '
 $
دعوى الإرث أو الوصيّة:
الفرع الثالث - إذا ادّعى جماعة مالا لمورّثهم أو وصيّة بالمال لهم وأقامواشاهداً واحداً، فإن حلفوا قسّم بينهم، وإن حلف أحدهم فإن كان ديناً أخذ حصّته، وإن كان عيناً مشاعاً ذكر السيّد الخوئي: أنّ ما يأخذه بالحلف يكون للكلّ. نعم، بإمكانه أن يبيع حصّته المشاعة على من لديه المال، فيأخذ لنفسه كلّ الثمن»(1). وما ذكره صحيح لاغبار عليه.
 $
ضمّ اليمين إلى البيّنة
البحث الخامس - متى تحتاج البيّنة إلى ضمّ اليمين إليها؟
وذلك في الدعوى على الميّت، وقد ورد في ذلك حديثان:
الأوّل - ما عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه عن الشيخ (عليه السلام) «... وإن كان المطلوب بالحقّ قدمات فأُقيمت عليه البيّنة فعلى المدّعي اليمين باللّه الذي لا إله إلّا هو لقدمات فلان، وإن حقّه لعليه، فإن حلف، وإلّا فلا حقّ له، لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها، أو غير بيّنة قبل الموت، فمن ثمّ صارت عليه اليمين مع البيّنة ...»(2) إلّا أنَّ سند الحديث ضعيف بياسين الضرير.
والثاني - ما عن محمد بن الحسن الصفّار - بسند تامّ - أنّه كَتَبَ إلى أبي محمد (عليه السلام): «هل تقبل شهادة الوصيّ للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر
', '(1) مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 36.
(2) الوسائل، ج 18، باب 4 من كيفيّة الحكم، الحديث الوحيد في الباب، ص 173.
', 713), (14, 714, 'book', '
عدل؟ فوقّع: إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعي يمين. وكتب: أيجوز للوصيّ أن يشهد لوارث الميّت صغيراً أو كبيراً بحقّ له على الميت أو على غيره وهو القابض للوارث الصغير، وليس للكبير بقابض؟ فوقّع (عليه السلام): نعم، وينبغي للوصيّ أن يشهد بالحقّ ولا يكتم الشهادة. وكتب: أو تقبل شهادة الوصي على الميّت مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع: نعم، من بعد يمين»(1). بناءً على أنّ المقصود بذلك يمين المدّعي لايمين الوصيّ، وقد استظهر السيّد الخوئي ذلك بقرينة صدر الحديث، وكأنّ مقصوده أنّ كون اليمين في صدر الحديث على المدّعي مع عدم ذكر من عليه اليمين في ذيل الحديث يصرف الكلام إلى كون المقصود ممّا في الذيل أيضاً هو يمين المدّعي، وهذا الاستظهار قد يكون تامّاً بناءً على كون المقصود بالمدّعي في صدر الحديث غير الوصيّ وهو الوارث، أمّا بناءً على كون المقصود به هو نفس الوصيّ؛ لأنّ المدّعي له في العبارة هو الميّت لا الوارث، فهذه القرينة غير تامّة؛ لأنّ الوصيّ والمدّعي في الصدر واحد، فكون اليمين في الذيل عبارة عن يمين المدّعي ليس بأولى من كونه عبارة عن يمين الوصيّ.
ولكن الظاهر مع ذلك حمل اليمين على يمين المدّعي؛ إذ لو فرض ثبوت اليمين على من يشهد على الميّت فأىّ فرق بين أن يكون هذا الشاهد هو الوصىّ أو غيره؟ فحمل الحديث على إرادة يمين الوصىّ مع أنّه أحد الشاهدين - ولا يحتمل العرف فرقاً بينه وبين الشاهد الآخر - غير عرفي.
وهناك حديث آخر قد تستظهر من إطلاقه كفاية البيّنة في ثبوت الدعوى على الميّت بلاحاجة إلى يمين المدّعي، وهو ما عن محمد بن الحسن الصفّار - أيضاً بنفس السند - أنّه كَتَبَ إلى أبي محمد (عليه السلام) «رجل أوصى إلى ولده وفيهم كبار قد
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 28 من الشهادات، الحديث الوحيد في الباب، ص 273.
', 714), (14, 715, 'book', '
أدركوا وفيهم صغار، أيجوز للكبار أن ينفّذوا وصّيته، ويقضوا دينه لمن صحّ على الميت بشهود عدول قبل أن يدرك الأوصياء الصغار؟ فوقّع (عليه السلام): نعم على الكبار من الولد أن يقضوا دين أبيهم ولايحبسوه بذلك»(1)، فقد يقال: إنّ هذا الحديث لم يقيّد بفرض يمين المدّعي، وهذا يعني نفوذ البيّنة على الميّت بلا حاجة إلى يمين المدّعي.
وهنا ذكر السيّد الخوئي: أنّ إطلاق رواية الصفّار هذه يقيّد بروايته الأُولى(2).
أقول: ولعلّ هذه الرواية لا إطلاق لها؛ لأنّها واردة مورد بيان شيء آخر، وهو أنّ الكبار لا ينتظرون في تنفيذ الوصيّة درك الصغار سنّ التكليف أو الرشد، أمّا أنّ شهادة البيّنة متى تنفذ؟ فهذا خارج عن محطّ نظر الحديث سؤالا وجواباً.
ثمّ إنّ ضرورة ضمّ اليمين إلى البيّنة مخصوصة بالدَّين ولا تأتي في العين، أمّا على رواية الصفّار فلما ورد في نسخة الفقيه من قوله (عليه السلام): «أو تقبل شهادة الوصىّ على الميّت بدين مع شاهد آخر ...» . كلمة (بدين) وإن لم ترد في نسخة التهذيب والكافي، ولكنّ احتمال صحّة تلك النسخة كاف في تخصيص الحكم بالدَّيْن، بل حتى نسخة التهذيب والكافي ظاهرة في النظر إلى خصوص الدين؛ لأنّ هذا هو الظاهر من قوله (عليه السلام): «أو تقبل شهادة الوصىّ على الميّت» فإنّ الشهادة إن كانت راجعة إلى العين لم تكن شهادة على الميّت، وإنّما كانت شهادة على الوارث في كلّ المال، أو في ماعدا الثلث - على أقلّ تقدير -. وأمّا على رواية عبدالرحمان بن أبي عبداللّه فلظهور قوله (عليه السلام): «لعلّه قد أوفاه» في النظر إلى الدين، ولعل هذا هو الظاهر من قوله (عليه السلام): «وإنّ حقّه لعليه»، وادّعى السيّد الخوئي ظهور قوله (عليه السلام):
', '(1) الوسائل، ج 13 باب 50 من الوصايا، ح 1، ص 438.
(2) مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 18.
', 715), (14, 716, 'book', '
«المطلوب بالحقّ» في ذلك.
ولايخفى أنّ قوله (عليه السلام): «لعلّه قد أوفاه» لو لم يكن قرينة أو صالحاً للقرينيّة على إرادة فرض الدين لكان استظهار إرادة الدين من قوله (عليه السلام): «وإنّ حقّه لعليه» أو قوله (عليه السلام): «المطلوب بالحقّ» غير مفيد؛ لأنّ عموم التعليل كان يجرُّنا إلى التعدّي من الدَّين إلى العين، وعلى كلّ حال فلو فرضنا إطلاق هذه الرواية للعين و عدم اختصاصها بالدَّين قلنا: إنّ هذه الرواية ساقطة على أىّ حال سنداً، فالمهمّ هو الرواية الأُولى، وقد عرفت اختصاصها بالدَّين.
وهناك فرق بين مفاد الروايتين لابأس بالالتفات إليه وهو: أنّ الظاهر من رواية الصفّار هو اليمين على نفس ما شهدت به البيّنة، بينما الظاهر من رواية عبدالرحمان هو أنّ اليمين تكون على بقاء الدَّين لا نفس الدَّين الذي شهدت به البيّنة، ويترتّب على ذلك بعض الفوارق:
منها - أنّه لو اعترف الورثة بعدم الأداء على تقدير ثبوت الدين حدوثاً، فلو كنّا نحن و رواية عبدالرحمان لأنتفت الحاجة إلى اليمين، بينما لو بنينا على رواية الصفّار فلا بدّ من اليمين.
ومنها - أنّه لو ثبت الدين حدوثاً بغير البيّنة كما لو اعترف الورثة بذلك ووقع الشكّ في الأداء، فلو كنّا نحن ورواية الصفّار لا مبرّر لتحليف الدائن، فإنّ أصل الدَّين ثابت بغير البيّنة و رواية الصفّار إنّما دلّت على ضرورة الحلف فيما إذا كان ثبوت الدين بالبيّنة، والتعدّي إلى غير هذا الفرض لا مبرّر له، وبقاء الدَّين ثابت بالاستصحاب، فللدائن أن يأخذ حقّه، نعم لو ادّعى الوارث الأداء ولم تكن له بيّنة على ذلك وصلت النوبة إلى يمين الدائن لكونه منكراً، وهذا مطلب آخر لاعلاقة له بالمقام.
ومنها - أنّنا لو أخذنا بمفاد رواية عبدالرحمان - الدالّة على أنّ اليمين يمين
', '', 716), (14, 717, 'book', 'استظهار حذراً من أن يكون الميّت قد وفّى الدين، أو أنّ الدائن قد أبرأه والدائن ويُخفي ذلك - صحّ قيام الشاهد الواحد مع يمين المدّعي مقام البيّنة هنا كما هو ثابت في غير المقام، فبالشاهد الواحد مع يمين المدّعي يثبت حدوث الدَّين، وبيمين الاستظهار يثبت بقاؤه. أمّا لو أخذنا بمفاد رواية الصفّار فاليمين حلف على نفس مفاد البيّنة، وعند ذلك يدور الأمر فيما لو فيما لو لم يكن أكثر من شاهد واحد بين فروض ثلاثة:
الأوّل - أن يقال: إنّ الشاهد الواحد مع اليمين قام مقام البيّنة، ولابدّ من تكرار اليمين كي تكون اليمين الثانية هي التي أمرت بها رواية الصفّار.
الثاني - أن يقال: إن الشاهد الواحد مع اليمين قام مقام البيّنة مع اليمين التي أمرت بها رواية الصفّار، فإنّ رواية الصفّار أمرت بطبيعي اليمين وهو صادق على الفرد الأوّل من اليمين، ودليل قيام الشاهد الواحد مع اليمين أيضاً ينظر إلى طبيعي اليمين وهو صادق على الفرد الأوّل من اليمين؛ إذن فلا تبقى حاجة إلى يمين ثان؛ لأنّ اليمين الأُولى أصبحت مصداقاً لكلا الأمرين.
الثالث - وهو المختار أن يقال: إنّ الشاهد الواحد مع اليمين لايقوم هنا مقام البيّنة، وهذا تخصيص لقاعدة قيام الشاهد الواحد مع اليمين مقام البيّنة، فعلى هذا ليس بإمكان الدائن أن يثبت مدّعاه في المقام مادام لايمتلك عدا شاهداً واحداً. والوجه في ذلك: أنّ إثبات الدائن لمدّعاه لايكون هنا إلّا بأحد فرضين، وهما الفرضان الأوّلان اللذان ذكرناهما، بينما نحن نرى أنّ كلا الفرضين خلاف ظاهر رواية الصفّار: أمّا الفرض الأوّل - وهو إثبات مدّعاه عن طريق شاهد واحد ويمينين - فهو باطل؛ لأنّ ظاهر رواية الصفّار كون المأمور به طبيعي اليمين، وقد حصل بالفرد الأوّل، فلا معنى لتكرار اليمين، وأمّا الفرض الثاني - وهو إثبات مدّعاه بشاهد واحد ويمين - فهذا يعني أنّ الشاهد الثاني دائماً يكون لغواً في المقام، فالشاهد
', '', 717), (14, 718, 'book', 'الثاني في دعوى الدَّين على الحيّ فائدته الاستغناء عن اليمين أمّا في المقام فاليمين لابدَّ منه حسب مايفهم من رواية الصفّار، فإذا فرضنا كفاية شاهد واحد مع اليمين فهذا يعني لغوية الشاهد الثاني نهائياً، وهذا خلاف ظاهر رواية الصفّار؛ لأنّ السؤال كان عن نفوذ شهادة الشاهدين - الوصي مع شخص آخر - وكان الجواب: «نعم من بعد يمين»، وهذا يعني أنّ ثبوت الحقّ كان لمجموع الشاهدين مع اليمين، بينما لو كفى شاهد واحد مع اليمين فهذا يعني أنّ ثبوت الحقّ مستند إلى أحد الشاهدين مع اليمين.
إذن فرواية الصفّار - بعد استظهار هذين المطلبين منها: وهما عدم الحاجة إلى أكثر من يمين واحدة، والحاجة إلى شاهدين مع تلك اليمين - تكون مقيّدة لأدلّة قيام شاهد واحد مع اليمين مقام البيّنة.
وبما ذكرناه ظهر الفرق بين شاهد واحد ويمين وبين شهادة رجل وامرأتين، فشهادة رجل وامرأتين يمكن أن يضمّ في المقام إلى يمين المدّعي، ويثبت بذلك الدَّينُ على الميّت لعدم المحذور الذي شرحناه، ولكن شهادة رجل واحد ويمين المدّعي لاتضع شيئاً في المقام.
هذا والسيّد الخوئي في مباني التكملة(1) وإن انتهى إلى نفس النتيجة التي انتهينا إليها ولكن كلامه لا يخلو عن تشويش أو ضعف، فهو وإن برهن على عدم كفاية شاهد واحد ويمين في المقام بما ذكرناه من لزوم لغويّة الشاهد الثاني، ولكن لم يتّضح من كلامه أنّه لماذا لا يُكتفى بشاهد واحد مع تكرار اليمين كي يكون الفرد الأوّل مكمِّلا للشهادة والفرد الثاني؛ عملا برواية الصفّار؟! عدا أنّه ذكر: أنّ اليمين تنزّل في لسان دليل كفاية الشاهد الواحد مع اليمين منزلة الشاهد الثاني، بينما نزّلت شهادة امرأتين منزلة شهادة رجل واحد، ولاأعرف ماذا يقصد بهذا الفرق، ففي كلا
', '(1) ج 1، ص 21.
', 718), (14, 719, 'book', '
البابين قد ورد ما يدل على كفاية اليمين أو شهادة امرأتين عن شهادة الرجل الثاني، وماذا تؤثّر تسمية ذلك في الثاني بالتنزيل وعدم تسميته في الأوّل بذلك؟!
وختاماً ينبغي أن نشير إلى أنّ ما ذكرناه من أنّ مدّعي الدَّين على الميّت لا يمكنه أن يثبت مدّعاه إن لم يكن يمتلك عدا شاهداً واحداً إنما كنّا نقصد بذلك الإثبات في المرحلة الأُولى من القضاء؛ اُعني قبل عرض اليمين على المنكرين وهم الورثه. أمّا بعد أن عجز عن الإثبات بالبيّنة، ووصلت النوبة إلى يمين الورثة، ثمّ لم يحلفوا ولو لجهلهم بواقع الحال، فإمّا أن يتمّ النكول، ونقول بأن النكول يُثبِت أنّ الحقّ مع المدّعي، أو يتمّ الردّ أو النكول مع القول بردّ الحاكمِ اليمينَ على المدّعي لدى نكول المنكر - كما اخترناه فيما سبق - فالمدّعي عندئذ يحلف ويأخذ حقّه إن لم يكن الميّت مستحقّاً للثلث لعدم الوصيّة، وإلّا فيأخذ حقّه بمقدار ما يتعلَّق بالورثة الناكلين أو الرادّين للقسم، أمّا المقدار الراجع إلى الميّت من الثلث فلا سبيل لإثباته؛ لأنّ ظاهر الروايتين كون الإثبات متوقّفاً على البيّنة واليمين، ولاتوجد بالنسبة للميّت مرحلة ثانية وهي مرحلة ردّ اليمين إليه حتى يتمّ النكول أو الردّ، اللّهم إلّا إذا كان الوصي غير الشاهد، وكان وصيّاً عن الميّت حتى في الدفاع عنه في مثل المقام، فَرَدَّ اليمينَ أو نكل.
ومنها - أنّ الحاجة إلى اليمين مضافاً إلى البيّنة هل تختصّ بالدعوى على الميّت، أو تشمل غيره أيضاً ممّن لا يمكنه الدفاع عن نفسه كالغائب أو الصبي أو المجنون؟ فقد يفرّق في ذلك بين مفاد الروايتين، فلو أخذنا برواية الصفّار - فحسب - فالحكم خاصّ بالدعوى الميّت؛ لأنّه حكم على خلاف القاعدة نقتصر فيه على مورد النصّ، وإن تمسّكنا برواية عبدالرحمان فقد يُتعدّى عن الميّت إلى غيره بواسطة التعليل بقوله (عليه السلام): «لأنّا لاندري لعله قد أوفاه ببيّنة ...» فقد يقال: إنّ هذه العلّة ثابتة في الغائب أيضاً والصبي والمجنون.
$
', '', 719), (14, 720, 'book', 'وأجاب السيّد الخوئي عن ذلك بأنّ طرف المخاصمة في الصبي والمجنون إنّما هو وليّهما، وأمّا الغائب فهو على حجّته و يمكنه أن يدافع عن نفسه بعد حضوره(1).
أقول: إنّ طرف المخاصمة في الميّت أيضاً إنّما هو الوارث أو الوصيّ، فليس الفرق - الذي فرّق به بين الميّت من ناحية والصغير والمجنون من ناحية أُخرى - فارقاً. وعلى أيّ حال فالخطب سهل بضعف سند رواية عبدالرحمان.
 $
اليمين في الفقه الوضعي
وفي ختام البحث عن اليمين لا بأس بإعطاء لمحة مختصرة عن رأي الفقهالوضعي في المقام:
فنقول: قد قسّموا اليمين إلى قسمين:
القسم الأوّل - اليمين الحاسمة، وهي التي يُحسم النزاع بالحلف بها أو بالنكول عنها، وهي توجّه من قبل المدّعي إلى المنكر بإشراف القاضي، فلو حلف انحسم النزاع لصالح المنكر. ولو نكل انحسم النزاع لصالح المدّعي. وهذا في الحقيقة تحكيم لضمير المنكر من قبل المدّعي، فحلفه يكون بمعنى أنّ ضميره حكم لصالح المنكر، ونكوله بمنزلة الإقرار للمدّعي، أمّا لوردّ المنكر اليمين على المدّعي فهذا يعني أنّ ضميره لم يستعدّ للحكم، فحكّم المنكر هذه المرّة ضمير المدّعي في النزاع، والمدّعي ليس له ردّ اليمين مرّة أُخرى إلى المنكر، بل يدور أمره بين الحلف والنكول، فلو حلف انحسم النزاع لصالحه، ولو نكل انحسم النزاع لصالح المنكر.
القسم الثاني - اليمين المتمّمة، وهي اليمين التي ليست حاسمة للنزاع بشكل
', '(1) مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 22.
', 720), (14, 721, 'book', '
مطلق، وليست توجّه من قبل المدّعي إلى المنكر، بل يترك أمر تقدير الموقف في اليمين المتمّمة إلى القاضي: فأوّلا - القاضي هنا هو الذي يحلف وليس المدّعي. وثانياً - القاضي بإمكانه تحليف المدّعي، كما أنّ بإمكانه تحليف المنكر أو تحليفهما، وهو إنّما يحلِّف - لو قدَّر ذلك - من يرى أنّه قدّم دليلا ناقصاً على مدّعاه سواء كان مدّعياً أو منكراً، فيحلّفه كي يكون حلفه تكميلا للدليل، ولايحلّف من لادليل له، كما لا يحلّف من قَدَّرَ القاضي أنّ دليله تامّ لإثبات المدّعى. وثالثاً - ليس القاضي ملزماً بعد الحلف بالحكم لصالح الحالف، ولا بعد النكول بالحكم لصالح الطرف الآخر، كما ليس ملزماً بأصل التحليف، بل القاضي يقدّر الحال بعد الحلف أو النكول أنّه هل أصبح دليل الخصم أو صاحبه كاملا بهذا الحلف أو النكول فيحكم على طبق ذلك، أوْلا؟ ورابعاً - لايحقّ لمن يوجّه إليه القاضي اليمين المتمّمة أن يردّ اليمين على صاحبه.
وسمّيت هذه اليمين بالمتّممة لأنّ النتيجة المتوخّاة منها تتميم الدليل، كما سمِّيت اليمين الأُولى بالحاسمة لأنّ نتيجتها حسم النزاع.
وإلى جانب اليمين المتّممة الأصلية التي ذكرناها توجد لديهم أقسام أُخرى لليمين المتّممة وهي: يمين الاستيثاق، ويمين الاستظهار، ويمين التقويم:
أمّا يمين الاستيثاق فتوجّه - في القانون المصري - في أحوال ثلاثة:
1 - نصّت الفقرة الثانية من المادة (378) من التقنين المدني على أنّه «يجب على من يتمسِّك بأنّ الحقّ قد تقادم بسنة أن يحلف اليمين على أنّه أدى الدين فعلا، وهذه اليمين يوجّهها القاضي من تلقاء نفسه، وتوجّه إلى ورثة المدين أو أوصيائهم إن كانوا قُصَّراً بأنّهم لا يعلمون بوجود الدين أو يعلمون بحصول الوفاء».
ويمين الاستيثاق هذه يمين إجبارية؛ أي أنّ القاضي مجبور على توجيهها إلى المدين أو الورثة، بينما اليمين المتمّمة الأصلية لم تكن كذلك، وتوجّه إلى هؤلاء لا إلى الدائن بخلاف المتّممة الأصلية أيضاً، وإذا حلفها من وجّهت إليه كسب الدعوى حتما
', '', 721), (14, 722, 'book', 'بخلاف الأصلية أيضاً، لكنّها تبقى بعد كلّ ذلك - كما يقوله عبد الرزاق السنهوري - يميناً متّممة لا حاسمة؛ لأنّها تختلف اختلافاً جوهرياً عن الحاسمة في أنَّها ليست هي الدليل الوحيد في الدعوى، بل هي دليل تكميلي يعزّز الدليل الأصلي، وهو قرينة الوفاء المستخلصة من انقضاء سنة على وجود الدَّين، وهناك من يراها يميناً حاسمة.
2 - نصّت المادة (194/201) من الثقنين التجاري على «أنّ الأوراق المحرّرة لأعمال تجارية يسقط الحقّ في إقامة الدعوى بها بمضىّ خمس سنوات، وإنّما على المدّعى عليهم تأييد براءة ذمّتهم بحلف اليمين على أنّه لم يكن في ذمتهم شيء من الدين إذا دعوا للحلف، وعلى من يقوم مقامهم أو ورثتهم أن يحلفوا يميناً على أنّهم معتقدون حقيقة أنّه لم يبق شيء مستحقّ من الدين».
ويمين الاستيثاق هذه ليست بإجبارية، ولكن طلبها موكول إلى الدائن لا إلى القاضي، وتوجّه إلى المدين أو ورثته لا إلى الدائن، وإذا حلفها من وُجّهت إليه كسب الدعوى حتماً، ولكنّها مع ذلك يمين متّممه لأنّها دليل تكميلي يعزّز دليلا أصلياً في الدعوى هو قرينة الوفاء المستخلصة من انقضاء خمس سنوات على وجود الدين.
3 - نصّت المادّة (394) من التقنين المدني على (أن تعتبر الورقة العرفية صادرة ممّن وقّعها مالم ينكر صراحة ما هو منسوب إليه من خطّ، أو إمضاء، أو ختم، أو بصمة. أمّا الوارث أو الخلف فلا يطلب منه الإنكار، ويكفي أن يحلف يميناً بأنّه لا يعلم أنّ الخط، أو الإمضاء، أو الختم، أو البصمة هي لمن تلقّى عنه الحقّ).
قال السنهوري: (وهذا النصّ يختلف عن سابقيه، فهو يتكلم عن يمين تتمحّض في أنّها يمين على عدم العلم، ثمّ أنّها لا تعزّز دليلا أصلياً في الإثبات، بل هي تساعد الورثة على اتّخاذ موقف المنكر للورقة العرفية، فهي لا تثبت شيئاً، ولكنها تُنشىء موقفاً، بَيْدَ أنّها على كلّ حال يمين متّممة من نوع خاصّ؛ إذ يستكمل بها من
', '', 722), (14, 723, 'book', 'حَلَفها الشروطَ القانونيّة اللازمة لدفع حجّيّة الورقة العرفية في الإثبات، ومن هذه الناحية وحدها يمكن اعتبارها في كثير من التجوّز يمين استيثاق).
وأمّا يمين الاستظهار فهذه اليمين لا وجود لها في التقنين المدني المصري، وهي موجودة في التقنين المدني العراقي، ويقول السنهوري: «إنّ التقنين المدني العراقي أخذها عن الفقه الإسلامي.»
وقد نصّت المادّة (484) من هذا التقنين على ما يأتي: «تحلّف المحكمة من تلقاء نفسها في الأحوال الآتية: أ - إذا ادّعى أحد في التركة حقّاً وأثبته فتحلّفه المحكمة يمين الاستظهار على أنّه لم يستوفِ هذا الحقّ بنفسه ولا بغيره من الميّت بوجه، ولا أبرأه، ولاأحاله على غيره، ولا استوفى دينه من الغير، وليس للميّت في مقابلة هذا الحقّ رهن. ب - إذا استحقّ أحد المال وأثبت دعواه حلّفته المحكمة على أنّه لم يبع هذا المال، ولم يهبه لأحد، ولم يخرجه من ملكه بوجه من الوجوه. جــ - إذا أراد المشتري ردّ المبيع لعيب حلّفته المحكمة على أنّه لم يرض بالعيب صراحة أو دلالة».
ثمّ نقل قانون البيّنات السوري مادّة (123) هذا النصّ وأضاف إليه حالة رابعة هي: «إذا طالب الشفيع بشفعة حلّفته المحكمة بأنّه لم يسقط حقّ شفعته بوجه من الوجوه».
قال السنهوري ما ملخّصه: «وهذه الحقوق المذكورة في النصّ تجتمع في أنّها تنطوي على شيء من الخفاء، فيتمّم الدليل بيمين استظهار، وهي يمين متّممة لها خصائص يمين الاستيثاق، فهي يمين إجبارية يوجّهها القاضي إلى الخصم بالذات يعيّنه القانون، وإذا حلف الخصم كسب حتماً دعواه».
وأمّا يمين التقويم فتنصّ المادّة (417) من التقنين المدني المصري:
«1 - لا يجوز للقاضي أن يوجّه إلى المدّعي اليمين المتّممة لتحديد قيمة
', '', 723), (14, 724, 'book', 'المدّعى به إلّا إذا استحال تحديد هذه القيمة بطريقة أُخرى.
2 - ويحدّد القاضي حتى في هذه الحالة حدّاً أقصى للقيمة التي يصدّق فيه المدّعي بيمينه».
وقال السنهوري في شرح النص:
«وموضوع يمين التقويم هو - كما نرى من النصّ - تقدير قيمة شيء واجب الردّ وتعذّر ردّه فيقضى بقيمته، مثل ذلك وديعة أو عارية هلكت بتعدٍّ فيقضى يقيمته للمودّع أو المعير، ومثل ذلك أيضاً بيع أو إيجار فسخ وتعذّر ردّ المبيع، أو العين الموجرة بتقصير من المشتري أو الموجر فيقضي بالقيمة للبايع أو الموجر، ولكن هذه القيمة استحال تقديرها بأىّ طريق ولو بطريق الخبراء على أساس تعيينها بالوصف، فلم يعُدْ مناص من الرجوع في قيمتها إلى المدّعي، فيوجه إليه القاضي يمين التقويم. ومن هنا نرى أنّ الخصم الذي توجّه إليه هذه اليمين المتّممة هو دائماً المدّعي الذي يطالب باسترداد الشيء دون المدّعى عليه المطلوب منه الردّ.
ثمّ إنّ موضوع اليمين هو دائماً المبلغ الذي يقدّر به المدّعي قيمة الشيء المطلوب ردّه على أن لايجاوز هذا المبلغ حدّاً أقصى يعينه القاضي بحسب تقديره وفقاً لما يستخلصه من ظروف الدعوى، وفي هاتين الخصيصتين تختلف أحكام يمين التقويم عن أحكام اليمين المتّممة الأصليّة. ولكن أحكام هذه اليمين تتّفق مع أحكام اليمين المتّممة الأصلية في أنّها لايجوز ردّها على الخصم الآخر، وفي أنّ القاضي لا يتقيّد بموجبها، فللقاضي أن يحكم بأقلّ من المبلغ الذي حلف عليه الخصم، أو بأكثر لاسيّما إذا قدّم أحد الخصمين بعد الحلف عناصر جديدة يستطيع القاضي أن يستهدي بها في تقدير قيمة الشيء، كذلك للمحكمة الاستئنافية أن تنقص أو تزيد في المبلغ الذي
', '', 724), (14, 725, 'book', 'قضت به المحكمة الابتدائية»(1).
أقول: أمّا اليمين الحاسمة فقد بحثنا رأي الإسلام في ذلك بتفصيل، وأمّا اليمين المتّممة الأصلية فهي فرع وجود قرائن ناقصة عندهم بحاجة إلى تكميل باليمين، أمّا الاسلام فالقرائن لديه إمّا هي تامّة كالبيّنة في محلّها والإقرار وحكم القاضي في مورد نفوذه، أولا اعتباربها نهائياً، ولا تكمّل باليمين.
وأمّا يمين الاستيثاق في موارد تقادم الحقّ فالإسلام غير معترف بقوانين تقادم الحقّ أصلا، فلا يبقى موضوع لهذه اليمين، و أمّا في موارد الورقة العرفية فالإسلام لا يعترف بالورقة إلّا في مورد تفيد العلم في الحدود التي تقول بحجّيّة علم القاضي فيها، ويمين الوارث على عدم العلم بالدين أو بصحّة الخطّ أو الإمضاء لا موضوع له أيضاً إلّا إذا وقع النزاع على علمه بذلك، وعندئذ تكون اليمين حاسمة.
وأمّا يمين الاستظهار فقد رأينا نموذجاً لها في الإسلام في دعوى الدين على الميّت، أمّا الموارد التي ذكروها فلا.
وأمّا يمين التقويم فأيضاً لا أساس لها في الإسلام. نعم من يدّعي زيادة القيمة وتردّ عليه اليمين من قبل المنكر أو القاضي يحلف، ولكن هذه يمين حاسمة لاعلاقة لها باليمين المتّممة.
$
', '(1) راجع بصدد بحث اليمين من زاوية الفقه الوضعي (الوسيط في شرح القانون المدني) لعبد الرزاق السنهوري ج 2، ص 514 - 596.
', 725), (14, 726, 'book', '
 $
$
', '', 726), (14, 727, 'book', ' $
$
', '', 727), (14, 728, 'book', ' $
$
', '', 728), (14, 729, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
 $
الطريق الرابع - الإقرار.
لاإشكال في أنّ الإقرار من أي واحد من الطرفين يُنهي النزاع تكويناً، إنّما الكلام في حجّيّته ونفوذه وذلك على مستويين:
المستوى الأوّل - نفوذه مادام مُقِرّاً؛ أي أنّه لو أراد أن يعمل رغم إقراره على خلاف ما هو مُقّرٌّ به يُرغم من قبل الحاكم على العمل بالإقرار.
والمستوى الثاني - نفوذه حتى بعد الإنكار؛ أي أنّ القاضي يقضي وفق إقراره وينهي النزاع، فلا يتجدّد نزاع آخر لو أنكر بعد حكم القاضي، وكذلك لايؤثّر إنكاره لو أنكر قبل حكم القاضي، فعلى كلّ تقدير يكون إقراره السابق نافذ المفعول.
والصحيح الذي لا إشكلال فيه فقهياً هو نفوذ الإقرار في باب القضاء ليس على المستوى الأوّل فحسب، بل على المستوى الثاني.
وقبل أن نبحث الدليل على ذلك نشير إلى أنّه لو تمّ دليل على ذلك فهذا الدليل لا يعارض إطلاق حديث «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(1) لا بالأخصيّة ولا
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 2 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 169.
', 729), (14, 730, 'book', '
بالعموم من وجه: أمّا لو كان نفوذ الإقرار بالمستوى الأوّل فحسب فواضح؛ إذ لا يوجد فيه قضاء ولانزاع، فلا موضوع لمسألة حصر القضاء بين المتنازعين بالبيّنات والأيمان، وأمّا نفوذه على المستوى الثاني فقد يفترض تنافيه مع اطلاق حصر القضاء بالبيّنة واليمين.
ولكن الظاهر أنّ هذا الإطلاق منصرف عن كونه في مقابل الإقرار؛ لأنَّ ارتكاز نفوذ الإقرار عقلائياً يمنع عن تكوّن إطلاق من هذا القبيل، ولااُريد الآن أن ادّعي حجّيّة هذا الارتكاز لإثبات نفوذ الإقرار، وإنّما أقول: إنّ هذا الارتكاز حتى لو لم يكن حجّة يمنع عن تكوّن الإطلاق، فإنّ المداليل اللّفظية اللّغوية للكلمات ليست هي المقياس الوحيد في اقتناص الظهور والإطلاق، بل للمناسبات والارتكازات أثر ملحوظ في ذلك.
 $
دليل نفوذ الإقرار:
أمّا الدليل على نفوذ الإقرار، فقد يستدلّ على ذلك بالكتاب، وأُخرى بالسنّة،وثالثة بالإجماع، ورابعة بالارتكاز:
أمّا الكتاب - فبآيات من قبيل قوله - تعالى -:
﴿وإذْ أَخَذَ اللّهُ ميثاقَ النبيّينَ لمّا آتَيتُكُم من كتاب وحكمة، ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لَتُؤمِنُّنَ به وَلَتنصُرنّه، قال: أَأَقررَتُم وَ أَخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا: أقررنا: قال: فاشهدوا، وأنا معكم من الشاهدين﴾(1) ومن الواضح أنّ الإقرار هنا بمعنى التعهّد وإعطاء الميثاق، لا بالمعنى المقصود في المقام، ولا علاقة
', '(1) آل عمران، الآية 81.
', 730), (14, 731, 'book', '
لمورد الآية بما نحن فيه أبداً، كما أنّ المقصود بالشهادة في ذيل الآية - على ما يبدو - هي الشهادة عن الأُمّة التي كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) - في إعطائه للميثاق - ممثلا لها لا الشهادة على أنفسهم، ولو كان المقصود هي الشهادة على أنفسهم قلنا: لم تجعل هذه الشهادة موضوعاً للحكم الشرعي بالنفوذ.
وقوله - تعالى -: ﴿وآخَرون اعترفوا بذنوبِهِم خَلَطوا عَمَلا صالحاً وآخَرَ سَيِّئاً عسى اللّهُ أن يتوبَ عليهم، إنّ اللّه غفور رحيم﴾(1).
وهذه الآية أيضاً - كما ترى - أجنبيّة عن المقام، وإنّما هي بصدد بيان أنّ الاعتراف بالذنب يوجب التخفيف.
وقوله - تعالى -: ﴿وإذْ أخَذَ ربُّك من بني آدَمَ من ظهورِهِم ذُرِّيَّتَهم وأَشهَدَهم على أنفُسِهِم أَلَستُ بربِّكُم؟ قالوا: بلى شهدنا،؛ أن تقولوا يوم القيامة: إنّا كنّا عن هذا غافلين﴾(2). وهذه أيضاً أجنبيّة عن المقام، فصدرها ينظر إلى التعهُّد والميثاق لا الاعتراف، وذيلها ينظر إلى أنّ الاعتذار بالغفلة باطل؛ لأنّ الغفلة انتفت بأخذ الميثاق بمعنى جعل فكرة التوحيد أمراً معجوناً بالفطرة والطينة مثلا، ولا علاقة لذلك بنفوذ الإقرار.
وقوله - تعالى -: ﴿يا أَيُّها الذين آمنوا كُونوا قَوّامينَ بالقِسْطِ شُهداء للّه ولو على أنفسكم أو الوالدَيّنِ والأَقرَبِين﴾(3).
وهذه الآية أقرب الآيات إلى المقصود، ولكنّها أيضاً أجنبيّة عنه، فإنّها لا تدلُّ على أكثر من تحبيذ الإقرار بالحقّ والالتزام به المؤثّر في رفع النزاع تكويناً. ولا
', '(1) التوبة الآية، 102.
(2) الاعراف الآية، 172.
(3) النساء، الآية 135.
', 731), (14, 732, 'book', '
علاقة له بنفوذ الإقرار على شيء من المستوَيَيْن.
وأمّا السنّة - فهناك عدّة روايات يمكن أنّ يستفاد منها نفوذ الإقرار من قبيل:
1 - ما جاء في البحار نقلا عن كنز الكراجكي من النبوي المرسل عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «قل الحقّ ولو على نفسك»(1).
وهذا - كما ترى - بغضّ النظر عن إرساله يلائم فرض النظر إلى وجوب الصدق والالتزام بالحقّ ولو على نفسه، ورفع النزاع تكويناً من دون نظر إلى الحجّيّة الشرعية.
2 - ما عن جراح المدائني عن أبي عبداللّه (عليه السلام) انه قال: «لا أقبل شهادة الفاسق إلّا على نفسه»(2)، والقبول يعني الحجّيّة، وبقرينة ارتكاز حجّيّة الإقرار بكلا المستويين السابقين نفهم منه الحجّيّة حتّى بالمستوى الثاني؛ بحيث لو لم نقل بحجّيّة الارتكاز ببركة دلالة عدم الردع على الإمضاء - مثلا - فهذا الحديث يدلّ على المستوى الثاني من الحجّيّة بالإطلاق الذي إن لم يتمّ بمقدّمات الحكمة فإنّه يتمّ ببركة الارتكاز، إلّا أنّ سند الحديث غير تامّ.
3 - مرسلة محمد بن الحسن العطّار عن بعض أصحابه عن أبي عبداللّه (عليه السلام)قال: «المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمناً عليه»(3).
وهذا الحديث إضافة إلى سقوطة سنداً غير تامّ دلالة، ولا يبعد أن يكون
', '(1) البحار ج 77، وهو الروضة من البحار باب ما جمع من مفردات كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله)، ص 171.
(2) الوسائل، ج 16، باب 6 من الإقرار، الحديث الوحيد في الباب ص 112.
(3) الوسائل، ج 16، باب 3 من الإقرار، ح 1، ص 111.
', 732), (14, 733, 'book', '
مفاده أنّ المؤمن لو اتّهمه سبعون مؤمناً بشيء وأنكر كان مقتضى حمله على الصحّة قبول إنكاره، وهي قضيّة أخلاقيّة لا علاقة لها بباب القضاء.
4 و 5 - المرسلتان المرويتان عن عوالي اللآلي عن مجموعة أبي العباس بن فهد في الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»، وقال: «لا إنكار بعد إقرار»(1) ودلالة المرسلة الثانية على المستوى الثاني من الحجّيّة في غاية الوضوح، أمّا المرسلة الأُولى فتكمّل دلالتها عليه إمّا بإطلاقها بمقدّمات الحكمة لفرض تعقيب الإقرار بالإنكار، أو بضمّ الارتكاز المكمّل للإطلاق. وعلى أيّ حال فهما ساقطتان سنداً.
6 - روايات نفوذ شهادة بعض الورثة في مال المورّث عليه بقدر حصّته(2). وفيها ما هو تامّ سنداً، وتتمّ دلالتها على المستوى الثاني من حجّيّة الإقرار - وهو حجّيّته حتى بعد الإنكار - ولو بمعونة الارتكاز.
7 - ما عن منصور بن حازم - بسند تامّ - قال: «سألت أباعبداللّه (عليه السلام) عن رجل أوصى لبعض ورثته: أنّ له عليه ديناً؟ فقال: إن كان الميّت مرضيّاً فأعطه الذي أوصى له»(3).
وقد يحتمل كون الحديث ناظراً إلى حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات لا إلى حجّيّة الإقرار، وذلك لتقييد نفوذ إقراره بكونه مرضيّاً، فكأنّ إقراره لولاكونه مرضيَّاً لاينفذ ولو بنكتة فرضه في مرض الموت، أو بنكتة أنّه لم ينفّذ هو ما أقرّ به إلى
', '(1) مستدرك الوسائل، ج 3، باب 2 من الإقرار، ح 1 و 2، ص 48.
(2) الوسائل، ج 13، باب 26 من كتاب الوصايا، ص 401 - 404 .
(3) الوسائل، ج 16، باب 1 من الإقرار، الحديث الوحيد في الباب ص 110، و ج 13 باب 16 من الوصايا، ح 1، ص 376.
', 733), (14, 734, 'book', '
أن مات فأصبح بعد الموت إقراره على باقي الورثة، ولكن ينفذ إقراره إذا كان مرضيّاً من باب حجّيّة خبر الثقة.
ويحتمل أيضاً الّا يكون نفوذ شهادته من باب حجّيّة خبر الثقة محضاً بأن يكون خبر الثقة حجّة في كلّ الموضوعات، بل يكون نفوذ شهادته من باب كونها إقراراً على نفسه، فليس إقراره هو النافذ مطلقاً؛ لأنّه في مرض الموت، أو لأنّه إقرار على الورثة، وليس خبر الثقة هو النافذ مطلقاً لأنّه في الموضوعات، ولكن باجتماع الوثاقة مع كون شهادته إقراراً على نفسه صارت الشهادة نافذة، وبناءً على هذا الاحتمال الثاني تكون الرواية دالّة على حجّيّة الإقرار؛ لأنّ شرط كون الميّت مرضيّاً - بعد فرض عدم حجّيّة خبر المرضيّ في مطلق الموضوعات - انصرف بالارتكاز إلى كونه بنكتة كون الشهادة في مرض الموت، أو إقراراً على الورثة.
فإذا استبعدنا الاحتمال الأوّل وهو حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات بقرينة الروايات الواردة في الموارد المتفرقة التي ينتزع منها عدم حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات تعيّن الأمر في هذا الحديث في الاحتمال الثاني، وبهذا تتمّ دلالته على حجّيّة الإقرار، إلّا أنّه لا يمكن هنا تتميم إطلاقه للمستوى الثاني من حجّيّة الإقرار؛ أي نفوذه بعد الإنكار ولو بمعونة الارتكاز؛ إذ من الواضح من فرض الرواية أنّه مات بلا إنكار.
8 - ما عن عبداللّه بن المغيرة عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجلين كان معهما درهمان، فقال أحدهما: «الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك، فقال: أمّا الذي قال هما بيني بينك فقد أقرّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له وأنه لصاحبه، ويقسّم الآخر بينهما»(1)، وقد مضى الكلام في سند
', '(1) الوسائل، ج 13، باب 9 من الصلح، الحديث الوحيد في الباب، ص 169.
', 734), (14, 735, 'book', '
هذا الحديث ضمن بحثنا عن قاعدة العدل الإنصاف. أمّا دلالته فالظاهر أنّها غير تامّه؛ لإنّها تنسجم مع افتراض قصر نظره إلى مجرّد أنّ الإقرار يعني عدم النزاع، فالنزاع إنّما هو على درهم واحد. فالذي يقسَّم بينهما إنَّما هو أحد الدرهمين، وهذه النتيجة - كما ترى - ليست بحاجة إلى افتراض الحجّيّة الشرعيّة للإقرار.
9 - ما عن السكوني - بسند ضعيف بالنوفلي - عن جعفر عن أبيه عن علىّ (عليهم السلام) في رجل أقرّ عند موته لفلان وفلان: لأحدهما عندي ألف درهم، ثمّ مات على تلك الحال فقال علىّ (عليه السلام): «أيُّهما أقام البيّنة فله المال، وإن لم يقم واحد منهما البيِّنة فالمال بينهما نصفان»(1)؛ بناءً على التعدّي إلى باب المرافعة، ولكنّه لا يثبت نفوذ الإقرار بعد تعقيبه بالإنكار.
10 - روايات حجّيّة الإقرار الواردة في باب الحدود بناءً على التعدّى العرفي منها إلى باب القضاء في الموارد التي ليست بأشدّ من تلك الحدود. وفي هذه الروايات ما لايدلّ على أكثر من المستوى الأوّل للحجّيّة، أي حجّيّة الإقرار قبل الإنكار من قبيل ما عن محمّد بن قيس - بسند تامّ - عن أبي جعفر (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام)في رجل أقرّ على نفسه بحدّ ولم يسمِّ أىَّ حدّ هو، قال: «أمر أن يُجلد حتى يكون هو الذي ينهي عن نفسه في الحدّ»(2)، ولكن فيها عدّة روايات ممّا يدل على المستوى الثاني من الحجّيّة؛ أعني حجّيّته حتى بعد الإنكار من قبيل ما عن الحلبي - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجل أقرّ على نفسه بحد، ثمّ جحد بعد، قال: «إذا أقرّ على نفسه عند الإمام أنّه سرق، ثمّ جحد قطعت يده وإن رغم أنفه، وإن أقرَّ على نفسه أنّه شرب خمراً أو بفرية فاجلدوه ثمانين جلدة. قلت: فإن أقرَّ على نفسه بحدّ
', '(1) الوسائل، ج 13، باب 25 من الوصايا، الحديث الوحيد في الباب، ص 400.
(2) الوسائل، ج 18، باب 11 من مقدمات الحدود، الحديث الوحيد في الباب، ص 318.
', 735), (14, 736, 'book', '
يجب فيه الرجم أكنت راجمه؟ قال: لا، ولكن كنت ضاربه الحدّ»(1) وعنه - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا أقرّ الرجل على نفسه بحدّ أو فرية ثمّ جَحَد جُلِد. قلت: أرأيت إن أقرّ على نفسه بحدّ يبلغ فيه الرجم أكنت ترجمه؟ قال: لا، ولكن كنت ضاربه»(2) وعن محمد بن مسلم - بسند تامّ - عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «من أقرّ على نفسه بحدّ أقمته عليه إلّا الرجم، فإنه إذا أقرّ على نفسه ثمّ جحد لم يرجم»(3).
والاستدلال على نفوذ الإقرار في باب القضاء بروايات نفوذه في باب الحدود بدعوى التعدّي العرفي، فيه بعض الثغرات:
فأوّلا - أنّ الحدّ إذا وصل إلى مستوى الرجم يسقط بالإنكار بعد الإقرار، فدليلنا على نفوذ الإقرار في القضاء لو كان هو التعدّي من باب الحدود لم يثبت بذلك جواز القتل بالقِصاص في باب المرافعة عندما يعقب إقراره بالإنكار، نعم لا يصلح هذا مقيِّداً لإطلاقات نفوذ الإقرار في باب القضاء لو تمّت في نفسها؛ أي أنه مع فرض تماميّة الإطلاق في بعض الأدلّة الماضيّة لنفوذ الإقرار في باب القضاء حتى بعد الإنكار - ولو في القتل - يكفينا ذلك في الإفتاء بنفوذ الإقرار بالقتل ولو أنكر بعد ذلك، وليس دليل سقوط الرجم بالإنكار مقيِّداً لهذا الإطلاق؛ لأنّ احتمال الفرق بين الرجم في باب الحدود والقِصاص في باب القضاء وارد.
وأمّا ما ورد عن جميل بن دراج عن بعض أصحابه عن أحدهما (عليهما السلام) أنّه قال: «إذا أقرّ الرجل على نفسه بالقتل قتل إذا لم يكن عليه شهود، فإن رجع وقال لم
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من مقدّمات الحدود، ح 1، ص 319.
(2) الوسائل، ج 18، باب 12 من المقدّمات الحدود، ح 2، ص 319.
(3) نفس المصدر ح 3.
', 736), (14, 737, 'book', '
أفعل ترك، ولم يقتل»(1)، فهو ساقط بالإرسال.
وثانياً - أنّ الحدّ في بعض الموارد لايثبت بالإقرار مرّة واحدة كما في الزنا؛ حيث يشترط فيه الإقرار أربع مرّات، وكما في اللّواط؛ حيث يشترط فيه الإقرار أربع مرّات مطلقاً أو لدى كون حدّه هو القتل، وكما في السرقة على رأي المشهور من اشتراط الإقرار مرّتين، فماذا نقول في باب القضاء؟
هل نقول بكفاية الإقرار مرّة واحدة، أو باشتراط التعدّد مرّتين، أو أربع مرّات، أو نقول: إنّ التعدّي إلى باب القضاء بالحكم بكفاية إقرار واحد إنّما يختصّ بما يكون أخفّ من الجلد في الزنا مثلا، فالقِصاص بالضرب بقدر حدّ الزنا أو بقطع عضومّاً - مثلا - لا يثبت بالإقرار بسبب التعدّي من أدلّة الإقرار في الحدود، بل لو قلنا بعدم كفاية الإقرار الواحد في السرقة فرواياته(2) تشمل مورد الموافقة، فلو تمّ إطلاق في باب القضاء يدلّ على كفاية إقرار واحد، قيّد في باب السرقة بتلك الروايات؟
وقد يقال في مقام علاج الثغرة الثانية في الجملة: إنّ روايات(3) عدم كفاية الإقرار الواحد في السرقة: بعضها ضعيف سنداً، وبعضها ضعيف دلالة، ونرجع إلى ما دلّ على كفاية الإقرار الواحد في السرقة(4)، ونتعدّى منه إلى باب القضاء حتى في ما يبلغ في الشدّة إلى مستوى القطع، نعم هذا لا يعالج ما يبلغ مستوى القتل مثلا.
وقد يقال في مقام علاج الثغرة الأُولى: إنّنا إذا أثبتنا نفوذ الإقرار قبل الإنكار ولم يتمّ الإطلاق لما بَعْدَ الإنكار أمكننا أن نتمسّك بعد الإنكار باستصحاب نفوذ الإقرار على كلام في بعض الموارد يأتي - إن شاء اللّه تعالى -.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من مقدمات الحدود، ح 4، ص 320.
(2) و (3) و (4) راجع الوسائل، ج 18، باب 3 من حدّ السرقة.
', 737), (14, 738, 'book', '
وأمّا الإجماع فلا إشكال إجمالا في الإجماع على نفوذ الإقرار في باب القضاء، إلّا أنّه قد يقال: إنّ هذا الإجماع لاعبرة به بعد وجود مدارك عديدة للقول بنفوذ الإقرار، فتكون العبرة بتلك المدارك صحّةً وسقماً، لا بالإجماع.
إلّا أنّه - بناءً على ما هو الصحيح من كون حجّيّة الإجماع على أساس الحدس وحساب الاحتمالات - قد يقال حينما يكون الإجماع في غاية الوضوح والسعة والانتشار في جميع الطبقات من العلماء في طول التاريخ: إنّنا نستبعد خطأهم جميعاً رغم فرض استنادهم إلى المدارك، فإمّا أنّ إجماعهم نشأ من أخذ الحكم يداً عن يد من زمن المعصوم (عليه السلام)، أو أنّهم اعتمدوا على بعض هذه المدارك ممّا يدلّ بنفسه على صحّة ذاك المدرك، وأنّ الدغدغة الموجودة لدينا فيه سنداً أو دلالة كان من الواضح قديماً خلافها. هذا إذا لم نكتشف استمرار الإجماع إلى زمن أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، وإلّا فقد ثبت ما هو أقوى من الإجماع، وهو ارتكاز المتشرّعة.
وأمّا الارتكاز - فيمكن أن يطبّق هنا على الارتكاز العقلائي، ولاشكّ أنّ المرتكز عقلائياً هو نفوذ لإقرار، ولايبعد الجزم بكون ذلك ناشئاً من طبع عقلائي قائم على أساس قوّة كشف الإقرار نوعاً من ناحية، وتطابق درجة الاهتمام بالحفاظ على الاغراض والحقوق العقلائية لفرض الاعتماد على هذا الكشف من ناحية أُخرى ممّا يثبت أنّ هذا الارتكاز ليس قائماً على أساس نكتة حديثة، بل النكتة في ذلك عميقة بعمق التاريخ، وبهذا يثبت رسوخ الارتكاز في زمن المعصومين (عليهم السلام)، فعدم الردع من قبلهم بشكل واضح يصلنا، دليل على الإمضاء.
كما يمكن أن يقال: إنّه لو لم نجزم بكون مفاد هذا الارتكاز العقلائي واضحاً لدى العقلاء في ذاك الزمان فلا أقلّ من الجزم اما بأنّه كان واضحاً، أو كان مقبولا، أو محتملا، فعلى أيّ تقدير لا نحتمل مخالفة ذلك من قبل المتشرِّعين من دون سؤال عن المعصوم وحصول الجواب منه بنفي نفوذ الإقرار، ولو كان شيء من هذا القبيل لكان
', '', 738), (14, 739, 'book', 'يصلنا حتماً، فنحن نثبت بهذا البيان أنّ عمل المتشرّعة وارتكازهم كان وفق نفوذ الإقرار آخذين ذلك من العقلاء مع سكوت الشارع، أو من الشريعة.
هذه هي الأدلّة التي يمكن الاستدلال بها على حجّيّة الإقرار في باب القضاء.
 $
دائرة نفوذ الإقرار:
وبعد ذلك يجب أن نرى أنّ المستنتج من مجموع هذه الادلّة أو الصحيح منهاهل هو نفوذ الإقرار في القضاء على الإطلاق؟ أو هناك بعض موارد باقية تحت الشكّ في النفوذ؟
فنقول: قد ظهر من مجموع ما مضى أنّ حديثاً مشتملا على الإطلاق الواضح سنخَ «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» غير ثابت سنداً، وإنّما هناك بعض الروايات الواردة في موارد خاصّة دالّة على نفوذ الإقرار من قبيل ما دلّ على نفوذ إقرار بعض الورثة في حصّته حينما يشهد بدين في مال المورِّث، ويتعدّى منه إلى سائر الموارد: إمّا باليقين بعدم الفرق، أو بانعقاد دلالة لفظيّة ببركة ارتكاز عدم الفرق، ومن هنا قد يحصل التشكيك في بعض الموارد بدعوى احتمال الفرق، وذلك كما في الموارد التي ينتهي نفوذ الإقرار فيها إلى القتل، أو قطع العضو، أو نحو ذلك ممّا قد يحتمل الفرق بينه وبين مثل قضية مالية بحتة واردة في روايات إقرار الوارث مثلا، وأمّا الإجماع والارتكاز فهما دليلان لُبِّيَّان، فقد يُشكَّك في شمولهما لمَورِد مّا، خاصّة مع ورود ما دلّ على عدم نفوذ الإقرار مرّة واحدة في السرقة ولو لم يتمّ سنداً.
والواقع أنّه لاينبغي الإشكال في استقرار الارتكاز العقلائي على نفوذ الإقرار مطلقاً، وكذلك ارتكاز المتشرّعة في زمان المعصوم الذي هو مستند إمّا إلى الارتكاز العقلائي، أو إلى نفس الشريعة، ولامحلّ للتشكيك في ذلك إلّا بقدر ما ورد في بعض
', '', 739), (14, 740, 'book', 'الروايات من الردع عن ذلك، ولم يردْ ردع عن نفوذ الإقرار إلّا في موارد معدودة:
المورد الأوّل - بعض الحدود التي لا يكفي فيها الإقرار إلّا أربع مرّات، فهذا ردع عن نفوذ الإقرار فيما كان أقلّ من أربع مرّات، وهذا الردع نأخذبه بلا إشكال، وقد أخذ به الأصحاب والفقهاء - رضوان الله عليهم - و لا يضرّ ذلك بما هو المتبنّى عادة من نفوذ الإقرار في باب القضاء، فإنّ هذا خارج أصلا عن باب القضاء، واحتمال الفرق بين تلك الحدود وبين ثبوت القتل في باب النزاع وارد.
المورد الثاني - سقوط حكم القتل عند رجوعه عمّا أقرّ به في بعض الحدود، بل في مورد القِصاص أيضاً على ما عرفت من ورود رواية ضعيفة بذلك وهي مرسلة جميل.
وهذاأيضاً لا يضرّنا في المقام؛ لأنّه بعد أن كانت الرواية الواردة في القِصاص ضعيفة سنداً، والروايات الواردة في الحدود احتمال الفرق بين موردها ومورد القضاء موجود، فغاية ما يفترض في المقام هو الشكّ في نفوذ الإقرار بعد الإنكار، و علاج ذلك هو استصحاب نفوذه الثابت قبل الإنكار.
نعم، لو لم يثبت إقراره لدى القاضي إلّا بعد إنكاره - أي أنّه بعد الإنكار ثبت لدى القاضي أنّه كان قد أقرّ قبل ذلك بالقتل - فهنا يكون استصحاب نفوذ الإقرار من سنخ الاستصحاب التعليقي بأن يقال: إنّ هذا الإقرار لو كان قد ثبت لدى القاضي قبل إنكاره لنفذ، والآن كما كان، فيتوقف البحث في المقام على المبنى المختار في باب الاستصحاب التعليقي، أمّا إذا كان الإقرار ثابتاً لدى القاضي قبل الإنكار ثمّ أنكر بعد ذلك فلا إشكال في استصحاب نفوذ الإقرار.
المورد الثالث - موضوع السرقة حيث ورد فيه ما دلّ على عدم كفاية الإقرار الواحد، وأفتى المشهور بذلك إلّا أنّ هذا لو قلنا به فإنّما هو في جانب قطع اليد الذي هو حدّ من الحدود، أمّا جانب الضمان فلم يردْ بشأنه شيء من هذا القبيل،
', '', 740), (14, 741, 'book', 'فيبقى داخلا تحت الارتكاز، أمّا إذا رفضنا روايات عدم كفاية الإقرار الواحد بضعف السند، وتمسّكنا بالروايات الدالّة على كفايته السرقة فقد ثبت الحدّ أيضاً لا بالارتكاز؛ كي يقال: إنّ روايات عدم كفاية الإقرار مرّة واحدة توجب رغم ضعف سندها احتمال الردع، بل بالروايات الدالّة على كفاية الإقرار مرّة واحدة.
وقد تحصّل من مجموع ما ذكرناه نفوذ الإقرار في باب القضاء مطلقاً.
بقي الكلام في الإقرار الذي وقع أمام غير القاضي ثمّ بلغ القاضي بالبيّنة مثلا، فهل هذا نافذ، أو يشترط في نفوذ الإقرار كونه أمام القاضي؟
الظاهر أنّ الارتكاز يشمل كلّ إقرار ثبت لدى القاضي سواء وقع بمسمع منه، أولا، وكذلك بعض إطلاقات أدلّة الإقرار من قبيل ما دلّ على نفوذ إقرار الوارث في حصّته، فإنّه لم يقيّد بخصوص الإقرار الذي كان بمحضر القاضي أو بمسمع منه.
وهذا الكلام منّا إنّما هو في باب القضاء، أمّا في باب الحدود فبالإمكان أن يقال في الحدّ الذي يكون بحاجة إلى شهود أربعة: إنّ الأقرار به لا يثبت بالبيّنة، أي بشاهدين؛ إذ لو كان نفس الزنا - مثلا - لا يثبت بشاهدين فكيف يحتمل ثبوته بإقرارات أربعة لم تثبت إلّا بشاهدين؟! أمّا ثبوت الإقرار بشهود أربعة فبحاجة إلى دليل خاصّ لم يرِدْ.
فإن قلت: إنّ الدليل على نفوذ شهادة الشهود الأربعة في إثبات الإقرار هو مطلقات دليل البيّنة، فمقتضى إطلاقها الأوّلي نفوذ شهادة عدلين لإثبات الإقرار، وبما أنّه ثبت عدم نفوذ ذلك بالبيان الماضي فنحن نقيّد هذا الإطلاق بإضافة شهادة عدلين آخرين إليها، أمّا إلغاء الشهادة نهائياً فهذا تقييد أكثر، وهو بحاجة إلى دليل مفقود.
قلت: لو فرض هذا النوع من التقييد عرفياً فإنّما يتمّ لو كان لدينا دليل لفظيّ على حجّيّة البيّنة يتمتع بالإطلاق اللّفظي في ذاته، والواقع أنّ دليل حجّيّة البيّنة إنّما
', '', 741), (14, 742, 'book', 'تمّ إطلاقه ببركة الارتكاز، ولا ارتكاز على نفوذ شهادة الأربعة بعد فرض عدم نفوذ شهادة الاثنين.
وقد يدلّ في باب الزنا على ما قلناه من اشتراط كون الإقرار لدى القاضي ماورد - بسند تامّ - عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل قال لامرأته: يازانية أنازنيت بك، قال: «عليه حدّ واحد لقذفه إيّاها، وأمّا قوله: - أنازنيت بك - فلا حدَّ فيه إلّا أن يشهد على نفسه أربع شهادات بالزنا عند الإمام»(1). وتمام الكلام في باب الحدود موكول إلى محلّه.
 $
الإقرار في الفقه الوضعي:
وفي ختام البحث عن الإقرار لا بأس بالتعرّض لبعض ما يقال في الفقهالوضعي عن ذلك، فنقول:
قد قُسّم الإقرار في الفقه الوضعي إلى ثلاثة أقسام(2):
1 - الإقرار البسيط.
2 - الإقرار الموصوف.
3 - الإقرار المركّب.
والمقصود بالإقرار البسيط هو الإقرار غير المقترن بدعوى أمر لا يعترف به المدّعي؛ كما لو ادّعي المدّعي: أنّه أقرض زيداً مائة دينار، وزيد اعترف بذلك من دون أن يضيف إلى إقراره دعوى الأداء - مثلا -، أو دعوى كون الدين مؤجّلا
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 13 من حدّ القذف، ح 1، ص 447.
(2) راجع الوسيط، ج 2 الفقرة 260 - 262، ص 504 - 513. ورسالة الإثبات، ج 2، الفقرة 507 - 511، ص 40 - 46.
', 742), (14, 743, 'book', '
بأجل لم يحلّ بعد، أو نحو ذلك ممّا لا يعترف به المدّعي، وهذا الإقرار نافذ عندهم بلا إشكال.
وأمّا الإقرار الموصوف فالمقصود به عندهم هو الإقرار بما يدّعيه المدّعي مع إضافة وصف أو تعديل للواقعة المدّعاة على خلاف الوصف الذي يدّعيه، المدّعي، كما لو ادّعى المدّعي دَيناً حالّا وأقرّ الخصم بالدين، ولكن مع توصيفه بكونه مؤجَّلا إلى ما بعد سنتين، أو ادّعى المدّعي ديناً مع الفائدة، وأقرّ الخصم بالدين بلافائدة، أو ادّعى المدّعي بتعهُّد الخصم بأمرمّا فقال الخصم: نعم، ولكنّه كان مشروطاً بالشرط الذي لم يتحقق، وما شابه ذلك.
وهنا أيضاً لا إشكال لديهم في نفوذ الإقرار في الجملة، إلّا أنّ الكلام يقع في أنّ الإقرار هل يُجزَّأ هنا، أوْلا؟ ومقصودهم بتجزئة الإقرار أن يأخذَ المدّعي المنكرَ بإقراره بأصل الدين أو التعهّد، وينكر عليه الوصف أو الشرط، ويجعل على عاتق المنكر إثبات الوصف أو الشرط، ومقصودهم بعدم تجزئة الإقرار هو أنّ المدّعي ليس له ذلك، بل هو مخيّر بين أُمور ثلاثة:
1 - أن يقبل بكلّ الإقرار، فيثبت الدين المؤجّل - مثلا - أو التعهّد المشروط.
2 - أن يأخذ المنكر بإقراره بأصل الدين أو التعهّد، ويأخذ على عاتقه إثبات عدم الوصف أو الشرط الذي ادّعاه خصمه، ولا يكلِّف الخصم بإثبات ذلك.
3 - أن لا يُرتَّب أثر القاطعيّة على هذا الإقرار، ويبقى مطالَباً بإثبات أصل الدين، وتبقى للإقرار قيمة كونه قرينة من القرائن على ثبوت الدين من دون أن تكون له القاطعيّة التامّة الثابتة للإقرار، وقد اختاروا في المقام عدم تجزئة الإقرار.
وأمّا الإقرار المركَّب فهو - على ما جاء في الوسيط للسنهوري، وفي رسالة الإثبات لأحمد نشأت - عبارة عمّا لو اعترف بالواقعة التي ادّعاها المدّعي، وأضاف
', '', 743), (14, 744, 'book', 'ادّعاء واقعة أُخرى منفصلة عن تلك الواقعة ومتأخّرة زماناً عنها؛ لكي يبطل بذلك مفعول تلك الواقعة كأن يقول: نعم، أنا معترف بما تدّعيه من الدين، ولكنّك قد أبرأتَ ذمّتي بعد ذلك، أو يقول: ولكنّني قد أو فيتُ لك، أو يقول: إنّه حصل بعد ذلك دينٌ آخرلي عليك فتساقط الدينان بالمقاصّة.
أقول: ولعلّهما أخطأا في ذكر شرط تأخّر الواقعة الثانية عن الواقعة الأُولى زماناً بتوهّم أنّ الفرق بين المركبّ والموصوف يكون بالاقتران والتأخّر، فإذا ادّعى ديناً مقترناً بالتأجيل - مثلا - فهذا هو الإقرار الموصوف، وإذا ادّعى ديناً سقط بعد ذلك بالوفاء أو المقاصّة، فهذا هو الإقرار المركّب.
وعلى أىّ حال فلا توجد أيّة نكتة عقلائيّة في التفرقة بين فرض كون الواقعة الثانية متأخّرة زماناً أو مقارنة للأُولى، وإنّما الذي ينبغي هو أن يفترض الإقرار الموصوف عبارة عن الإقرار المتضمّن لدعوى وصف مقارن للمدّعى، والإقرار المركّب عبارة عن الإقرار المتضمّن لدعوى أمر منفصل في هويّته عن المدّعى يبطل مفعول المدّعى سواء كان منفصلا عنه زماناً بالتأخر، أو مقارناً، أو متقدّماً زماناً، فلو أقرّ بإتلافه لمال المدّعي مثلا، وادّعى ديناً آخر له على المدّعي لكي يسقطا بالمقاصّة، فلا فرق بين أن يفترض ديناً مؤخّراً عن الإتلاف أو مقارناً له أو سابقاً عليه، إنّما المهمّ أنّ هذا الدين الآخر منفصل تماماً في هوّيته عن إتلاف مال المدعي، وليس وصفاً أو شرطاً لما يدّعيه المدّعي من قبيل وصف الأجل للدين أو ربط التعهّد بشرط مّا.
وعلى أيّة حال فالإقرار المركَّب أيضاً لا إشكال عندهم في نفوذه في الجملة، وإنّما الكلام يقع أيضاً في التجزئة وعدمها فبناءً على التجزئة يأخذ المدّعي بإقرار المقرّ ويطالبه بإثبات الجزء الآخر، وبناءً على عدم التجزئة يكون على المدّعي أن يسلّم بكلّ ما قاله صاحبه، أو يأخذه بإقراره في الجزء الأوّل، ويأخذ على عاتقه
', '', 744), (14, 745, 'book', 'مؤونة إثبات خطأ الجزء الثاني، أولا تفترض لأصل الإقرار هنا القاطعيّة التامّة، فيبقى مطالَباً بإثبات مدَّعاه.
أمّا ما هو الصحيح عندهم في ذلك؟ فالمفهوم من كلام صاحب الوسيط: أنّ الفقه الفرنسي لا يزال عنده مقياس التجزئة وعدمها في الإقرار المركَّب مورداً للخلاف ولكن القضاء المصري حسم المسألة بالتفصيل بين ما إذا كانت الواقعة الثانية مرتبطة بالواقعة الاُولى - أي متفرعة عليها ومستلزمة لو قوع الواقعة الأُولى، كما في دعوى الوفاء أو الإبراء المستلزمة لأصل الدين - أو كانت منفصلة عنها تماماً كما في دعوى دَين آخر يتساقط مع الدَّين الأوَّل بالمقاصّة. ففي الأوَّل لا تصحّ التجزئة بينما في الثاني تصحّ التجزئة.
أقول: الصحيح من وجهة نظر الإسلام أنّ ما أقرّبه الخصم تارة يفرض أنّه قيّده بقيد أدّى إلى تباين ما أقرّبه مع ما ادّعى الخصم الآخر نهائياً؛ كما لو ادّعى المدّعي أنّ صاحبه مدين له بدينار، فقال: أنا مدين لك بالمتاع الفلاني وليس بدينار، وأخرى يفترض أنّ القيد ليس أمراً مغيِّراً لأصل الإقرار، وإنّما هو دعوى أمر إلى صفّ الأمر الذي أقرّبه على شكل التوصيف، أو على شكل التركيب كما لو قال: أنا معترف بما تدعيّه من الدَّين، ولكنّني أدّعي أنّك ضربْتَ لذلك أجلا بمقدار سنتين من بعد هذا الزمان، أو لكنّني أدّعي أنّك أبرأتَ ذمّتي، أو ولكنّه حصل بعد ذلك دَينٌ آخر لي عليك، فانتهى الدَّين الأوّل بالتقاصّ:
فإن فرض الأوّل، أي أنّ القيد كان بنحو أخرج الإقرار عن كونه إقراراً بشيء يدّعيه الخصم، فهذا خروج عن محلّ البحث؛ إذ ليس هناك اعتراف بما ادّعاه الخصم، ولا بجزء ممّا ادّعاه كي نبحث عن كيفية نفوذه.
وإن فرض الثاني؛ أي أنّه تمّ الاعتراف بما يقوله الخصم، أو بجزء منه، غاية الأمر أنّه يدّعي وصفاً أو شرطاً أو حادثة أُخرى غير معترف به لدى الخصم،
', '', 745), (14, 746, 'book', 'فاعترافه بما يقول نافذ لا محالة، ويبقى الوصف الإضافي أو الشرط الإضافي أو الحادثة الجديدة قيد نزاع جديد، يكون عبء إثباته على كلِّ مَن يُعتبر في هذا النزاع مدَّعياً وفق مقاييس تشخيص المدعي والمنكر في هذا النزاع، وبقطع النظر عن النزاع الأوّل نهائياً.
وهذا هو المناسب للاعتبار العقلائي أيضاً، فإنّ النكتة في نفوذ الإقرار عقلائياً هي أحد أمرين:
الأوّل - أنّ معنى الإقرار هو إنهاء النزاع بالتسليم للخصم.
والثاني - هو قوّة الكشف الموجودة في الإقرار. والأمر الأوّل لا يكفي عندنا كنكتة كاملة لحجّيّة الإقرار بكلّ آثارها الفقهية؛ لأنّ إنهاء النزاع بالتسليم للخصم فعلا شيء، وحجّيّةُ الإقرار - بمعنى إصدار الحكم من القاضي في صالح المُقَرِّ له، وبمعنى أنّه لا تحقّ له إثارة النزاع مرّة أُخرى - شيءٌ آخر لا علاقة له بذاك. وعلى أيّ حال فسواء فرضنا النكتة العقلائية لنفوذ الإقرار هي الأمر الأوّل، أو الثاني، أو مجموعهما، فهي تقتضي ما قلناه، ولاتقتضي ما قالوه:
أمّا كون الإقرار إنّهاءً للنزاع بالتسليم للخصم فهذا ثابت في المقدار الذي اعترف به للخصم في المقام؛ أي أنّه سلّم لما يقوله خصمه من الدَّين، وأحدث نزاعاً جديداً، وذلك بدعوى الوفاء - مثلا -، فلم لا تُنهي المحكمة النزاع حول أصل الدَّين وتُخضِع دعوى الوفاء لقوانين باب المرافعة في حدّ ذاتها بشكل منفصل نهائياً عن النزاع الذي انتهى؟!!
وأمّا كاشفية الإقرار فهي ثابتة بقوّتها في المقدار الذي اعترف به المقرّ لخصمه، وليست ثابتة في دعواه الأُخرى التي ينكرها الخصم، فلماذا هذا الربط بين ما أقرّ به وبين مدّعاه؟!! وإنّما الذي يقتضيه الاعتبار هو الأخذ بإقراره فيما أقرّبه ومحاسبة ما ادّعاه حساباً مستقلا.
$
', '', 746), (14, 747, 'book', 'نعم، هذا لا يعني أن يكون عِبءُ إثبات ما ادّعاه عليه دائماً، بل لا بدَّ من الرجوع إلى قوانين المرافعة فيما ادّعاه بشكل منفصل عن النزاع الأوّل، فلو ادّعى - مثلا - الإبراءَ أو حصول المقاصّة قعبء الإثبات يقع عليه؛ لأنّ الأصل يقتضي عدم الإبراء أو عدم المقاصّة. أمّا لو فرض أنّ خصمه كان يدَّعي أنّه قد جعل العين الفلانية أمانة لديه، فالآن جاءه لاسترجاع الأمانة، فاعترف بما قاله الخصم من أنّه جعلها أمانة لديه، ولكنه ادّعي أنّه وهبها بعد ذلك إيّاه، فهنا عبء الإثبات يكون على المدّعي الأوّل؛ لأنّ اليد تدلّ على ملكيّة من في يده العين.
وخلاصة كلامنا في المقام: أنّه لا فرق بين أن يفترض أنّ أحد الخصمين رفع الشكوى أوّلا بعنوان الدين المعجَّل، ثمّ أقرّ الخصم الآخر بالدين، وأضاف دعوى التأجيل أو الإبراء أو الوفاء أو التقاصّ، أو يفترض أنّ الخصم الأوّل لم يرفع الشكوى ابتداءً بعنوان الدَّين، بل توافقا قبل المرافعة على أصل الدين، وكان مصبّ الدعوى من أوّل الأمر هو التأجيل، أو الإبراء، أو الوفاء، أو التقاصّ، أفهل يشكّ العقلاء في الفرض الثاني في تشخيص من عليه عبء الإثبات بمقاييس المدعي والمنكر وبقطع النظر عن فرض نزاع وإقرار في أصل الدين؟!! أو أيّ مبرّر يمكن أن يتصوّر للفرق بين الفرضين؟!!
 $
$
', '', 747), (14, 748, 'book', ' $
$
', '', 748), (14, 749, 'book', ' $
$
', '', 749), (14, 750, 'book', ' $
$
', '', 750), (14, 751, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
 $
الطريق الخامس - هو القرعة.
وقد مضى الكلام بشكل مفصّل عن موارد استعمال القاضي للقرعة في مقام حلّ المرافعة عندما بحثنا فروع التداعي، فلا نرانا بحاجة إلى تكرار البحث، وإنّما نسجّل هنا النتائج التي توصّلنا إليها هناك على شكل فتاوى مكتفين ببحثها الاستدلالي في ما مضى، وهي كمايلي:
1 - لو تداعيا على المال، ولم تكن لأي واحد منهما بيّنة، أوكانت لهما معاً البيّنة مع تساوي عدد البيّنتين، ونكلا عن الحلف، كان المرجع القرعة كطريق لتعيين من له الحقّ.
ويلحق بباب التداعي مالوكان كلام المنكر قابلا للجمع مع كلام المدّعي، مع احتمال المنافاة في نفس الوقت. كما لو قال المدّعي: هذه الدارلي، وقال ذواليد: ورثتها من أبي، على ما مضى توضيحه مفصّلا.
2 - لو تنازعا في غير المال كالولد - نتيجةً لجهلهما بالواقع - فالمرجع أيضاً هو القرعة كطريق لتعيين من له الحقّ، أمّا لو كان ذلك في المال فالمرجع هو قاعدة العدل و الإنصاف
3 - وفي غيرهاتين الصورتين لايستعمل القاضي القرعة كطريق لتعيين من له
', '', 751), (14, 752, 'book', 'الحقّ من المترافَعيْن. نعم، قد يستعملها لتعيين من عليه الحلف، وذلك فيما لوتداعيا على غير المال كالزوجة مع تساوي البيّنتين، أو من دون بيّنة.
يبقى في المقام شىء: وهو أن حجّية القرعة هل هي حجّية ذاتية أو حجّية قضائية فحسب؟ وأقصد بالحجّية القضائية أن القاضي هو الذي يستفيد منها في مرحلة قضائه كما يستفيد من البينة واليمين، وأقصد بالحجّية الذاتية أن بإمكان أحد المتنازعَيْن إرغام صاحبه عليها بلاحاجة إلى التحاكم لدى القاضي.
الظاهر أن حجّية القرعة حجيّة قضائية، وليست حجيّة ذاتية، ولايوجد إطلاق في أدلّة القرعة تستفادمنه الحجية الذاتية.
وتوضيح ذلك مع توضيح بعض نكات أُخرى في القرعة - وإن كان بعضُها خارجاً عن المقام - يستدعي مروراً بروايات القرعة وهي على قسمين:
القسم الأول مطلقات القرعة، والقسم الثاني روايات واردة في موارد خاصّة:
 $
مطلقات القرعة:
أما ما يمكن أن يفترض من مطلقات القرعة فهي عدة روايات:
1 - مارواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن إبن أبي عمير، عن جميل، قال: «قال الطيّار لزرارة: ما تقول في المساهمة أليس حقّاً؟، قال زرارة: بلى هي حقّ، فقال الطيّار: أليس قد ورد أنّه يخرج سهم المُحِقّ؟ قال: بلى. قال: فتعال حتى أدّعي أنا وأنت شيئاً، ثّم نساهم عليه، وننظر هكذا هو؟ فقال له زرارة: إنّما جاء الحديث: بأنّه ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه، ثمّ اقترعوا إلّا خرج سهم المُحِقّ، فأمّا على التجارب فلم يوضع على التجارب، فقال الطيار: أرأيت إن كانا
', '', 752), (14, 753, 'book', 'جميعاً مدعَييْنِ ادعيا ماليس لهما من أين يخرج سهم أحدهما؟، فقال زرارة: إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح فإن كانا ادّعياما ليس لهما خرج سهم المبيح»(1).
ويمكن النقاش في استدلال بهذا الحديث على القرعة من وجوه:
الأوّل - عدم انتهاء الحديث إلى المعصوم. وقول زرارة: «إنّما جاء في الحديث: بأنّه ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه، ثمّ اقترعوا إلّا خرج سهم المحقّ» لايدلّ على كون زرارة هو الذي سمع هذا الحديث من الإمام مباشرة فالحديث بحكم المرسل.
إلّا أن يقال: إنّ ظاهر كلام زرارة خصوصاً في قوله: «بلى هي حقّ» هو إخباره عن صدور هذا الحديث عن المعصوم حقّاً، وهذا الإخبار - كأىّ إخبار آخر يحتمل فيه الحسّ - محمول على الحسّ أو مايقاربه، فهذا دليل على أنّ ورود هذا الحديث عن المعصوم كان لدى زرارة حسيّاً أو قريباً من الحسّ، كما لوكان ثابتاً لديه بالتواتر، أو بالخبر المحفوف بالقرائن مثلا.
إلّا أنّ هذا البيان قابل للمناقشة؛ ذلك لأنّه إن أُريد إجراء أصالة الحسّ في قوله: «إنّما جاء الحديث ...»، فهذا لايعني الإخبار الحسّي بصدور هذا الحديث من المعصوم، وإنّما يعني ورودحديث من هذا القبيل عن المعصوم، أمّا صدق محدِّثه حتماً فليست في هذا التعبير دلالة على الإخبار عن ذلك، وإن أُريد إجراء أصالة الحسّ في قوله: «بلى هي حقّ»، فهذا ظاهر في الفتوى لا في نقل الرواية.
الثاني - أن يقال: إنّ هذا الحديث يدلّ على قطعيّة إصابة القرعة و أنّها لا تخطىء، ولذا ذكر زرارة في جواب إشكال الطيّار: أن القرعة ليست للتجربة، وإنّما هي لموردِ ما إذا فَوَّضوا أمرهم حقّاً إلى اللّه، ولم يذكر في جوابه: (أن القرعة ليست
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 13 من كيفية الحكم، ح 4، ص 188.
', 753), (14, 754, 'book', '
دائمة الإصابة) . فإذا ضمّ هذا إلى ما فرض في مور الحديث من تفويض المتنازعين أُمورهم إلى اللّه بالاقتراع كان معنى ذلك سدّ باب القضاء: أمّا مطلقاً، أو في أىّ مورد للنزاع أمكن فيه القرعة - بناءً على أنّها ليست مشروعة في تمام موارد النزاع -، وذلك لأنّه مع وجود طريق قطعىّ يوصلهم إلى الواقع حتماً لا معنى لتشريع الرجوع إلى حكم القاضي الذي قد يخطىء وقد يصيب.
إلّا أن يجاب على ذلك: بحمل قوله: «إلّا خرج سهم المحقّ» على الاقتضاء و الأماريّة لاعلى دوام الإصابة، امّا فهم زرارة لدوام الإصابة - كما يظهر من جوابه للطيّار - فليس حجّة لنا، على أنّه لعلّه قصد إفحام الطيّار بأوضح جواب.
الثالث - أن يقال: إنّ هذا الحديث يدلّ على مشروعيّة القرعة في مورد وجود حَلٍّ آخر شرعي، وهو الترافع لدى الحاكم، فإنّ هذا الحديث ورد في فرض النزاع، وتشخيص المُحقّ منهم بالقرعة، بينما هناك طريق شرعىّ لتشخيص المُحقّ، وهو الرجوع إلى القاضي و تطبيق القاضي لقوانين القضاء في المقام، ومن الواضح فقيهيّاً عدم حجّية القرعة مع وجود حلّ آخر شرعىّ.
إلّا أن يجاب على ذلك بأنّ الرواية بعد ضمّها إلى ارتكاز عدم حجّية القرعة عند وجود طريق آخر لايبقى لها إطلاق لفرض إمكانية الرجوع إلى القاضي، إلّا في مورد تكون وظيفة القاضي أيضاً هي الرجوع إلى القرعة.
الرابع - أن يقال: إنّ الرواية لاظهور لها في حجّيّة القرعة لا بمعنى الحجّيّة القضائيّة بأن يكون للقاضي حقّ إرغام الخصمين على الخضوع لها، ولاالحجّيّة الذاتية بأن يكون المتنازعان مرغمين شرعاً على الاقتراع و الخضوع لنتيجة القرعة، وإنّما دلّت على مشروعية أن يتراضيا فيما بينهما بالقرعة، وذلك لأنّ التعبير جاء هكذا: «ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه ثمّ اقترعوا إلّا خرج سهم المحقّ»، فخروج سهم المحقّ يكون في طول تراضيهم بالقرعة، وتفويضهم الأمر إلى اللّه
', '', 754), (14, 755, 'book', 'و المقصود به - ولو احتمالا - فرض جواز التراضي و التفويض، أمّا متى يجوز التراضي على القرعة؟، فهذا أمر مسكوت عنه و مفروض التحقّق، فليس بصدد بيانه، و القدر المتيقّن هو موارد إمكانيّة التصالح على أىّ شىء يحتمل خروجه بالقرعة؛ أي في دائرة المباحات، فبدلاعن التصالح الابتدائي يفوّضون أمرهم إلى اللّه، و يلتزمون بنتيجة القرعة.
هذا، ولو تمّت دلالة الحديث على القرعة فإنّما تتمّ في مورد النزاع، فإنّ المفهوم عرفاً من افتراض كون الأمر أمر قوم، وأنّ فيهم المحقّ وغير المحقّ هو ذلك.
2 - مرسلة الصدوق: قال: «قال الصادق (عليه السلام): ما تنازع قوم ففوّضوا أمرهم إلى اللّه عزّ وجلّ إلّا خرج سهم المُحقّ. وقال: أَىُّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى اللّه؟ أليس اللّه يقول: فساهَمَ فكانَ مِنَ المُدحَضين»(1).
وقد اتّضح النقاش فيه - بِغَضِّ النظر عن إرساله - ممّا مضى، فإنّ الحديث لم يدلّ على حجّية القرعة على الخصمين قضائيّاً، أو وجوب تحاكمهما إلى القرعة ولو من دون قاض، وإنّما مفاده أشبه شىء بفرض التشارط و التراضي على القرعة، فيحكم على ذلك بخروج سهم المُحقّ، أمّا جواز ذلك فلعلّه مفروض الوجود، وليس بصدد بيانه، فلا يتمّ الإطلاق بلحاظه، والقدر المتيقّن منه هو دائرة المباحات. إذن فلا يدلّ الحديث على مشروعيّة القرعة في تعيين الزوجيّة المتنازع فيها مثلا.
هذا، و الحديث خاصّ بمورد النزاع، أمّا صدره فواضح، وأمّا ذيله فلأنّ كلمة (القضية) بمعنى القضاء ظاهرة في فرض النزاع.
3 - ما رواه العيّاشي في تفسيره عن الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث يونس (عليه السلام) قال: «ـفساهم، فوقعت السهام عليه، فجرت السنّة أنّ السهام إذا كانت
', '(1) نفس المصدر، ح 13، ص 190.
', 755), (14, 756, 'book', '
ثلاث مرّات إنّها لاتخطىء، فألقى نفسه، فالتقمه الحوت»(1).
ويرد على الاستدلال به - بغضّ النظر عن السند -: أنّ مغاده إنّما هو فرض عدم الخطأ عند تكرّر السهام ثلاث مرّات . أمّا أصل مشروعيَّة المساهمة متى يكون؟ فهذا أمر مسكوت عنه ومفروغ عنه، وليس بصدد بيانه فلا إطلاق بلحاظه، والقدر المتيقّن هو صورة التراضي و التوافق عليها في دائرة المباحات كما هو مورد قصّة يونس؛ إذ بعد ضرورة إلقاء أحدهم كان من المباح لهم التراضي على إلقاء أىّ واحد منهم.
إذن فلا يدلّ الحديث على الحجيّة القضائية للقرعة، أو الحجيّة الذاتيّة لها بأن يجب عليهم الاقتراع والخضوع لنتيجة الاقتراع، ولاعلى مشروعيّة القرعة في تعيين الزوجيّة المختلف فيها مثلا.
4 - مارواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن سيابة و إبراهيم بن عمر جميعاً، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) «في رجل قال: أوّل مملوك أملكه فهو حرّ فورث ثلاثة. قال: يقرع بينهم فمن أصابه القرعة أُعتق. قال: و القرعة سنّة»(2). وسند الحديث تامّ.
ولايخفى أنّ مورد هذا الحديث ليس مورداً تحتمل فيه حجّية القرعة فقيهيّاً بوجه من الوجوه، فإنّ حجّية القرعة إن كانت فإنّما هي في أحد موردين:
الأوّل - وجود واقع مجهول أُريد تشخيصه بالقرعة.
والثاني - وجود مشكلة لا تعيّن لها حتى في الواقع فأُريد حلّها عن طريق القرعة.
$
', '(1) نفس المصدر ح 22 ص 192.
(2) نفس المصدر، ح 2، ص 187.
', 756), (14, 757, 'book', '
والمورد الذي طبّقت عليه كبرى القرعة في هذا الحديث ليس من أحدهما، وذلك لوضوح أنّه لم يتحقّق أىّ عتق بقوله: «أوّل مملوك أملكه فهو حرّ»، فإنّ العتق لايكون إلّا في ملك، وقبل الملك لامعنى للعتق، فلابدّ من حمل هذه العبارة على عهد أو نذر أو يمين مثلا، أو مجّرد بناء نفسي، وبمجرّد امتلاكه للعبيد الثلاثة لم ينعتق أىّ واحد منهم، وإنّما مفروض الحديث أنْ يعتق هو أحدهم بعد القرعة كما يدلّ عليه قوله: «فمن أصابه القرعة أُعنق». إذن فلا واقع مجهول في المقام كما لا مشكلة في المقام، فإنّ وفاءه بعهده أو نذره و يمينه أو بما بنى عليه في قلبه لا يحتمّ عليه أكثر من عتق واحد على سبيل التخيير حتماً، وليس لأىّ واحد منهم حقّ المطالبة بتطبيق العتق عليه فليعتق من شاء منهم. نعم هناك قضية أخلاقيّة وهي أنّ كلّ واحد منهم يتوقّع منه الإحسان بتطبيق العتق عليه، فلا ينبغي أخلاقيّاً ترجيح أحدهم على الباقين وحرمان الباقين بغير القرعة. إذن فالقرعة هنا عمليّة أخلاقيّة لاأكثر من ذلك، فلا نستطيع أن نفهم من الكبرى التي طبّقها على المورد أو يحتمل إرادة تطبيقها على المورد - وهي قوله: «و القرعة سنة» - معنى الحجيّة أو الوجوب؛ إذلا ينطبق ذاك المعنى على المورد.
ولو فهمنا منه ذلك فسوف لن يكون للمتعلّق المحذوف إطلاق أكثر من مناسبة المورد وهو دائرة المباحات.
ولايقال: إنّنا نجري الإطلاق الشمولي بلحاظ كلمة (القرعة) لا بلحاظ المتعلق المحذوف، فإنّه يقال: إنّ القرعة متعلّق للحكم، وليس موضوعاً مفروض الوجود كالعالم في (أكرم العالم) وقد حقّقنا في محلِّه أنّ الإطلاق بالنسْبة لمتعلّق الحكم كالصلاة في قولنا: «الصلاة واجبة» بدلّي وليس شمولياً.
5 - ما رواه الشيخ بإسناده إلى علىّ بن الحسن بن فضّال عن محمّد بن الوليد عن العبّاس بن هلال عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «ذكر أنّ ابن أبي ليلى و ابن
', '', 757), (14, 758, 'book', 'شبرمة دخلا المسجد الحرام، فَأَتَيا محمد بن عليّ (عليه السلام) فقال لهما: بِمَ تقضيان؟ فقالا: بكتاب اللّه والسنة، قال: فمالم تجداه في الكتاب و السنّة؟ قالا: نجتهد رأينا. رأيكما أنتما؟ فما تقولان في امرأة وجاريتها كانتا ترضعان صبيَّينِ في بيت، فسقط عليهما فماتتا، وسلم الصبيّان؟ قالا: القافة. قال: القافة يتجهّم منه لهما. قالا: فأخبرنا. قال: لا، قال ابن داود مولىً له: جعلت فداك، قد بلغني أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه - عزّوجلّ - وألقوا سهامهم إلّا خرج السهم الأصوب، فسكت»(1).
وفي سند الحديث إشكالان:
أحدهما - أنّ سند الشيخ إلى علىّ بن الحسن بن فضّال ضعيف، وقد مضى فيما سبق البحث عن تطبيق الشكل الثاني من أشكال نظرية التعويض على ذلك، ومضى أنّه لايخلو من إشكال.
والثاني - وجود العباس بن هلال في السند، ولادليل على وثاقته.
وأمّا من حيث الدلالة، فسكوت الإمام (عليه السلام) لايدلّ على إمضاء كون ما نقله ابن داود جواباً على المسألة. نعم، لو دلّ على الإمضاء فهنا لا يأتي ما قلناه في بعض الروايات السابقة من عدم الدلالة على أزيد من مشروعيّة القرعة بالتراضي في دائرة المباحات؛ لأنّ مورد الحديث هو مورد تعيين البنوّة والولاية و الرّقّيّة، وليس هذامن دائرة المباحات، كما أنّ التراضي و التشارط أيضاً لامجال له في مورد الرواية؛ لأنّهما طفلان رضيعان، كما أنّ الإشكال بعدم مقبولية الإطلاق في المقام لشموله لموارد وجود حلٍّ آخر، بالإمكان الجواب عنه: بأنّ ارتكاز عدم حجّية القرعة في موارد وجود حلّ آخر قرينة كالمتّصل تمنع انعقاد هذا المستوى من
', '(1) الوسائل، ج 17، باب 4 من ميراث الغرقى، ح 4، ص 593.
', 758), (14, 759, 'book', '
الإطلاق. بل يمكن المناقشة في إطلاق الحديث بأنه ليس بصدد بيان موارد مشروعية القرعة، وإنما هو بصدد بيان أنّ القرعة في موردها تُخرج الأصوب.
هذا، و الحديث بذاته خاصّ بمورد النزاع؛ لأن هذا هو المفهوم عرفاً من التعبير بقوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه وخروج السهم الأصوب.
6 - ما رواه في الوسائل عن أحمد بن محمّد البرقي في المحاسن عن ابن محبوب عن جميل بن صالح؛ عن منصور بن حازم، قال: «سأل بعض أصحابنا أبا عبداللّه (عليه السلام) عن مسألة، فقال: هذه تخرج في القرعة، ثمّ قال: فأىّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّضوا أمرهم إلى اللّه عزّوجلّ، أليس اللّه يقول: فساهم، فكان من المدحضين». قال في الوسائل بعد نقل هذا الحديث: «ورواه ابن طاووس في (أمان الأخطار)، وفي (الاستخارات) نقلا من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب من مسند جميل عن منصور بن حازم قال: سمعت أباعبدللّه (عليه السلام) بقول وقد سأله بعض أصحابنا، وذكر مثله»(1).
وهذا الحديث من حيث المتن يشبه الحديث الثاني، فيأتي فيه ما ذكرناه هناك، ونلفت النظر الى أنّ ما جاء في الحديثين من الاستشهاد بقصّة يونس (عليه السلام)دليل على عدم اختصاص مضمونهما بفرض وجود واقع مجهول، فإنّ قصّة يونس (عليه السلام) لايوجد فيها تعيّن في الواقع.
وأمّا من حيث السند: فسند ابن طاووس إلى كتاب المشيخة للحسن بن محبوب عبارة عمّا يتلفّق من سنده إلى الشيخ الطوسي، وسند الشيخ الطوسي إلى مشيخة الحسن بن محبوب في الفهرست. و للشيخ الطوسي إلى مشيخة الحسن بن محبوب في الفهرست سند تامّ. أمّا سند ابن طاووس إلى الشيخ فقد ذكر ابن طاووس
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 13 من كيفيّة الحكم، ح 17، ص 191.
', 759), (14, 760, 'book', '
في مقدمة كتاب فلاح السائل(1) أسانيد له إلى الشيخ الطوسي أفضلهالنا هو أوّل تلك الأسانيد حيث قال:
«فمن طرقي في الرواية إلى كلّ ما رواه جدّي أبو جعفر الطوسي في كتاب الفهرست و كتاب أسماء الرجال وغيرها من الروايات ما أخبرني به جماعة من الثِّقات منهم الشيخ حسين بن أحمد السوراوي إجازةً في جُمادى الآخر سنة تسع و ستمائة، قال: أخبرني محمّد بن أبي القاسم الطبري عن الشيخ المفيد أبي علىّ عن والده جدّي السعيد أبي جعفر الطوسي».
أقول: هذا السند تامّ. أمّا الذين نقل عنهم ابن طاووس مباشرةً. ومنهم الشيخ حسين بن أحمد السوراوي، فهو قد شهد بوثاقتهم. وأمّا محمد بن أبي القاسم الطبري فقد شهد الشيخ منتجب الدين في فهرسته بوثاقته، والشيخ منتجب الدين وإن كان من متأخّرين، لكن توثيقه يقبل بالنسبة لمثل محمد بن أبي القاسم الطبري الذي هو قريب من عصره، فإنّ منتجب الدين هو تلميذ محمود بن علىّ بن الحسن الحمصي الرازي الذي يروي مباشرةً عن محمّد بن أبي القاسم الطبري، كما صرّح بذلك كلَّه منتجب الدين في فهرسته في ترجمة محمّد بن أبي القاسم(2) ووثّقه أيضاً الشيخ الحرّ صاحب الوسائل في تذكرة المتبحّرين(3) وأمّا ولد الشيخ الطوسي الذي هو الشيخ محمد بن أبي القاسم فقد وثقه أيضاً منتجب الدين في فهرسته و الشيخ الحرّ في تذكرة المتبحرين(4).
$
', '(1) ص 14 حسب طبعة مكتب التبليغات الاسلامية في قم.
(2) راجع جامع الرواة، ج 2، ص 57.
(3) راجع معجم رجال الحديث، ج 14، ص 313.
(4) المصدر السابق، ج 5، ص 115.
', 760), (14, 761, 'book', '
وأمّا سند صاحب الوسائل إلى المحاسن، فينتهي إلى الشيخ الطوسي، وعنه بأسانيده إلى المحاسن، وسند صاحب الوسائل إلى الشيخ الطوسي تامّ. أمّا أسانيد الشيخ الطوسي إلى المحاسن فكمايلي:
ذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) في الفهرست: أنّه (قد زيد في المحاسن ونقص، فمّما وقع إليه منها...).وعدّهنا كتباً كثيرةً، ثمّ قال: (وزاد محمد بن جعفر بن بطّة على ذلك...) وعدّهنا عدّة كتب، ثمّ قال: (أخبرنا بهذه الكتب كلّها و بجميع رواياته عدّة من أصحابنا منهم الشيخ أبو عبداللّه محمد بن محمد بن النعمان، وأبوعبداللّه الحسين بن عبيداللّه، وأحمد بن عبدون، وغيرهم، عن أحمد بن محمد بن سليمان الزراري قال: حدّثنا مؤدّبي علي بن الحسين السعد آباديأبوالحسن القمّي، قال: حدّثنا أحمد بن أبي عبداللّه، وأخبرنا هؤلاء الثلاثة عن الحسن بن حمزة العلوي الطبري، قال: حدّثنا أحمد بن عبداللّه بن بنت البرقي، قال: حدّثنا جدّي أحمد بن محمد، وأخبرنا هؤلاء - إلّا الشيخ أباعيداللّه - وغيرهم عن أبي المفضّل الشيباني عن محمد بن جعفر بن بطّة عن أحمد بن أبي عبداللّه بجميع كتبه ورواياته. وأخبرنابها ابن أبي جيد، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن سعد بن عبداللّه، عن أحمد بن ابي عبداللّه بجميع كتبه ورواياته).
وهذه الأسانيد التي نقلها الشيخ الطوسي (رحمه الله) أسانيد إلى أعيان الكتب الموجودة من المحاسن لدى الشيخ الطوسي (رحمه الله)، ولكن قد عرفت أنّ الشيخ الطوسي (رحمه الله) ذكر في آخر حديثه أنّ محمد بن جعفر بن بطّة أضاف كتباً أُخرى، إذن فتلك الكتب الأُخرى ليس للشيخ الطوسي سند إلى أعيانها؛ لأنّها لم تصل إليه، وإنّما له سند إلى أسمائها وهو السند الثالث من الأسانيد الأربعة التي نقلها عنه، وهو ضعيف بأبي المفضّل الشيباني. هذا إذا تجاوزنا أنّ صدر السند عبارة عن حسين بن عبداللّه الغضائري وأحمد بن عبدون، ولم تثبت وثاقتهما، و السرّ في تجاوز ذلك أنّ
', '', 761), (14, 762, 'book', 'الناقل هو هذان الشخصان مع عطف كلمة (غيرهم)، وهذا قد يفيد الاطمئنان.
وقد وصل إلى الشيخ الحرّ العاملي - على ما جاء في آخر الوسائل - من كتب المحاسن أحد عشر كتاباً، وواحد منها من الكتب التي نسب الشيخ نقلها إلى محمد بن جعفر بن بطّة، فإذا احتملنا أنّ الحديث الذي نقله صاحب الوسائل في المقام قد أخذه من ذاك الكتاب فقد سقط بما عرفت. وإن استبعدنا ذلك بحساب الاحتمالات باعتباره كتاباً من أَحَدَ عَشَرَ كتاباً، قلنا: إنّ كلّ الأسانيد الأربعة التي مضت عن صاحب الوسائل لاتخلو من ضعف: فالسند الثالث قد عرفت حاله، و السند الرابع فيه ابن أبي جيد، ولادليل على وثاقته عدا كونه من المشايخ، والسند الأوّل فيه علىّ بن الحسين السعد آبادي، ولادليل على وثاقته، والسند الثاني فيه عبداللّه بن بنت البرقي، ولادليل على وثاقته.
نعم من حسن الحظّ أنّ للشيخ (رحمه الله) في المشيخة سنداً تامّاً إلى أحمد بن أبي عبداللّه البرقي حيث قال (رحمه الله): «ما ذكرته عن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي فقد أخبرني به الشيخ أبوعبداللّه عن أبي الحسن أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد عن أبيه، عن سعد بن عبداللّه. وأخبرني أيضاً الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه عن أبيه و محمد بن الحسن بن الوليد، عن سعد بن عبداللّه و الحميري، عن أحمد بن أبي عبداللّه . وأخبرني به أيضاً الحسين بن عبيداللّه عن أحمد بن محمد بن الزراري، عن علىّ بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبداللّه، ومن جملة ما ذكرته عن أحمد بن محمد بن خالد البرقي ما رويته بهذه الأسانيد (إشارة إلى أسانيده إلى الكليني) عن محمد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد». و السند الأخير تامّ، ولكنّه لايفيد؛ لأنّه سند إلى بعض غير معيَّن مّما رواه عنه. والسند الأول فيه أحمد بن محمد بن الحسن بن الوليد . والسند الثالث فيه الحسين بن عبيداللّه الغضائري و علىّ بن الحسين السعد
', '', 762), (14, 763, 'book', 'آبادي، والسند الثاني تامّ، ونفس أحمد بن أبي عبداللّه البرقي تامّ عندنا وإنّ وقع الخلاف بشأنه؛ إذن فكلّ ما يرويه الشيخ (رحمه الله) في التهذيب أو الاستبصار عن أحمد بن أبي عبداللّه البرقي فهو تامّ سنداً، ولكن ما يرويه صاحب الوسائل في الوسائل عن المحاسن مباشرةً لايكون تامّاً سنداً. والرواية التي كنّا بصددها قد رواها صاحب الوسائل عن المحاسن مباشرةً؛ إذن هذا السند بالنسبة لها غير تامّ، لكن يكفيها سندُ ابن طاووس.
7 - ما رواه في الوسائل عن الكليني عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان وعن أبي علىّ الأشعري، عن محمد بن عبدالجبار جميعاً، عن صفوان بن يحيى، عن عبداللّه بن مسكان، عن إسحاق العرزمي (وفي الكافي إسحاق الفزاري)، قال: «سئل وأنا عنده - يعني أباعبداللّه (عليه السلام) - عن مولود ولد و ليس بذكر ولاأُنثى، وليس له إلّا دبر: كيف يورث؟ قال: يجلس الإمام و يجلس معه ناس، فيدعو اللّه، ويجيل السهام على أىّ ميراث يورثه - ميراث الذكر أو ميراث الأُنثى - فأىّ ذلك خرج ورثه عليه، ثم قال: وأىّ قضيّة أعدل من قضيّة يجال عليها بالسهام؟ إنّ اللّه تبارك وتعالى يقول: ﴿فساهم فكان من المدحضين﴾. ورواه الشيخ بإسناده عن أبي علىّ الأشعري مثله، إلّا أنّه قال: (عن إسحاق المرادي)(1).
ولايرد على الاستدلال بهذا الحديث عدم الدلالة على حجّية القرعة قضائياً أو في نفسها، واحتمال توقّفها على رضا الكلّ، وذلك لأنّ المفروض إلزام هذا المولود ومن معه من الورثة بنتيجة القرعة قضائياً من قبل الإمام.
نعم يرد على دعوى الإطلاق فيه ما مضى من الاستشكال في الإطلاق، فإنّه
', '(1) الوسائل، ج 17، باب 4 من ميراث الخنثى، ص 579، ح 1.
', 763), (14, 764, 'book', '
إنّما دلّ على أنّه لاقضاء أعدل من قضاء القرعة، أما ما هو مورد قضاء القرعة؟ فليس بصدد بيان ذلك، فلا بدّ من الاقتصار فيه على القدر المتيقّن وهو دائرة المباحات . ولم تدلّ هذه الرواية على أنّه قد عُيّن بالقرعة كون هذا ذكراً أو أُثنى بتمام مالذلك من أحكام، وإنّما دلّ على العمل بها في مسألة المال فحسب، وهذا داخل دائرة المباحات أيْ أنّ بإمكان الورثة الاتفاق عند الشكّ على حصّة معيّنة.
هذا، والحديث خاصّ بمورد النزاع بقرينة كلمة «قضية».
والحديث ساقط سنداً بإسحاق سواء فرض أنّ لقبه العزرمي أو الفزاري أو المرادي؛ إذ لادليل على وثاقته. نعم ذكر المحقّق الأردبيلي (رحمه الله) في جامع الرواة: أنّ إسحاق المرادي هو إسحاق المدايني، و القرينة التي يذكرها على الوحدة هي رواية ابن مسكان عن كلّ واحد منهما عن الصادق (عليه السلام)، فلو تمّ هذا الاستظهار أمكن توثيقه بناءً على أنّ إسحاق المدايني هو إسحاق ابن أبي هلال المدايني الذي روى عنه ابن أبي عمير، ولكن ليس لدينا الوثوق بالقدر الكافي بذاك الاستظهار.
وقد ورد سند آخر لمتن قريب جدّاً من متن هذا الحديث، وهو ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن فضّال و الحجال، عن ثعلبة بن ميمون، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللّه (عليه السلام)(1). والسند إلى ثعلبة بن ميمون تامّ، ولكنّه كما ترى مبتلىً بالإرسال.
كما ورد أيضاً سند آخر لمتن قريب منه جدّاً، وهو إسناد الشيخ إلى علىّ بن الحسن، عن أيّوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن عبداللّه بن مسكان قال: «سئل أبوعبداللّه (عليه السلام) وأنا عنده...»(2).
$
', '(1) نفس المصدر، ح 3، ص 580.
(2) نفس المصدر، ح 4، ص 581.
', 764), (14, 765, 'book', '
وهذا السند عيبه: أوّلا - ضعف سند الشيخ إلى علىّ بن الحسن بن فضّال، وثانياً - أنّه يُحدس سقوط الواسطة بين ابن مسكان و أبي عبداللّه (عليه السلام) لقوّة احتمال اتّحاد هذا الحديث مع ما مضى آنفاً عن صفوان، عن ابن مسكان، عن إسحاق، عن أبي عبداللّه لوحدة المتن ووحدة السند إلى صفوان، واستبعاد تكرّر قصّة من هذا القبيل.
وابن مسكان رغم أنّه من أصحاب الإمام الصادق - عليه السلم - قليل الرواية عنه بلا واسطة بالقياس إلى رواياته عنه بالواسطة. ومن الطريف ما روى الكشي عن العيّاشي أنّ ابن مسكان كان لايدخل على أبي عبداللّه (عليه السلام) شفقة أن لايوافيه حقّ إجلاله، فكان يسمع من أصحابه، ويأبى أن يدخل عليه إجلالا و إعظاماً له (عليه السلام).
8 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن عبدالرحمان بن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «بعث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) إلى اليمن، فقال له حين قدم: حدِّثْني بأعجب ماورد عليك، فقال: يارسول اللّه أتاني قوم قد تبايعوا جارية فوطأها جميعهم في طهر واحد، فولدت غلاماً، فاحتجّوا فيه كلّهم يدّعيه، فأسهمت بينهم، فجعلته للذي خرج سهمه وضمّنته نصيبهم. فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): ليس من قوم تنازعوا، ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلّا خرج سهم المحقّ». ورواه الصدوق بإسنادة عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) نحوه إلّا أنّه قال: «ليس من قوم تقارعوا»(1). والسند الأوّل وإن كان ضعيفاً بالإرسال، ولكن السند الثاني تامّ.
وأمّا من حيث المتن، فلا يرد عليها ما أوردناه على بعض الروايات السابقة
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 13 من كيفيّة الحكم، ح 5 و 6، ص 188.
', 765), (14, 766, 'book', '
- من أنّها لا تدلّ على الحجّيّة القضائيّة، ولا على الحجّيّة الذاتيّة؛ لأنّها ليست بصدد بيان ذلك،وإنّما هي بصدد بيان أنّهم حينما يفوّضون أمرهم إلى اللّه ويتراضون بالقرعة يخرج سهم المحقّ، أمّا إرغامهم على القرعة ابتداءً، أو من قبل القاضي فغير معلوم - أقول: هذا الإشكال لايرد هنا؛ لأنّه في مورد الرواية قد حكم القاضي وهو أميرالمؤمنين (عليه السلام) بالقرعة، فالرواية تدلّ على الحجيّة القضائيّة بلا إشكال. نعم لاتدلّ على الحجيّة الذاتيّة أي بِغَضّ النظر عن حكم القاضي، وذلك لأنّ الكبرى المذكورة في الحديث هي صحّة التفويض إلى اللّه والالتجاء إلى القرعة كأمر مفروغ عنه فيها، ورتّب على ذلك خروج سهم المحقّ، أمّا متى(1) يصحّ ذلك؟ فغير معلوم، والقدر المتيقّن من ذلك مايكون من قبيل مورد الحديث وهو فرض القرعة من قبل القاضي.
وعلى أيّة حال فليس للحديث - بعد التسليم - إطلاق لغير مورد النزاع حتى على نسخة (تقارعوا)؛ لما مضى من أنّ المفهوم عرفاً من فرض الأمر راجعاً إلى قوم وأنّ فيهم المحقّ وغير المحقّ هو ذلك.
ولايرد أيضاً على الاستدلال بهذه الرواية ما أوردناه على بعض الروايات السابقة من أنّ القدر المتيقّن منها خصوص دائرة المباحات، ولا إطلاق لها بالنسْبة لغير ذلك، وذلك لأنّ مورد هذا الحديث هو من غير هذه الدائرة، وهو مورد إثبات البنوّة بكامل أحكامها.
$
', '(1) يحتمل في هذا الحديث وفي كلّ الأحاديث المتضمّنة للحكم بخروج سهم المحقّ لقوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه فاقترعوا أن تكون هذه الأحاديث بصدد تشريع هذا التفويض والاقتراع، لا بصدد مجرّد بيان خروج الحقّ على تقدير التفويض والاقتراع في مورد جاز ذلك، إلّا أنّ هذا مجرّد احتمال، وليس استظهاراً، فلا يكفي لتتميم الإطلاق.
', 766), (14, 767, 'book', '
وأمّا الإيراد بأنّ إطلاق الكبرى الموجودة في هذا الحديث يشمل فرض وجود حلّ آخر للنزاع، وهو خلاف الضرورة الفقهيّة، فجوابه: أنّ ارتكاز اشتراط القرعة في النزاع بعدم وجود حلّ آخر مقيّد كالمتصل، بل يمكن أن يقال: أنّه بقطع النظرعن هذا الارتكاز لايتمّ إطلاق من هذا القبيل في المقام، وذلك لأنّ مورد الحديث لا حلّ آخر فيه للنزاع، وذيل الحديث الدالّ على الكبرى قد فرض صحّة التفويض إلى اللّه والالتجاء إلى القرعة أمراً مفروغاً عنه، فلا إطلاق له، والمتيقّن منه مايكون من قبيل مورد الحديث.
إذن فثبتت بهذا الحديث الحجيّة القضائيّة للقرعة في مورد النزاع عند عدم وجود حلّ آخر للنزاع.
9 - مارواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن موسى بن عمر، عن عليّ بن عثمان، عن محمد بن حكيم قال: «سألت أباالحسن (عليه السلام) عن شيء، فقال: كلّ مجهول ففيه القرعة. قلت له: إنّ القرعة تخطيء وتصيب؟ قال: كلمّا حكم اللّه به فليس بمخطيء»، ورواه الصدوق بإسناده عن محمد بن حكيم(1). ورواه الشيخ (رحمه الله)أيضاً في النهاية مرسلا عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)، وعن غيره من آبائه وأبنائه(2). والسند الأوّل غير تامّ؛ لأنّ موسى بن عمر مردّد بين موسى بن عمر بن بزيع الثقة وموسى بن عمر بن يزيد غير الثابت وثاقته. وعليّ بن عثمان لم تثبت وثاقته - أمّا محمّد بن حكيم، فالظاهر أنّه منصرف إلى المشهور، وهو الخثعمي لا الساباطي، و ابن أبي عمير نقل عن محمّد بن حكيم بعض الروايات، وهو أيضاً ينصرف إلى هذا المشهور، وبهذاتثبت وثاقته.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 13 من كيفيّة الحكم، ح 11، ص 189.
(2) نفس المصدر، ح 18، ص 191.
', 767), (14, 768, 'book', '
وعلى أىّ حال فيكفينا سند الشيخ الصدوق إلى محمّد بن حكيم، فإنّ له إليه سندين تامّين، ومن حسن الحظّ أنّ أحدهما ينتهي بمحمّد بن أبي عمير، وبهذا تثبت وثاقة الراوي المباشر للإمام في المقام حتى لو بقي مردّداً بين محمّد بن حكيم الخثعمي ومحمّد بن حكيم الساباطي.
وأمّا من حيث الدلالة فقوله: «كلّ مجهول» يشمل بعمومه غير دائرة المباحات، فلايرد عليه ما أوردناه على بعض الروايات السابقة من كون القدر المتيقّن منها دائرة المباحات، والمفهوم من قوله: «فيه القرعة» هو حجيّة القرعة لامجرّد كونها قضيّة أخلاقيّة، أو قضيّة يمكن التراضي والتشارط عليها كما يمكن التراضي والتشارط على كلّ شيء آخر، وذلك لأنّ مجرّد قضيّة أخلاقيّة أو قضيّة تتبع التراضي والتشارط لاتشمل غير دائرة المباحات، وهذا خلاف عموم الموضوع؛ أعني قوله: «كلّ مجهول».
هذا وقد يناقش في التمسّك بهذا الحديث: بأنّنا نعلم بالارتكاز أنّ القرعة ليست قاعدة يرجع إليها عموماً في جميع موارد الشك فمثلا لو علمنا إجمالا بنجاسة أحد إنائين فلا أحديفتي بتعيين النجس بالقرعة، ولوكانت القرعة حجّة في الشبهات الحكمية على الإطلاق لما كانت هناك حاجة إلى الاستنباط بمراجعة الأمارات والاصول الشرعيّة، بل كنّانعيِّن الحكم دائماً في تلك الموارد بالقرعة، ومن البديهي بطلان ذلك إلى غير ذلك من النقوض وتخصيص الأكثر مستهجن فتبتلي الرواية بالإجمال.
وما قد يقال من أن مقياس العمل براوية القرعة هو عمل الأصحاب؛ إذ نعلم إجمالا بوجود ضابط للقرعة لم يصلنا وعمل الأصحاب في مورد مايكشف عن انطباق ذاك الضابط غير واضح؛ إذ لانتعقّل وجود ضابط وصلهم يداً بيد من زمان المعصوم ثم اختفى علينا نهائياً ولو كان هناك ضابط فلعلّه كان ضابطاً اجتهادياً لو
', '', 768), (14, 769, 'book', 'عرفنا مدركه لم نقتنع به.
والتحقيق في المقام: أن هذا الارتكاز لايوجب إجمال الحديث على الإطلاق، وتوضيح ذلك: أننا نعلم بارتكاز كالمتصل أنّ القرعة ليست قاعدة يرجع إليها عموماً في غير موارد النزاع ولافي موارد النزاع عند وجود حلّ آخر للنزاع من الحلول القضائيّة المتعارفة فإطلاق الحديث مقيَّد بمقيِّد كالمتّصل بخصوص مورد النزاع وعدم وجود حلّ آخر كذلك للنزاع.
هذا، وبما أننا لانؤمن بالإطلاق الشمولي للمحمول فنقول: أنّ قوله: «فيه القرعة» إنّما دلّ على أصل مشروعيّة القرعة في كلّ مجهول، أمّا أنّها هل شرّعت لكي يجريها نفس المتنازعين - وهذا ما عبّرنا عنه بالحجّية الذاتيّة - كما يجريها القاضي، أو لكي يجريها القاضي فحسب؟ فهذا لا يمكن فهمه من الحديث، والقدر المتيقّن هو الحجيّة القضائيّة؛ إذ لا يحتمل فقهياً كون القرعة حجّة ذاتية للمتنازعين مع عدم جواز حكم القاضي بها.
وخلاصة ما اتّضح حتى الآن من هذه الروايات العامّة عدّة أُمور:
الأوّل - مشروعيّة القرعة مشروعيّة أخلاقيّة في موارد تقتضي الصفة الأخلاقيّة ذلك ولو لم يكن هناك أمر مجهول له تعيّن في الواقع، كما دلّ على ذلك الحديث الرابع التام سنداً.
الثاني - مشروعيّة القرعة في موارد التراضي والتشارط عليها في دائرة المباحات ولو لم يكن هناك أمر مجهول له تعيّن في الواقع، كما دلّ على ذلك الحديث السادس التامّ سنداً، بل هو ثابت بمقتضى القاعدة.
الثالث - الحجيّة القضائيّة للقرعة في موارد النزاع عند عدم وجود الحلول
', '', 769), (14, 770, 'book', 'القضائيّة المتعارفة، تعمل من قبل القاضي(1) من دون فرق بين فرض دعوى كلّ من المترافعين العلمَ بالواقع، وفرض شكّهم في ذلك، ووقوع المرافعة على أساس عدم استعدادهم للتنازل عن الحقّ، كما هو مقتضى إطلاق قوله في الحديث التاسع: «كلّ مجهول ففيه القرعة»، بل لعلّ مورد الحديث الثامن أنسب بفرض شكّهم في البنوّة؛ إذ كيف يستطيع أحدهم دعوى أنّ الولد من نطفته؟!
أمّا الحجّيّة الذاتيّة للقرعة بأن يرغم الأطراف على القرعة من قبل غير القاضي فلم نستطع إثباتها لما عرفت من الإشكال في بعض الإطلاقات التي كان يمكن التمسّك بها سنداً أودلالة.
وأمّا الحجيّة القضائيّة للقرعة في مورد لا تعيّن له في الواقع فأيضاً لم نعرف لها دليلا، فقوله في الرواية التاسعة: «كلّ مجهول ففيه القرعة» ظاهر في افتراض واقع مجهول. وقوله في الرواية الثامنة: «ليس من قوم تنازعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلّا خرج سهم المحقّ» قد عرفت عدم الإطلاق فيه، على أنّ ظاهر خروج سهم المحقّ أيضاً هو فرض وجود واقع مجهول والروايات التي طبّقت القاعدة على قصّة يونس (عليه السلام) التي لاتعيّن فيها للواقع قد عرفت مناقشتها سنداً ودلالة، كما أنّ حديث: «القرعة سنّة» قد عرفت عدم تماميّة الإطلاق فيه، ولايفيدنا إطلاق ما عن دعائم الإسلام، عن أميرالمؤمنين و أبي جعفر وأبي عبداللّه (عليهم السلام): «أنّهم أوجبوا الحكم بالقرعة فيما أشكل» لسقوطه سنداً.
نعم هنا مورد واحد - سيأتي في بحث الروايات الخاصّة - دلّت بعض الروايات الخاصّة على القرعة فيه من دون افتراض واقع مجهول، وهو مورد تعيين
', '1 - ولا أقصد بالحجيّة القضائيّة الحجيّة في خصوص مورد المرافعة بالمعنى الذي يشترط فيه جزم المدّعي بما يدّعيه، بل أقصد بها ما يجري على يد القاضي.
', 770), (14, 771, 'book', '
من عليه الحلف في باب القضاء بالقرعة عند تعارض الشهود.
ثم إنّ هناك رواية قد تدل على عدم حجية القرعة حتى قضائياً إلّا على يد الإمام المعصوم، وهي مارواه الكليني عن على بن ابراهيم عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس: «قال في رجل كان له عدّة مماليك، فقال: أيُّكم علَّمَنِ آيةً من كتاب اللّه فهو حرٌّ، فعلّمه واحد منهم، ثمّ مات المولى، ولم يُدْرَ أيُّهم الذي علّمه؛ أنّه قال: يُستخرج بالقرعة . قال: لا يُستخرجه إلّا الإمام؛ لأنّ له على القرعة كلاماً ودعاءً لا يعلمه غيره»(1). فإن لم نقل بانصراف كلمة (الإمام) إلى الإمام المعصوم، فالقرينة على إرادة الإمام المعصوم في المقام هي افتراض دعاء لايعلمه غيره.
امّا لو قلنا بانصراف (الإمام) إلى الإمام المعصوم، فيعطف على هذا الحديث حديث آخر، وهو مرسلة حماد عمّن ذكره، عن أحدهما قال: القرعة لا تكون إلّا للإمام(2).
وقد تؤيِّد ذلك أيضاً الروايةُ السابعة من الروايات الماضية حيث جاء فيها قوله: «يجلس الإمام، ويجلس معه ناس ...»(3).
إلّا أنّه يمكن التخلّص من تلك الرواية بِغَضِّ النظر عمّا مضى من ضعْفها سنداً: بأنّها ليست بصدد الحصر، وإنّما فرض فيها أنّ القاضي هو الإمام، فإذا كان العرف لايحتمل الفرق - ولذا بفهم من مثل قوله: «كلّ أمر مجهول ففيه القرعة» شمول الحكم بالنسبة لما إذا كان القاضي غير الإمام - يتعدّى في هذا النصّ من فرض كون الإمام قاضياً إلى كلّ قاض شرعي.
$
', '(1) الوسائل، ج 16، باب 34 من العتق، ح 1، ص 38.
(2) الوسائل، ج 18، باب 13 من كيفيّة الحكم، ح 9، ص 189.
(3) الوسائل، ج 17، باب 4 من ميراث الخنثى، ح 1، ص 579.
', 771), (14, 772, 'book', '
كما يمكن التخلّص من مرسلة حماد - بِغَضّ النظر عن ضعفها بالإرسال - بالتعدّي إلى الفقيه الجامع للشرائط بدليل ولاية الفقيه التي أثبتت ماللإمام للفقيه بناءً على حمل الحصر في قوله: «لاتكون إلّا للإمام» على الحصر في مقابل ثبوت حقّ الاقتراع لغير الإمام في ذاته. أمّا إعطاء هذا الحقّ من قبل الإمام لغيرة بنصبه مكانه كما هو الحال في مبدأ ولاية الفقيه فلا ينفيه هذا الحصر، إلّا أنّ هذا التخلُّص لايحلّ المشكل في كلّ قاض شرعي؛ إذا القاضي قد لايكون فقيهاً، وإنّما هو منصوب من قبل الفقيه بناءً على جواز(1) ذلك.
أمّا رواية يونس فلا يمكن التخلّص عنها بمثل ذلك؛ إذ لو كان هناك دعاءٌ خاصّ بالإمام المعصوم لا يعرفه غيره وهو شرط في القرعة فالفقيه لايحلّ محلّه لعدم معرفته لذلك الدعاء.
نعم هناك إشكالان حول رواية يونس:
1 - أنّه ليس فيها تصريح بالنقل عن الإمام.
ويمكن علاج ذلك بأنّ الظاهر من قوله: قال: يستخرج بالقرعة هو أنّ
', '(1) قد يقال: إن صحّ إنّ للإمام إيكال أمر القرعة إلى شخص آخر كإيكاله لسائر أُمور القضاء إليه، ولذا استفدنا من مبدأ ولاية الفقيه صحّة اقتراع الفقيه؛ إذن يصحّ للفقيه أيضاً إيكال أمر القرعة إلى غيره؛ لأنّ ماللإمام للفقيه، فكما صحّ للإمام إيكال أمر القرعة إلى غيرة كذلك يصحّ ذلك للفقيه.
وقد يقال: إنّ التعدّي إلى الفقيه أيضاً غير جائز فضلا عن غير الفقيه؛ إذ جواز الحكم بالقرعة وعدمه حكم شرعي فقهي وليس مربوطاً بباب صلاحيّات ولىّ الأمر كي يشمله إطلاق دليل ولاية الفقيه ولا أقلّ من احتمال ذلك، ودليل ولاية الفقيه لم يرد بعنوان: (كلّ ما للإمام للفقيه) كي يفرض إطلاق لذلك في المقام.
', 772), (14, 773, 'book', '
يونس يقول: قال: يستخرج بالقرعة؛ أي أنّ يونس ينقل هذا الكلام عن شخص، فالرواية مضمرة، ويأتي فيها الحلّ الثابت للروايات المضمرة من دعوى الانصراف إلى المعصوم خصوصاً من مثل يونس.
إلّا أنّ هذا العلاج لايأتي في ذيل الحديث الذي هو محلّ الشاهد، وهو قوله: «قال: لايستخرجه إلّا الإمام ...»؛ إذ لم يعلم كون ضمير (قال) راجعاً إلى غير يونس، فيحتمل كون هذا رأياً واستنباطاً ليونس ولاحجّيّة في ذلك.
2 - سقوط سند الحديث بإسماعيل بن مرار.
هذا تمام الكلام في مطلقات القرعة. وقد تحصَّل أنها لاتدلّ على الحجية الذاتية للقرعة بمعنى أنه ليس لأحد المتخاصمين إرغام صاحبه على القرعة عن غير طريق القضاء، وإنما هي حجّة قضائية بمعنى أنّ القاضي هو الذي يرغم المتخاصمين على الالتزام بالقرعة.
 $
روايات خاصّة في القرعة:
وأما روايات القرعة الواردة في موارد خاصّة فهي على قسمين:
الأوّل - مالاعلاقة له بباب المرافعة و القضاء، فلا معنى للحديث عن أنها هل تدل على الحجية القضائية فحسب أو على الحجية الذاتية؟ من قبيل الرواية الوارد: عن محمد بن عيسى - بسند تامّ - عن الرجل أنه سئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة قال: «إن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسمها نصفين أبداً حتى يقع السهم بها، فتذبح وتحرق، ونجت سائرها»(1).
$
', '(1) الوسائل، ج 16، باب.3 من الأطعمة المحرمة، ح 1، ص 358.
', 773), (14, 774, 'book', '
والاعتماد على هذا الحديث مبنىّ على استظهار كون المراد من (الرجل) هو الامام (عليه السلام).
وعلى أىّ حال فهذا الحديث - كما قلنا - أجنبىّ عن المقام، وهو حديث خاصّ بمورده لا مبرِّر للتعدّي عنه إلى مورد آخر فإنّ الارتكاز المتشرعي قائم على عدم مرجعية القرعة بشكل عامّ في غير باب النزاع.
والثاني - الروايات الواردة في باب المرافعة لكنها جميعاً ناظرة إلى الحجية القضائية، ولاعلاقة لها بموقف يتخذه نفس المترافعين مستقلاّ عن القاضي وذلك من قبيل الروايات الواردة في تعيين من عليه اليمين عند تعارض الشهود، وقد مضى ذكرها فيما سبق في بحث تعارض البينتين، ونذكر هنا كنموذج رواية الحلبي التامة سنداً قال: «سئل أبوعبداللّه (عليه السلام) عن رجلين شهدا على أمر، وجاء آخرانِ فشهدا على غير ذلك، فاختلفوا. قال: يقرع بينهما فأيّهما قرع فعليه اليمين، وهو أولى بالحق»(1).
ورواية داود بن يزيد العطار، عن بعض رجاله، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجل كانت له امرأة، فجاء رجل بشهود أنّ هذه الإمرأة امرأة فلان وجاء آخران فشهدا أنها امرأة فلان، فاعتدل الشهود وعدّلوا، فقال: يقرع بينهما فمن خرج سهمه، فهو المُحِقّ، وهو أولى بها»(2).
وهذا الحديث و إن لم يصرّح فيه بأنّ القرعة لتعيين من عليه اليمين لالفصل الخصومة بها مباشرة لكنّة محمول جمعاً على مفاد باقي روايات القرعة عند تعارض الشهود من أنها لتشخيص من عليه اليمين لالفصل الخصومة بها ابتداءً وعلى أية
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 11، ص 185.
(2) الوسائل، ج 14، باب 12 من نكاح العبيد و الإماء، ح 8، ص 184.
', 774), (14, 775, 'book', '
حال فالحديث ضعيف بالإرسال.
ومن قبيل الروايات الواردة في فصل الخصومة بالقرعة وهي غالباً واردة في غير باب الأموال كالحديث الوارد عن الحلبي - بسند تام - عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: «إذا وقع الحرّ والعبد والمشرك على امرأة في طهر واحد، وادّعوا الولد أُقرع بينهم، وكان الولد للذي يقرع»(1).
ومارواه الصدوق بسنده عن الحكم بن مسكين، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد فولدت فادّعوا جميعاً أقرع الوالي بينهم فمن قرع كان الولد ولده ويردّ قيمة الولد على صاحب الجارية. قال: فإن اشترى رجل جارية، فجاء رجل فاستحقّها، وقد ولدت من المشتري، ردَّ الجارية عليه، وكان له ولدها بقيمته»(2). والحكم بن مسكين ثقة لرواية بعض الثلاثة عنه، غير أنّ سند الصدوق إلى الحكم بن مسكين غير معلوم لدينا، ولكن الشيخ الطوسي (رحمه الله) روى نفس الحديث بسند تامّ .
وأيضاً ورد حديث - بسند تامّ - عن سليمان بن خالد، عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: «قضى علىّ (عليه السلام) في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد، وذلك في الجاهليّة قبل أن يظهر الإسلام فأقرع بينهم، فجعل الولد للذي قرع...»(3).
وورد أيضاً - بسند تامّ - عن الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وقع
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 13 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 187. ورواه عن الحلبي ومحمد بن مسلم في ج 14، باب 57 من نكاح العبيد والإماء، ح 3، ص 567.
(2) الوسائل، ج 18، باب 13 من كيفيّة الحكم، ح 14، ص 190. وج 14، باب 57 من نكاح العبيد و الإماء، ح 1، ص 566.
(3) الوسائل، ج 14، باب 57 من نكاح العبيد والإماء، ح 2، ص 566 و 567 .
', 775), (14, 776, 'book', '
المسلم واليهودي و النصراني على المرأة في طهر واحد أُقرع بينهم...»(1).
وهناك حديث واحد في باب القضاء دلّ على القرعة في باب الأموال، وهو حديث سماعة التامّ سنداً عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّ رجلين اختصما إلى علىّ (عليه السلام) في دابّة فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده، وأقام كلّ واحد منهما بيّنة سواء في العدد فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثم قال: (أللهمّ ربَّ السماوات السبع، وربّ الأرضين السبع، وربّ العرش العظيم، عالم الغيب و الشهادة، الرحمن الرحيم أيّهما كان صاحب الدابّة وهو أولى بها فأسأَلُكَ أن يقرع، ويخرج سهمُه)، فخرج سهم أحدهما، فقضى له بها»(2). وهذا الحديث محمول على فرض نكولهما عن اليمين لما دلّ في باب النزاع في الأموال مع تساوي البيّنتين على أنّ الوظيفة هي التحالف، فلو حلفا قُسِّم المال بينهم، ولو حلف أحدهما كان المال له، ولو كان أحدُهما ذا اليد دون الآخر وُجّه اليمين إلى ذي اليد. إذن فلم يبق بعد إخراج هذه الفروض مورد لهذا الحديث إلّا فرض نكول المتداعيين.
وبعض أحاديث الباب مردّد بين إلحاقه بما ورد في فصل النزاع، أو عدّه ممّا ورد في غير مورد فصل النزاع، كما ورد عن حمّاد، عن المختار، قال: «دخل أبوحنيفة على أبي عبداللّه (عليه السلام) فقال له أبوعبداللّه (عليه السلام): ما تقول في بيت سقط على قوم فبقي منهم صبيّان أحدهما حرٌّ والآخر مملوك لصحابه، فلم يعرف الحرّ من العبد؟ فقال أبوحنيفة: يعتق نصف هذا ونصف هذا، فقال أبوعبداللّه (عليه السلام): ليس كذلك، ولكنه يقرع بينهما، فمن أصابته القرعة فهو الحرّ، ويعتق هذا، فيجعل مولىً لهذا»(3).
', '(1) الوسائل، ج 17، باب 10 من ميراث ولد الملاعنة، ص 571.
(2) الوسائل، المجلد 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 12، ص 185.
(3) الوسائل، ج 18، باب 13 من كيفيّة الحكم، ح 7، ص 188 و 189.
', 776), (14, 777, 'book', '
وسند الحديث ضعيف بالمختار؛ إذا لم تثبت وثاقته.
وعن حريز عمّن أخبره، عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) باليمين في قوم انهدمت عليهم دارهم و بقي صبيّان أحدهما حرّ والآخر مملوك فَأسْهَمَ أمير المؤمنين (عليه السلام) بينهما، فخرج السهم على أحدهما، فجعل له المال، وأعتق الآخر»(1).
فإمّا أن يقال: إنّه لم يكن في مورد الحديثين نزاع؛ إذن فالحديثان واردان في غير باب النزاع، وقد مضى أنّ الارتكاز المتشرّعي يدلّ على عدم مرجعيّة القرعة بشكل عامّ في غير باب النزاع، فلا يمكن التعدّي من المورد، أو يقال - وهو الصحيح -: إنّ هذا الارتكاز غير وارد في مثل مورد الحديثين مّما هو من شأنه وقوع النزاع، وإنّما لم يقع النزاع لأنّ طرفي القضية طفلان؛ إذن فهذا ملحق بالقسم الثاني أعني ما ورد في مورد النزاع. وعلى أىّ حال فالصحيح - بِغَضِّ النظر عمّا عرفت من ضعف السند - هو عدم إمكان التعدّي عن مورد الحديثين حتى لو أنكرنا ذاك الارتكاز، وذلك لعدم ثبوت نفي خصوصيّة المورد من قبل العرف.
هذا، وهناك حديث تامّ السند من القسم الثاني - أىّ وارد في مورد خاصّ في باب النزاع - قد يمكن التعدّي عرفاً بإلغاء خصوصيّة المورد منه إلى سائر موارد النزاع ممّا لا يمكن فيه فصل النزاع بسائر مقاييس القضاء، فيصبح مؤيِّداً لما استفدناه من الروايات العامّة وهو حديث أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قصّة أميرالمؤمنين (عليه السلام) مع شابّ قُتل أبوه ظلماً حيث عيَّن (عليه السلام) مالَ أبيه المقتول بالقرعة، والحديث مذكور بكامله في الكافي في باب النوادر من كتاب الديات(2)، ومذكور
', '(1) نفس المصدر، ح 8، ص 189.
(2) الكافي، ج 7، ص 371، ح 8.
', 777), (14, 778, 'book', '
مرسلا في الفقيه في باب الحيل في الأحكام(1)، ومذكور ببعض قطعاته - ومنها القطعة التي تدلّ على مقصودنا - في الوسائل في الباب العشرين من كيفيّة الحكم(2).
هذا تمام الكلام في روايات القرعة، وهي العمدة في الدليل على القرعة.
أمّا الاستدلال عليها بقوله تعالى: ﴿وما كُنتَ لَديهِمْ إذْ يُلقُونَ أَقْلامَهُمْ أيُّهم يكفُلُ مَريَمَ﴾(3)، وقوله تعالى: ﴿فساهم فكان من المدحضين﴾(4) بدعوى أنّ الآيتين دلّتا على مشروعيّة القرعة في سالف الزمان، فتثبت مشروعيّتها في هذا الزمان، أمّا بالاستصحاب أو بأنّ ذكرها في القرآن من دون تعليق عليها دليل الإمضاء، فهذا الاستدلال لا يفيدنا شيئاً؛ لأنّ الآيتين لم تدلاّ على كبرى كلّية نتمسّك بها في مورد الشك، وإنّما دلّتا على ثبوت القرعة وقتئذ في الجملة، والقدر المتيقّن من ذلك فرض التراضي والتباني عليها في الأُمور المباحة.
كما أنّ الاستدلال عليها بالسيرة العقلائية بدعوى قيام السيرة على القرعة في زمن المعصوم من دون ردع لايفيدنا أيضاً، فإنّ السيرة دليل لبّيّ، و المتيقَّن منها فرض التراضي والتباني عليها في دائرة المباحات.
وأيضاً الاستدلال عليها بالإجماع لايُفيد؛ إذ لا أقلّ من احتمال المدركيّة.
 $
 $
$
', '(1) من لايحضره الفقيه، ج 3، ص 15، ح 11.
(2) الوسائل، ج 18، باب 20 من كيفية الحكم، ح 1، ص 204.
(3) آل عمران، الآية 44.
(4) الصافات، الآية 141.
', 778), (14, 779, 'book', '
 $
$
', '', 779), (14, 780, 'book', ' $
$
', '', 780), (14, 781, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
نفوذ الحكم على الغائب:
الحكم على الغائب بالبيّنة نافذ بدليل إطلاق حجّيّة البيّنة، مضافاً إلى ماوردمن النصّ الخاصّ الدالّ على ذلك، وهو ماورد - بسند تامّ - عن جميل بن درّاج عن جماعة من أصحابنا عنهما (عليهما السلام) قالا: «الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة، ويباع ماله، ويقضى عنه دينه وهو غائب، ويكون الغائب على حجّته إذا قدم. قال: ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلّا بكفلاء»(1).
ويمكن علاج ما فيه من الإرسال بدعوى أنّ مثل جميل بن دراج الذي هو من أجلّة الرواة لو نقل عن جماعة نستبعد بحساب الاحتمال كون اُولئك الجماعة كلِّهم كاذبين.
فبناءً على هذا النصّ ينفذ الحكم على الغائب بالبيّنة، ولكنّه إذا رجع كان على حجّتّه، فلو أبطل البيّنة ببيّنة معارضة - مثلا - بطل الحكم، فحتى لو فرضنا أنّ دليل نفوذ حكم الحاكم وعدم جواز نقضه الذي سنبحث عنه - إن شاء اللّه - يشمل مثل هذا المورد فهذا النصّ يقيّد ذاك الدليل، ويثبّت أنّ الغائب على حجّته، فإن كان يمتلك حجّة تغيّر مقاييس القضاء انتقض الحكم.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 26 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 216.
', 781), (14, 782, 'book', '
وهذا النصّ قد يقال: إنّه يختصّ بباب الدَّين بقرينة قوله: «ويباع ما له، ويقضى عنه دينه» وقد يقال: إنّ هذه جملة مستقلّة وحكم مستقل غير الحكم الأوّل، وهو: «يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة»، أو يقال - بعد استظهار ارتباط الجملتين إحداهما بالاُخرى، أو احتماله -: إنّ هذا الارتباط لا يعني تقييد الجملة الأُولى بباب الدَّين، وإنّما الجملة الثانية راجعة إلى بعض موارد الجملة الأُولى، وهو مورد الدين مع بقاء الجملة الأُولى على إطلاقها.
ولو قلنا بالإجمال بدعوى أنّه لا أقلّ من احتمال صلاحيّة الجملة الثانية للقرينيّة على إرادة خصوص باب الدين أمكن أن يقال: إنّ العرف يُلغي خصوصيَّة مورد الدَّين لاستظهار أنّ الرواية ناظرة إلى نكتة مرتكزة عند العقلاء أو المتشرّعة، وهي حجّيّة البيّنة، ولا فرق في ذلك بين باب الدَّين وغيره.
ولو لم نقبل بهذا التقريب أيضاً كفانا أنّ الحكم على مقتضى القاعدة وذلك لحجّيّة البيّنة على الإطلاق، فيثبت الحكم في غير باب الدين بمقتضى القواعد.
أمَّا ماورد في ذيل الحديث من شرط أخذ الكفيل من المدّعي لاحتمال نقض الغائب للحكم بإقامة الحجّة إذا حضر، فهو مقيّد في بعض نُقولِهِ بقوله: «إذا لم يكن مليّاً» وهذا النقل ضعيف سنداً بجعفر بن محمد بن حكيم الذي لا دليل على توثيقه عدا وروده في أسانيد كامل الزيارات.
ولعلّنا لسنا بحاجة في إثبات هذا القيد إلى هذا الحديث الضعيف سنداً، وذلك بدعوى أنّ المفهوم وفق المناسبات من الحديث الأوَّل ليس هو أخذ الكفيل مطلقاً حتى فيما إذا كان مليّاً؛ لأنّ أَخْذ الكفيل إنّما هو لضمان القدرة على الأداء على تقدير ما لو أثبت الغائب بعد رجوعه أنّ الحقَّ كان معه، وإذا لم يكن مليّاً فقد يعجز عن الأداء.
ثمّ إنّ هنا حديثاً يدلّ على عدم جواز إصدار الحكم على الغائب، وهو ما عن
', '', 782), (14, 783, 'book', 'أبي البختري عن جعفر عن أبيه عن عليّ (عليه السلام) قال: «لا يُقضى على غائب» (1)، وحمله صاحب الوسائل على معنى أنّه لا يقضى عليه قضاءً باتّاً، بل الغائب على حجّته، ويؤخذ من الحاضر الكفيل. ولعلّ هذا جمع تبرعي.
وبالإمكان الجمع بالتخصيص بأن يقال: إنّ الغائب يشمل بإطلاقه الغائب الذي يمكن إبلاغه للحضور، ويستطيع الحضور بسهولة والغائب الذي ليس كذلك، وحديث الحكم على الغائب بالبيّنة منصرف وفق الارتكاز عن القسم الأوَّل ومختصّ بالقسم الثاني، فيكون أخصّ من حديث المنع عن الحكم على الغائب ويقدّم عليه بالتخصيص. وعلى أيّ حال فحديث المنع عن الحكم على الغائب ساقط سنداً.
هذا، وينبغي إشباع الكلام في مسألة الحكم على الغائب من زاويتين:
أوّلا في أقسام ما يحكم به، وثانياً في أقسام الغائب:
 $
أقسام الحكم على الغائب:
أمّا أقسام ما يحكم به فقد اتّضح في الأبحاث السابقة أنّه تارة يحكم بالبيّنة،وأُخرى باليمين، وثالثة بالقرعة، ورابعة بقاعدة العدل والإنصاف، فهل يجوز الحكم على الغائب بكلّ هذه الأُمور، أولا؟
أمّا الحكم بالبيّنة فلا إشكال في جوازه على الغائب إمّا بإطلاق دليل حجّيّة البيّنة، أو بالنصّ الذي مضى، أو بدعوى أنّ دليل القضاء بالبيّنة إن لم يكن له إطلاق لفظي لفرض غياب المحكوم عليه فالعرف يتعدّى من الحاضر إلى الغائب؛ لارتكاز عدم الفرق بينهما إلّا بالمقدار الذي يتدارك بكون الغائب على حجّته.
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 26 من كيفيّة الحكم، ح 4، ص 217.
', 783), (14, 784, 'book', '
وأمّا الحكم باليمين فاليمين تارة تكون وظيفة الحاضر، وأُخرى تكون وظيفة الغائب:
مثال الأوّل - ما لو ثبت دَينٌ للحاظر على الغائب إلّا أنّ الغائب يعتقد أنّه قد أدّاه سابقاً، والحاضر ينكر ذلك، وهنا قد يقال: لا يمكن تحليف الحاضر قبل إحضار الغائب؛ لأنّ تحليف المنكر من حقّ المدّعي، وقد ظهر من أبحاثنا السابقة جوابه حيث وضّحنا أنّ التحليف إنّما يكون من حقّ المدّعي حينما يكون الحقّ المتنازع عليه في سلطة المنكر، ويكون ترك النزاع من صالح المنكر، فيكون المدّعي مخيَّراً بين أن يترك النزاع أو يحلّف المنكر، أمّا إذا كان الحقّ المتنازع عليه تحت سلطة المدّعي، وكان المنكر هو المنتفع برفع النزاع كما في مثال إنكار أداء الدين فالحلف يكون من حقّ المنكر نفسه.
وقد يقال: يجوز تحليف الحاضر والحكم وفق الحلف رغم غياب المدّعي تمسُّكاً بالإطلاق اللّفظي لقوله: «اليمين على المدّعى عليه».
وهذا الكلام أيضاً غير صحيح؛ إذ لا إطلاق لفظي لهذا النصّ، فإنّ النصّ إنّما ينظر إلى تعيين من عليه اليمين، أمّا متى يصحّ تحليفه هل عند حضور المدّعي أو مطلقاً؟ فهذا مطلب آخر ليس بصدد بيانه.
والصحيح: أنّه يجوز تحليفه في غياب المدّعي، وذلك لأحد وجهين:
الأوّل - التمسُّك بدليل حجّيّة الأصل الذي يكون في صالح المنكر؛ إذ لم نجزم بتخصيصه في باب القضاء إلّا بمقدار التحليف؛ أي أننا جزمنا بعدم جواز الحكم وفق هذا الأصل قبل تحليفه، أمّا بعد التحليف فنتمسّك بدليل حجّيّة هذا الأصل المثبت لكون القضاء على طبقة قضاءً بالحقّ والعدل .
والثاني - أن يقال: لو لم يتمّ إطلاق لفظي لدليل تحليف المنكر يشمل فرض حضور المدّعي وغيابه معاً، فالعرف يتعدّى من فرض الحضور إلى فرض
', '', 784), (14, 785, 'book', 'الغياب الارتكاز عدم الفرق بينهما إلّا بالمقدار الذي يتدارك بأن الغائب على حجّته.
إذن فالمنكر يحلف، والقاضي يحكم وفق حلفه، فإذا رجع الغائب وأقام البيّنة بطل حلف المنكر؛ لأنّ الغائب على حجّته، وذلك إمّا بمقتضى القواعد بناءً على أنّ دليل عدم جواز نقض حكم الحاكم لا يشمل فرض غياب المحكوم عليه وإدلاء حجّة تامّة بعد حضوره، وكذلك دليل عدم سماع البيّنة من المدّعي بعد تحليف المنكر ينصرف بالارتكاز عن مثل هذا المورد، وإمّا بمقتضى النصّ الماضي الدالّ في مورد القضاء بالبينة على أن الغائب على حجّته بناءً على التعدّي من مورد القضاء بالبيّنة إلى مورد القضاء باليمين بالأولويّة.
ومثال الثاني - ما لو ادّعى الحاضر ديناً على الغائب ولا بيّنة له، فكانت الوظيفة تحليف المنكر، ولكنّه غائب، فهل يكون غيابه بمنزلة النكول ويحلّف المدّعي، أو يُحكم له؟ طبعاً لا يكون ذلك إلّا في فرض كون أصل غيابه فراراً عن الحلف، فعندئذ إن لم يشمله دليل حكم النكول بإطلاق لفظي فلا إشكال في تعدّي العرف من فرض نكول المنكر وهو حاضر إلى هذا الفرض، لعدم احتماله الفرق. ولا مورد هنا لدعوى كون الغائب على حجّته.
وأمّا الحكم بالقرعة، أو قاعدة العدل والإنصاف فنوضّح الحال فيه بالتعرّض لعدّة فروع:
الفرع الأوّل - لو كان هناك تداع على المال ووصلت النوبة على تقدير حضورهما إلى القرعة إلّا أن أحدهما كان غائباً فلا مورد للحكم بالقرعة؛ إذ القرعة هنا إنّما تكون بعد نكولهما عن الحلف، فلا بدّ من حضوره كي يعرض عليه الحلف فينكل حتى تصل النوبة إلى القرعة، إلّا إذا كان غيابه بعنوان الفرار عن الحلف بحيث صدق عليه النكول، فهنا بالإمكان الأخذ بدليل القرعة كما لو كان حاضراً؛ إذ لو لم يتمّ إطلاق لفظي فلا أقلّ من عدم احتمال العرف الفرق.
$
', '', 785), (14, 786, 'book', 'أما لو فرضنا أنّ الشخص الحاضر استعدّ للحلف فلا يبعد تحليفه - ولو تعدّياً من فرض حضور الخصم - لعدم احتمال الفرق إلّا بقدر كون الغائب على حجّته، فإن حلف ولم يكن غياب الغائب نكولا أُعطي نصف المال، وأُوقف النزاع بالنسبة للنصف الآخر إلى حين حضور الخصم، وإذا حضر طبّقت عليه قاعدة الغائب على حجّته في النصف الأوّل كما كان له حقّ الحلف بالنسبة للنصف الثاني، أمّا إذا كان غيابه بعنوان النكول فالحاضر يأخذ بحلفه تمام المال، ولا مورد لقاعدة أنّ الغائب على حجّته.
الفرع الثاني - لو كان النزاع على غير المال كالولد نتيجة لجهلهما بالواقع وكان أحدهما غائباً حكم بالقرعة ولو لم يتم إطلاق لفظي في الدليل لعدم احتمال الفرق عرفاً، ولا مورد هنا لقاعدة أنّ الغائب على حجّته؛ لأنّ المفروض جهلهما بالواقع.
الفرع الثالث - لو كان النزاع في المال نتيجة لجهلهما بالواقع بحيث لو كانا حاضرين لوصلت النوبة إلى قاعدة العدل والإنصاف، إلّا أنّ أحدهما كان غائباً، فالظاهر أنّ الحاضر يأخذ حصّته بقاعدة العدل والإنصاف؛ لعدم احتمال دخل حضور الآخر في ذلك، ولا مورد هنا لقاعدة أنّ الغائب على حجّته؛ لأنّ المفروض جهلهما معاً بالواقع.
الفرع الرابع - لو كان التداعي على غير المال كالزوجة بحيث لو كانا حاضرين وتساويا في البيّنة أو لم تكن لهما بيّنة، وصلت النوبة إلى القرعة لتعيين من عليه الحلف، ولكن المفروض أنّ أحدهما غائب والحاضر لا يمتلك بيّنة، فلا يبعد القول بالقرعة لتعيين من عليه الحلف ولو تعدّياً من فرض الحضور؛ لعدم احتمال الفرق إلّا بمقدار أنّ الغائب على حجّته، فلو خرجت القرعة باسم الغائب اُوقف النزاع إلى حين حضوره، ولو خرجت باسم الحاضر حُلِّف، فلو حلف حكم له، ولكن الغائب يكون على حجّته: إمّا بمقتضى القاعدة، وإما بالتعدّي بالأولويّة من
', '', 786), (14, 787, 'book', 'مورد النصّ الوارد في فرض القضاء بالبيّنة.
 $
أقسام الغائب:
وأما أقسام الغائب فالكلام فيها كما يلي:
الغائب تارةً لا يمكن إحضاره بسهولة وفي وقت قريب يتسامح عرفاً في تأخير القضاء إلى ذاك الوقت، وأُخرى يمكن ذلك كما لو كان في نفس البلد مثلا:
فالفرض الأوّل هو المتيقّن من مورد الحكم على الغائب.
وأمّا الفرض الثاني وهو ما لو أمكن إحضار الغائب، فتارةً يفترض أنّ القاضي يحتمل أن يكون حضوره مؤثِّراً في قلب الموازين بأن تكون معه حجّة - من بيّنة، أو غيرها - بحيث لو حضر لتغيّر ميزان القضاء، وأُخرى نفترض أنّ القاضي قد حصل له العلم بأنّ الغائب لا يمتلك حجّة لو حضر.
فإن فرض الأوّل فلا إشكال في وجوب إخباره وفتح باب الحضور عليه؛ لانصراف أدلّة القضاء وأدّلة حجّيّة مقاييس القضاء عن فرض إغفال الذهن عن أحد الخصمين المؤدّي إلى عدم إدلائه بحجّته لو كانت له حجّة، فإنّ المناسبات والارتكازات العرفيّة تؤدّي إلى انصراف من هذا القبيل بلا شكّ.
وإن فرض الثاني فأيضاً لا يبعد دعوى نفس الانصراف عقلائياً أيضاً مادام علم القاضي معرّضاً للخطأ، فالمفروض تهيئة الفرض أمام الغائب للحضور لكي يكون له مجال الإدلاء بحجّته على تقدير امتلاكه للحجّة وخطأ علم القاضي بعدم امتلاكه لها.
وأمّا إذا أخبر الغائب القادر على الحضور بالأمر، وطلب منه الحضور، ولكنّه تعمّد عدم الحضور، فتارةً يفترض أنّ المقاييس فعلا تامّة للحكم ضدّه وإن احتمل
', '', 787), (14, 788, 'book', 'أنّه لو حضر لأدلى بحجّة تؤثر في تبديل المقاييس بأن يقيم معه بيّنة مثلا، وأُخرى يفترض عدم تماميّة ذلك:
فإن فرضت تماميّة المقاييس للحكم عليه جاز للقاضي الحكم عليه غيابياً، إذ لو لم يكن في الأدلّة إطلاق لفظي كفانا عدم احتمال الفرق عرفاً بين أن يحضر ولا يُدلي بحجّة أو أن يتعمّد الغياب. ولا مورد هنا لقاعدة الغائب على حجّته.
وإن فرضت عدم تماميّة المقاييس للحكم عليه، كما لو كان عليه اليمين ولم يكن يعدّ غيابه نكولا، فلم يمكن للقاضي الحكم عليه غيابياً، كما لم يمكنه الحكم له ضدّ الحاضر، فللقاضي هنا جلبه قهراً؛ لأن هذا هو المفهوم من دليل ثبوت منصب القضاء له .
بقي الكلام في فرع واحد: وهو ما إذا لم يحضر الخصم، ولكنّه أرسل وكيلا عنه، فهل يغني حضور وكيله عن حضوره، أو لا؟
والجواب: أنّه لو كان عمل الوكيل هو الحلف بدلا عنه، فمن الواضح أنّ هذا لا يجوز، ولو كان عمله مجرّد الإخبار عن حال الغائب من كونه ناكلا مثلا، فقبول كلامه يتوقّف على قبول خبر الواحد في الموضوعات، أو كون المخبر بيّنة عادلة، أو اعتراف الخصم مسبقاً للقاضي بأنّ ما يخبرك به هذا الوكيل عنّي فهو مُمضىً عليّ بناءً على أنّ إخبار المخبر في مثل هذا الفرض حجّة في المرتكز العقلائي. وأمّا إذا كان الوكيل عمله تهيئة المقدمات، وتوضيح الأُمور والإرشاد مع حضور الموكلّ عند ضرورة حضوره، فهذا لا بحث فيه.
هذا تمام الكلام في الحكم على الغائب.
$
', '', 788), (14, 789, 'book', ' $
$
', '', 789), (14, 790, 'book', ' $
$
', '', 790), (14, 791, 'book', ' $
 $
 $
 $
 $
 $
 $
لا إشكال في نفوذ حكم القاضي بشأن من حكم عليه، وبشأن الشخص الثالث ما لم يعلم بخطأ القاضي، أو لم يكن مقياس آخر للقضاء يختلف عن مقياسه، ويكفي دليلا على النفوذ الارتكاز العقلائي والمتشرّعي الحاكم بأنّ القضاء إنّما جعل لفصل الخصومة، وشُرِّع لأجل التنفيذ، ولا تحتمل مشروعيَّة القضاء من دون نفوذه.
والإشكال في نفوذ حكم القاضي، إنّما ينشأ من أحد مناشىء ثلاثة:
1 - فرض الخطأ في المحكوم به .
2 - فرض تبدّل المقاييس لنفس القاضي أو لقاض آخر.
3 - فرض الخطأ في المقاييس.
فالكلام يقع في فروض ثلاثة:
 $
فرض الخطأ في المحكوم به:
الفرض الأوّل - فرض الخطأ في المحكوم به: ومثاله ما لو أقام المدّعي بيّنةعلى مدّعاه، فحكم القاضي وفق البيّنة بينما كان المنكر أو شخص ثالث عالماً بأنّ المدّعي كاذب في دعواه، وأنّ الحقّ مع المنكر، أو حلف المنكر يميناً فاجرة، فحكم
', '', 791), (14, 792, 'book', 'القاضي وفق يمينه؛ لأنّ المدّعي لم يكن يمتلك البينه وهو أو شخص ثالث يعلم كذب المنكر.
وهنا بالنسبة للمحكوم عليه لا ينبغي الإشكال في نفوذ الحكم عليه ولو علم بالخطأ، وذلك لو جهين:
الأوّل - الارتكاز القائل بأنّ القضاء إنّما شرّع لفصل الخصومة، والمحكوم عليه يدّعي غالباً العلم بأنّه على حقّ، فلو كان علمه بذلك مانعاً عن نفوذ القضاء كان هذا خلف مشروعيّته لفصل الخصومة.
والثاني - مقبولة عمر بن حنظلة: «إذا حكم بحكمنا فلم يقبل، فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه»(1). وليس المقصود من قوله: «حكم بحكمنا» حقّانيّة المحكوم به كي يقال: إنّ الكلام في المصداق، وأنَّه إذا أخطأ في المحكوم به؛ إذن لم يحكم بحكمهم، وإنّما المقصود هو الحكم بما يحكم به الإمام (عليه السلام) وهو الحكم وفق مقاييس القضاء، أمَّا كون المقياس الذي يحكم به منتجاً لما يطابق الواقع، فهو لم يكن مطلوباً من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فضلا عن غيره، وقد ورد عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحنُ بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار»(2).
وفي خصوص ما إذا كان الحكم وفق تحليف المدّعي للمنكر يدلّ أيضاً على المقصود ما مضى في محلّه ممّا ورد من «أنّ اليمين تذهب بحق المدّعي»(3).
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 11 من صفات القاضي، ح 1، ص 99.
(2) الوسائل، ج 18، باب 2 من كيفيّة الحكم، ح 1، ص 169.
(3) الوسائل، ج 18، باب 9 و 10 من كيفيّة الحكم، ص 179 و 180.
', 792), (14, 793, 'book', '
وأمّا بالنسبة للمحكوم له فمن الواضح أنّه لو علم بخطأ الحكم كان عليه ردّ الحقّ إلى أهله، وذلك:
أوّلا - بمقتضى القاعدة بعد البناء على كون حكم الحاكم غير مغيّر للواقع .
وثانياً - بمقتضى ما مضى عن رسول اللّه - من قوله: «أَيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار».
وأمّا الشخص الثالث الذي عرف خطأ الحاكم فلا يحقّ له أن يخالف الحقّ المحكوم به رغم علمه بخطئه، ولا أن يخالف الحقّ الذي يعلم به: أمّا الأوّل فلما مضى من الارتكاز والمقبولة الدالّين على نفوذ حكم القاضي، وأمّا الثاني فلمقتضى القاعدة بعد أن لم يكن حكمُ القاضي مغيّراً للواقع، والارتكاز والمقبولة لا يدلاّن على جواز مخالفة من له الحقّ واقعاً رغم العلم به، وإنّما يدلاّن على عدم جواز مخالفة حكم الحاكم، ولا تنافي بين العمل بحكم الحاكم والعمل بحقّ ذي الحقّ الحقيقي، فلو حكم الحاكم بأنّ الدار لزيد - مثلا - لأنّه كان ذا اليد، وحلّفه بطلب من المدّعي فحلف، فثبت لدى الحاكم ظاهراً أنّه له، فحكم بذلك، وكان الشخص الثالث عالماً بأنّ هذه الدار لعمرو وأنّ زيداً حلف يميناً فاجرة، وأراد الشخص الثالث شراء الدار أو استيجارها، كان عليه إرضاؤهما معاً: أمّا المنكر فلأنّ له الحقّ حسب حكم الحاكم، وأمّا المدّعي فلأنّه هو ذو الحقّ واقعاً.
يبقى الكلام في فرع واحد: وهو أنّ المحكوم عليه لو علم بحرمة ما حكم به عليه، وأنّ العمل وفق حكم القاضي يوجب ارتكا به للحرام فماذا يصنع؟ ومثاله ما لو حكم القاضي بالزوجيّة وفقاً لرأي الزوج الذي أقام البيّنة على ذلك بينما الامرأة قاطعة بعدم الزوجيّة، فلو أطاعت القاضي تورّطت في الزنا، ولو خالفت كان هذا ردّاً لحكم القاضي الذي هو كالرادّ على اللّه، فما هي وظيفتها في المقام؟ سواء فرضنا الحرمة الثابتة لها حرمة واقعية، كما لو علمت وجداناً بعدم الزوجيّة، أو كانت
', '', 793), (14, 794, 'book', 'ظاهرية، كما لو بنت ظاهراً اجتهاداً أو تقليداً على عدم الزوجيّة لو قوع العقد باللّغة الفارسية مثلا، فعلى أيّ حال يقع التعارض بين دليل نفوذ حكم القاضي وحرمة مخالفته ودليل حرمة الفعل المحكوم به.
وهنا يقع الكلام تارةً في وجود إطلاق لدليل نفوذ حكم القاضي لمثل هذا المورد وعدمه بقطع النظر عن دعوى الانصراف، وأُخرى في أنّه لو تمّ إطلاق لدليل النفوذ في نفسه ولو لا الانصراف، فهل يمكن دعوى انصراف الإطلاق عن المقام، أوْلا؟ وثالثة لو تمّ الإطلاق ولم يتمّ الانصراف فما هو علاج التعارض في المقام؟
أمّا الإطلاق فدليل مشروعيّة القضاء يدلّ - بضمّه إلى الاتكاز أو المقبولة - على نفوذ القضاء لا محالة، فالكلام يجب أن يقع في أصل دليل مشروعيّة القضاء لكي نرى هل يشمل ما نحن فيه، أوْلا؟ وبالإمكان أن يناقش في إطلاق أكثر أدلّة القضاء في المقام: فالإجماع دليل لبّي لا إطلاق له، ولزوم الهرج من عدم مشروعيّة القضاء أو عدم نفوذه ليس له إطلاق للمقام؛ إذ أنّ استثناء فرض حرمة المحكوم به لا يوجب الهرج، والمقبولة وردت في الدَّين والميراث، وهذا وإن كان يحمل على المثالية، ويفهم منه الإطلاق، إلّا أنّ هذا الفهم يقتصر على المقدار الذي لايحتمل عرفاً الفرق فيه عن الدَّين والميراث، واحتمال الفرق في مورد حرمة المحكوم به وارد لا محالة.
وقد يقال: إنّ حديث داود بن أبي يزيد العطّار عن بعض رجاله عن أبي عبداللّه (عليه السلام) وارد في خصوص ما نحن فيه، أو يشمل إطلاقه ما نحن فيه؛ حيث ورد في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود أنّ هذه المرأة امرأة فلان، وجاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان، فاعتدل الشهود وعدّلوا، فقال: «يقرع بينهم، فمن خرج
', '', 794), (14, 795, 'book', 'سهمه المُحقّ، وهو أولى بها»(1).
ولكن أصل النزاع المفترض في هذا الحديث ليس من قبيل ما نحن فيه؛ لأنّه لم يفترض النزاع بين الزوج والزوجة، وإنّما افترض النزاع بين رجلين، وأيّهما وقع الحكم عليه سوف لا يؤدّي ذلك إلى ابتلائه بالحرام. أمّا دعوى إِطلاق الرواية لفرض كون المرأة نافية لإحدى الزوجيَّتين لا جاهلةً بالواقع، فقد يناقش فيها بأنّ الرواية لم تكن بصدد البيان من هذه الناحية، وإنّما هي بصدد البيان من ناحية نزاع الرجلين لا من ناحية رأي المرأة في الموضوع.
إلّا أنّه لا يبعد القول بتماميّة الإطلاق المقامي للحديث؛ لأنّ فرض عدم وجود رأي لها في الموضوع فرض نادر، وتخصيص الحديث بهذا الفرض النادر بعيد وعلى أيّة حال فالحديث ساقط سنداً.
إلّا أنّه بالإمكان التمسّك بإطلاق حديث أبي خديجة قال: «قال أبوعبداللّه جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه»(2).
وقد نقل الحديث بمتن آخر أيضاً وهو ما يلي: «بعثني أبو عبداللّه (عليه السلام) إلى أصحابنا، فقال: قل لهم إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطا أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق، اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 12 من كيفيّة الحكم، ح 8، ص 184.
(2) الوسائل، ج 18، باب 1 من صفات القاضي، ح 5، ص 4.
', 795), (14, 796, 'book', '
السلطان الجائر»(1).
وقد يناقش في شمول إطلاق المتن الثاني لما نحن فيه، بناءً على افتراض أنّ قوله (عليه السلام): «شيء من الأخذ والعطا» إشارة إلى القضايا الماليّة، فلا يشمل مثل المقام مادمنا نحتمل الفرق، إلّاأنّ المتن التامّ سنداً إنّما هو المتن الأوّل وليس هذا المتن، وهذا التعبير غير وارد فيه، فإطلاقه يشمل المقام.
وأمّا دعوى الانصراف فنكتتها هي قياس ما نحن فيه بسائر الولايات من قبيل ولاية الأب، أو الفقيه، أو المالك، فإنّ كلّ هذه الولايات تنصرف إلى غير دائرة المحرّمات، فإنّها ولايات مجعولة من قبل الشريعة الإسلامية، والولاية المجعولة من قبل شريعة مّا تنصرف لا محالة إلى الولاية في نفس دائرة الشريعة لا الولاية حتى تغيير الشريعة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وولاية القاضي لا تشذّ عن هذه الولايات.
إلّا أنّ الظاهر أنّ نكتة الانصراف الموجودة في سائر الموارد غير موجودة في المقام، فإنّ المفهوم عرفاً ومتشرّعيّاً هو ماقلنا من أنّ جعل الولاية في دائرة الشريعة إنّما يكون ضمن تلك الدائرة لا عليها، ولكن في خصوص باب القضاء المفروض فيما نحن فيه أنّه وقع الخلاف بين المتخاصمين في أصل الحكم في الشريعة، فأحدهما يعتقد أنّ الحكم كذا، والآخر يعتقد نقيض ذلك، والمناسب للشريعة جعل حاكم يفصل الخصومة في مثل هذه الحال، فالانصراف المدّعى في سائر موارد الولايات لا يأتي هنا.
فإذا تمّ التعارض بين دليل نفوذ القضاء ودليل حرمة المحكوم به فما هو العلاج؟
$
', '(1) الوسائل، ج 18، باب 11 من صفات القاضي، ح 6، ص 100.
', 796), (14, 797, 'book', '
لا يبعد أن يقال: إنّ دليل نفوذ القضاء حاكم على دليل حرمة المحكوم به؛ لأنّه ناظر إلى جميع الأحكام المختلف فيها بين المتخاصمين، سواء كان الخلاف فيها لأجل الخلاف في الموضوع أو كان خلافاً في أصل الحكم. نعم لو أمكن للمحكوم عليه التجنّب عن الحرام من دون التورّط في مخالفة حكم الحاكم، كما لو استطاعت المرأة التي حكمه عليها بالزوجية وبصحة ما وقع من عقد الزواج إقناع الزوج بإعادة العقد الذي اختلفا في صحّته وإجرائه بالشكل الذي تعتقد هي بصحّته وجب عليها ذلك، فإنّ حكمومة دليل نفوذ القضاء إنّما هي بقدر النفوذ - أي بقدر حرمة نقض الحكم - ولا توجب جواز التورّط فيما تعتقد حرمته بالشكل الذي كان بالإمكان التجنّب عنه بلانقض للحكم.
 $
فرض تبدّل المقاييس:
الفرض الثاني - فرض تبدلّ المقاييس بأن يترافعا بعد حكم القاضي إلىقاض آخر، أو إلى نفس القاضي الأوّل بعد تبدل المقاييس بأن تفترض مثلا أنّ المدّعي في المرّة الأُولى لم يكن يمتلك بيّنة، فحكَمَ القاضي وفق يمين المنكر، وبعد ذلك امتلك المدّعي البيّنة، فهل من حقّه تجديد المرافعة؛ لأنّ مقياس القضاء قد تبدّل، فكان القضاء الأوّل باليمين بينما الآن سيكون القضاء بالبيّنة؟ أو أنّ المنكر كان قد امتنع عن اليمين، فحكم الحاكم لصالح المدعي، والآن تبدّلت حالته النفسيّة، فهو مستعدّ للحلف، أو أنّ المنكر لم يكن يمتلك بيّنة مسقطة لبيّنة المدعي بالتعارض، فصدر الحكم وفق بيّنة المدّعي، والآن امتلك البيّنة المعارضة، وما شابه ذلك من الأمثلة.
والصحيح أنّ هذه التبدّلات التي تطرأ بعد حكم القاضي لا عبرة بها، ولا
', '', 797), (14, 798, 'book', 'يجوز نقض الحكم بذلك للمقبولة وللارتكاز القائل بأنّ القضاء لفصل الخصومة وفي خصوص امتلاك المدّعي للبيّنة بعد تحليفه للمنكر، وقد عرفت ورود النصّ الخاصّ الدالّ على سقوط حقّ المدّعي.
ونستثني ممّا ذكرناه - من عدم العبرة بتبدّل المقاييس - موردين:
الأوّل - ما لو أقرّ المحكوم له بعد الحكم بأنّ الحقّ كان مع خصمه، فهنا ينقض الحكم الأوّل، ويحكم للمقرّله بلا إشكال؛ لأنّ الارتكاز المشار إليه غير موجود هنا، والمقبوله لاتشمل المورد لأنّ الإقرار كأنّه رفع لموضوع المرافعة، ويكون هذا سبباً في أن لا يعدّ عرفاً ردّ الحكم بعد إقرار الخصم عبارة عن عدم القبول بحكم القاضي، والاستخفاف به الذي هو استخفاف بحكم اللّه وردّ على أهل البيت. فالمرجع إذن في مسألة نقض حكم الحاكم بحكم آخر في المقام هو دليل حجيّة الإقرار.
الثاني - موارد قاعدة (الغائب على حجّته)، فإضافةً إلى ما مضى في محلّة من النصّ الخاصّ على هذه القاعدة نقول في المقام: إنّ هذه القاعدة ليست بحاجة إلى نصّ خاصّ، فإنّ الارتكاز الذي مضى غير موجود هنا، بل العقلاء هم يوافقون على هذه القاعدة، ودليل ذهاب يمين المنكر بحقّ المدّعي غير وارد في فرض الغياب، والمقبولة المانعة عن ردّ الحكم تنصرف عرفاً عن فرض إتيان الغائب بعد حضوره بحجّة أقوى من حجّة الخصم، ونكتة هذا الانصراف هي ارتكازيّة قاعدة (الغائب على حجّته). إذن فالمرجع هو دليل حجّيّة الحجّة الأقوى التي جاء بها الغائب، مضافاً إلى أنّ نفس ارتكازيّة القاعدة مع عدم وجود ما يصلح للردع لعلّها كافية في ثبوت القاعدة.
بقي الكلام فيما إذا حكم القاضي وفق علمه بناءً على حجّيّة علم القاضي، فهل من حقّ المحكوم عليه أن يرفع النزاع إلى قاض آخر ليس له القطع بكون الحقّ مع الخصم الآخر؟ وهل من حقّ القاضي الآخر أن يقضي لصالح من حكم عليه
', '', 798), (14, 799, 'book', 'القاضي الأوّل بعلمه بحجّة أنّه هو لا علم له ذلك؟ والمقاييس الأُخرى تعطي الحقّ لهذا المحكوم عليه، أوْلا يحقّ له بذلك؟ مقتضى ما أشرنا إليه من الارتكاز والمقبولة هو أنّه لا يحقّ له ذلك .
إلّا أنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) ذكر(1): أنّه - إن لم يثبت إجماع في المقام - فبالإمكان دعوى الفرق بين علم القاضي وباقي مقاييس القضاء كالبيّنة، وذلك بأن يقال: إنّ البيّنة التي حكم بها القاضي الأوّل هي حجّة للقاضي الثاني أيضاً، فلا مبرّر لنقض القاضي الثاني ما حكم به القاضي الأوّل وفق البيّنة، ومع الشكّ في صحّة عمل القاضي الأوّل تجري أصالة الصحّة، وهذا بخلاف علم القاضي، فإنّ العلم إنَّما يكون حجّة للقاضي الذي حصل له ذاك العلم، وليس حجّة لقاض آخر، فبإمكان القاضي الآخر أن يحكم على خلاف حكم القاضي الأوّل؛ لأنّ المقياس له هو البيّنة، وليس علم القاضي الأوَّل مقياساًله.
أقول: لو تمّ هذا الكلام لا يثبت بذلك كون حكم الثاني هو النافذ، فهذان حكمان تعارضا، وكلاهما يكونان وفق المقاييس الشرعيّة.
والواقع أنّ التفصيل بين الحكم وفق علم القاضي بعد فرض حجّيّته له في القضاء، وسائر مقاييس القضاء بإمكان استئناف المرافعة واستحصال حكم جديد في الأوّل دون الثاني غير صحيح، وذلك لأنّه صحيح أنّ البيّنة التي حكم بها القاضي الأوّل حجّة حتى لدى القاضي الثاني، فلا مبرّر لمرافعة جديدة، أو لنقض الحكم مع جريان أصالة الصحّة في فعل القاضي الأوّل، لكن يبقى في المقام فرض استئناف عامل جديد بعد حكم القاضي الأوّل له دخل في مقاييس القضاء؛ كأن يحصل المنكر بعد الحكم على بيّنة معارضة لبيّنة المدّعي ومسقطة لها عن الحجّيّة، فهل يوجد
', '(1) راجع كتاب القضاء للمحقّق العراقي (رحمه الله) ص 23 و 24، طبعة المطبعة العلميّة في النجف.
', 799), (14, 800, 'book', '
مجال عندئذ في رفع النزاع مرّة أُخرى إلى قاض آخر أو نفس القاضي الأوّل؛ ليأتي الحكم وفق الوضع الجديد، وهو ابتلاء بيّنة المدّعي بالمعارض مثلا، أوْلا؟ فإن قلنا بعدم جواز ذلك لأجل المقبولة، ولأجل ارتكاز أنّ مشروعية القضاء إنّما هي لفصل الخصومة، فنفس الوجهين يقتضيان في فرض حكم القاضي بعلمه أيضاً عدم جواز النقض،وإلّا جاز النقض حتى فيما إذاكان الحكم وفق البيّنة. والصحيح طبعاً هو الأوّل.
فرض الخطأ في المقاييس:
الفرض الثالث - فرض الخطأ في المقاييس، وهو على ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل - الخطأ في التطبيق كأن يحكم القاضي وفق البيّنة ثمّ يثبت بعد ذلك أنّها كانت فاسقة:
لا ينبغي الإشكال في أنّ مجرد الشكّ في خطأ القاضي لا يوجب نقض حكمه لجريان أصالة الصحّة، ولكن مع فرض علم المنكر بفسق بيّنة المدّعي هل يجب عليه الخضوع لحكم القاضي؟ ولو أثبت فسقها لدى قاض آخر هل يجوز لذاك القاضي الآخر نقض حكم القاضي الأوّل؟ ولو ثبت فسقها لدى نفس القاضي الأوّل أفليس عليه أن يتراجع عن حكمه؟ لا ينبغي الإشكال في أنّ المقبولة لا تدلّ على حرمة نقض حكم هذا الحاكم؛ لأنّ موضوع حرمة النقض هو أن يحكم بحكمهم - يعني حكم الأئمة (عليهم السلام) وهنا يعتقد المنكر أو القاضي الآخر أو نفس القاضي الأوّل بعد انكشاف الخلاف: أنّ ذاك الحكم لم يكن هو حكم الأئمة (عليهم السلام)؛ لأنّ حكمهم عبارة عن الحكم وفق البيّنة العادلة.
وأمّا الارتكاز، فبالتقريب الذي مضى، وهو ارتكاز أنّ مشروعية القضاء إنّما هي لفصْل الخصومة، لا يأتي هنا؛ لأنّ العلم بفسق البيّنة يعني العلم بأنّ هذا القضاء لم يكن مشروعاً وإن كان القاضي معذوراً لاعتقاده بعد التها.
$
', '', 800), (14, 801, 'book', 'ولكن بالإمكان في خصوص عدم خضوع المنكر لحكم القاضي بحجّة خطئه في التطبيق أن يقال: إنّ الارتكاز العقلائي يحكم بأنّ تشريع كبرى القضاء يقترن بتشريع وجوب الاستسلام من قبل المحكوم عليه حتى في المورد الذي يناقش المحكوم عليه في مشروعية صغرى من صغريات القضاء لفرضه للخطأ في التطبيق، وإلّا لزم الهرج في باب القضاء؛ لأنّ المحكوم عليه سيدّعي في كثير من الأحيان خطأ القاضي في التطبيق، ولم يردْ ردْع عن هذا الارتكاز؛ إذن فلا يجوز للمحكوم عليه عدم الاستسلام بأن يعارض المحكوم له، ولا يسلّم له الحقّ.
نعم، هذا لا يعني عدم جواز سعيه في إثبات خطأ القاضي، فهو يبقى مستسلماً للنتيجة قبل إثباته لخطأ القاضي، فاذا أثبت خطأه بحيث اقتنع نفس القاضي بالخطأ في التطبيق، فلا دليل على نفوذ هذا القضاء الخاطىء، ومقتضى القاعدة هو استئناف القضاء؛ لأنّ المقبولة والارتكاز بتقريبه السابق - كما قلنا - لا يأتيان هنا.
وإذا أثبت خطأه لدى قاض آخر بإقامة دليل يقنع بطبعه القاضي الأوّل أيضاً لو عرض عليه، كما لو اعتمد القاضي الأوّل في عدالة البيّنة على حسن الظاهر بينما هذا أقام الشهود على فسقها، أو اعتمد القاضي الأوّل على تزكية البيّنة ببيّنة شهدت بعدالتها بينما هذا أثبت أنّ هذه البيّنة المزكِّية معارَضة ببيّنة جارحة، فالقاضي الثاني ينقض حكم القاضي الأوّل، فإنّ حاله حال القاضي الأوّل الذي لو كان لكان ينقض حكم نفسه.
أمّا إذا أثبت خطأه لدى قاض آخر بإقناع شخصيّ له بحيث قد لا يقتنع القاضي الأوّل بذلك، أو كان الخلاف بين القاضيين في مقاييس العدالة مثلا، فهذا يُلحَق حُكماً بما سيأتي من القسم الثالث - إن شاء اللّه -
القسم الثاني - الخطأ الضروري في الكبرى، كما لو اعتقد القاضي خطأً أنّ البيّنة على من أنكر واليمين على المدّعي فحكم على هذا الأساس، ولا إشكال في عدم
', '', 801), (14, 802, 'book', 'نفوذ هذا القضاء، ولامورد لما مضى من دعوى الارتكاز، ولا تُطبَّق المقبولة على المقام كما هو واضح .
القسم الثالث - الاختلاف في الاجتهاد، كما لو كان من رأي القاضي أنّ نكول المنكر بلا إرجاعه لليمين على المدّعي يوجب الحكم ضدّ المنكر، بينما القاضي الثاني كان يرى أنّ هذا لا يوجب الحكم ضدّ المنكر بل القاضي هو الذي يُرجع اليمين عندئذ على المدّعي، أو المنكر كان يرى اجتهاداً أو تقليداً ذلك، وهنا لا مجال للتمسّك بالمقبولة؛ لأنّ كون ما حكم به القاضي الأوّل من حكمهم (عليهم السلام) أوّل الكلام، ولا بالارتكاز بتقريبه السابق من ارتكاز أنّ مشروعية القضاء إنّما هي لفصل الخصومة، ولكن لا يبعد القول بأنّ الارتكاز العقلائي يقتضي في المقام النفوذ وعدم جواز النقض مادام القاضي الأوّل كان واجداً لشرائط منصب القضاء في الشريعة، واجتهاده كان يعتبر اجتهاداً مقبولا ومشروعاً في الإطار العامّ للشريعة، ولم يكن من قبيل الفرض الماضي في القسم الثاني من اعتقاد القاضي أنّ اليمين على المدّعي والبيّنة على من أنكر، ولم يردع عن هذا الارتكاز. فالنتيجة هي نفوذ القضاء في المقام، وعدم صحّة الاستئناف، وعدم جواز نقض حكم الحاكم فيه، والاستئناف ينحصر مورده بالقسم الأوّل والثاني.
وآخر دعوانا أن الحمدللّه ربّ العالمين.
قد وقع الفراغ من كتابة هذا البحث في يوم الاثنين المصادف للخامس والعشرين
من شهر شعبان المعظّم من السنة 1406 الهجريّة القمريّة في قم المقدّسة.
أسأل اللّه - تعالى - أن يجعله خالصاً مخلصاً لوجهه الكريم، ويجعله ذخراً ليوم فاقتي،
ويثيبني عليه بفضله وكرمه، أنّه سميع مجيب.
وصلّى اللّه على سيّدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
والحمدللّه أوّلا وآخراً.
$
', '', 802), (14, 803, 'book', '$
', '', 803), (14, 804, 'book', '$
', '', 804), (14, 805, 'book', '$
', '', 805), (14, 806, 'book', '$
', '', 806), (14, 807, 'book', '$
', '', 807), (14, 808, 'book', '$
', '', 808), (14, 809, 'book', '$
', '', 809), (14, 810, 'book', '$
', '', 810), (14, 811, 'book', '$
', '', 811), (14, 812, 'book', '$
', '', 812), (14, 813, 'book', '$
', '', 813), (14, 814, 'book', '$
', '', 814), (14, 815, 'book', '$
', '', 815), (14, 816, 'book', '$
', '', 816), (14, 817, 'book', '$
', '', 817),